الأدب المسيحي

موضوعاته ، وملامحه الفكرية والفنية

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 ندعو إلى الأدب الإسلامي ، ونرفع أصواتنا بالدعوة إليه ، وهو الأدب ذو الأصالة العقدية والتاريخية ، الذي يمتد  شعرا ونثرا  من مطلع النبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . وهو الأدب الذي ينظر إلى الكون والطبيعة من تصور إسلامي معبرا في جماليات فنية وافية بعيدا عن التقريرية والوعظية . ولكن غلاة الحداثيين والعلمانيين يتصدون لهذه الدعوة النبيلة بحجج هشة مهترئة . منها أن مثل هذه الدعوة ستدفع اليهود إلى إنشاء أدبي يهودي ، وهي حجة ساقطة ؛ لأن الأدب الصهيوني موجود  على مستوى العالم كله  بملامحه وسماته الفارقة . وقد كتبت فيه بحثا نشر من عامين في مجلة القدس . وهأنذا أقدم البحث الثاني ليتبين القاريء أن هناك أدبا مسيحيا له موضوعاته ومعالمه وآلياته الفنية الخاصة ، وبذلك تسقط دعوى المتصدين للأدب الإسلامي ، وما أضعفها .. وما أضعفهم !!

**********

 من الصعب  إن لم يكن من المستحيل  الفصل  واقعيا وتاريخيا  بين الدين والفن ، فكلاهما  كما يقول الأستاذ محمد قطب  انطلاق من عالم الضرورة ، وكلاهما شوق مجنح لعالم الكمال ، وكلاهما ثورة على آلية الحياة [1].

 ومادة الفن هي الحياة والنفس الإنسانية ، ومقوماته هي الصدق والأصالة الفنية والمضامين السليمة .

 ومادة الدين هي الحياة والنفس الإنسانية ، ومقومات الدين الصادق المنزل من عند الله هي الصدق والأصالة والمثل العليا التي تتواءم مع واقع الحياة ، وتتطور معها ، وتشبعها بالسعادة والحب والإخاء والعدالة والحرية .

 وغاية الفن الإمتاع والإفادة والتحريض على بناء مجتمع أفضل . وغاية الدين لا تخرج عن إسعاد البشرية واستمتاعها بحياتها ، وسيطرة المثل الفاضلة على علاقات البشر و الدول والحكام ، والتهيؤ لعالم آخر .. عالم أفضل ، والتنفير من المظالم والانحرافات والعمل على هدمها [2].

**********

 وإذا نظرنا إلى الدين المسيحي رأينا له تأثيرا واضحا في بعض المذاهب الأدبية الأوروبية منذ عصر النهضة ، وكان هناك من ثار على مساس الأدباء بالقيم الدينية المسيحية مثل " جايلز فلتشر " في كتابه " انتصار المسيح " .

 والشاعر الإنجليزي " ملتون " يرى ضرورة وجود هدف أخلاقي في الشعر ، ويقول إنه يصف في شعره عرش الله ، ويمجد عزته لتلقين الناس معاني التقى والفضيلة ، وفي مقدمة ملحمته " الفردوس المفقود "، ويبين أن غرضه الذي يسعى إلى تحقيقه هو إثبات قدرة الله الخالدة .

 وفي القرن الثامن عشر الميلادي ظهرت في أوروبا نظرية " العدالة الشعرية " التي تقوم على ترسم المثل الأعلى في الأخلاق ، وعلى مبدأ الثواب والعقاب .

 وفي القرن التاسع عشر أكد " جون ستيوارت مل " النزعة الأخلاقية المرتبطة بالدين المسيحي في الفنون وكل نواحي النشاط الفكري للإنسان ، ثم ظهرت " المدرسة الإنسانية الجديدة " التي وضع أساسها " أرفنج بابيت " ، وكان هدفها الأسمى تقوية روح الإنسان بترسيخ القيم الدينية فيها ، وإذعانه للأعراف والتقاليد المتوارثة ، ومقاومة النزعات الفردية والعاطفية المطلقة دون قيود .

