السرد و الرؤي... (4)
السرد و الرؤي... (4)
أحمد ضحية
الفصل الثالث:
رؤية بالغة العذوبة , لأشواق الانسان البسيطة , التي يمكن ان يدمرها سؤ الفهم .
وما يتصل بالمصائر البشرية , من بهتان ..
تعليق جمال الغيطاني , بعد قراءته ل( نسر بجناح وحيد )
لهيفاء البيطار .
تخلص آدم من أحد أضلعه,
ليحصل على "قرين" يشقيه..
قراءات في العالم القصصي ل:
(1) عيسى الحلو .
(2) علي المك.
(3) محمد ابراهيم الشوش.
(4) زهاء الطاهر .
(5) عادل القصاص.
(1)
حول رمزية السياق التعبيري في عالم عيسى الحلو القصصي ..
قصر المرايا - نموذجا:
اذ نتناول الاستاذ القاص عيسى الحلو في هذه القراءة, لسبر اغوار عالمه القصصي , في واحدة من التقنيات المعقدة التي يستخدمها: (رمزية المرايا ) - اذا جاز لنا اعتبارها تقنية في الكتابة القصصية - فانما ياتي ذلك ابتداء , كمحاولة لاضافة قول جديد , الى ما قاله النقاد, لدى وقوفهم عند تخوم عالم الحلو القصصي .
فالحلو من دون القصاصين السودانيين الاخرين - باستثناء الطيب صالح , بالطبع - وجد اهتماما كبيرا, من قبل النقاد السودانيين - على قلتهم - نظرا لتجربته الثرة في كتابة القصة الحداثية .. فهو احد ابرز اقلام مرحلة التحولات الحداثية , والتي تلت مرحلة الستينيات. والتي كان عيسى الحلو من ابرز كتابها " تم تدمير البنية التقليدية بواسطة التقنيات الحديثة , التي استخدمها كتاب هذه المرحلة , مثل : المنلوج الداخلي والتقطيع واللغة الشعرية المكثفة, ذات الدلالات المفتوحة والفلاش باك , وتداخل الازمنة (1)".. وأكثر ما يستوقفنا لدى قراءة عيسى الحلو , ما تجابهنا به نصوصه من اسئلة , حول الكيفية التي يلتقي فيها: الحس والتجريب في بنية اللغة, واللغة القصصية , على وجه التحديد و ( ما ) حدود المعنى وآفاقه الممكنة , في اشتغال لغة القصة ..
الثابت بدء في الدراسات التداولية , ذات البعد التأويلي , أن المعنى ليس صورة للحسي المباشر , ولكن اللغة هي: التجريبي والرمزي في اللحظة ذاتها , وان تفاوت مستوى الحضور لاحدهما, في اللغات الاصطلاحية او الاصطناعية , فليست اللغة اظهارا للمحسوس, بواسطة التجريبي , وانما هي الظهور بذاتها وفي ذاتها , مما يهدم فكرة امكان احلال اللفظ محل الشيء (2) .. ومن هنا نجد الاهتمام الفائق للحلو بلغة القصة , واشتغاله المستمر بالتجريب فيها , حتى تتكشف عن امكاناتها القصوى ما امكن , ولذلك نجده يلجأ الى لغة الشعر كثيرا , باعتبارها غاية - لغة الشعر - في حد ذاتها . لكنه هنا يوظفها كغاية , و - ايضا - كحامل للفكرة التي يريد توصيلها عبر السردى ..
وذلك لأن القصة عند الحلو انبثقت من قلب فضاء دينامي , يعج بالحركات والمدارس والمذاهب الفكرية والادبية , التى عاشها الحلو: على المستوى الذهني في تحصيله المعرفي . وتطبيقا: في انتاجه الابداعي القصصي .. من قلب هذا المناخ الذي يعج بالتحولات - فترة الستينيات - و تتحاور فيه تاثيرات الوجودية و الواقعية والواقعية الاشتراكية والسحرية , نهضت الكتابة القصصية المتميزة للحلو , لتشكل نسيجا متفردا في المشهد القصصي في السودان ..
