مدخل إلى تاريخ الأدب
مدخل إلى تاريخ الأدب
(إلى روح أستاذي الدكتور أمجد الطرابلسي)
د.محمد الولي
1. تاريخ الأدب والتاريخ
لكلمة تاريخ الأدب معنيان: "أولهما دراسة العلاقات القائمة بين النصوص الأدبية خلال السيولة الزمنية:كيف تتغير وكيف تتحرك ولماذا تخضع الظاهرة المدروسة دوماً للتغير. وثانيهما يوحي بعلاقات النصوص بسياقاتها التاريخية. إلا أن هذين المنظورين يتكاملان أكثر مما يتعارضان. إن القول: إن الأدب يتغير لأن التاريخ من حوله يتغير، يعتبر التفسير الأكثر شيوعاً. إن آداباً متباينة تقابل لحظات تاريخية متباينة، [وباختصار] فإن التاريخ يدل في نفس الآن على دينامية الأدب وعلى سياق الأدب"[22].
هذان التصوران يتنازعان معنى تاريخ الأدب منذ أمد بعيد، يُؤرَّخ له في الغالب بالقرن التاسع عشر. وبالذات مع هيمنة الفكر الوضعي وتقدم العلوم التجريبية وادعائها الحق قيادة العلوم الإنسانية [23].
بهذا لا نستطيع الحديث عن تاريخ الأدب دون الخوض في العلوم المجاورة التي تنازعها
السلطة. فإذا كان علم الأدب يعاني من التباس بعلم الجمال وعلم اللغة وعلم الدلالة ونظريات تحليل الخطاب والأنتروبولوجية الخ الخ. فإن ملف التهم الموجهة إلى تاريخ الأدب أثقل من ذلك بكثير. فلنلاحظ أولاً، التسمية المثيرة "تاريخ الأدب"؛ فإذا كان التاريخ يتوجه إلى الماضي فيحاول إعادة بنائه وفهمه وإقامة ترابطات بين أحداثه وبين محيطها وبينها وبين الدوافع الإنسانية التي تقف وراءها، فإن تاريخ الأدب قد يبدو مجرد إقليم صغير منه، إنه يهتم بالإنتاجات الأدبية الماضية " فيؤطرها في سياقاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ويعتبرها أعراضاً أو علاماتِ ذهنيةٍ ما ورؤية خاصة إلى العالم، وهو بهذا الصنيع، يحاذي التاريخ وأحياناً يداهم مجال المؤرخ. والأكثر من هذا فإن الأثر الأدبي يكشف عما خفي من الأحداث والميول المحبطة والاحتمالات المكبوتة. والنوايا المستترة: وبهذا فإن الأدب يقدم إلى المؤرخ مادة أساسية.
وفوق هذا فإن تاريخ الأدب يستعير من التاريخ مناهجه المتمثلة في تحقيق النصوص (دراسة المخطوطات ومقارنة الطبعات وضبط الصيغة النهائية لتولدها)، والأحداث (السيرية والسوسيوأدبية والإحصائية)؛ وتحديد متوالية من الأسباب (المباشرة أوالملابسات البعيدة والعميقة أو البنيوية) أو على الأقل تحديد عوامل الحياة الأدبية وشروطها على امتداد الأجيال"[24].
2. تاريخ الأدب والفيلولوجية
إلا أن تعالق تاريخ الأدب بالتاريخ يمكن أن يجر بسهولة إلى علاقة أخرى وهي العلاقة بالفيلولوجية التي تعتبر الأداة التي لا يمكن الاستغناء في مجال التاريخ كما رأينا سابقاً. إن هذه تسعى إلى:
"1. حماية النصوص وإنقاذها من الضياع المادي. ويتمثل هذا في عملين اثنين:
ـ ففي مجتمع لا يتوفر على الكتابة، يسعى عالم الفيلولوجية إلى إنجاز دور المعلم الساعي إلى الخزن في ذاكرة الأجيال الجديدة نصوص المجتمع.كما يسعى إلى تحقيق النصوص والوقوف على محتوياتها الأصلية، أي المعنى الذي ينبغي أن يعطى للنص. ولهذا فمن الواضح أن معنى النصوص لا يكون دوماً واضحاً بالاعتماد عليها وحدها. ففي الوقت الذي تكون فيه النصوص الاستعمالية ذات معنى واضح بما فيه الكفاية وذلك بفضل السياق المضبوط الذي تنتج فيه (وهذا يعني أن السياق يقوم بدور تكميلي للتأويل)، فإن النصوص الأدبية تحتفظ بمضمرات مرتبطة بسياقات عينية. وفوق هذا وذاك فإن مجموع السياق يمكن أن يتغير بفضل التحولات الثقافية (التصنيع مثلاً) أو اللغوية (من قبيل ندرة أو عدم استعمال كلمات كانت في البداية شائعة). بهذا السياق المتغير بهذه الكيفية يواجه محتوى النص الأدبي غير المتغير بفضل رقابة وحراسة الفيلولوجيين. وفي سياق متغير بهذه الكيفية فإن العشيرة اللغوية يمكن أن تفهم بشكل سيء أو ألا تفهم إطلاقاً هذا النص. ومن مهمات الفيلولوجي الوقوف على المعنى القديم للنص الذي عملوا على صيانته. وهكذا فإنهم يُعْـتَبرون وسطاء بين النص والجمهور: ينبغي أن يكونوا مؤولي النص الذي لا يفهمه الجمهور، أو يفهمه بشكل غير مستقيم.
3 إن المهِمَّتين المذكورتين للفيلولوجيين لا تحيل فقط على نص وحيد وإنما تحيل على نصوص متعددة. هذه التعددية تنتج عنها مهمة الفيلولوجي الماثلة في إدراج النصوص ضمن ترابطات أكبر، أي في أجناس الخطاب. […] وتتمثل المهمة هنا في تنظيم المكتبة وهذا يقوم على ترتيب بحسب أسماء المؤلفين أو بحسب أسماء الكتب أو بحسب أجناس الخطاب. ويترتب على هذا التنظيم في سلسلات المؤلفات التي تنظم بحسب التريب الألفبائي أو الترتيب الزمني (بحسب العصر الذي عاش فيه المؤلف وألف فيه الكتاب). إن المحافظة بحسب المبدإ الزمني يؤدي إلى التاريخ الأدبي الذي هو بدوره جزء من تاريخ الثقافة والتاريخ العام"[25].
3. تاريخ الأدب والنقد الأدبي
يقيم تاريخ الأدب علاقة ثالثة بالنقد الأدبي. إنهما معاً يهتمان بتحليل الأدب. النقد الأدبي يهتم بتحليل النص الأدبي من زاوية جمالية دونما التفات إلى العناصر التاريخية أو الديَاكْرُونِيَّة أو التغييرية. وهو يهتم بالأدب عامة ويسعى إلى تقويمه والحكم عليها بالجودة أو الرداءة. هناك في النقد الأدبي مسعى معياري. وربما كان على قدر من الحساسية أمام التحول الذي يعيشه الأدب. وربما كان أشد تعلقاً بالمعايير الثابتة التي تجعله يتوهم وجود قيم أدبية عامة أو خالدة غير خاضعة للنسبية التاريخية أو الثقافية. يقول وُولْفكَانْكْ كَايْزَرْ Wolfgang Kayser : "لقد كان الناقد يعتقد أن كتبه تتضمن المعايير لفهم أي أثر أدبي والحكم باعتباره كذلك. ونفس الإجراءات يمكن التقيد بها لأجل البحث المعمق في قيمة كل الآثار الأدبية لكل الأزمان والشعوب، وحسب فكر عصر الأنوار فإن هناك إستطيقا شعرية واحدة كما أن هناك ذوقاً واحداً. […] وتبعاً لهذا فإن الشاعر هومِيرُوسْ كان يحظى، من بين كل الشعراء، دوماً بأرفع الدرجات"[26].
والنقد الأدبي بهذا المعنى بعيد عن اهتمامات تاريخ الأدب الذي يسلم بالتعددية التاريخية والجمالية علاوة على اهتمامه بعناصر غير أدبية وواقعة في دائرة اهتمام علوم أخرى. ولعل تاريخ الأدب الذي يعاني من هذه الانتقائية المزمنة سيلاقي بسببها حتفه. إن العناصر النصية الأدبية، بحصر المعنى، تختلط تحت أقلام مؤرخي الأدب، بالمقومات اللغوية وبالمقومات الدلالية الحرفية والإيحائية وبعناصر المعنى الغرضي وعناصر النفس المبدعة وعناصر الوظيفية الاجتماعية والأخلاقية.
ورغم تقاسم النقد الأدبي وتاريخ الأدب الاهتمام بالأدب، فإن الانتقائية التي طبعت هذين العلمين وعدم تحديد مجال اهتمام كل واحد منهما لم يجعلهما يتواجهان مع مجموعة من العلوم وحسب بل جعلت كلاً منهما يداهم في الكثير، حدودَ جاره ويتسلل للصيد في مجال غير "مرخص". تماماً كما جعل هذا الوضع تاريخ الأدب يداهم مجال التاريخ. ويمكن تصفح أي كتاب في تاريخ الأدبي لكي نلاحظ أن مؤرخ الأدب كثيراً ما عرض علينا خبراته في التاريخ. والحق أه لا يعرض خبراته في التاريخ فقط بل يعرض ما تيسر من الاقتصاد والفكر والاجتماع الخ الخ.