 وعلى الدرب نفسه سارت المدرسة الكلاسيكية الجديدة أو " مدرسة الإحياء الكاثوليكي" التي أسسها " ت. س. اليوت " لتدعو إلى ضرورة بعث الإيمان بالدين المسيحي ، بل دعا " اليوت " صراحة إلى ربط الأدب بالدين ، والحكم على الأدب بمقاييس أخلاقية لها صفة الثبات والشمول .

وتأسيسها على هذه النظرة دفع " اليوت " إلى مهاجمة الأدب الحديث ؛ لأنه يقدم تجارب بعيدة عن الإيمان والأخلاق، بحيث يعيش الإنسان في خواء الحضارة المادية دون تراث أو قيم ، وهاجم المذاهب الأدبية الاشتراكية والماركسية والسريالية والرومانسية وما إليها ؛ لأنها لا تلتزم الأخلاق المسيحية بمفهوم المذهب الكاثوليكي بصفة خاصة [3].

**********

 وبعد هذه التوطئة يواجهنا سؤال يبحث عن إجابة ، وهو : هل في أدبنا العربي من الإبداع ما يشكل " أدبا مسيحيا " له ملامحه الموضوعية والفنية الفارقة ، شأن الآداب المذهبية الأخرى ؟

 إن الاستقراء التاريخي يمنحنا الجواب بالإيجاب ، ولو وقفنا عند الساحة اللبنانية وحدها لطال بنا المقام ، ولاحتجنا إلى بحوث متعددة لعرض " أدب مسيحي " متعدد الأجناس الأدبية ، ومشبع بروح المسيحية ، ولكن نكتفي بالإشارة إلى عمل درامي رائد هو مسرحية " المروءة والوفاء " لخليل اليازجي ، ويقال إنها أول مسرحية شعرية في الأدب العربي [4].

 والمسرحية تبرز القيم الأخلاقية المسيحية من خلال واقعة مشهورة في العصر الجاهلي : فحنظلة الأعرابي الذي حكم عليه الملك النعمان بالموت في يوم نحسه يعود إلى النعمان بوعد قطعه له ، بعد أن ضمن عودته عربي آخر ذو شهامة وأريحية ومروءة اسمه " قراد " . ويعجب النعمان أن يعود الأعرابي ليتلقي الموت بعد أن أفلت منه ، ويسأله النعمان عن مصدر هذا الوفاء العجيب فيكون جوابه : إنه دينه النصراني . ويدخل الملك النعمان وأهل الحيرة جميعا في الدين الجديد ، ويعفو عن الكفيل الشهم "قراد " ، وعن المكفول الوفي " حنظلة الطائي " .

 وقد نجح اليازجي  إلى حد كبير  في عرض أفكاره والقيم التي تدعو إليها النصرانية من خلال الحوار والأحداث التي ربط بينها ربطا محكما . ومن خير المشاهد ذلك المشهد الذي يصور مثول حنظلة بين يدي النعمان ، ويعجب الملك لسعي الأعرابي لحتفه بقدميه مع قدرته على الهرب ، ويدور بينهما الحوار التالي:

 حنظلة : ألا إنه ديني الذي يفرض الوفا                  ولو بين أرماح ونبل وأنصل

 النعمان : وما هو هذا الدين؟

 حنظلة : دين تنصر                          له سنن تحلو لدى المتكمل

 النعمان : بماذا ترى الدين يأمر غير ذا ؟

 حنظلة : بحب عدو بالعداوة ممتلي .

 النعمان : لعمري هذا خير دين نرومه                      فنحن بدين جاهلي مضلل [5]

**********

 وفي مصر نشأ أدب عربي قبطي بعد أن أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد سنة 85 ه  ( 705 م ) بقرار نقل الدواوين من اللغة القبطية إلى اللغة العربية ، فأخذ الأقباط يهملون بالتدريج دراسة اللغتين اليونانية والقبطية ، ويقبلون على تعلم اللغة العربية ودراسة آدابها .

 وابتداء من القرن الثالث الهجري بدأ الأقباط يؤلفون الكتب العربية ، ولعل الرائد في هذا المجال " سعيد بن بطريق المتطبب " ( 261  328 ) بكتابه " التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق " .

