تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 8

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 8

مَنْهَجٌ مِنَ التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "الْغَيْثُ الْمُسْجَم في شَرْحِ لاميَّةِ الْعَجَم" لِلصَّفَديِّ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

قَدْ خَرَجَ رَسولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - مِنْ مَكَّةَ - شَرَّفَها اللّهُ ، تَعالى ! - وَهِيَ أَحَبُّ الْبِقاعِ إِلَيْهِ ، وَهاجَرَ إِلى طيبَةَ لَمّا نَبا الْمُقامُ بِه ، وَكانَ مِنْ أَمْرِه ما كانَ ، وَعادَ إِلَيْها بَعْدَ مُدَّةٍ ، وَفَتَحَها اللّهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ في عَشَرَةِ آلافٍ بَعْدَما خَرَجَ مِنْها هُوَ وَأَبو بَكْرٍ مُنْفَرِدَيْنِ

خرجا مسكينين ، وعادا في آلاف من الفرسان الحجاج الذين أَرْهَبوا من غير سلاح !

تَجِدُ قَوْلَكَ : " لَقيتُ مَنْ ضَرَبَ زَيْدًا " ، قَدْ نَزَلَ عَنْ قَوْلِكَ : " الَّذي ضَرَبَ زَيْدًا " ، وَكانَ ذلِكَ إِنَّما يَنْزِلُ في النَّفْسِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْجَلالَةِ في اللَّفْظِ لا في الْمَعْنى

كيف تميز جلال اللفظ من جلال المعنى !

ما أَحْسَنَ قَوْلَ ابْنِ السّاعاتيِّ بَهاءِ الدّينِ عَليٍّ ، مِنْ أَبْياتٍ يَصِفُ الْمَطَرَ :

سَرى راكِبًا ظَهْرَ الْغَمامِ كَرامَةً فَلَمّا تَراءى هَضْبَ نَجْدٍ تَرَجَّلا

كيف أدركته يا صفدي !

وعلى أية هيئة كانت ساعات القرن الهجري الثامن ، بحيث يتخذها صناعة وتجارة !

أَلا تَرى إِلى قَوْلِ شَمْسِ الدّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَفيفِ التِّلِمْسانيِّ - وَمِنْ خَطِّه نَقَلْتُ - :

وَعُيونٍ أَمْرَضْنَ جِسْمي وَأَضْرَمْنَ بِقَلْبي لَواعِجَ الْبَلْبال

وَخُدودٍ مِثْلِ الرِّياضِ زَواهٍ ما لِأَيّامِ حُسْنِها مِنْ زَوال

لَمْ أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ اللّهُ وَإِنّي بِجَمْرِها الْيَوْمَ صالي

- ما أَحلاه ، وَأَرْشَقَه ! - وكَيْفَ خَدَمَتْهُ لَفْظَةُ " جُناتِها " ؛ فَصارَتْ مِنَ " الْجَنْىِ " ، لا مِنَ " الْجِنايَةِ " ! وَقَدْ ضَمَّنَ الْمُتَأَخِّرونَ وَالْمُتَقَدِّمونَ هذا الْبَيْتَ ، وَما رَأَيْتَ عِقْدَهُ الْفَريدَ عَلى أَحْسَنَ مِنْ هذا الْجيدِ !

وَقَوْلُه أَيْضًا – رَحِمَهُ اللّهُ ! - :

هذا الَّذي أَنا قَدْ سَمَحْتُ بِحُبِّه كَرَمًا بِلُؤْلُؤِ دَمْعِيَ الْمُتَنَظِّم

لا تَحْرِموني ضَمَّ أَسْمَرِ قَدِّه لَيْسَ الْكَريمُ عَلى الْقَنا بِمُحَرِّم

كُلُّه حَسَنٌ إِلّا قَوْلَهُ : " الْمُتَنَظِّم " ؛ فَإِنَّ لُؤْلُؤَ الدَّمْعِ مَنْثورٌ عَلى ما هُوَ الْمَشْهورُ !

هو للحارث بن عباد ، والذي أعرفه " لِحَرِّها " .

ثم لماذا لا يحسُن " المتنظِّم " ، بدلالته على اتصال نحيبه !

