القوقعة والذاكرة
القوقعة والذاكرة
صبحي حديدي
في مطلع أيلول (سبتمبر) القادم، تصدر في باريس، عن دار النشر Actes Sud، الترجمة الفرنسية لنصّ فريد يمزج بين الرواية والشهادة الذاتية الصرفة، بعنوان القوقعة ، للسجين السوري السابق مصطفي خليفة، الذي قضي قرابة 15 سنة بين سجنَيْ تدمر وصيدنايا. وإلي أن تكون لي، كما أرجو، وقفة مفصّلة عند هذا العمل المتميّز، الآسر رغم وقائعه الكابوسية أو ربما بسبب من هذه السمة أوّلاً، أشير دون إبطاء إلي أنّ القوقعة ليست النصّ الوحيد اللافت في الطور الراهن من أدب السجن السوري. هنالك أعمال سردية لأمثال عماد شيحا وإبراهيم صموئيل وحسيبة عبد الرحمن ولؤي حسين وهبة دباغ ومالك داغستاني، فضلاً عن قصائد عدنان مقداد التي لم تر النور في حدود ما أعلم.
لكني، ولكي أشدّد علي تلازم أخلاقيات الاستبداد العربي، أذهب إلي المغرب لاستذكار تجربة أخري سابقة في أدب السجن العربي المعاصر، وأعني رواية العريس للشاعر والروائي المغربي صلاح الوديع. وأبدأ من هذه الواقعة: في نيسان (أبريل) 1999 كان الملحق الثقافي لصحيفة الإتحاد الإشتراكي المغربية قد نشر رسالة مفتوحة وجهها الوديع إلي الجلاّد الذي أشرف علي اعتقاله وتعذيبه طيلة عشر سنوات، بين عام 1974 و1984، في مركز الإعتقال والتحقيق والتعذيب الذي يحمل اسم درب مولاي الشريف . وفي رسالته استعرض الوديع سلسلة العذابات التي عاشها في المعتقل، واللذائذ الإنسانية التي حُرم منها جرّاء احتجازه، لكي يختم رسالته هكذا: حين أستعيد كلّ هذا،
أتساءل كيف نستطيع ـ أنا وأنت ـ أن ننتمي إلي نفس الوطن، وأن نتفيأ نفس الشجر، وتلفحنا نفس الشمس، ويبللنا نفس المطر، ونمشي في نفس الطرقات، ونتحدث بنفس اللغة، ونؤمن بنفس المستقبل. ومع ذلك، فأنا لست حاقداً عليك.
وقد تفاجئك قدرتي علي الصفح والغفران. ولكنني لا أستطيع أن أشارك في مسرحية عنوانها النسيان، مسرحية سمجة تهدر حقوق الضحايا وتدمّر ذاكرتنا الجماعية. لست حاقداً ولا متشفياً. ولكنني لست مستعداً للاستخفاف بالآلام. لست مستعداً لترك الباب مشرعاً أو مفتوحاً أو حتي موارباً لعودة الإمتهان والعسف والهوان.. فأنا شاهد ولا بدّ لي من الإدلاء بالشهادة .
الشهادة تلك اتخذت صيغة رواية تدور، باختصار شديد، حول اعتقال مواطن مغربي شابّ أثناء مشاركته في عرس ابن عمّه (ومن هنا لقب العريس الذي اختاره له سجّانوه)؛ وبعد مرور 433 يوماً في المعتقل، وعشرات من أفانين التعذيب أثناء التحقيق، ينتهي السجين محمّد إلي الجنون، وتنتهي حكايته ههنا تحديداً؛ وأمّا تجربته في السجن فترويها 26 رسالة كتبها إلي أمّه، ونقلها مجهول كان زميلاً له في المستشفي. لهذا فإنّ العريس شهادة في المقام الأوّل، بل هي وثيقة استثنائية حول التقاليد الأسوأ والأشدّ بربرية في ثقافة امتهان الإنسان وتحويل الجسد البشري إلي مادّة خام لتطبيق وتوظيف تقنيات العنف البهيمي الأقصي، الذي ينتهي إلي مآلات رهيبة مثل التشوّه أو الجنون أو الموت.
وهي شهادة جديرة باحتلال موقع رفيع ليس في الذاكرة الجَمْعية المغربية فحسب، بل أيضاً في الوجدان العربي المعاصر بأسره، وفي تراث المقاومة الإنساني الذي لا تكفّ الشعوب عن كتابة صفحاته هنا وهناك في معتقلات العالم. ذلك لأنّ عنصر الشهادة في النصّ لا يخدم التسجيل الذاتي وحده، بل يؤدّي الخدمة الكبري للذاكرة الجَمْعية أوّلاً، خصوصاً وأنّ بين كبري مفارقات أدب السجون أنه كتابة استثنائية تمنح الكاتب/الشاهد حقّ ترقية تجربة الاعتقال الشخصية إلي مصافّ التجربة الوطنية، أو الكونية الإنسانية، التي لم تعد سردية فردية بل تحوّلت إلي حكاية قياسية.
وفي جانب آخر شديد الأهمية من خصائص العريس أنّ الوديع استقرّ علي السخرية السوداء، أيّاً كانت مرارة الموقف وقسوة التفصيل وعنف الممارسة وبربرية امتهان الجسد. وحين يصف مشكلة وجود مرحاضين فقط لمائة شخص، وكيف يتولي تنظيم الدخول رجل يُلقّب بـ الحاج ، يتساءل المواطن محمد: قلت في نفسي: يا الله! كيف يكلّفون حاجاً بمثل هذه الأمور النجسة؟ ألم يجدوا مهمة يوكلونها إلي شيوخ وقورين غير الوقوف علي أبواب المراحيض ينظمون استعمالها بين الناس بالقسطاس ؟ وفي ختام الفصل ذاته يقول: وأخطر من ذلك، فقد سبح خيالي وبدأت أتصوّر مدينة فاضلة يعمّها الرخاء والأخوّة، وتُشيّد بها مراحيض عمومية فاخرة رومية وتقليدية حسب رغبة المرء أينما حلّ هذا المرء وارتحل ! وهذه النبرة التهكمية (التي يطلق عليها الوديع صفة ضحك كالبكاء) تقول ببساطة إنّ الضحك خيار تنتهجه الذات الإنسانية عن سابق وعي وتصميم، في مواجهة التعذيب والتنكيل والإمتهان وسواها من خيارات السلطة المستبدة في قهر تلك الذات وتدمير إنسانيتها، و... في منعها من الضحك علي سبيل المثال.
العريس شهادة ضدّ مسرحية عنوانها النسيان كما يقول الوديع في رسالته إلي جلاّد درب مولاي الشريف ، وكما يمكن للمرء أن يتخيّل ما سيقوله عماد شيحا، صاحب روايتَيْ موت مشتهي و غبار الطلع الذي قضي نصف عمره في المعتقل، إذا التقي بأيّ من جلاّدي سجون تدمر وصيدنايا وكفر سوسة... المعتقل العربي، في نهاية المطاف، واحد متماثل متّصل: من البحر إلي الخليج إلي المحيط!