وعلى مدار العصور ظهر أدباء نصارى كثيرون منهم في العصر الفاطمي زكريا بن أبي مليح مماتي . وفي عصر الدولة الأيوبية ظهر من أدبائه " أبناء العسال " من عائلة رجل نصراني اسمه " أبو البشر يوحنا الكاتب المصري " ، ومنهم " الصفي بن العسال " صاحب كتاب " المجموع الصفوي " ، والشاعر الأسعد بن العسال .

 ومنهم " جرجس بن العميد " المعروف " بابن المكين " كاتب الجيوش المنصورة في حكومة الأيوبيين . ومنهم بعد ذلك : "بطرس أبو شاكر " المعروف بابن الراهب ، وابن كبر شمس الرياسة أبو البركات ( ت 725 ه ) [6].

 وفي العصر الحديث نهض الأدب القبطي ، وأصبح ذا ملامح وسمات مميزة ، وانفتح كثير من أدباء الأقباط على الثقافات الأجنبية والعربية والإسلامية ، بل إن بعضهم درس في الأزهر مثل : ميخائيل عبد السيد ، وجندي إبراهيم صاحب صحيفة " الوطن " الذي التحق بالأزهر تحت اسم " الشيخ إبراهيم الجندي " ، وكذلك الشاعر تادرس وهبي ، ولم يعرف بين أدباء القبط من تأثر بالثقافة الإسلامية مثله ، فقد حفظ القرآن وفهمه فهما جيدا ، وكان يكثر في شعره من الاقتباس من الآيات القرآنية ، والإشارة إلى الأحاديث النبوية .

[7]]

**********

 ويطول بنا المسار لو رحنا نستعرض مراحل تطور هذا الأدب ، فيكفينا لإلقاء الأضواء عليه خلوصا لأهم ملامحه وأبعاده المتميزة ..

 إن من مبدعي هذا الأدب كتابا وشعراء ورجال دين ، ويظهر تميزه في الشعر بخاصة . فمن ناحية الشكل نجد شعراء الأقباط قد التزموا بالشكل الخليلي للقصيدة مع الحرص على أصالة الكلمة العربية ، والتزام الصحة اللغوية والقاعدية . وغير هذه السمة المهمة نرى غير قليل من ملامح التميز الموضوعي والفني ومن أهم هذه الملامح :

 1  الاعتزاز بالفرعونية

 وفي الشعر كان للقومية الفرعونية والفراعنة الحظ الأوفى إلى درجة الإغراق في المدح والتقدير ، وخصوصا عند أمير شعراء الأقباط " نصر لوزا الأسيوطي " (1887  1964) ففي مطولة له من خمسة وأربعين بيتا بعنوان " على سفح الأهرام " يقول عن الفراعنة:

إذا ذكـروا يوما أشارت يد iiالعلا
وإن ذكـروا يـومـا فإن iiبمثلهم
وإن  ذكـروا يـوما فإن iiلذكرهم
وإن ذكـروا يـومـا فإن iiقلوبنا
وإن  ذكـروا يـوما فإن iiمديحهم
وإن ذكروا يوما فمن فرط مجدهم
كـأن  ثرى الأهرام ترب iiمقدس
يـؤمونه  من كل فج ، iiوجوههم
يحجون أرضا أصبحت بك iiكعبة









إلـيـهم وخرت في الوجود iiلمام
بـطـون  نـساء العالمين iiعقام
سـجـود  جـميع العالمين iiلزام
تـحـن  إلـيهم ، والحنين iiهيام
بـكـل لـسـان مبدأ ... وختام
وهـيـبتهم صلى الأنام iiوصاموا
حـواليه  من كل الشعوب iiزحام
عـلـيـهن من فرط الحياء iiلثام
كـأنـك  بيت للحجيج ... حرام