قالَ الشّاعِرُ :

وَفي الشِّرِّ نَجاةٌ حينَ لا يُنْجيكَ إِحْسان

هو للفِنْدِ الزِّمّانيِّ ، وفي مثل معناه قول الصديق المخدوع :

إِذا لَمْ يُصْلِحِ الْخَيْرُ فَتًى أَصْلَحَهُ الشَّرّ !

لَهُمْ في إِعْرابِ " لا حَوْل وَلا قوَّة إِلّا بِاللّهِ " وَإِعْرابِ أَشْباهِ ذلِكَ ، خَمْسَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ فَتْحُهُما ، تَقولُ : لا حَوْلَ وَلا قوَّةَ ؛ مِثْلُ " لا لَغْوٌ فيها وَلا تَأْثيمٌ " - وَالثّاني نَصْبُ الثّاني ، تَقولُ : لا حَوْلٌ وَلا قوَّةَ ، مِثْلُ " لا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلا خُلَّةٌ " - الثّالِثُ : رَفْعُ الثّاني ، تَقولُ : لا حَوْلَ وَلا قوَّةٌ ؛ مِثْلُ " لا أُمَّ لي إِنْ كانَ ذاكَ وَلا أَب " - الرّابِعُ : رَفْعُهُما ، تَقولُ : لا حَوْلَ وَلا قوَّةَ ؛ مِثْلُ ( فَلا لَغْوَ وَلا تَأْثيمَ فيها ) ، وَقَدْ أَضْرَبْتُ عَنِ التَّعْليلِ لِهذِهِ الْأَوْجُهِ خَوْفًا مِنَ التَّطْويل

ما هذا !

خلطت الأمثلة بعضها ببعض ؛ فتزحزح كل عن موضعه !

قالَ بَعْضُ الْحُكَماءِ : يَنْبَغي لِلْعاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَ صَديقًا يُنَبِّهُه عَلى عُيوبِه ؛ فَإِنَّ الْإِنْسانَ لا يَرى عَيْبَ نَفْسِه

وأولى من الصديق البعيد الصديق القريب ، كأن يتخذ الزوج  من زوجه ، والوالد من ولده ، والأخ من أخيه ... - ذلك المنبه على العيوب . وقديما حمد الله سيدنا عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك – رضي الله عنهما ! - حين نبهه على شيء يوشك أن يُرد عليه . ولقد مَكَّنْتُ أسرتي بطبيعتي ، زوجي وأولادي ، صغيرهم وكبيرهم - من نقدي ، وجرأتهم على تخطئتي ، وعلمتهم أنني مثل غيري خَطّاء ، زَلّال ، وإن رجوت دائما العافية

في الْحَديثِ " اغْتَرِبوا لا تُضْووا " ، مَعناه ( تَزَوَّجوا الْأَباعِدَ دونَ الْأَقارِبِ ، لِئَلّا يَحْصُلَ الْحَياءُ مِنَ الْقَرابَةِ ؛ فَيَجيءَ الْوَلَدُ ضَئيلًا نَحيفًا لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الزَّوْجَةِ )

يا سلام !

نعرف الآن أن علته تفادي اجتماع مادة بعض الأمراض وقوتها ، باجتماع الأقارب المرضى بها ، ولكننا لا ينقضي عجبنا من الآثار الشريفة ، لا تَرُدُّ وُسْع الناظرين فيها على الزمان !

كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثٌ ، وَما أَحْلى قَوْلَ الْقائِلِ :

قُلْتُ لَمّا تَجَمَّعوا وَبِقَتْلي تَحَدَّثوا

لا أُبالي بِجَمْعِهِمْ كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّث

ومن قبل ما قال ابن عربي :

" كُلُّ مَكانٍ لا يُؤَنَّثُ لا يُعَوَّلُ عَلَيْه " !

قُلْتُ :

فَأَيْنَ مَعاني الشَّمْسِ مِمَّنْ يُحاوِل      وَأَيْنَ الثُّرَيّا مِنْ يَدِ الْمُتَناوِل

وَلكِنَّ هذِهِ الْأَشْياءَ تَتَّفِقُ ؛ فَما تُعارَضُ ، وَلا تُقارَضُ

لم يردهما الصفدي بيتا - وإن كادتا تستقيمان - لحركة " يحاولُ " ، ولما عطف عليهما !