4. ولادة تاريخ الأدب
يعتبر هيبُولِيتْ تَايْنْ (1828 ـ 1893) وفِرْدينَانْ بْرُونْتيِيرْ(1849ـ1906) وجُوسْتَافْ لَانْسُونْ (1857ـ1934) الآباء واضعي أسس تاريخ الأدب. ولعل فضل لَانْسُونْ في هذا المجال يفوق فضل كل أقرانه في الميدان.
كان تَايْنْ يعتبر النقد الأدب وسيلة لإقامة ما دعاه "التاريخ الطبيعي للأفكار". إلا أنه بدل أن يتفرغ لوصف دقيق للتنويعات الفردية انصرف على وجه الخصوص إلى تصنيف الأجناس. إنه باعتباره فيلسوفاً لم يهتم بالمبدعين من الدرجة الثانية، بل اعتنى، بدل ذلك بالمبدعين الكبار لأنهم هم وحدهم المؤهلون للتعبير عم روح الأمة. ويخصص اهتمامه في كتابه تاريخ الأدب الإنجليزي بعبارته: "إنني أسعى إلى كتابة تاريخ أدب ملتمساً فيه سيكولوجية شعب"[27].
كان تَايْنْ، في دراساته، حريصاً دوماً على اكتشاف الملامح النفسية لكاتب أو أمة. كما كان حريصاً على دراسة تكْوينِ عبقريٍّ ما وضبط الملامح الشخصية التي يتعرف فيها على الملامح الخاصة لهذا العرق أو ذاك، تلك الملامح التي تتعرض في آثار الكاتب لتكييف ناتج عن ملابسات وظروف اللحظة التاريخية والوسط المحيط. وهو في تناوله هذا لا يلتفت إلى جمال الآثار التي تعتبر هنا مجرد كيفية مساعدة.
والنقد العلمي حقاً لا ينبغي له أن يهتم بما هو جميل ولا بما هو نافع كما لا ينبغي الاهتمام بالنقد التزييني. إنه يعتني بدل ذلك "بنقد يسعى إلى التفلسف"، نقد يسعى إلى تعيين ملامح إنسان أو عصر ثم الاحتفاظ بما هو هام والاستغناء عن غير المهم.
إن الأهم بالنسبة إلى الناقد الأدبي هو الوقوف على قوة ما عند الكاتب وهي القوة التي تظل مشروطة بالعِرْق والمحيط واللحظة. وانطلاقاً من تلك القوة يمكن أن نستنبط كل شيء. "ومنذ اللحظة التي نحدد فيها هذه الملكة الرئيسية نرى الكاتب ينمو مثل الزهرة"[28].
ولكن كيف يتمكن تَايْنْ من إدراك هذه "الملكة الرئيسية"؟ إن ملاذه الأخير في هذا الشأن هو التأثرية. إن الناقد بعد أن يفرغ من قراءة آثار الكاتب المدروس: "سيرى على طرف قلمه جملة غير إرادية قوية بشكل دال مجملةً كل عمليته وستجعل نصب عينيه … حالة نفسية ما، مهيمنة ودائمة، وهي حالة المؤلف"[29].
إلا أن كل هذه الاستنتاجات لا تستند إلا على التأثرية والانطباعية الهشتين اللتين لا تقومان على أي أساس قابل للوصف. أليس من المبالغة وصف هذه العملية بالعلمية؟ إن الباب لا يظل هنا مشرعاً أمام النوازع المزاجية وحسب ولكنه يشرع أيضاً أمام الدوغمائية الإيديولوجية. يقول تَايْنْ:
"كل أفيون هو مضر بالصحة؛ ينبغي على سبيل الوقاية ألا نَتَنَاوَلَ منه إلا بأقدار قليلة وعلى مسافات متباعدة. لقد تجرعنا منها منذ فِيرْتِرْ الكثير وبأنواع كثيرة ونَتَناول منها يومياً بأقدار متزايدة ولقد تفاقم تبعاً لذلك مرض العصر، وأصبحنا نلاحظ الكثير من الأعراض المتزايدة الدالة على اضطراب العقل والخيال والحساسية والأعصاب في الأدب وفي الموسيقى والرسم وفي السياسة"[30]. إن اهتمام مؤرخ الأدب المتزايد بروح الأمة والعصر يمكن أن تؤدي إلى ازدراء آداب الأمم الأخرى كما نلاحظ في هذا النص الذي لا يرى الصفائية والخلوص إلا في الأدب القومي الفرنسي.
ولا نستطيع أن نتجاهل الناقد الفرنسي فرْدِينَان برُونتْيِيرْ الذي عمل بطريقته الخاصة على تطويع حقل النقد الأدبي للنظرية للتطورية الدَّارْوِينِيَّة دون التفات إلى التباين بين الحقلين الطبيعي والإنساني أو الثقافي. يقول برُونتْيِيرْ: "إننا نقترض من مذهب التطور حججنا. والأكيد أن تمايز الأجناس يفعل في التاريخ، مثل تمايز الأنواع في الطبيعة تدريجياً، بالانتقال من الواحد إلى المتعدد، من البسيط إلى المعقد ومن المنسجم إلى المتنافر، وذلك بفضل مبدإ أسمى يسمى تباين الخصائص"[31]. إن الأمر يتعلق عند برُونتْيِيرْ بشباب جنس أدبي وشيخوخته وخاصية نضجه أي اللحظة التي يتحقق فيها أوج قواه الحيوية. ويتطابق هذا الموقف العلموي مع موقف هِيبُولِيتْ تايْنْ حينما يقول:
"فكما أننا ندرس الطقس الفيزيائي لفهم ظهور هذا النوع أو ذاك من النباتات من قبيل الذرة أو الشعير أو الصبار أو الصنوبر، ينبغي أن ندرس الطقس المعنوي لفهم أسباب ظهور أي نوع من الفن أو النحت الوثني أو الرسم الواقعي أو المعمار القوطي أو الأدب الكلاسيكي أو الموسيقى الشهوية أو الشعر المثالي. إن الإنتاجات الفكرية أو الروحية الإنسانية شأنها شأن الطبيعة يمكن أن تفسر فقط بواسطة الوسط الذي ينتجها"[32].
إن محاولات زرع مناهج العلوم الطبيعية في حقل العلوم الإنسانية قد كانت مؤذية لتاريخ الأدب ولنظرية الأدب بصفة عامة، إذ للمجالات الإنسانية حيث يحضر المعنى دائما وحيث الظواهر ذات واجهتين، على أقل تقدير، تمتنع عن قبول مناهج العلوم الطبيعية الموضوعة لدراسة الظواهر الهامدة ذات الطبيعة المسطحة أو غير القابلة لحمل معنى.
وهذه المبالغة شبيهة بمبالغات برُونتْيِيرْ الذي كان تقترض من نظرية الأنواع الداروينية وتطبيقها على مجال الأجناس الأدبية وظهورها وتطورها ونضجها وشيخوختها ثم موتها المحتم. هذه تأثيرات سلبية لتلك العلوم التي تطاول على أملاك غيرها بقصد دراستها بنفس المنهج الذي نشأ وترعرع في مجالات غريبة.
5. ج. لَانْسُونْ أو التركيب الصعب
يعتبر جُوسْتَافْ لَانْسُونْ أحد الأقطاب الكبار في مجال تاريخ الأدب. ولقد وضع نظريته معارِضاً التاريخ الأدبي في تصوري إمِيلْ بْرونْتيِير وهِيبُولِيتْ تَايْنْ. فقد استنكر اعتبار العلوم التجريبية نموذج تاريخ الأدب.
يتميز الأدب في رأي لانْسونْ بكونه، خلافاً للأحداث التاريخية، يتمتع بوجود حي بيننا. والآثار الأدبية والفنية من قبيل لوحات رَامبْرانْتْ ورُوبَانْس "حية دائماً متمتعة بخصائص إيجابية تحمل للإنسانية المتحضرة ممكنات لا تنفد في إثارة الإحساس بالجمال الفني أو الخلقي"[33].
وهذه العناية بهذه الجوانب الجمالية هي التي تميز مؤرخ الأدب عن المؤرخ بالمعنى الحصري للكلمة. إلا أن هذا لايستقل بالبحث، إذ الغاية هي، في النهاية، دراسة "النفس الإنسانية والحضارة القومية في مظاهرها الأدبية […] والوصول إلى حركة الأفكار والحياة من خلال الأسلوب"[34]. والمدونة المدروسة هي عيون المؤلفات، أي "ما كان يعتبر كذلك في يوم من الأيام". الغاية هي إذن العمل على إدراك هذه الإنتاجات الجمالية كما تم استهلاكها في عصرها. وهذا الأمر يُعَرِّض مؤرخ الأدب لمجموعة من الصعوبات، منها صعوبة التحكم في استجاباتنا الشخصية والتحكم في أصالة المبدعين وفرادتهم. إلا أن هذه الملامح العبقرية للآثار المدروسة ليست جميلة في حد ذاتها، بل هي جميلة "لما تحمله من ملامح الحياة الاجتماعية لعصر أو هيئة، ومن ثم ينبغي أن نعرف كل تلك الإنسانية التي أفصحت عن نفسها من خلال كبار الكتاب"[35]. وهكذا فبعد الوقوف على التفرد نخلص إلى الوقوف على كون الرجل العبقري نتاج لبيئة وممثل لجماعة. إلا أن التأثر الشخصي المطلوب في تاريخ الأدب قد يعرض الآثار المدروسة لتشوهات. "وإذن فمن الواجب أن يعد منهجنا بحيث يصحح من المعرفة وينقيها من العناصر الشخصية"[36].
