الشّعر الفلسطيني والقضيّة الفلسطينية
صالح محمد جرار/جنين فلسطين
لم يتبلور الشّعور الوطني الفلسطيني إلاّ بعد صدور وعد بلفور 2/11/1917م ، وتحوّل الصّهيونية من خطر خفيّ محدود وغير منظور بصورة شاملة ،إلى خطر واقعيّ ملموس ،ورأينا في التّمهيد مراحل نضال شعب فلسطين ، ومقاومته للمؤامرة الكبرى على فلسطين وأهلها .
وما كان لأدب فلسطين أن يعيش بمعزل عن تلك الأحداث . والأدب هو المرآة الصّادقة التي تنعكس عليها حياة الأمم والشّعوب. فسجّل أدب فلسطين في صدق وأمانة أحداث البلاد وهاجم الانتداب
وأماط اللثام عن أساليب الاستعمار ، وأزاح السّتار عن خطط الصّهيونية ، ومجّد البذل والفداء ،وخلّد الأبطال والشّهداء . وقد وقف الأدب في فلسطين هذا الموقف بكلّ ألوانه وفنونه، من مقال وقصّة ومسرحيّة وقصيدة .
ونكتفي الآن بذكر شيء يسير عن موقف الشعر من تلك الأحداث . ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى ، والاحتلال البريطاني لفلسطين ، أبصر الشّاعر وديع البستاني لوحة على أحد أبواب الحكومة كُتِب عليها الوكالة اليهودية فأمسكت به حمّى القلق ممّا هو آتٍ عبر هذه اللوحة .وقال :
أرى الوطن القوميّ يعلو بناؤه أرى غرفة في القصر تحجبه قصرا
فذكّرْهمو ذكرى ،ولستَ مسيطراً مخافة يومٍ ، فيه لا تنفع الذكرى
وأخذالشّعر الفلسطيني يعالج القضايا العامّة معالجة يمتزج فيها الحسّ بالفكرامتزاجاً تامّاً . وكذلك الأناشيد الوطنيّة .
وقد اتّصل الشّعر اتّصالاً وثيقاً بالقاعدة الشعبية ، وأصبح ألصق بالقضيّة الوطنية والثّورات في وجه الاستعمار، واستجاب الشّعراء جميعاً لهذا الاتّجاه . فحين وُضع حجر الأساس للجامعة العبريّة في القدس ،اشترك مطران القدس ومفتيها في هذا الاحتفال ،فوضع كلٌّ منهما حجراً في الأساس ،فتلمع الرّؤية في ضمير الشّاعر وديع البستاني فيهتف متوجعاً ساخراً :
أفتني ،بالله ، بالكعبة ، بالحجر الأسود ،بالرّكن الأغرّ !!
إن علت في عزّها شامخةً ،فوق رأس الطّور تلهو بالعِبَر
وغدت جامعةً عبرية ، ونهى الحاخام فيها وأمَر !!
أيقول الشّيخُ والقسُّ : اتّئد ، إنّ للمطران والمفتي حجر؟!!!
ومع الأسف تُفتتح الجامعة العبرية سنة 1927م ، ويقْدُمُ بلفورنفسه ليشهد حفلة الافتتاح ، كما قدم أحمد لطفي السيّد منتدَباً عن الحكومة المصريّة ،فيهتزّ ضمير الشّعر ، فيقول الشّاعر اسكندر الخوري البيتجالي :
الله أكبر !! كلّ هذا في سبيل الجامعه !!
ما تلك جامعة العلوم ! بل المطامع جامعه !!
إنّ السّياسة أوجدتها ، والسّياسة خادعه ! !
ثمّ يقول :
لَوْمي على مصرٍ ، تمدّ لنا أكفاً صافعه !!
واقتضت الممازجة بين الحسّ والفكر في الاتّجاه الشّعري ، اقتضت نَفَسَاً طويلاً ،وامتداداً في طول القصيدة . ولعلّ أبا سلمى ، عبد الكريم الكرمي يكون من أقدر شعراء فلسطين على البناء
الشّعري بالصّور ، بدلاً من الوصف التّقريري الرّتيب ، كقوله في قصيدته الدّاليّة ، لدى مصرع الشّيخ الوقور فرحان السّعدي الّذي أعدمه الإنجليز ، رغم تجاوزه السّبعين من عمره ، وهو صائم في شهر رمضان المبارك :
انـشر على لَهَبِ شـكـوى يردّدها الزّمانُ إيـه ! مـلوكَ العُرْبِ لا قـومـوا اسمعوا من كلّ قـومـوا انظروا فرحانَ يـمشي إلى حبل الشّهادة سبعون عاماً في سبيل الله | القصيدِشكوى العبيد إلى العبيدِ غـداً إلـى الأبد الأبيدِ !! كـنتم ملوكاً في الوجودِ !! ناحية يصيح دمُ الشّهيدِ !! فوق جبينه أثرُ السّجودِ !! صـائـماً مشْي الأسود !! والـحـقّ الـتّـلـيدِ !! | !!
