كلمة عن أدب التراجم والتقديمات
الشيخ علي أبو الحسن الندوي
إن كثيراً من الكتّاب والأدباء –فضلاً عن الشادين في اللغات والمتطفلين على الآداب- يعتبرون موضوع التعريف برجل من ذوي الشأن والخطر، وترجمة حياته ووصفه، من أسهل الأغراض الأدبية والمواد الكتابية، فيهيلون على من يترجمونه أو يعرّفونه، ألقاباً ونعوتاً بسخاء وفي حرية، يكون أكثرها كلمات مدح وإطراء مشتركة، يمكن أن تقال عن كل عالم وأديب، أو عظيم وجليل، أو صالح وتقي، أو حاكم حكومة، أو قائد جيش، لا تفيد تحديد الشخصية وتعيينها، وتصوير القسمات والمخايل والتجاعيد التي يمتاز بها وجه عن وجه، وجسم عن جسم.
واللغة العربية من أغنى اللغات في كلمات الوصف والمدح، والحلية والزينة، ويكفي الكاتب أن يمد يده إلى كتاب "الألفاظ الكتابية" لعبد الرحمن بن عيسى الهمداني (م320هـ) ليأخذ ما يشاء من كلمات الوصف والمدح فيجود بها لصاحبه، أو يرجع إلى كتب التراجم والسير - والمكتبة العربية من أغنى مكتبات العالم فيها – فيختار منها جملاً وكلمات ويصف بها المترجم أو الممدوح ومن يكتب عنه، فيتشابه الرجال ويتماثلون ولا يخرج القارئ من الترجمة بمعرفة شخصية دقيقة معينة، ولا يشعر بالحيوية والحرارة، والرقة والنعومة والمرونة والحركية والعواطف والمشاعر، والأحاسيس والانعكاسات وردود الفعل، التي تمتاز بها الأجسام الحية عن التماثيل والنصب والصور والدمى، ويمتاز بها الإنسان عن الحيوان فضلاً عن الجمادات والنباتات.
ولكن وصف شخصية أو ترجمة إنسان، ليست من السهولة والعموم بالمكان الذي يتصوره كثير من الناس –لأنها تحتاج إلى عدة مؤهلات، أولاها: المعرفة الشخصية الواعية الناقدة، وإذا كانت المعرفة عن طريق المعاشرة والصحبة فهي من أفضل المؤهلات وأقواها، وإلا فعن طريق الدراسة الأمينة وتتبع الأخبار. وثانيها: أن تقوم بينهما صلة من الصلات التي تحثّ على تتبّع الأخبار والتعرف على الخصائص.
ويليها الاقتدار على البيان والتعبير وتملك ثروة لغوية وكلمات مميزة فاصلة، ثم يأتي دور الدقة والأمانة والشعور بالمسؤولية، والقدرة على تفصيل اللباس على قدر قامة المترجم والمعرّف به، فلا يكسوه لباساً سابغاً فضفاضاَ يبدو فيه قزماً حقيراً، أو ينمّ عن أنه لباس فصّل لغير هذا الإنسان ولقامة أطول من قامته، وللرجال قامات وقيم، وقد تكون الجناية على القيمة أشنع من الجناية على القامة.
ويهم كذلك أن يرافق هذه الكتابة في ترجمة حياة أو تعريف بشخصية، دافع نبيل ورغبة ملحّة، تنبع من القلب، ومن تجاوب مع فكرة، أو استجابة لنداء الضمير، أو دفاع عن كرامة مهضومة، وحق سليب، أو ردّ لاعتبار، أو وفاء بفضل، أو إعجاب بجمال أو كمال، فإن الكتابة إذا تجردت عن هذه العوامل كلها كانت أشبه برسم خشيب جامد أو وشي وتطريز لمجرد الربح المادي والغرض التجاري، ويكون الكاتب أو الشاعر في ذلك كالمطرب المحترف أو النائحة المأجورة.
ثم يجب أن يعرف الكاتب أن للكلمات درجة حرارة وبرودة (TEMPERATURE) فلا توضع كلمة ذات حرارة متصاعدة مكان كلمة ذات برودة، ولا يسخو بكلمة تعطي صورة هائلة من العظمة والكمال، أو النبوغ والذكاء، أو الخلق الحسن والسيرة العالية، أو العلم الغزير والذكاء الألمعي، لشخصية لا تستحق إلا كلمات فيها التوسط والاقتصاد، ثم يضعه في طبقته ويحدد اختصاصه وتميزه في فن من الفنون أو موضوع من الموضوعات، والمشكلة حين يكون المترجم جامعاً بين أصناف العلم وضروب الكمال وأشتات الفضائل كما كان الشأن مع العلماء الأقدمين بصفة عامة، فلا يقدر على تحديد اختصاصه إلا من اطلع على مؤلفاته جميعاً، واطلع على آراء معاصريه فيه وحكمهم عليه.