**********

 وربما كان من العوامل التي أججت هذه العاطفة الفرعونية علو صوت المسلمين بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية ، والالتفاف حول لواء الخلافة ، وترويج دعوى أنهم "نسل الفراعنة ، لم تختلط دماؤهم بدماء أجنبية عربية أو تركية أو غيرها " [9] . وقد صرحوا بما يبين عن هذه النزعة في كثير من قصائدهم كتلك التي نرى الشاعر " تادرس وهبي " يهنيء بها الزعيم القبطي " بطرس غالي " بمناسبة توليه رياسة الوزارة المصرية سنة 1908 . وفي مطلعها يقول :

فـيـا سـلالـة " مينا ii"
لـقـد  رآك iiالـخديوي
فـكـنـت خـير iiوزير



والـشيء  بالشيء iiيذكر
عـلـى  الـرياسة iiأقدر
حاز الفخار المؤزر [10]

**********

 2  الدعوة إلى المحبة والاتحاد والتلاحم بين عنصري الأمة من مسلمين وأقباط : وخصوصا بعد أن اشتعلت " فتنة أدبية " بسبب مقتل " بطرس غالي " رئيس الوزراء على يد شاب مسلم هو " إبراهيم الورداني " .

 ولكن كان هناك تيار آخر يغذيه أمثال " أخنوخ فانوس " منشئ جمعية " مجتمع الإصلاح القبطي " تحت ستار الدعوة إلى إنصاف الأقباط وحمايتهم ودفع الظلم الواقع عليهم من المسلمين ، واستجاب بعض الشعراء الأقباط لهذه الدعوة [11] .

**********

 3  ظهور بصمات الديانة المسيحية في الأفكار والصور والألفاظ والتراكيب والإشارات التاريخية ، كما نرى في قصيدة " روفائيل نخلة " بمناسبة " عيد الفصح " [12] وفيها يقول :

في يوم عيد الفصح تزهو القاهرة ْ
بـقـيامة " الفادي " تكامل iiسعدها
كـل  الـقلوب اليوم تخفق iiبهجة
ومـئـات أجـراس الكنائس كلها
قـام  " الـمسيح إلهنا " من iiمدفن
فأرى  النصارى كلهم في iiشخصه






مـن فـيض أنوار الربيع الباهرةْ
وبـدت بـشارات السرور النادرةْ
بـألوف  دور بني المسيح العامرة
غـنت  أغانيَّ الحبور .. الجاهرة
ألـقـتـه  فـيه ذنوبنا iiالمتكاثرة
إن  الـصـليب ينيل مجد iiالآخرة

 وتظهر هذه البصمات كذلك في أغلب الأغراض الغنائية كالمدح والشكوى والرثاء ، كما نرى في الأبيات التالية من قصيدة طويلة لنصر لوزا الأسيوطي يرثي فيها زوجته [13]:

لاقـيـت  مـريم أخت مريم iiفانعمي
أنـفـقـت في الإيمان عمرك iiوالتقى
بعرى الصراحة والهدى استمْسكتِ في



بـأجـل  خـالـدة وخـيـر تـلاق
فـربـحـت تـاج الـخـلد بالإنفاق
زمـن  بـغـي مـفـعـم iiبـنـفاق

 4  ومقابل هذه السمة نجد قليلا من شعراء الأقباط يوظف في شعره غير قليل من الألفاظ والقوالب والمعاني والصور القرآنية كما نرى في قصيدة الشاعر القبطي " تادرس وهبي " التي نظمها بمناسبة مرور عام على مصرع " بطرس غالي " [14] وفيها يقول :

رب كـن لـي فـيما أحاول واحلل
يـا  خـلـيـلـي لا تـلوما iiمحبا
واذكـرا  فـضـلـه وإن جل iiشأنا
لـيـس  يـغني السلوان عني iiشيئا




حـيـن  أرثـيـه عقدة من iiلساني
مـع فـرط الأسـى الـذي iiتكتمان
ودعـانـي  أشـكو الزمان iiوشاني
قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [15]

 5  ومن أهم السمات الفنية النفسية في الشعر القبطي تدفق كثير من القصائد برنة حزن عالية النبرة تنبي عن شعور حاد بغربة روحية ، وقلق عظيم ، وإحساس قوي بفداحة الخسارة وخصوصا عند رثاء عظمائهم " لأن الأقباط أقلية ، وتعويض خسارتهم في هذا العظيم قد يكون متعذرا ، فهم يجدون فيه عونا وحماية لهم ، ورعاية لمصالحهم " [16] .