وبطبيعة الحال فإن هذه الوضعية تفسح الطريق أمام التأثرية "وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها فلنستخدمه في ذلك صراحة ولكن لنقصره على ذلك في عزم ولنعرف مع احتفاظنا به كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده"[37].
ينبغي، خلال تلقينا لآثار السلف، "أن ندرك العلاقات التي تربط العمل الأدبي بمثل أعلى خاص أو بمنحى في الصياغة معلوم ثم ربط هذين الأخيرين بروح الكاتب أو حياة الجماعة، أي إننا نأخذ أنفسنا بأن نحس تاريخاً فنقيم سلم القيم لا تبعاً لميولنا الخاصة بل وفقاً لقوة ودقة ما أمكن تحقيقه في المؤلفات التي ندرسها بالنسبة إلى المذهب الذي صدرت عنه فنحاول أن نحس عند بُوسْوِيه ما كان يستطيع أن يحسه الرجال الذين بنوا أعمدة اللُّوفْر"[38]. والواقع أن التصريح بإمكان تلقي النص الأدبي كما تلقاه المعاصرون للأديب أمر بعيد المنال حتى لا نقول مستحيل.
ورغم هذا فقد كان لَانْسُونْ الناقد الأشد وعياً بحدود إمكانيات الاستفادة من العلوم الطبيعية، وكان يدرك أن لكل حقل معرفي منهجه وأدواته المتميزة. كما كان مدركاً لكون هذا النوع من الاقتراض لا يقدم المعرفة ولا يسعف على التحكم في موضوع الأدب. يقول لَانسُونْ:
"لقد كان تقدم علوم الطبيعة خلال القرن التاسع عشر سبباً في محاولة استخدام مناهجها في التاريخ الأدبي غير مرة، وذلك أملاً في إكسابه ثبات المعرفة العلمية وتجنيبه ما في تأثرات الذوق من تحكم وما في الأحكام الاعتقادية من مسلمات غير مؤيدة. ولكن التجربة قد حكمت بإخفاق تلك المحاولات. […] إنني أفكر في برُونتْيِيرْ وفي تَايْنْ […] فلقد أصبح من الواضح اليوم أن قصدهما إلى محاكاة عمليات العلوم الطبيعية والعضوية واستخدام معادلاتها قد انتهى بهما إلى مسخ التاريخ الأدبي وتشويهه"[39]. ويقول: "لا يمكن أن يبنى أي علم على أنموذج غيره وإنما تتقدم العلوم المختلفة بفضل استقلال كل واحد منها عن الآخر استقلالاً يمكنه من الخضوع لموضوعه. ولكي يكون في التاريخ الأدبي شيء من العلم يجب عليه أن يبدأ فيحظر على نفسه محاكاة العلوم الأخرى مهما كان نوعها"[40].
لقد قوى لَانْسُونْ حضور الفِيلُولُوجِيَّة في حقل تاريخ الأدب. وعلى الرغم من تباين اهتمام الفِيلُولُوجِي ومنظر الأدب أو مؤرخه فلا أحد يستطيع أن يدعي احتمال استغناء النصوص عن التدخلات الشارحة والمؤطرة للفيلولوجي. إن هذه التدخلات تعتبر المدخل التمهيدي لأي مقاربة أدبية يقدم عليها منظر الأدب أو مؤرخه. وهذا هو سبب تمييزنا بين تدخلات العلوم التجريبة أو الطبيعية وتدخلات الفيلولوجيا. إن الأولى مداهمة مخلة بطبيعة وجوهر الأدب وتسعى بشكل غير مشروع إلى ملء فراغ ما، في حين أن الثانية لا يمكن الاستغناء عنها في أي نقد أدبي. وعلى الرغم من كون هذه التدخلات ليست من صلب المقاربة الأدبية، إلا أنها محطة لا يمكن العدول عنها في مسار تذوق الإنتاج الأدبي. يقول لَانسُونْ:
"إن عملياتنا الأساسية تتلخص في معرفة النصوص الأدبية ومقارنتها ببعضها لنميز الفردي من الجماعي والأصيل من التقليدي، وجمعها في أنواع ومدارس وحركات ثم تحديد العلاقة بين هذه المجموعات وبين الحياة العقلية والأخلاقية والاجتماعية في بلادنا وخارج بلادنا لنمو الآداب والحضارة الأوروبية. […] ونحن واجدون خير المساعدات في هذا السبيل في استخدام العلوم المساعدة، كمعرفة المخطوطات والمراجع والتواريخ وحياة الكاتب ونقد النصوص ثم استخدام العلوم الأخرى وبخاصة تاريخ اللغة والنحو وتاريخ العلوم وتاريخ الأخلاق. والمنهج هو أن نجمع في كل دراسة بين التأثر والتحليل من جهة والوسائل الدقيقة للبحث والمراجعة من جهة أخرى، وذلك وفقاً لما يقتضيه الموضوع فنستعين عند الحاجة بعدة علوم مساعدة نستخدمها حسب ما أعدت له في تهيئة المعرفة الدقيقة"[41].
ومن العناصر التي يشدد عليها لَانسُونْ وجود النص والفهارس ونسبة النص وكماله أو نقصه وطبعاته ورواياته. وتاريخ تأليف النص ونشره وأجزائه والتعديلات التي يمكن أن يكون المؤلف قد مس بها كتابه ودلالة ذلك على فكره وذوقه. ونشأة النص بين يدي المؤلف وتسويداته. ثم نعين المعنى الحرفي للنص مستعينين بتاريخ اللغة وبالنحو وبعلم التراكيب التاريخي وتفكيك كل ما غمض من النص اعتماداً على الإشارات التاريخية وحياة الكاتب. وننطلق بعد ذلك لضبط المعنى الأدبي وما يحمله من قيم عقلية وعاطفية وفنية وحالات نفسية وآراء أخلاقية واجتماعية وفلسفية ودينيةلم يشعر المؤلف بالحاجة إلى التعبير عنها. وعلى الرغم من أهمية الاستعانة بإحساساتنا يجب علينا أن ندرك المؤلَّف الأدبي أولاً في الزمن الذي ولد فيه بالنسبة إلى مؤلفه وإلى ذلك الزمن يجب أن يعالج التاريخ الأدبي على نحو تاريخي. وكيف يكون المؤلف الأدبي؟ وحياته وثقافته وأي نجاح لاقاه وأي إخفاق تعرض له. الخ الخ.
ومع هذا يسجل لَانسُونْ بعض العيوب التي يعاني منها هذا العلم الذي امتهنه. إنه يعتبر التفكير خداعاً في العلوم التاريخية حيث لا نتوفر فيها على وقائع فيها من البساطة والدقة ما يحكم التفكير فلا أقل من أن نقصره على العمليات القصيرة كاستخلاص نتيجة مباشرة عندما يلوح أنها النتيجة الوحيدة الممكنة. وأما سلاسل التفكير فمن الواجب التخلي عنها إذ أنها كلما ازدادت طولاً ازدادت ضعفاً[42].
وهذه الهشاشة العلمية لا ينبغي أن تورطنا في شراك الاستماع المستديم إلى أهوائنا والترديد على مسامع طلابنا أهواءنا ومعتقداتنا،ملتمسين في ذلك علاج حالة عدم العثور على الوقائع المقنعة والبرهنة العلمية التجريبية والمنطقية.
"والتعليم بالنسبة لأستاذ الأدب بنوع خاص لن يكون إلا دجلاً أو نفاقاً إذا كان كل منا لا يدرس إلا أهواءه ومعتقداته. هناك جانب كبير من الأدب لا يمكن أن يدرس. فنحن لا نستطيع أن نقول لتلاميذنا "إقرأوا وأحسوا. استجيبوا للمؤلف، نحن لا نريد أن نحل طرق انفعالنا محل طرقكم لكننا نعلمكم ما هو مادة للعلم أي مادة للتدريس. نحن نقدم إليكم كل هذه المجموعة من الحقائق التي ـ وإن تكن نسبية ناقصة ـ فهي محققة دقيقة: التاريخ
وفقه اللغة وعلم الجمال وفن الأساليب وقواعد العروض ـ كل تلك الأفكار المرتبطة بالمعرفة الدقيقة والتي يمكن أن تكون واحدة في كل النفوس وبفضلها ستستطيعون إرهاف
تأثراتكم وتصحيحها وإثراءها بل سترون في عيون الكتب أكثر مما رأيتم وستكون نظرتكم أعمق"[43].
6. إرهاصات تاريخ أدب نصي
هذه الحالة السابقة التي آل إليها تاريخ الأدب من حيث حشد ركام من العلوم وتعبئتها لأجل دراسة الأدب أثارت نفور الكثير من النقاد في الغرب والشرق. ولعلنا لا نجد وصفاً أجمل من الوصف الذي يقدمه الناقد الروسي لهذه الحالة التي آل إليها تاريخ الأدب. يقول أَلِيكسَانْدرْ فِيزُولُوفْسْكِي وهو منتسب إلى مدرسة تاريخ الأدب بمعناها التقليدي:
"إن تاريخ الأدب بمعناه التقليدي هو عبارة عن "أرْضٍ بدُونِ مَالكٍ"، حيث يتعاطى الصيد مؤرخ الثقافة إلى جوار عالم الجمال وعالم الفِيلُولُوجِيّة إلى جانب الباحث في مجال الأفكار الاجتماعية"[44].