وبهذه الخصيصة امتاز شمس الدين أحمد بن خلكان (م 681هـ) في كتابه: "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" من بين مؤلفي كتب التراجم والسير، فإنه إذا وصف أحداً من المترجمين بقوله النحوي، أو الفقيه، أو الأديب، أو المفسّر، أو اللغوي، أو الواعظ، فليس من الميسور زحزحته عن مكانه الرئيسي والاختصاصي ووضعه في طبقة أخرى، وهذا قلّما تيسر لمؤلفي كتب التراجم والسير، ولا يقدر عليه إلا صاحب سابقة في علم التراجم، ومن أعطاه الله الدقة في الحكم ورقة الشعور وحسن الذوق والاطلاع الواسع الدقيق.
ولقد أراد الله أن أنشأ في بيئة كانت هوايتها التاريخ وكتابة التراجم والسير، وأن أُولد في أسرة كان فيها مؤرخون ومؤلفون وكان أكثر اشتغالهم بالتأليف في تراجم الرجال، وطبقات الشعراء والأدباء، وسير العظماء من المصلحين والعلماء والملوك والأمراء، فكان جدّي العلامة السيد فخر الدين الحسني (م1326هـ) من السابقين إلى فكرة وضع موسوعة باللغة الفارسية حين لم يخطر هذا ببال كثير من العلماء والمؤلفين في شبه القارة الهندية، وذلك قبل ثمانين سنة أو أكثر حين لم تعرف الموسوعات ودوائر المعارف في الهند ولا حتى في اللغات الأجنبية، فوضع كتابه: "مهرجان تاب"(1) في مجلدين ضخمين يحتوي المجلد الأول بخط مؤلفه على ثلاث مئة وألف (1300) صفحة بالقطع الكبير، وأكثرها تراجم لطبقات الصوفية والعلماء والشعراء، ووفق والدي العلامة السيد عبد الحي الحسني (م 1341هـ) لوضع أكبر كتاب يعرف في شبه القارة الهندية في تراجم الرجال الذين نبغوا في الهند من القرن الإسلامي الأول إلى سنة وفاة المؤلف 1341هـ (1923م) يغطي المساحة الزمنية من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجري، والمساحة المكانية من ممر خيبر في الشمال الغربي من الهند إلى خليج بنغال في الشرق، ومن قلل كشمير إلى مالابار وكالي كوت في الجنوب، والأعيان من كل طبقة على اختلاف مذاهبهم الفقهية واتجاهاتهم العلمية، واختصاصاتهم الفنية، فجاء في ثمانية مجلدات كبار يحتوي على أكثر من أربعة آلاف وخمس مئة (4500) من التراجم(2)، وهو أشبه في أسلوبه ومنهجه وتعبيراته بابن خلكان، وفي الدقة والأمانة، وتحري الصدق والقياسات اللائقة والدقيقة، وفي تخيّر الأوصاف والنعوت، هذا إلى كتاب آخر اسمه "كُلْ رَعْنا"(3) في طبقات شعراء الهند بلغة الأردو، اعتبر من المراجع الرئيسية في تاريخ الشعراء، ونقد الشعر، وقرر تدريسه في عدة جامعات في القارة الهندية، يضاف إليهما كتابه الثالث: "ياد أيام"(4) في تاريخ ولاية كجرات وعلمائها وعظمائها وحكومتها، وهو النموذج العالي لتاريخ بلاد وولايات، يجب أن يحتذى ويقلّد، وقد قرأت هذه الكتب في سن مبكرة، لأنها كتب كانت بمتناول اليد، وكانت الدوافع إلى قراءتها قوية وطبيعية، فحفظت منها الكثير، وقلّدت أسلوب المؤلف حين بدأت أشدو في اللغة والأدب وأمسكت القلم للكتابة والإنشاء.
لذلك كله كان أدب التراجم والسير من أحب الآداب وأخفها وأسهلها إلي، وكانت هوايتي وشغلي الشاغل في سن قلّما يتيسر فيها الكتابة لكثير من هواة الأدب والإنشاء، فبدأت أؤلف في تراجم الرجال وسير النابهين من العلماء والمصلحين بالعربية قليلاً، وبالأردية أكثر، وتكوّن منها مكتبة لا بأس فيها في كتب التراجم وسير المصلحين والمجددين في الإسلام، والدعاة والمربين الذين نفع الله بهم الأمة ونهض بها في مختلف الأدوار والأمصار.