**********

 ومن الأدب المسيحي الذي لا يختلف على مسيحيته ، ما يسمى " بالترانيم الكنسية " التي تنشد في الكنائس شعرا عربيا يحمل معاني وقيما مسيحية وروحية ، منها المسيحي الخاص بمفهومه العقدي الحاد ، ومنها الروحاني بالمفهوم العام . فمن النوع الأول :

1 يا سيدي الفادي إليك حنيني
قد  ساقني لحماك حسن iiيقيني


ولـرؤيـتـي إياك كل iiأنيني
في  حبك الوافي جميع iiديوني

بدم جرى فوق الصليب ثمين

2  إن الـسعادة حظ سياح iiالسما
يـأتـيـهـم  جند السماء مرنما


يا حسن يوم وصولهم ذاك الحمى
ويـسـوع  مسرورا بهم iiمتبسما
ويقول أهلا بالألى تبعوني

3 حملوا الصليب وما استحوا بي في البشر
فـلـيـجـلسوا  حولي على عرش iiالظفر


بـل  مـا ابتغوا حظا سوى اسمى المحتقر
ولـيـلـبـسـوا إكـلـيـل مجد قد iiبهر

وليشبعوا من نعمة بيميني [17]

**********

 ومن النوع الثاني الذي يحمل من المضامين الروحية مالا تختلف فيه الأديان ما جاء في إحدى الترنيمات :

1  لـنا في كلام الإله iiالصمد
ولـيـس  مزيد على ما iiوعد
2 يـقـول اطمئن فإني iiمعك
وإنـي  أقـويـك كي أرفعك
3 إذا خضت لج المياه العميق
أنا لك في الضيق نعم iiالرفيق
4  إذا ما دهاك البلا iiوالخطر
ولا تـوقع النار فيك iiالضرر








أسـاس لإيـمـانـنا iiكالجبل
لـمـن يـلجئون إلى iiالمتكل
وإنـي  إلـهـك والعون iiبي
وأرثـى لـضعفك مثل iiالأب
فـلا  تـقـدرن عليك iiاللجج
وضـيـقـك  أبـدله بالفرج
فيكفيك  من نعمتي ما iiانسكب
فإني  أنقيك مثل الذهب ii[18]

 ونغض النظر عن شروح الكتاب المقدس ( كتب العهد القديم والعهد الجديد ) وهي من أدبيات المسيحية الملتزمة ، ونقف أمام عمل آخر أدخل في باب الأدب يتعلق بالمزامير [19] ، فقد جاءت المزامير في الكتاب المقدس مسطورة مطبوعة بنظام النثر ، كما نرى في المزمور التاسع والعشرين لداود : [20]

 صوت الرب على المياه . إله المجد أرعد . الرب فوق المياه الكثيرة . صوت الرب بالقوة . صوت الرب بالجلال . صوت الله مكسر الأرز .. إلخ

 وبداعية أن المزامير  في الأصل العبري  عبارة عن قصائد شعرية صدرت المزامير حديثا في طبعة مستقلة في صورة شعرية مشطرة من الالتزام الحرفي للنص الأصلي دون تغيير [21] . وهو عمل يذكرنا بما يسمى بقصيدة النثر . وقد جاء المزمور السابق على النسق الآتي :

صوت الرب على المياه

إله المجد أرعد

الرب فوق المياه الكثيرة

صوت الرب بالقوة

صوت الرب بالجلال

صوت الله مكسر الأرز

ويكسر الرب أرز لبنان

ويُمرحها مثل عجل

لبنان وسريون مثل فرير البقر الوحشي

صوت الرب يقدح لهب النار

صوت الرب

يزلزل الرب بريه قادش

صوت الرب يولد الإبل

ويكشف الوعور

وفي هيكله الكل قائل مجد

الرب بالطوفان جلس

ويجلس الرب ملكا إلى الأبد

الرب يعطي عزا لشعبه

الرب يبارك شعبه بالسلام [22]

**********

 ولا نرى لهذا العمل قيمة أدبية تشد النظر ، وإن بقيت له قيمة " تنظيمية " تذكرنا  كما ألمعت  بقصيدة النثر أو النثيرة . وقد يقلل من قيمة " التنظيمية " في هذا العمل أن هذه العبارات  التي استقلت كل منها بسطر  جاءت في الترتيب الأصلي بالكتاب المقدس  وقد فصلت كل منها عن الأخرى بنقطة وإن جاءت في سطور كاملة متتابعة .