لا يمكن التغاضي هنا عن الإشارة إلى أخذ جَاكُبْسُونْ لهذا التمثيل التناسبي وهو يتحدث عن تاريخ الأدب الذي يفتقر إلى تحديد مجال دراسته تحديداً واضحاً. يقول جَاكُبْسُونْ:
"الشعر هو اللغة في وظيفتها الاستطيقية. وهكذا فإن موضوع علم الأدب ليس الأدب ولكنه الأدبية، أي ما يجعل من أثر معطى أثراً أدبياً. ومع ذلك فإن مؤرخي الأدب هم أشبه بالشرطة التي تُؤْمَر باعتقال شخص ما فتعتقل، على سبيل الصدفة، كل من تباغته في بيت المطلوب،كما تعتقل المارين في الطريق. كذلك مؤرخو الأدب يستعينون بكل شيء: الحياة الشخصية السيكولوجية السياسة الفلسفة. بدلاً من علم للأدب يُبتدع ركامٌ من الأبحاث الملفقة وكأننا ننسى أن هذه الموضوعات تعود إلى علوم مناسبة: تاريخ الفلسفة، تاريخ الثقافة والسيكولوجية الخ، وأن هذه العلوم يمكنها أن تستخدم بطريقة جيدة هذه الآثار الأدبية باعتبارها وثائق ناقصة ومن درجة دنيا. إذا كانت الدراسات الأدبية راغبة في أن تصبح علماً ينبغي لها الاعتراف بـ "المقوم procédé" باعتباره شخصيتها الوحيدة"[45]. المقوم، أي الأداة اللفظية ذات الوظيفة الأدبية. فكل ما يخرج عن هذا الإطار لا يدخل في عداد المقومات ولو كان لفظياً.
إلا أن هذا المنحى في البحث قد كان مثمراً من وجهة نظر تاريخ الأدب وذلك حينما تدخل في الحساب الاعتبارات التحولية في الأنساق الأدبية والفنية. حينما أعاد تينيانوف تحديد الأثر الأدبي بوصفه نسقا استطيقيا أكثر مما هو مجموع الأدوات الأدبية، فإن مفهوم التعايش الخالص لمجموعة من العناصر في مجموع أدبي قد أدى إلى التكامل الدينامي. وكان هذا يقتضي في نفس الآن تغيرات دورية في هرمية المكونات. "تغيرات مستمرة في الوظيفة الإستطيقية للأدوات الأدبية".
يقول تينيانوف: "ليست وحدة الأثر الأدبي عبارة عن حشد كلٍّ متناظرٍ ومغلقٍ، إنه كلية دينامية ومتطورة؛ لا تقوم بين عناصره علاقة ندية ثابتة يضاف فيها عنصر إلى آخر، بل تربط بين عناصره أواصر تعالق واندماج دائمين. …
1. لا تتمتع عناصر الكلمة بنفس القيمة: فالشكل الدينامي ليس متألفاً بتجميعها وحسب وامتزاجها ببعضها، ولكنها تتألف بتفاعلها، وتبعا لذلك تتألف بإبراز مجموعة من العوامل على حساب مجموعة أخرى. وهذا يقتضي كون العامل البارز يمسخ العناصر التي تخضع لها.
2. إن إدراك الشكل هو دوما إدراكُ دفقِ (وتبعا لذلك التغير) العلاقةِ بين العامل البنائي [أي المهيمن] والعوامل الخاضعة. […]
إن الفن يعيش بهذا التفاعل وبهذا الصراع. وبدون هذا الإدراك لهذا الإخضاع وهذا التشويه لكل العناصر انطلاقا من عامل يضطلع بالدور البنائي لا يقوم أثر فني. فإذا اختفى إدراك تفاعل العوامل المكونة للأثر الأدبي فإن هذا الأثر يتم اختفاؤه أيضا إنه يصبح آليا"[46].
وبطبيعة الحال فليست هذه السلطة للعناصر البنائية والخاضعة إلا الترجمة شبه الأمينة لمفهوم المهيمنة في أطروحة جَاكُبْسُونْ. إنه يقول:
"يمكن تحديد المهيمنة باعتبارها العنصر البارز لأثر أدبي ما: إنها تحكم وتحدد وتحول العناصر الأخرى. إنها هي تؤمن تلاحم البنية. […]
فعلى سبيل المثال، في الشعر التشيكي في القرن 14 كانت العلامة الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها هي القافية ولم تكن الهيكل المقطعي. إن شعراً لا يتقيد بالقافية هنا ليس شعراً حتى وإن تقيد بالأوزان. وعلى العكس من ذلك، ففي الشعر الواقعي التشيكي للنصف الثاني من القرن 19 لم تكن القافية إلا مقوماً مساعداً في حين أصبح الهيكل المقطعي عنصرا ضروريا، لا يمكن التسامح في التخلي عنه، وبدونه لا يعود البيت بيتاً، ومن وجهة نظر هذه المدرسة فإن البيت الحر اعتبر آريتميا (أي عيباً إيقاعياً) غير مقبولة. والآن وبعد أن قبل التشِيكِيُّونَ بحل البيت الحر الحديث، لم تعد لا القافية ولا أي نموذج مقطعي أمرين مطلوبين لكي يقوم الشعر؛ بدلا من هذا أصبح التنغيم العنصر الضروري لكي يقوم الشعر؛ وبعبارة أخرى، فقد أصبح التنغيم هو المهيمنة"[47].
لقد تجرد المقوم في التصور الشكلاني من طبيعته الثابتة التي كان يتمتع بها في النقد الكلاسيكي. إن المقوم يدخل في علاقة مع مقومات أخرى يحتل فيها دائماً مقومٌ ما موقعَ الهيمنة على غيره من المقومات. وهذه العلاقة الهيمنية هي التي تؤَمِّنُ أدبيةَ النص وتماسكه. وبدون هذه الهيمنة يغدو الإنتاج الأدبي أشبه بوصفات الطبخ فاقدة لكل دفق جمالي. وهذه الهيمنة تنزع دوماً، ومع مرور الزمن والابتذال، إلى الاضمحلال. يعني أن مقوماً ما له عمر ولادة ونضج وربما هيمنة ففناء. وهذا هو الذي يفسر فصول وأدوار التجديد في الأدب. إلا أن هذه الهيمنة ترتبط في النظرية الشكلانية بملمح آخر هو التغريب. إن الأثر الأدبي لكي يتمتع بهذه الصفة ينبغي له أن يكون مثيراً للدهشة والتغريب مما يُرى أو يسمع أو يشاهد. هي هذه وظيفة الأدب. إلا أن ما هو مدهش وتغريبي اليوم قد لا يعود كذلك غداً. إن الدهشة تتلاشى مع مرور الأيام. هي هذه الأمور التي تجعل الأثر الأدبي في حاجة إلى التجديد لكي يوفر فرصة جديدة لاعتلاء مقوم عرش الهيمنة بعد أن كان خاضعاً ولكي يجعل الأثر الأدبي مثيراً للتغريب ونفياً للآلية.
إن التصور الشكلاني للأدب هو تصور تاريخي في كليته وشموله، إذ ليست هناك مقومات أدبية إلا في سياق تاريخي ملموس وليست الأدبية كياناً ثابتاً ملموساً أو مجرداً بل إنها تحققات عينية مسكونة بدفق التجدد والتغير الدائب والدائم. وهذا التغير هو بالأساس تغير للأشكال أو للملامح الأدبية.
وتتردد أصداء قوية لهذا الطرح للأدبية عند الورثة المعاصرين للشكلانية الروسية في مدرسة تَارْتُو السميوطيقية التي هي مزيج من الشكلانية والماركسية والفينومينولوجية. يقول يُورِي لُوتْمَانْ:
"إن العلم الصنافي للبيت والشعرية الصنافية ينطلقان من فكرة البناء الفني باعتباره مجموعاً آلياً من سلسلة من "المقومات" تتمتع بوجود مستقل. ومن جهة أخرى فإن التحليل الفني يفهم باعتباره تعداداً وتقويماً مفهومياً وأسْلوبياً للعناصر الشعرية التي يكتشفها في النص الباحثُ. لقد تقوى مثل هذا المنهج في الممارسة المدرسية. إن الكتب الدِّيدَاكْتِيكِيَّةَ والمصنفات مليئة بعبارات: "اختر النعوت" و"استخرج الاستعارات" و"ما المعنى الذي يقصد إليه الكاتب بهذه الحكاية؟" إلخ.
إن المقاربة البنيوية للأثر الأدبي لا تدرس هذا "المقوم" أو ذاك باعتباره معطى مادياً متميزاً، ولكن باعتباره علاقة مع مولِّدَيْن أو أكثر. إن الأثر الفني "للمقوم" هو دوماً علاقة (مثال ذلك علاقة النص بتوقعات القارئ، وبالمعايير الجمالية لعصر من العصور، ومع العبارات المأثورة لغرض ما أو قواعد الجنس). ولا يتمتع الأثر الجمالي خارج هذه العلاقات بأي وجود. إن أي تَعْدادٍ للمقومات لا يزودنا بأي شيء. (من قبيل ذلك دراسة المقومات عامة خارج النص باعتباره وحدة عضوية)، وذلك أن نفس العنصر المادي من النص يكتسب بالضرورة معنى مختلفا وأحياناً متعارضاً.