...........الخ
والشّيخ إبراهيم الدّبّاغ من السّابقين إلى تسجيل ألوان الكفاح الفلسطيني وله المطوّلات في هذا ، فيقول في إحداها :
لـيـسـت فلسطين في البلدان ولــيــس أبـنـاؤهـا مـلـكـاً | عاريةًتُـهـدى وتُـمنًح بين العير والعيرِ لمنتدبٍ فوعد بلفور عنها وعد ممرورِ!! | !!
ويزخر الشّعر الفلسطيني بنماذج= الشّعراء الّذين تمرّدوا على طبقتهم الأرستقراطية ،وانخرطوا في صفوف الشّعب المكافح . والظّاهرة السّاطعة على هذا الصّعيد ، هي في صفوف الشّعب المكافح ،وهي بلا ريب ظاهرة الشّاعر إبراهيم طوقان فقد كوى الزّعامات التّقليدية الهشّة ،وشواها بشواظ سخريته الحارقة :
أنتم رجالُ خطاباتٍ منمّقةٍ كما علمنا وأبطال احتجاجاتِ !!
وقد شبعتم ظهوراً في مظاهرةٍ مشروعة وسكرتم بالهتافات !!
وينقضّ عليهم مراراً بسخريته ، فيمزقهم إرباً إرباً :
أنتم العاملون من غير قولٍ !! بارك الله في الزّنود القويّه
وبيانٌ منكم يعادل جيشاً !! بمعدات زحفه الحربيّه
.......
تمّ يقول: في يدَيْنا بقيّة من بلاد !! فاسْتريحوا كيلا تطير البقيّه !!
وفي تمجيد البذل والفداء، يقول من قصيدة عنوانها الشّهيد :
عبس الخطبُ فابتسم !! وطغى الهول فاقتحم !!
رابط الجأش والنّهى ثابت القلب والقدم !!
لم يُبال الأذى ولم يثنِهِ طارئ الألم !!
نفسُهُ طوْع همّةٍ وجمت دونها الهمم !!
..........الخ
ويُعْتبر الشّاعر الشّهيد عبد الرّحيم محمود مثالاً أعلى للتّكامل العضوي بين الكلمة واليد ،بين الفكر والممارسة . ولم يحد عبد الرّحيم عن هذا الطّريق ، بل سارها حتّى نهايتها ، أسوة بمثله الأعلى
الشّهيد عزّ الدّين القسّام :
سأحمل روحي على راحتي !! وألقي بها في مهاوي الرّدى !!
فإمّا حياة تسرّ الصّديق !! وإمّا ممات يغيظ العدا !!
ونفس الشّهيد لها غايتان : ورود المنايا ونيل المنى !!
............الخ
وهكذا حمل عبد الرّحيم محمود روحه على راحته ، واندفع إلى قرية الشّجرة في حرب فلسطين سنة 1948م ، وبعد ساعات من بدء المعركة ، عاد إلى مدينة النّاصرة محمولاً على أكتاف رفاقه المقاتلين ، بينما يمتزج دمه بكلماته في فضاء الوطن وعلى ترابه !!