**********

 ولكن مادة المزامير اتُّخِذتْ موضوعات لعمل شعري متكامل يمكن أن يندرج تحت "أدب الأطفال " [23] ففي موضوع المزمور التاسع والعشرين الذي عرضناه جاءت المنظومة الآتية :

صـوت الـرب ما أقواه
صوت  الرب فوق iiالماء
صوت  الرب في الأردن
صوت الرب أعطى iiنارا
صوت الرب أعطى المن
أربـعـيـن من iiالأعوام
ثـوبـه لـم يـبل iiعليه
صـار  شـعـبه iiمعتزا
فـي  هيكله أعطوا مجدا









صـوت  الرب ما iiأحلاه
شـق الـبـر مـا iiأبهاه
رجـع  النهر في iiمجراه
أكـلـت  ثـور iiإيـلياه
فـي  الصحراء ما iiأغناه
أكـل  الـشعب خبز الله
والـسـحـاب  قد iiحماه
فـي حـمـاه مـا iiأوفاه
واعــبـدوه لا iiسـواه

 ... إلخ [24]

 وإذا صفحنا عن الكسور العروضية ، وعن ركة بعض الجمل يحسب للشاعر أنه لم يلتزم حرفية المضمون ، وإن سبح في جو النص ، ولم يبتعد كثيرا عن أرضيته الأصلية : فهو نوع لا بأس به من أدب الأطفال الديني .

*********

 وكانت وقائع العهد القديم ، كما كانت حياة المسيح  عليه السلام  مجالا واسعا لأعمال درامية في الأدب المسيحي ، ومن أحدثها صدورا مسرحية شعرية طويلة عنوانها "ملحمة آلام المسيح " للدكتور عزت زكي [25] .

 وهذا العمل الشعري الطويل يمثل " مسرحية شعرية " مع أنه حمل اسم " ملحمة" ، وهو عمل يساير ما " اتجهت إليه الكنيسة منذ فترة طويلة من الالتجاء للتمثيليات الدينية ، فقد يبقى أثرها في النفس ، ويرسخ في الذهن بعض الأحيان مدة أطول من أثر عظة تسمع ، أو مقال يقرأ " [26] .

 ونرى الشاعر خليل جرجس خليل  وهو من أشهر شعراء الأقباط حاليا  يفضل بإطلاق هذا الشعر الديني على غيره ، فخليق بالشعر الديني  على حد قوله  أن يتفوق لأنه يعالج موضوعات إنسانية ، ويتمسك بأهداب الأخلاق والمثل العليا ، وهي مقاصد سامية تتناسب مع سمو الشعر ورسالته [27] .

 وموضوع المسرحية  كما هو ظاهر من العنوان  يعرض حياة المسيح ابتداء من إرهاصات الميلاد مع إبراز المظالم والآلام التي تعرض لها المسيح وأتباعه .

 والمؤلف  كما تشي المسرحية  متأثر من الناحية الشكلية على الأقل بأحمد شوقي ، وذلك في قدرته على " تصريف القول في الحوادث والحوار والانتقال من قافية إلى قافية تمشيا مع فنية الحوار واختلاف المواقف والأشخاص ، ومثل الأوزان الموسيقية التي تستريح لها الأذن ، ومثل التكرار في بعض المواقف التمثيلية الساخرة أو المرحة" [28] .

 ولعل أهم مظاهر تأثر الشاعر بأحمد شوقي الإكثار من الغنائيات وإطالة القطعة الواحدة إلى عشرات الأبيات بحيث يمكن أن تحسب في عداد القصيدة الواحدة المستقلة ، كالذي جاء على لسان " يهوذا " من ستين بيتا متتابعة دون تدخل بالحوار من شخصيات أخرى[29] .