إذا كنا نستطيع أن نطبق على قصيدة رومانسية الطريقة التالية: استخراج "الاستعارات الغنية" و"النعوت" وعناصر أخرى مما يدخل في إطار الخطاب المكسو بالمحسنات، وتقديم تقييم للنسق المفهومي وللأسلوب على أساس تلك المقومات، فإن هذه الطريقة تغدو غير قابلة للتطبيق على نمط الشعر الْبُوشْكِينِي لسنوات 1830. إننا لا نصادف هنا لا نعوتا ولا استعارات ولا قوافي ولا "إيقاعا" ظاهرا ولا "أي مقوم فني"[48].
إن مقاربة من الجنس "الصنافي" هي دائما، من وجهة نظر التحليل البنيوي، بدون أثر وذلك لأن المقوم ليس عنصراً ماديّاً من النص، ولكنه علاقة"[49]. ففي الشعر القديم حيث كانت القافية تمثل عنصراً حاضراً في توقع المتلقي يمثل غيابها عنصراً غائباً وبالتالي عيباً. وفي القصيدة الحديثة حيث تتمتع القافية بمثل هذا الحضور فإن هذا الغياب لا يمثل عنصراً ناقصاً بل يمثل عنصر إغناء النص الشعري.
هو هذا التاريخ الأدبي القائم على الملامح النصية لا الباثية، أو المرجعية، كما نلاحظ في تاريخ الأدب الفرنسي الذي يردد بلا كللٍ ولا نفورٍ أن همه هو البحث عن روح الأديب ومن خلالها روح الأمة في الأدب. كما نلمس عندها التفاتات خجولة إلى المقومات الأدبية واللغوية. وهوساً بنزوع التلفيق وحشد أمشاج علوم متنافرة في ربقة واحدة.
والواقع أننا نجد أيضاً أصداء قوية لهذا التصور للشعرية ـ وهي بالأحرى تاريخ الأدب ـ في كتابات أقطاب المدرسة التشيكية أمثال يانْ مُوكَارُوفْسْكِي ولُوبُومِيرْ دُولُوزِيلْ، إلا أن المدرسة التشيكية الوارثة للتركة الشكلانية قد نقلت مواطن التشديد من النص والأجناس الأدبية والعناصر المحايثة إلى دائرة البث والتلقي. وفي هذا الصدد تتلون المدرسة التشيكية بتلوينات خاصة تميزها عن صيغة الناقد الفذ يُورِي لُوتْمانْ الذي لا يخص القارئ بنفس عناية مُوكَارُوفْسْكِي ناهيك عن يَاوْسْ.
لقد عمدت هذه المدرسة إلى تناول خطاطة رومان جَاكُبْسُونْ الذائعة: الباث والنص والمتلقي والقناة والمرجع والقواعد فأدخلت عليها تعديلات جوهرية، وذلك نظرا لخلط تلك الخطاطة بين لحظتي البث والتلقي وما فيها من آلية موهمة بتطابق اللحظتين وكأن الحالة العادية هي وصول محتوى الرسالة بحسب ما أراد لها الباث؛ والحال أن الحالة العادية وربما الدائمة هي وصول الرسالة مختلفة عما أراد لها الباث. ويحدث هذا على وجه الخصوص في تلقي الرسالة الأدبية نظراً لانقطاع يحدث في مقام التلقي الأدبي. وهكذا فمقابل.
الباث النص المتلقي
نواجه، نظرا لانفطار في هذه السلسلة بسبب غياب الباث وما يتعلق به من عناصر مرجعية مقامية، لحظتين؛ الأولى هي الباث والنص، أولا وفي اللحظة الثانية نجد النص والمتلقي. تمثل اللحظة الأولى لحظة الإنتاج أو الإبداع وفي اللحظة الثانية التي يمكن أن تفصلها عن الأولى آلاف السنين أو عشرات الآلاف من الكيلومترات، لحظة التفكيك التأويلية التي يمكن أن تتم في مناخات ثقافية وحضارية واجتماعية وعقائدية ونفسية متباينة أشد التباين. وهكذا فإن الرسالة يعاد إنتاجها ولا تحتفظ بوضعها الأول. والواقع أن هذا هو الخطأ القاتل في خطاطة جَاكُبْسُونْ الساكنة والمطابقة بين لحظتي البث والتلقي. وهي تعطل محاولات إدراك التحولات والتغيرات. يقول لُوبُومِيرْ دُولُوزِيلْ:
"إن الدورة المنقسمة تخلق شروط تباعد، غير محدود، زماني ومكاني وثقافي، بين المؤلف والمتلقين الفعليين أو المحتملين. وهذه المسافة المتغيرة تحدث تعديلات مهمة وتوترات وتباينات دلالية. وبالنتيجة فإن تحويل النصوص الأدبية هو أكبر من مجرد "تفكيك" سلبي، إنه إعادة صياغة فعالة لرسالة فقد صاحبُها كلَّ سلطة عليها"[50].
والواقع أن هذا التقطع في الخطاطة التواصلية لا تلحق التغيير على محتوى الرسالة وحسب بل إنها تمس بالتغيير القيمة الجمالية الأصلية لنفس الرسالة. وهذا الانفتاح للرسالة على مقامات غير محدودة للتلقي المعرفي والجمالي يقدم الموضوع الجديد لتاريخ الأدب. أي إن تاريخ الأدب في مثل هذا الوضع لم يعد هو التعلق بماهية ثابتة وهمية، معرفية وجمالية، للنص. سَمِّ هذه الماهية روح الأمة أو المعنى المحاكاتي الثابت على امتداد القرون؛ المعنى الذي يشي بروائح الثباتية الأفلاطونية المُعطِّلَة لكل المبادرات الخلقية لدى القارئ.
إن مهمة تاريخ الأدب في هذا المنظور هو تحديد الشروط التي يتم فيها تلقي النص الأدبي ضمن هذه المسارات غير المحدودة. إن النص الأدبي يكتسب، أو يفقد، معنى وقيمة جمالية في مقامات بعينها. على تاريخ الأدب أن يعين في أي شرط من شروط التلقي يكتسب النص هذه القيمة الأدبية وهذا المعنى وفي أي شرط من شروط التلقي يحرم هذه القيمة الجمالية وهذا المعنى. بل وفي أي شرط من شروط التلقي يكون هذا النص، أو لا يكون أدبيا. هو هذا الموضوع الجديد لتاريخ الأدب.
هو هذا إذن الموضوع الجديد لتاريخ الأدب، العلم المطالب بالإجابة عن السؤال: في أي مقام ثقافي أو تاريخي أو اجتماعي أو نفسي أو عقائدي أو شخصي تصبح عناصر لفظية ما مقومات جمالية. وفي أية درجة من الجمالية. وفي أي جنس أدبي؟. وفي أي مقام تفقد هذه المقومات هذه الصفة. وفي أي مقام يحمل هذه الدلالة وفي أي مقام يحمل أخرى وفي أي مقام لا يعود أدباً وفي أي مقام يفقد صفة لغة وكلام.
وفي هذا الموقف تلتقي مدرسة تَارْتُو التي يتزعمها يُورِي لُوتْمانْ مع مدرسة كُونْسْتانسْ الألمانية، أو ما اصطلح على تسميته مدرسة جمالية التلقي التي يعتبر هَانْسْ رُوبِيرْ يَاوْسْ وَوُلْفكَانْك إِيزَرْ من روادها الأوائل. يقول يَاوسْ وهو ينتقد المدرسة التاريخية التقليدية والمدرسة النصية الأجناسية المحايثة:
"والواقع أن قيمة ورتبة أثر أدبي ما لا تستنتج لا من الظروف السيرية أو التاريخية لولادته، ولا من مجرد الموقع الذي يحتله في مسار تطور جنس ما ولكنها تستنتج من معايير أصعب للتحكم فيها ويتعلق الأمر بالأثر المنبعث أي "التلقي" أو التأثير الممارس والأثر الذي يعترف به الخَلَف"[51].
لقد اعتقد تاريخ الأدب الوضعي التمكن من الجدارة بالاقتراض من العلوم مناهجها "الدقيقة". إن النتيجة معروفة للغاية: إن مبدأ التفسير السببي الخالص لم يسمح وهو يطبق على تاريخ الأدب، إلا بالكشف على المحددات الخارجية عن الآثار الأدبية. لقد قاد إلى تطورات مفرطة لدراسة المصادر وعالج خصوصية الأثر الأدبي في حزمة من "التأثيرات؛ التي أمكنت مضاعفتها بشكل إرادي. وكان رد الفعل على ذلك أن تاريخ الفكر تمكن من الأدب وعارض التفسير السببي للتاريخ باستطيقا الخلق والتمست التماسك في العالم الشعري في تكرار الأفكار والموتيفات المتعالية على الزمن"[52].