ولم يقف عبد الرّحيم محمود ، وإبراهيم طوقان ، وحدهما في الميدان بل وقف إلى جوارهما شعراء من أبناء فلسطين ،عزفوا ألحانهم الوطنيّة ، وأناشيدهم الحماسيّة ، فمدّوا المجاهدين بالطّاقة الثّوريّة ،وأجّجوا حماستهم ، مماّ جعلهم يستبسلون في ميادين الجهاد ، ونذكر من هؤلاء الشّعراء :
أبا سلمى ، عبد الكريم الكرمي ،ومحمود الحوت ،والشيخ سليم أبو الإقبال اليعقوبي ،وإسعاف النّشاشيبي ، وخليل السّكاكيني ، والشّيخ صالح التّميمي ، والشّيخ سعيد الكرمي ، ووديع البستاني ، وإسكندر البيتجالي ، والشّيخ إبراهيم الدّبّاغ .......الخ
وهكذا كان الأدب عاملاً قويّاً من عوامل وحدة الصّفّ وقوّة النّضال ، وتماسك الشّعب ،على الرّغم من كلّ الصّخور الّتي وضعتها حكومة الانتداب في طريق اللغة العربية وازدهارها ،فلطالمل ردّد شباب فلسطين في أعيادهم القومية الأناشيد الحماسيّة ، ولطالما تغنّى المجاهدون في رؤوس الجبال بالقصائد القويّة ، ولطالما أنشد الطّلاّب والطّالبات في المدارس الأغاني والأهازيج الّتي تبعث الحماسة والقوّة .
وازداد الشعّر امتزاجا بالقضيّة الفلسطينية بعد حرب سنة 1967م ، لأسباب عدّة ،منها تربّع السّرطان الصّهيوني على فلسطين كلّها من البحر إلى النّهر . وانهيار الجبهات العربية سريعاً أمام هذا الزّحف السّرطاني . وبقاء هذا الشّعب الأعزل فريسة سائغة للوحش الصّهيوني ،ومع ذلك ظلّ هذا الشّعب ينتفض ويقاوم ، بالحجر والسّكين وبالزّجاجات الحارقة ، وبكل ما أوتي من وسائل المقاومة وسقط الشّهداء والجرحى ،وهدّمت البيوت ،واعْتُقل الشّباب والشّابات ،بل الأطفال والشّيوخ ، وسِيم الشّعب كله خسف العذاب . كلّ هذا فجّر الغضب الشّعري ، وأشعل الكلمة ،وتنوّعت أساليب التّعبير وتعدّد وصف مشاهد العسف والبطش الصّهيوني ،ووصف مواقف البطولة والشّهادة لدى المناضلين الشّجعان ووصف تخاذل العرب والمسلمين عن نجدة الأقصى المبارك وأرض الإسراء والمعراج ،
إلى آخر ما هنالك من مواقف تتعلّق بالقضيّة الفلسطينية . فهذا الشّاعر مأمون فريز جرّار يقول من قصيدة بعتوان القدس تصرخ سنة 1967م :
مالي أراكم ذاهلين سكارى ؟! مالي أراكم تائهين حيارى ؟!
مالي أراكم قائمين علىالخنا متقبّلين به دجى ونهارا ؟!
.......
عجباً ! أذلّ النّاس تغصب أرضنا وتعيث في حُُرُماتنا اسْتهتارا ؟!
في المسجد الأقصى تُدار رؤوسهم ويُدنّسون رحابه استحقارا !!
وهذا الشّاعر كمال رشيد يقول في ديوانه شدْو الغرباء :
أسفي على الإسلام ينزف جرحه!! أيـن الـمـلايينُ الّذين نعدّهم ؟! قـالـوا : السّلامُ سبيلنا يا ويحهم قـم ،يا صلاحُ وشاهدِ القدسَ الّتي فـلعلّ سِفرَ المجد يفتح صفحةً !! | والـمـسلمون عن الجهاد نيامُ أوَ لـيـس فـيهم فارس مقدامُ ؟! أوَ يُـرْجِعُ الحقّ السّليبَ سلامُ ؟! حـررّتَـها ! يزهو بها الحاخامُ !! فـيُـطِـلّ يـومٌ مُـشرقٌ بسّامُ !! | !!
حطّمْ كراسيّ الزّعامه فـبقاؤهم عارٌ وكُفْرٌ !! المسجد الأقصى يئنّ !! صِح بالكنانة والحجاز !! قذفوا حمانا بالحِراب !! | !!حطّمْ ! فقد مُلِئتْ قُمامه مـن علامات القيامه !! ومـهد عيسى والقيامه !! وأيـقِـظـنّ لنا شآمه ! ونـحـن نُهديهم حمامه! | !!
...............الخ
ويطول بنا الحديث عن الشّعر الفلسطيني الملتهب بعد حرب سنة 1967م ،وشعراؤنا كثيرون في داخل الوطن وخارجه ، ومنهم محمد صيام ،محمود مفلح ،خالد نصرة ،فدوى طوقان ، محمود درويش ،سميح القاسم ، ياسين السّعدي ،فتحي العنزاوي ،وأبو المعتصم ، وصالح محمّد جرّار .....الخ