وكلمة عن التقديمات:
إن تقديم كتاب لمؤلف معاصر أو عالم كبير أو صديق عزيز، ليس عملاً تقليدياً يقوم به الكاتب مجاملة أو تحقيقاً لرغبة المؤلف أو الناشر أو إرضائه، إنه شهادة وتزكية، ولهما أحكامهما وآدابهما ومسؤولياتهما، وقد يتحول من شهادة بالحق وتقييم الكتاب تقييماً علمياً، وبيان مكانته فيما كتب وألف في موضوعه، ومدى مجهود المؤلف في إخراج هذا الكتاب ونجاحه في عمله التأليفي أو التحقيقي، إلى سمسرة تجارية أو قصيدة مدح وإطراء من شاعر من شعراء المديح، فيفقد قيمته العلمية والأدبية ويتجرد من الحياة والروح، وهو زيادة معلومات وإلقاء أضواء على موضوع الكتاب ومقاصده، وعلى حياة المؤلف ومكانته بين العلماء المعاصرين، وفي عصره ومصره، وعلى تكوينه العقلي ونشوته العلمي، والدوافع التي دفعته إلى التأليف في هذا الموضوع رغم وجود مكتبة واسعة في موضوعه أو مجموعة من الكتب التي ألفت في هذا الموضوع، ولا يكون التقديم مجموع كلمات تقريظ ومدح يمكن أن يحلّى به جيد أي كتاب إذا غيّر اسمه واسم مؤلف.
فلابد من أن تكون بين المقدم للكتاب وبين موضوعه صلة علمية أو ذوقية أو دراسة وافية للموضوع وما ألف فيه، وارتباط وثيق كذلك بينه وبين المؤلف، يمكنه من الاطلاع على تركيبه العقلي والعلمي والعاطفي –إذا كان الكتاب في موضوع علمي أو أدبي أو فكري أو دعوي- وعلى مدى إخلاصه لموضوعه واختصاصه وتفانيه فيه ورسوخه في العلم والدين، وأخذهما من أصحاب الاختصاص فيه المعترف بفضلهم –إذا كان الكتاب في موضوع ديني كالتفسير والحديث والفقه وما إلى ذلك- ويجب أن يكون هذا التقديم عن اندفاع وتجاوب، وتحقيقاً لرغبة نشأت في نفس المقدم بعد قراءة هذا الكتاب، تحثه على كتابة هذا التقديم وتحببها إليه وتيسرها له، بحيث إذا امتنع عنها اعتبر نفسه مقصراً في أداء حق وإبداء مشاعر وانطباعات، وحاجة في نفس يعقوب ما قضاها، وذلك هو التقديم الطبيعي المنصف الذي له أثره وفائدته.
وقد وقع بصري أخيراً على مقالات بالعربية كتبتها في إبداء مشاعري وانطباعاتي عن شخصيات عاشرتها وعشت معها، أو عرفتها عن كثب لا عن كتب، وعن خبرة وتجربة لا عن سماع وحكاية، وقد كتبتها في مناسبات مختلفة، غالباً على أثر وفاتها، لبعض المجلات العربية، كـ "حضارة الإسلام" الدمشقية التي كان يرأس تحريرها فقيد الإسلام والعلم الدكتور مصطفى السباعي، أو "البعث الإسلامي" أو "صحيفة الرائد" الصادرتين من ندوة العلماء، واطلعت كذلك على تقديمات قدمت بها مؤلفات لبعض كبار العلماء أو المؤلفين الأصدقاء، ورأيت أنها إذا جمع بعضها مع بعض كانت مجموعة يتعرف بها القراء على تراجم هؤلاء الفضلاء والعاملين لرفع شأن الإسلام والمسلمين، والمربين الكبار وقادة أكبر الحركات الإسلامية في عصرهم، ويترحمون عليهم ويدعون لهم ويتعلمون منهم الكثير من الإخلاص والأخلاق وعلو الهمة، والاهتمام بالأمة، والجمع بين الفضائل المشتة، وكذلك يطّلعون على بعض الكتب المهمة المفيدة في موضوعها، فيحملهم ذلك على مطالعتها والإفادة منها، ويصبح الكتاب حديقة واسعة زاهرة ينتقل فيها القارئ من داعية قائد إلى عالم مرب، ومن مخلص رباني إلى نموذج عالٍ إنساني، ومن مجاهد مناضل إلى مؤلف ومحقق، ومن كتاب في دراسة مقارنة بين الأديان إلى كتاب في الحديث إلى كتاب في الأدب والشعر، إلى كتاب في التراجم فلا يمل ولا يسأم، ولا يملأ وعاءه من نوع خاص من علم أو أدب أو كفاح أو عمل إسلامي، أو بحث علمي وتحقيق موضوعي.
وقد رتبت التراجم والمؤلفات على تقدمها وتأخرها الزمني لا على مراتبها، وعلى سني الوفاة في التراجم، وعلى زمن تأليفهم في الكتب والمؤلفات(5).
(1) معناها الشمس المضيئة للعالم.
(2) صدرت طبعتان للكتاب من دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الهند.
(3) معناه بالعربية الوردة الرشيقة، صدرت أربع طبعات من المجمع العلمي الكبير (دار المصنفين) في أعظم كره الهند.
(4) معناه "ذكرى الأيام الماضية" صدرت له طبعتان.
(5) ظهر هذا الكتاب باسم "شخصيات وكتب" من مكتبة الصحوة بالقاهرة ومن مطبعة ندوة العلماء لكهنو (الهند).