قِصَّتُه ( ابن الخيمي ) مَعَ نَجْمِ الدّينِ بْنِ إِسْرائيلَ ، مَشْهورَةٌ

قد تكرر منك هذا ، وكأن لم يخطر لك أنه يأتي زمان لا يظل المشهور فيه مشهورا ولا مذكورا !

يُقالُ إِنَّه عُرِضَ عَلى الْقاضي الْفاضِلِ رُقْعَةٌ بِاسْمِ مُؤَذِّنَيْنِ يُسْتَخْدَمانِ ، اسْمُ أَحَدِهِما مُرْتَضى ، وَالْآخَرُ زِيادَةُ ؛ فَوَقَّعَ عَلى رَأْسِها : أَمّا زِيادَةُ فَمُرْتَضى ، وَأَمّا مُرْتَضى فَزِيادَةٌ ، فَاسْتَخْدَمَ زِيادَةَ ، وَصَرَفَ مُرْتَضى ! وَهذا في غايَةِ الْحُسْنِ ، وَهُوَ مِنْ لُطْفِ الْقاضِي الْفاضِل

إلا في سَمْع مُرْتَضى !

مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ قَوْلُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ :

وَاللّهِ لا كَلَّمْتُها وَلَوَ انَّها كَالْبَدْرِ أَوْ كَالشَّمْسِ أَوْ كَالْمُكْتَفي

وَقَدْ أَشارَ ابْنُ سَناءِ الْمُلْكِ إِلى هذا في قَوْلِه :

وَمَليحَةٍ بِالْحُسْنِ يَسْخَرُ وَجْهُها بِالْبَدْرِ يَهْزَأُ ريقُها بِالْقَرْقَف

لا أَرْتَضي بِالشَّمْسِ تَشْبيهًا لَها وَالْبَدْرِ بَلْ لا أَكْتَفي بِالْمُكْتَفي

(...) لَمّا ذَكَرَ ابْنُ سَناءٍ حُسْنَ مَحْبوبَتِه ، وَذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْقافِيَةُ فائيَّةٌ ، كانَ الْمُكْتَفي جالسًا في طَريقِها ، وَكانَ في ذِكْرِه إِشارَةٌ إِلى قَوْلِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ ، غايَةٌ في الْحُسْنِ عِنْدَه ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ أَدْنى إِلى أَعْلى (...) وَما أَحْسَنَ ما قالَ ابْنُ سَناءِ الْمُلْكِ - رَحِمَهُ اللّهُ ! - في مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ شِعْرِه :

بِأَبي وَأُمّي مَنْ يَكونُ الْمُكْتَفي    بِجَمالِه لِجَمالِه كَالْمُكْتَفي

هُنا لَمْ يُرِدْ بِالْمُكْتَفي الْخَليفَةَ ، وَلكِنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ مِنِ " اكْتَفى " ، وَلَمّا وَصَلَ إِلى " الْمُقْتَدي " ، تَرَشَّحَ " الْمُكْتَفي " لِلتَّوْرِيَةِ ، لِأَنَّ " الْمُكْتَفي " وَ" الْمُقْتَدي " ، خَليفَتانِ مِنْ بَنِي الْعَبّاسِ ، وَقَوْلي كانَ " الْمُكْتَفي " ، جالِسًا في طَريقِ الْقافِيَةِ ، ذَكَرْتُ بِه ما اتَّفَقَ لِبَشّارِ بْنِ بُرْدٍ مَعَ تَسْنيمٍ ؛ فَإِنَّ بَشّارًا عَرَضَ لَه يَوْمًا نَظْمُ بَيْتٍ ، فَقالَ :

ما إِنْ تَحَرَّكَ أَيْرٌ فَامْتَلا شَبَقًا إِلّا تَحَرَّكَ عِرْقٌ فِي اسْتِ

ثُمَّ قيلَ لَه : فِي اسْتِ مَنْ ؟ فَمَرَّ بِه تَسْنيمُ بْنُ الْحَواريِّ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقالَ بَشّارٌ : " في اسْتِ تَسْنيم " ؛ فَقالَ لَه : أَيْشٍ وَيْلَكَ ! – هي في النص " والك " ، وصوابها ما أثبت ؛ إذ لا داعي إلى اصطناع العجمة فيها ، لعروبة سائر كلامه ! - قالَ لَه : لا تَسَلْ ، قالَ سَمِعْتُ ما أَكْرَهُ ، فَاذْكُرْ لي سَبَبَه ، فَأَنْشَدَهُ الْبَيْتَ ، فَقالَ : ما حَمَلَكَ عَلى هذا ؟ قال : سَلامُكَ عَلَيَّ ، قالَ : لا سَلَّمَ اللّهُ عَلَيْكَ وَلا عَلَيَّ ، إِنْ سَلَّمْتُ بَعْدَها عَلَيْكَ !