"إن الجمهور في المثلث المتكون من المؤلف والأثر والجمهور ليس مجرد عنصر خامل يكتفي بالاستجابة الفورية؛ إنه يطور بدوره قوة تساهم في صنع التاريخ. إن حياة الأثر الأدبي في التاريخ غير متصورة بدون المساهمة الفعلية من قبل هؤلاء الذين تتوجه إليهم. إن تدخلهم هو الذي يدخل الأثر الأدبي في الاستمرارية المتحركة للتجربة الأدبية، حيث الأفق لا يكف عن التغير وحيث يتم الانتقال بشكل دائم من التلقي السلبي إلى التلقي الفعال، ومن مجرد القراءة إلى الفهم النقدي ومن المعيار الاستطيقي المقبول إلى تخطيه بواسطة إنتاج جديد. إن تاريخ الأدب وملمحه التواصلي يقتضي بين الأثر التقليدي والجمهور والأثر الجديد علاقة تبادل وتطور ـ وهي العلاقة التي يمكن إدراكها بمساعدة مقولات من قبيل الرسالة والمتلقي والسؤال والجواب والمشكل والحل. ينبغي لهذه الحلقة المغلقة لاستطيقا الإنتاج والتمثيل، حيث ظلت مناهجية البحث الأدبي من حيث الجوهر محصورة، أن تفتح والانفتاح على استطيقا الأثر المنبعث، إذا كنا نريد أن نفهم كيف أن تعاقب الآثار تترتب في تاريخ أدبي متماسك"[53].
هَـانـسْ رُوبِـيـرْ يَـاوسْ
إن التحديد الذي اقترحه للتاريخ ر. ج. كُولِينكْوُود، وهو ينتقد الإيديولوجيا الموضوعانية المهيمنة حالياً، "ليس التاريخ إلا إعادة تفعيل الماضي في فكر المؤرخ وعبره" هو تحديد يصدق أيضاً على تاريخ الأدب. إذ إن التصور الوضعي للتاريخ باعتباره وصفاً "موضوعياً" لتعاقب الأحداث الناجزة لا يسمح بإدراك الخصوصية التاريخية ولا الملمح الاستطيقي للأدب. ليس الأثر الأدبي شيئاً موجوداً في ذاته معروض في كل زمن ولكل ملاحظ بنفس المظهر؛ أثر يكشف للملاحظ السلبي عن جوهره اللازمني. إنه بالأحرى، مثل مخطوط موسيقي، موضوع لأجل أن يَبْعَثَ في كل لحظة قراءة صدىً جديداً ينتزع النص من مادية الكلمات ويحين وجوده.
هذه الصفة الجدلية للأثر الأدبي تفسر أيضاً لماذا لا يمكن للمعرفة الفيلولوجية أن تقوم على مجرد مواجهة دائمة مع النص ولا ينبغي أن تتجمد في مجرد معرفة الوقائع الغفل. إنه لا يقبل الإدراك إلا في علاقة دائمة مع تأويل النص"[54].
"إن تحليل التجربة الأدبية ستنفلت من السيكولوجية التي تهددها، إذ كان يعيد، لأجل وصف تلقي الأثر الأدبي والأثر الذي يبعثه، بناء أفق انتظار[55] جمهوره الأول، أي نسق الإحالات القابلة للصياغة موضوعياً، بالنسبة لكل أثر أدبي في لحظة التاريخ، وهو النسق الذي ينتج عن ثلاثة عوامل رئيسية: الخبرة السابقة للجمهور التي يمتلكها عن الجنس الذي ينتمي إليه هذا الأثر والشكل وتيماتيقا الآثار السابقة التي تفترض معرفتها، والتعارض بين اللغة الشعرية واللغة المتداولة، أي العالم المتخيل والواقع اليومي"[56].
"إن التمكن من إعادة بناء أفق انتظار أثر ما، هو أيضاً التمكن من تحديد هذا الأثر باعتباره أثراً فنياً، بالنظر إليه باعتيار طبيعة وشدة أثره على جمهور ما. فإذا كنا نطلق "التباعد الاستطيقي" على المسافة الفاصلة بين أفق الانتظار السابق على الأثر الجديد الذي يمكن أن يبعث تلقيه "تغير الأفق" متعارضاً مع التجارب المعهودة أو أنها تجعل تجارب أخرى، معبر عنها لأول مرة، شاقة طريقها إلى الوعي، فإن هذا التباعد الاستطيقي الذي يقاس بسلم استجابات الجمهور وتقويمات النقد (الفوز المباشر أو الرفض أو الفضيحة أو قبول أفراد معزولين أو القبول التدريجي أو المتأخر) يمكن أن يصبح مقياساً للتحليل التاريخي"[57].
إن الطريقة التي يستجيب بها أثر أدبي ما، لحظة يظهر إلى الوجود، لتوقع جمهوره الأول أو يتخطاه أو يخيبه أو يعارضه يزودنا في الواقع بمعيار للحكم على قيمته الجمالية. إن التباعد بين أفق الانتظار والأثر أي بين ما تقدمه التجربة الجمالية المسبقة من أمور معتادة ومعروفة "والتحول في الأفق" المتحقق باستقبال الاثر الجديد يحدد، بالنسبة إلى الاستطيقا الجمالية الطابع الفني الخاص لأثر أدبي ما: وحينما تكون هذه المسافة متقلصة ولا يغدو الوعي المتلقي مقيداً بإعادة التوجه نحو تجربة مجهولة يقترب الأثر في هذه الحالة من مجال فن "الطباخة" من مجرد التسلية. وهذا يحدد حسب الاستطيقا الجمالية بكونه لا يحدث أي تحول في الأفق، ولكنه يستجيب على العكس من ذلك تماماً للتوقع الذي الذي يحكمه الذوق المهيمن: إنه يستجيب لرغبة رؤية الجميل منتجاً من جديد في الأشكال المعهودة، يثبت الحساسية في مواضعاتها ويزكي رغبات الجمهور، يقدم له ما هو حساس في شكل تجارب غريبة عن الحياة اليومية […] أو يثير مشاكل أخلاقية إلا أنه لا يثيرها إلا لأجل
حلها بالشكل الأكثر تأسيسية شأنها شأن الكثير من المشاكل التي يكون حلها معروفاً مسبقاً. إذا كان الملمح الفني لأثر ما يقاس، على العكس من ذلك، بالتباعد الجمالي الذي يفصله، خلال ظهوره، عن توقع جمهوره الأول يتبع ذلك التباعد الذي يبعث طريقة جديدة في للرؤية التي تؤدي إلى التلذذ والتعجيب والدهشة، يمكن أن تمحي بالنسبة للقراء الآتين بعد ذلك بقدر ما تكون النفيية الأصلية للأثر الأدبي متغيرة ومتحولة إلى شيء بديهي وتصبح موضوعاً معهوداً للتوقع، ومندرجة في أفق الانتظار الجمالي الآتي. إلى هذا التحول الثاني للأفق تعود بكل وضوح كلاسيكية ما يدعى الآثار الرفيعة؛ إن جمالها الشكلي الذي أصبح موضع تزكية وبداهة و"دلالتها الخالدة" التي لم تعد تطرح مشكلاً تقربها بشكل خطير من فن "الطباخة" الذي يهضم ويُقنع بسهولة[58] بحيث أنه ينبغي أن نبذل جهداً خاصاً لأجل أن نقرأها عكساً على رغباتنا لأجل أن نتمكن من الإمساك خاصيتها الفنية"[59].
إننا لا نستنفد العلاقة بين الأدب والجمهور بالقول بأن أي أثر أدبي يتمتع بجمهوره الخاص الذي يمكن أن يحدده التاريخ والسوسيولوجيا وأن كل كاتب تابع لوسط الجمهور وتصوراته وإيديولوجيته، وأن شرط النجاح الأدبي هو كتاب " يعبر عما كان يتوقعه الجمهور، الذي يكشف الجمهور أمام نفسه" […] إن سوسيولوجيا الأدب لا تعتبر موضوعها بكيفية جدلية بما فيه الكفاية حينما تقيم هذه العلاقة باتجاه أحادي بين المؤلف والأثر والجمهور.
"إن إعادة بناء أفق الانتظار كما يظهر في اللحظة القديمة حيث تم إبداع الأثر وتم تلقيه يسمح من جهة أخرى بطرح تساؤلات كان الأثر يجيب عنها، واكتشاف كيفية إدراك القارئ لها وفهمها. إننا بتبني هذه الطريقة نُلغِي التأثير شبه الدائم وغير الواعي الذي يمارسه الحكم الإستطيقي لمعايير تصور للفن كلاسيكي أو حداثي ونتفادى الطريقة الدورية التي تقوم على اللجوء إلى "روح العصر". إننا بهذا نكشف بوضوح الفارق الهيرمينوطيقي بين الحاضر والماضي في ذكاء الأثر الأدبي، إننا نعي تاريخ تلقيه، الذي يعيد إقامته بين الأفقين، ونضع موضع شك، البديهة الزائفة لجوهر شعري غير زمني، باعتباره كما ميتافيزيقياً لفيلولوجية أفلاطونية إن قليلاً أو كثيراً، يعرضه النص الأدبي والمعنى الموضوعي مقيد مرة وإلى الأبد يدركه الهيرمينوطيقي بشكل مباشر في كل الأزمان"[60].