 ومن النقاط التي تحسب للشاعر براعته في بعض الحوار الداخلي كالذي أجراه على لسان " يهوذا " وقد وقع تحت عذاب الشعور بعقدة الذنب لغدره بالمسيح:

أي  لـيـل أنت يا ليل iiحياتي
ويـح  نفسي يا لهول iiالظلمات
هـيه  أمي أنت أشقى الأمهات
أي  رعـب سألاقي في iiمماتي




أي تعس أنت يا تعس iiمصيري
من دجى البطن إلى ليل iiالقبور
جئت بي للتعس والهول المرير
وعـذابات إلى دهر الدهور ii..

آه من نفس ستشقى

آه من هول سألقى

آه هل قد ضعت حقا

من ترى يمحو شروري ؟ [30]

**********

 والمسرحية معرض لكثير من المعتقدات المسيحية والمعجزات التي جاء ذكرها في الأناجيل كتحويل المسيح الماء إلى خمر في عرس " قانا " [31] ، وعقيدة الفداء ، وقيام الموتى من قبورهم [32] .

 ويعيب المسرحية غير قليل من التفكك وضعف الرابطة النفسية والفنية بين بعض المشاهد ، وإقحام بعضها بلا داعية فنية أو موضوعية كمشهد " رقصة الشياطين " [33] ولكن المسرحية  بصفة عامة  تمثل  باعتراف ناظمها  " الأدب المسيحي " [34] ، وإن كان يرى أنها مسبوقة في الأدب الغربي بعشرات من المسرحيات الشعرية وغير الشعرية التي تصور حياة المسيح كلها أو بعض فصول منها ، ويعترف الشاعر بتأثره  إلى حد ما  بهذه الأعمال [35] .

 ومن هذه الأعمال " التراجيديا الإلهية " للشاعر " لونجفيلو " ، ومسرحية " القيامة " لجون ماسفيلد . ومسرحية " الآلام " الألمانية التي يقوم بتمثيلها كل عشرة أعوام أهالي مدينة " أوبرا كرجاو " ، وذلك من ثلاثمائة عام وفاء لنذر بعد أن رفع الله عنهم وباء الطاعون [36] .

**********

 وبعد هذه المسيرة يتبين لنا أن الساحة الأدبية يعيش عليها " أدب مسيحي " عربي شعري ونثري ينطلق من تصور عقدي صريح ، وينتصر للقيم والأخلاقيات والمعطيات التراثية المسيحية ، ويعيش واقع المسيحيين السياسي والاجتماعي . ومبدعون أدباء مسيحيون عالجوا موضوعاته بكل الأجناس الأدبية من قصص ومسرحيات وقصائد شعرية .

              

[1] محمد ثطب : منهج الفن الإسلامي 5.

[2] د/ نجيب تالكيلاني : الإسلامية والمذاهب الأدبية 13  14

وانظر مظاهر هذه الصلة القوية بين الدين والأدب عمليا في القديم عند العرب واليونان والرومان والمصريين والفرس والهند والصين الصفحات 62  72 من كتاب " الأدب العربي بين الصدق الفني والأخلاقي" للدكتور شوقي عبد الحليم حمادة .

[3] انظر : د/ محمد مصطفى هدارة " الالتزام في الأدب الإسلامي " 20  23

( بحث قدم لندوة الأدب الإسلامي ) . بالرياض .

[4] نظمها خليل اليازجي سنة 1876. وظهرت الطبعة الأولى من هذه المسرحية سنة 1884 في بيروت ، ثم ظهرت في طبعة ثانية في مصر سنة 1902 بعد وفاة صاحبها بثلاث سنوات ، ولكنها مثلت قبل طبعها في بيروت سنة 1878 ( انظر :الدرامات الشعرية :أحمد محمد مظهر : مجلة أبوللو نوفمبر 1934 . ص 347 ، ولكن يفهم من التقاريظ الملحقة بالمسرحية أنها مثلت سنة 1880 .

[5] مسرحية المروءة والوفاء لخليل اليازجي 86 .

