الشاعر عبد السلام حامد وأطلال حب وطن
عبد السلام حامد |
د. نعيم محمد عبد الغني |
دكتور نعيم محمد عبد الغني
في بحر فياض بالمشاعر يسبح الشاعر الدكتور عبد السلام حامد ممسكا بمجداف الكلمة، جاعلا من حروفها المقدسة سبيلا للنجاة من عذابات القلب وآلام الذكرى. فتقرأ ديوانه "أطلال حب ووطن"، فتشعر بانسيابية الكلمات وتدفقها في صور جميلة وموسيقى عذبة رنانة، وفكرة عميقة تتجاوز ظواهر الأشياء.
ثلاث عشرة قصيدة ضمها الديوان بين دفتيه تبدأ بقصيدة "انكسار" وتنتهي بقصيدة "بكاء زهرة" وبين الانكسار والبكاء يحاور الشاعر نفسه ويسائل الأطلال في ظاهرة قديمة تتجدد في أبياته بتجارب شخصية في أوطان الشاعر التي قد تتمثل في بلده مصر أو في دار العلوم التي تعلم فيها...إلى غير ذلك من الأماكن التي رأى فيها أشخاصا تركوا ذكريات لها في الأذن رنين، وفي القلب حنين.
يعتمد الشاعر على المفارقة التصويرية والحوار في عدد من قصائده؛ ليصور لنا بعضا من تألمه، فيأتي في قصيدته الأولى في الديوان "انكسار" ليوحي لنا بهذا الشعور الحزين لما آل إليه الوطن الذي أصبح أطلالا يسائلها بقوله:
ماذا تريد من الدمن
إلا بكاء أو شجن
إلا وقوفك ساعة
متذكرا حلو الزمن
ومفهوم الوطن عند الشاعر هو المكان الذي يحيط الإنسان بالرعاية والاحترام، ويعيش فيه الإنسان موفور الكرامة، أبي النفس، عالي الرأس، لكنه إن قدر له أن يعيش في ذلة وهوان ويلهث في المكان والزمان جريا وراء حياة كريمة افتقدها، فإن وطنه بذلك لم يعد وطنا بل أصبح طللا يبكى عليه، يقول الشاعر:
يا باكيا عند الطلول
لنا عيون في الكفن
أنت المفجع في الطلول
ونحن شعب قد ظعن
ضاقت عليه خنادق
وزنازن تدعى الوطن
ألف التطفل في الموائد
والتسلل للمدن
وينقل الشاعر بعضاً من مشاهد المعاناة التي يعيشها الناس، لشخصيات نمطية تمثل شرائح كبرى في وطنه مازجا بين متناقضات يشير من خلالها إلى أن الحياة لم تسر في طريقها المستقيم الذي ينبغي أن يعيش فيه الإنسان عالي عزيزا كريما، فيصور أولئك الكادحين بأنهم يسيرون في موكب لقتل وصفه بالجميل، ليخرق بذلك قوانين الدلالة اللغوية فالقتل لا ينعت بالجميل فهو مكروه دوما، ولكنه خروج على المألوف لتأكيد الصورة في النفوس ذلك الخروج الذي لم يكن في الدلالة، بل كان في الشكل أيضا من خلال القافية التي تنتهي بالواو واللام ولكن جاءت الجميل منتهية بالياء واللام، والتي تنطق والفم مفتوح على هيئة الابتسامة التي يأمل الشاعر أن ترتسم على وجوه الكادحين بعد كدحهم في الحياة، يقول:
وترى أناسا في الشوارع والمصانع والحقول
هذا يئن بفأسه والجوع من هبة الفضول
هذا يدور بترسه هذا يبيع وذا يجول
لا تخدعنك حياتهم هي موكب القتل الجميل
وتظل فكرة الانكسار مسيطرة على الشاعر في قصيدته "أحرف القداسة"، ولكن يصوغها في أسلوب ساخر أشبه بالكوميديا السوداء فيقول:
تريدني مطأطئا لرأسي ...منحنيا لقائد وساسة
سأنحني فالرأس ليس رأسي...وما علي لو لحقت ناسه
....
وأركب التيار فيه حمقا...فالحمق في زماننا كياسة
غير أن الملاحظ في الصورة الشعرية للشاعر عبد السلام حامد بصفة عامة تماهيها في صور الطبيعة لترسم منها لوحة طللية لحب مفقود وأمل منشود، تلك اللوحة التي تأتي في صورة قصصية وبأسلوب حواري يلتقط مشاهد من أماكن متعددة، في إطار واحد، وهو ما يتبدى لنا في قصيدة (حبيبان)، فالشاعر يبدأ في قص حكاية حبه بمشهد كانت هي السبب في أن أوقعته في شباك حبها، ليتغير حاله تغيرا عجيبا، ذلك التغير الذي يعبر عنه بمستحيلات الطبيعة؛ فلقد نبت الورد فوق سور قصرها في زمن الخريف، فالسور ليس مكان زرع، والخريف ليس زمان تتفتح الأزهار، ولكنه الحب الذي قد تجمع فيه بين المتناقضات، يقول الشاعر:
ناديتني ودخلت قصرك
ثم ردوا الباب لم أدخل
فلم أعد الوقوف
وتركتني بيني وبينك خطوة
ما من وصول أو عزوف
وتحركت قدماي، لا للعود
لكن كي أطوف
ونبت وردا فوق سور القصر في زمن الخريف
وسكرت في حبي، ونادمت الرصيف
وظللت مشدودا إلى الشرفات،
والشباك،
لو تبدين من خلف السجوف
ثم يواصل قصته بأنها قمر خسف قحجب عنه، ولم يظفر ببغيته؛ لتبدأ نذر الفراق، وتتغير حالة الشاعر إلى الأسوء، ويظل الأمل بين الحبيبين بقرب الوصال رغم أنه قال:
ويمر عام إثر عام، والحبيبة والحبيب
إلفان رغم السور والحجاب.
ولكن وعلى طريقة غبراهيم ناجي في الأطلال، في رسم المفرقة التصويرية بين العيش في سكرات الحب، والتمتع في ظلال القمر؛ ليأتي نور الفجر نذيرا طالعا، ومطلا يحرق أوراق هذه القصة الجميلة يأتي إعلان الحبيبة في آخر لقاء في المساء:
وتقول بعد خروجها للقائه عند المساء
لا لست لي، لا لست لك
والشاعر في ديوانه الذي يتنقل فيه بين أطلاله يسوق جملا من دروس استفادها ومنها
حتما هلك
من ظل يمشي في المفارق
وهو معصوب بليل في الحلك
من راح يرقص فوق حبل بعد حبل
لم يعد له الشبك
حتما هلك.