"إن الفهم هو دوماً انصهار الآفاق التي يزعم أنها مستقلة أحدها عن الآخر. إن السؤال الذي يستجيب له في الأصل النص ينبغي أن يبنى، لا يمكن أن يحتفظ بوجوده من تلقاء نفسه إلا مجبور على التحول الذي "يشكله لنا التقليد". هكذا تحل الأسئلة التي تحدد، حسب رينيه وليك، مأزق الحكم الأدبي: هل ينبغي للفيلولوجي أن يقَوِّم الأثر في علاقته بالماضي، أم في علاقته بوجهة نظر الحاضر أم في علاقته "بتقويم العصور"؟ إن المعايير الفعلية المنتمية إلى الزمن الماضي عرضة لمأزق الضيق المبالغ فيه بحيث أننا باستعمالها قد نحرم الآثار الأدبية من أغنى الطاقات الدلالية التي اكتسبتها عبر تاريخها. في حين أن التقويم الجمالي المعاصر قد يخص بالتفضيل الآثار التي تناسب معيار الذوق الحديث وقد لا يكون عادلاً أمام كل الآثار الأخرى لمجرد أن الوظائف التي سدتها في زمنها لم تعدد واضحة.
ويخلص ويليك إلى أنه من المتعذر الانفلات من حكمنا الخاص الذي ينبغي لنا أن نجعله موضوعياً ما أمكن ذلك بالإقدام على ما يقدم عليه أي باحث علمي، "أي بعزل الموضوع". إلا أن هذا الصنيع لا يحل المأزق إنه يسقط في الموضوعانية. في حين أن "حكم العصور" على أثر أدبي ما لهو أكثر من مجرد "المجموع المحتمل لكل أحكام القراء الآخرين والمشاهدين والنقاد بل وحتى الأساتذة الجامعيين" إنه خلاصة التوزع عبر الزمن لطاقة دلالية محايثة للأثر منذ أصلها، وهي تتحين في تعاقبية المحطات التاريخية لتلقيها وتتكشف للحكم المتفهم في حدود ما ينجز هذا بكيفية علمية مراقبة في لقائه مع التقليد "لانصهار الآفاق".
وهذا الأمر يفسر بشكل واضح بكون كادامير يتبنى تصوراً كلاسيكياً بالغ الضيق لكي يستعمل كأساس عام لجمالية التلقي. يتعلق الأمر بتصور المحاكاة المفهوم باعتباره "إعادة التعرف" كما يعرض كادامير ذلك بتقديم تأويله الأنتولوجي للتجربة الجمالية: "إن ما نعثر عليه في أثر فني وما نلتمسه فيه هو بالأحرى درجة صدقيته: إلى أي حد نتعرف فيه على شيء ما، نعرف فيه أنفسنا ونتعرف فيه على أنفسنا". […] ومع ذلك فإن الفن يمكنه أيضاً أن ينقل معرفة فالتة من التصور الأفلاطوني إذا كان يسعى إلى استشراف تجربة آتية ويتخيل نماذج من التفكير والممارسة ليست موضع قبول بعد، أو أنه يتضمن جواباً على أسئلة جديدة.
لا تسمح جمالية التلقي بالإمساك فقط بمعنى وشكل الأثر الأدبي ومعناه كما تم فهمهما بطريقة تطورية من خلال التاريخ. إنها تتطلب إعادة إدراج الأثر الأدبي في "المتوالية الأدبية" التي يشكل جزءاً منها، وذلك بغاية التمكن من تحديد موضعه التاريخي، ودوره وأهميته في السياق العام للتجربة الأدبية.
إن نظرية المدرسة الشكلانية تزعم حل هذا المشكل بطرح مبدإ "التطور الأدبي" حيث يصبح الأثر الأدب الجديد متعارضاً مع الآثار الأخرى السابقة أو المتزامنة المتنافسة محدداً بفوزه الشكلي أثراً رفيعاً لعصر أدبي ويدفع قريباً إلى إنتاج آثار مقلِّدة منمطة قليلاً أو كثيراً
ويدفع إلى جنس يستهلك وينتهي، حينما يصعد أدب فرض نفسه، إلى أن يصبح شيئاً مبتذلاً في صيغة أدب الاستهلاك. ولو تم تطبيق هذه الخطاطة التي لم تطبق إلى الآن لأجل تحليل ووصف مرحلة أدبية ما قد نستطيع أن نحصد نتائج لم يتمكن التاريخ الأدبي التقليدي من جنيها. إنه سيسمح بإقامة علاقة بين السلاسل المختلفة عجز عن إقامته تاريخ الأدب التقليدي الذي كان يكتفي بالقران بدمجها في أحسن الأحوال، في إطار مقاربة تاريخية عامة: سلسلة آثار مؤلف ما أو مدرسة ما وتطور ظاهرة أسلوبية وسلسلات مختلف الأجناس الأدبية؛ وقد تكتشف هذه الخطاطة "علاقة التطور الجدلي بين الوظائف والأشكال". […] وبعبارة أخرى فإن الدينامية الخاصة بتطور الأدب، المقصودة هنا، قد تفند مشكل معايير الانتقاء: فلا يندرج في دائرة الاعتبار إلا الأثر الذي يجدد في سلسلة الأشكال الأدبية، وليس تلك التي تقتصر على إعادة إنتاج الشكل وحسب والمقوم والجنس الذين هم قيد الانحطاط والتي أسلمت إلى الظل إلى حين بزوغ مرحلة أخرى في التطور تجعلها من جديد "قابلة للإدراك".
وأخيراً ففي التاريخ الأدبي الشكلاني النزعة، يقصي المفهوم المفتاح للتطور كل مفهوم الغائية، وقد تتطابق تاريخية أثر ما مع خاصيته الجمالية: إن الخاصية "التطورية" والأهمية التاريخية لظاهرة أدبية ما محددة أساساً بدرجة التجديد التي يحملها ـ وهذا يعني أن الأثر الفني يدرك بالتعارض مع آثار أخرى"[61].
ليس التجديد مجرد مقولة استطيقية. إنه لا يستنفد بالاعتبارات من قبيل التجديد والمفاجأة والتباعد التي أولتها الشكلانية أهمية استثنائية. إن التجديد يغدو أيضاً مقولة تاريخية حينما يتساءل عن العوامل التاريخية التي تجعل تجديد ظاهرة أدبية معترف لها بالتجديد، وفي أية لحظة يكون هذا التجديد قابلاً للإدراك في اللحظة التاريخية التي يبدو فيها، ما هو التراجع وما هي السبل وما هي حيل الذكاء المطلوبة لاستيعاب محتواه، وإذا كان لحظة ظهوره قد أدى إلى تغيير رؤيتنا للآثار السالفة ومن هنا القيم التي تمت تزكيتها في التراث الأدبي"[62].
إذا كنا نكتشف حينما نعالج بواسطة تاريخ التلقي التغيرات التي تطرأ في التجربة الجملية،في كل لحظة التعالقات البنيوية بين فهم الآثار الجديدة ومعنى الآثار الأقدم، فينبغي أن يكون ممكناً الدراسة في قطائع سانكرونية لحظة من التطور الأدبي، والمفصلة في بنيات متعادلة، متعارضة ومرتبة هرمياً التعددية المتنافرة للآثار المتزامنة والاكتشاف بهذا في الأدب للحظة في التاريخ نظاماً كليانياً. وقد نستطيع أن نقيم منهجاً جديداً لعرض التاريخ الأدبي، وبتعديد السانكرونيات في مختلف النقط الدياكرونية بكيفية تكشف في مسار البنيات الأدبية التمفصلات التاريخي والتنقلات من عصر إلى آخر"[63].
الأكيد أن Siegfried Kracauer الذي فند الطريقة الأكثر راديكالية في تقديم الدراسة الدياكرونية في التاريخ. إن دراسته "الزمن والتاريخ" تعترض على ادعاءات "التاريخ العام" الساعية إلى إدراج الأحداث المنتمية إلى مجالات الحياة في صيرورة قابلة للفهم، موحدة ومنسجمة في كل لحظة من التاريخ جامعها زمن كرونولوجي منسجم. هذا التصور هو حسب كراكوير قائم على تصورات هيجلية قائلة بـ"الفكر الموضوعي"، يقتضي كون كل الأحداث المتزامنة هي بالتساوي موسومة بدلالة اللحظة التي تنتج فيها. والواقع أن مختلف الأحداث التي تحدث في لحظة معينة من التاريخ والتي يعتقد أنها تعبيرات تمثيلية عن معنى واحد هي في الواقع واقعة في منحنيات زمنية مختلفة تماماً وخاضعة لقوانين خاصة لتاريخها الخاص، كما يكشف على ذلك بوضع التقاطعات بين مختلف التواريخ من قبيل تاريخ الفن والقانون والاقتصاد والسياسة.
ولهذا فحينما نؤسس سانكرونية ما في المجال الأدبي فإننا قد نلاحظ أن الآثار والأجناس التي تبدو لنا متزامنة هي غير متزامنة شأن ذلك شأن النجوم التي نشاهدها متعايشة ومتزامنة في حين أن بينها ما اندثر منذ آلاف السنين"[64].