أشهر من هذا ما سميته في " المنمنمات " ، " جِنايَةُ الْقافِيَةِ " ، ورواه الاصفهاني : " حَدَّثَني الْحَسَنُ بْنُ عُلَيْلٍ الْعَنَزيُّ وَالْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُما ، قالوا : كانَتْ مُتَيَّمُ جارِيَةً لِبَعْضِ وُجوهِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، فَعَلِقَها عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمُعَذَّلِ . وَكانَتْ لا تَخْرُجُ إِلّا مُنْتَقِبَةً ، فَخَرَجَ عَبْدُ الصَّمَدِ يَوْمًا إِلى نُزْهَةٍ ، وَقَدِمَتْ مُتَيَّمُ إِلى عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبي الْحُرِّ الْقاضي ، فَاحْتاجَ إِلى أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْها ؛ فَأَمَرَها بِأَنْ تُسْفِرَ ، فَلَمّا قَدِمَ عَبْدُ الصَّمَدِ ، قيلَ لَه : لَوْ رَأَيْتَ مُتَيَّمَ وَقَدْ أَسْفَرَها الْقاضي ، لَرَأَيْتَ شَيْئًا حَسَنًا لَمْ يُرَ مِثْلُه ! فَقالَ عَبْدُ الصَّمَدِ قَوْلَه :

وَلَمّا سَـرَتْ عَنْها الْقِنــاعَ مُتَيَّمٌ تَرَوَّحَ مِنْها الْعَنْبَريُّ مُـتَيَّما 

رَأى ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ وَهْوَ مُحَكَّمٌ عَلَيْها لَها طَــرْفًا عَلَيْهِ مُحَكَّما 

وَكانَ قَديمًا كالِحَ الْوَجْهِ عابِسًـا  فَلَمّا رَأى مِنْها السُّفورَ تَبَسَّما 

فَإِنْ يَصْبُ قَلْبُ الْعَنْبريِّ فَقَبْلَه صَبا بِالْيَتامى قَلْبُ يَحْيى بْنِ أَكْثَما 

فَبَلَغَ قَوْلُه يَحْيى بْنَ أَكْثَم - وكان قاضي القضاة ! - فَكَتَبَ إِلَيْهِ : عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللّهِ ! أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ مِنّي ، حَتّى أَتاني شِعْرُكَ مِنَ الْبَصْرَةِ ! فَقالَ لِرَسولِه : قُلْ لَه : مُتَيَّمُ أَقْعَدَتْكَ عَلى طَريقِ الْقافِيَةِ " !

 

الْإِرادَةُ الْمَشيئَةُ ، وَأَصْلُهُ الْواوُ لِقَوْلِكَ ( في صيغة أخرى ) : راوَدَ ، إِلّا أَنَّ الْواوَ سَكَنَتْ ؛ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُها إِلى ما قَبْلَها ؛ فَانْقَلَبَتْ في الْماضي أَلِفًا ، وَفي الْمُسْتَقْبَلِ ياءً ، وَسَقَطَتْ في الْمَصْدَرِ لِمُجاوَرَتِها الْأَلِفَ السّاكِنَةَ ، وَعُوِّضَ مِنْها الْهاءَ في الْآخِرِ ، تَقولُ : راوَدْتُه عَلى كَذا مُراوَدَةً ، وَرِوادًا ، أَيْ أَرَدْتُه

هكذا إذن :

أَرْوَدَ = أَفْعَلَ

أَرَوْدَ = أَفْعَلَ

أَرادَ = أَفْعَلَ

استثقلت فتحة الواو ؛ فنقلت إلى الراء ؛ فطالت بالواو ، والوزن لذلك على حاله ، لأنه كشاف التَّصْريف لا التَّصْويت