[6][6] انظر : محمد سيد كيلاني : الأدب القبطي قديما وحديثا 5  23 .

[7][7] كيلاني : السابق 25 .

[8] انظر : كيلاني السابق 46 .

 وقد بلغت هذه العاطفة حدا من الغلو الغريب ، يدل على ذلك ما نشرته صحيفة ( الوطن ) القبطية في 16 / 8 / 1913 أن وفدا من أدباء الأقباط زار معبد الكرنك في مدينة الأقصر ، ولما صاروا أمام أحد تماثيل رمسيس الأكبر انبطحوا على الأرض ، وتمرغوا في التراب ، وتقلبوا في العفار والهباب ، ورفعوا أصواتهم بالبكاء والعويل ، وسالت دموعهم كل مسيل ، واشتد الصياح وعظم النواح ، وصاروا يرددون البيتين الآتيين لنصر لوزتا الأسيوطي :

رمسيس قم وانظر الأحفاد كيف هم = ذلوا وكيف على بلواهم صبروا

رحماك رحماك قم وانظر بعينك ما = قد خبأته ليالي الغدر والقهر

[9] انظر : كيلاي السابق 41.

[10] انظر نماذج من هذا الشعر لعوض واصف وإبراهيم حنين ص 73 ، 84 من المرجع السابق .

[11] انظر نماذج من هذا الشعر 95  97 من المرجع السابق .

[12] كيلاني السابق 238  239 .

[13] كيلاني السابق 220  222 .

[14] كيلاني السابق 208  201 .

[15] الاقتباسات القرآنية ظاهرة في البيتين الأول والأخير ولا غرابة في ذلك فالشاعر بعد أن أتقن علومه المدنية وعدة لغات أجنبية التحق بالأزهر ، وحفظ القرآن الكريم ، ودرس علوم الحديث والفقه .

[16] كيلاني السابق 204 .

[17] من الترنيمة 287 من كتاب " ترنيمات روحية " .

[18] من الترنيمة رقم (1) من الترنيمات السابقة .

[19] جاء في " قاموس الكتاب المقدس " أن المزامير مجموعة من الأشعار الدينية الملحنة ، غرضها تمجيد الله وشكره كانت ترنم على صوت المزمار وغيره من الآلات الموسيقية ، وفي العبرانية يسمى " كتاب الحمد " ، كما دعاه المسيح " كتاب المزامير " ، وقد عرف باسم "مزامير داود ، أو داود " فقط بالنسبة لعدد المزامير التي نسبت لداود ، وبلغت 73 من 150 مزمورا .

 وقد استغرق تأليف المزامير نحو ألف سنة من أيام موسى إلى العودة من السبي البابلي ، أو حتى بعدها بقليل في أيام عزرا ، غير أن أكثرها كتب أيام داود وسليمان . (قاموس الكتاب المقدس 430 ، 432 ) .

[20] الكتاب المقدس 851 .

[21] طبعته دار الكتاب المقدس بالقاهرة The Bible Society of Egypt سنة 1995 ، بعنوان (المزامير ) .

[22] المزامير : السابق 52  53 .

[23] وعنوانه " خواطر شاعرية في المزامير السنيّة " نظم د . زكريا عوض الله إبراهيم .

ولم يظهر حتى الآن إلا الجزء الأول .

[24] خواطر شاعرية  السابق 1/25 .

[25] نشر دار الثقافة بالقاهرة 1990 . وهي من 188 ص من القطع الكبير .

[26] ملحمة آلام المسيح : من تقديم القمص مرقص داود للمسرحية ص9 .

[27] من تقديم خليل جرجس لمسرحيته . ص11 .

[28] من تقديم الشاعر لمسرحيته 13 .

[29] المسرحية السابقة 142  145 . ومن هذا القبيل ما جاء على لسان " يورام " 88  89 .

[30] المسرحية 133.

[31] المسرحية 51 .

[32] المسرحية 65 .

[33] وهو المنظر الأول من الفصل التاسع 168  171 .

[34] من تقديم الشاعر للمسرحية 23 .

[35] من تقديم الشاعر للمسرحية 24 .

[36] السابق نفس الصفحة .