إن طريقة العلم والتجربة قبل العلمية تتقاسمان كون كل فرضية وكل ملاحظة تقتضي دوماً بعض التوقعات، "وهي التي تشكل أفق الانتظار الذي بدونه لا يكون للتجربة أي معنى والتي تكسبها بالضبط قيمة الملاحظة. إن العامل الأساسي في التقدم في العلم وفي التجربة الحياتية هو خيبة التوقع. إن هذا شبيه بالأعمى الذي يصطدم بعائق فيكتسب العلم بوجوده. إننا بالتأكيد أن فرضياتنا خاطئة ندخل حقاً في علاقة مع الواقع"[…]
هذا النموذج يسمح أيضاً بإلقاء أضواء على الوظيفة الخاصة للأدب في الحياة الاجتماعية. إن تجربة القراءة يمكن أن تحرر القارئ من الترويض الاجتماعي ومن المسبقات ومن قهر الحياة اليومية وذلك عبر إرغامه على إعادة تجديد رؤيته للأشياء".
إن الأثر الأدبي الجديد لا يتم إدراكه والحكم عليه بالتعارض مع خلفية آثار فنية أخرى ولكن يدرك ويقوم أيضاً على خلفية تجربة الحياة اليومية. إن المكون الأخلاقي في وظيفته الاجتماعية ينبغي هو أيضاً أن يكون موضع عناية جمالية التلقي بمنطق السؤال والجواب أي منطق المشكل والحل كما يطرح ذلك في السياق الاجتماعي في علاقة بالأفق حيث يندرجج فعله.
هكذا فإن الأثر الأدبي يمكن أن ينشق عن توقع قرائه باستعمال شكل جمالي غير مطروق، وجعلهم يواجهون أسئلة لا تقدمها لهم الأخلاق التي تحظى بتزكية الدولة والدين. بدلاً من مضاعقة الأمثلة، من الأفضل فنلذكر بأن بريخت ليس هو أول من من بشر بوجود علاقة تعارض بين الأدب والأخلاق القائمة بل لقد تم هذا قبل في قرن الأنوار. لقد أكَّدَ شِيلِرْ بصريح العبارة الوطيفة الأخلاقية للدراما البورجوازية: "إن قوانين المسرح تبتدئ حيث تنتهي دائرة قوانين المجتمع. إلا أنه يمكن للأثر الأدبي ـ وهذا الإمكانية تلاحظ، في تاريخ الفن في المرحلة الجديدة الأخيرة لحداثتناـ أن يقلب العلاقة بين السؤال والجواب ومواجهة القارئ، في مجال الفن، بواقع جديد 'مُعتِم' يتعذر فهمه في علاقته بأفق انتظار ما معطى. مثال هذا "الرواية الجديدة"، وهي شكل فني حديث مطروح للنقاش بشكل قوي، التي تمثل ـ حسب عبارة إِيدْكاَرْ وِينْدْ Edgar Wind ـ الحالة المفارقة "حيث الحل متوفر [في الأثر الفني] في حين أن المشكل ينبغي البحث عنه، لأجل فهم الحل باعتباره حلاً". لا يعود القارئ هنا في وضع متلقي الأثر الأدبي ولكنه يغدو في وضع طرف ثالث محروم من المفتاح والذي ينبغي له، وهو يواجه واقعاً يبدو له معناه غريباً، هو نفسه أن يعثر على الأسئلة التي تكشف له تصور العالم والمشكل الأخلاقي اللذين يستهدفهما الجواب الذي يقدمه الأدب.
نستنتج من كل هذا خلاصة كون دور الأب ومساهمته في سياق الحياة الاجتماعية ينبغي التماسهما حيث لا يختزل الأدب في وظيفة التمثيلrepresentation . وإذا انصرفنا إلى البحث عن لحظات التاريخ حيث عملت الآثار الأدبية على انهيار محرمات الأخلاق السائدة أو قدمت للقارئ وصفة للسلوك في الحياة، ووفرت له حلولاً أخلاقية جديدة تمكنت لاحقاً، بفضل تزكية كل القراء وموافقة المجتمع، فإننا نفتح بهذا أمام تاريخ الأدب مجالاً للبحث يكاد يكون بكراً. إن القطيعة بين الأدب والتاريخ وبين المعرفة الجمالية والمعرفة التاريخية يمكن أن تُلْغَى إذا كان تاريخ الأدب غير منحصر في تكرار سريان "التاريخ العام" كما ينعكس في الآثار الأدبية، ولكنها إذا كشفت خلال مسار "التطور الأدبي" هذه الوظيفة المخصوصة للإبداع الاجتماعي التي اضطلع بها الأدب، متسابقاً مع الفنون الأخرى ومع القوى الاجتماعية الأخرى، لاجل تحرير الإنسان من النير الذي تفرضه عليه الطبيعة والدين" [65].
هكذا فإن الأثر الأدبي يمكن أن ينشق عن توقع قرائه باستعمال شكل جمالي غير مطروق، وجعلهم يواجهون أسئلة لا تقدمها لهم الأخلاق التي تحظى بتزكية الدولة والدين" [66]
الهوامش:
[22] Antoine Compagnon, Le démon de la théorie, ed. Seuil , (col. Points), Paris, 1998 , pp. 232-233.
[23] "لقد حصرت ما يدعى الوضعية اهتمامها العملي في ثلاث قطاعات وهي إعداد نشرات محققة للنصوص، والبحث في مصادر وتولد الآثار، وفي الدراسة الدقيقة والكاملة ما أمكن ذلك في ظروف حياة الشاعر"
Wolfgang Kayser, Interpretacion y analisis de la obra literaria, ed. Gredos, Madrid, 1985, p. 28
[24] Danielle Madelénat , « Savoir », In, P. Brunel, La critique littéraire, ed. Puf, 1977 , p. 27
Heinrich Lausberg , Linguistica romanica , ed. Gredos, Madrid, 1970, p.p. 42-44
[26] Interpretacion y analisis de la obra literaria, p.p. 25-26
[27] Roger Fayole , La critique, ed. Armand Colin, Paris, 1978, p. 119
[28] Roger Fayole , La critique, p. 120
[29] Roger Fayole , La critique, p. 120
[30] Roger Fayole , La critique, p. 121
[31] in, Jean _ Marie Schaeffer , Qu’ est ce q’ un genre litteraire ? , ed. Seuil, 1989, p. 49
[32] Hipolito A. Taine , Filosofia del arte, ed . Espasa Calpe, Madrid, 1968, p. 21
[33] ج. لانسون وأ. ماييه ، منهج البحث في الأدب واللغة، تر. محمد مندور، دار العلم للملايين، بيروت، ص. 20
[34] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 21
[35] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 24
[36] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 26
[37] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 29
[38] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 30
[39] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 31
[40] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 32
[41] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 36
[42] منهج البحث في الأدب واللغة، ص. 45
[43] منهج البحث في الأدب واللغة، ص.ص. 55ـ56
[44] Victor Erlich, El formalismo ruso , ed. Seix Barral, Barcelona, 1974, p. 37
[45] Roman Jakobson , Huit questions de poetique, ed. Seuil, 1977, p .p. 16 17
[46] I. Tynianov, Le vers lui meme, ed. 10-18, Paris, 1977, p. 44-45
[47] R. Jakobson, « La dominante » in, Huit questions de poétique, ed, Seuil, Paris, 1977, p. p.77-78
[48] I. Lotman, La structure du texte artistique, ed. Gallimard, 1970, p.p . 149-50.
[49] La structure du texte artistique, p : 150
[50] Lubomir Dolezel, Historia breve de la poética, Editorial Sintesis, Madrid, 1997, pp 230-231
[51] Pour une esthétique de la réception, ed. Gallimard, 1977, p : 24
[52] Pour une esthétique de la réception, p. 24
[53] Pour une esthétique de la réception, p.p : 44-45
[54] Pour une esthetique de la reception, p. 47
[55] يقول جَان ستَارُوبِينسْكِي شارحاً أفق الانتظار عند يَاوسْ: "المقصود، وليس معنى واحداً، بأفق الانتظار عند ياوس بشكل أساسي تجربة القراء الأول لأثر ما تماما كما أمكن إدراكها "موضوعياً" في الأثر نفسه على أرضية التقليد الجمالي والأخلاقي والاجتماعي التي يبرز فيها. ففي بعض الأحيان يمكن لهذا الأفق أن أن يكون مشتركاً بين المؤلف وبين ومتلقي الأثر، وياوس يؤكد ذلك بحجة أقوى بالنسبة للأثار التي تخرق أو تخيب عن قصد الانتظار الملازم لجنس أدبي ما أو الملازم للحظة سوسيوثقافية".
أنظر تقديم كتاب ياوس ص. ص. 15ـ15
[56] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p. 49.
Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p. 53.[57]
[58] في هذا المعنى يقول توماشيفسكي:
"إن ظهور عبقرية ما يساوي دوماً تطوراً أدبياً ينزل من على العرش الأداة المعيار المسيطرة ويسلم السلطة للمقومات التي كانت إلى ذلك الحين خاضعة (…) إن المقلدين يكررون تأليفاً مستهلكاً من المقومات بعد أن كانت أصيلة وثورية هذا التأليف يصبح بهذا محنطاً ومأثوراً. وهكذا يقتل المقلدون يقتلون أحياناً لأجل طويل كفاءة المعاصرين للإحساس بالقوة الاستطيقية للأمثلة التي يقلدونها: إنهم يحطون من قيمة أساتذتهم. " عن ياوس ص. 54
[59] 53ـ54 Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p p.
[60] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p. 58
[61] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p.p. 63 65
[62] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p.p. 67 68
[63] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p.p. 68 69
[64] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p.p. 70 71
[65] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p.p. 74_80
[66] Hans Robert Jauss, Pour une esthetique de la reception, p.p. 74 79