ما تتميز به القصة القصيرة, كشكل ادبي ماكر وقلق ومراوغ , هو ما تنطوي عليه بنيتها الاساسية, من اجتزاء شريحة متوهجة من الحياة , لتعيد صياغة ما بداخلها من بؤر دلالية وتأويلية, تجسد الواقع او توازيه . قد تكون في بعض الاحيان ملتحمة بهذا الواقع: بمراراته وتأزماته والمسكوت عنه فيه , بحيث تبدو بعض الاشكال منها غرائبية اللحظة, او لا معقولية الازمة , المتاحة داخل نسيج النص .. وبحيث غدت القصة القصيرة في ادبنا المعاصر , وكأنها وثيقة اجتماعية او سياسية ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا , من صراع وتمزق وحيرة وانهزام وتعدد في الرؤية (3) ..
ونلاحظ في الكتابة القصصية للحلو بعضا من السمات : كخصوصية استخدامه للغة والتقنية وتعدد الاصوات " البلوفونية" في النص القصصي - كما سنلاحظ لدى قراءتنا لقصر المرايا, التي ينساب فيها السرد بضمير المتكلم (للراوي) والمتكلم ايضا للشخصيات الاخرى, الى جانب لمحة عابرة لضمير الغائب لا تكاد تبين - وهي حيلة تهدف الى تعدد زوايا النظر للموضوع الواحد , وهى عادة تستدعى عبر ضمائر الراوي جماليات السرد , من خلال تلاقي البنية التشكيلية مع الايقاع النغمي في شاعرية االلغة , كما هو الحال في " قصر المرايا" ..
الى جانب ملاحظاتنا هذه , لاحظ الناقد والقاص معاوية البلال, في دراسته عن الاستيهامي: في القصة القصيرة السودانية , من خلال نموذج ( عرش الحضور والغياب- للحلو ) , ان الحلو ممن تاثرت كتابتهم القصصية, بما حملته الواقعية السحرية من تاثيرات. فمارست الكتابة الاستيهامية بطرق ابداعية جديدة واكثر اثارة . وصفوة القول ان الحلو احد ابرز القصاصين السودانيين , الذين اهتموا باتقان خلق الشخصية السايكولوجية, المتعددة الابعاد , وبنية التفجير والمرئي واللامرئي (4) .. سمات اخرى في تجربة الكتابة القصصية عند الحلو في, دراسته لظاهرة: الانسيابية في القصة القصيرة السودانية - معاوية البلال - اشار الى ما تتسم به قصة عيسى الحلو من مستوى تلاقي, بين التحفيز والنسق وتنظيم الحبك السردي, والتحقق المعرفي , في تجلياته المختلفة , متخذا نموذجا لذلك قصة ( وماذا فعلت الوردة ) و( الحديقة التي احبت البستاني) (5) ..
ولما كان النص القصصي غير منفصل عن النصوص السابقة وانما يحمل في طياته آثار هذه النصوص - كذلك يستشرف نصوص غائبة , لم يحتك بها ويتوق للتحاور معها فيما يشبه الاستبصار - التي تتداخل بشكل او بآخر في تكوين القاص, وتفتح امكانياته الاستشرافية على ما هو غائب عنه . وتسهم في صياغة الخطاب القصصي عنده , بقدر ما يحمل من رغبة في الابتكار والمجاوزة ..
لكل لذلك نرى ان المدخل لدراسة اى نص قصصي, انما يتحقق بالتعامل مع النص نفسه , ودراسته في علاقاته بالنصوص الاخرى, التي تعمل في فضاءه. بهدف الكشف عن مداخل جديدة, تساعد على فتح العالم القصصي للحلو ..
ومن هنا نجد أ ن احد اهتمامات هذه الدراسة, التي تنهض ايضا في اعادة قراءة( قصر المرايا ) في علاقاتها الرمزية , والانطلاق منها الى فضاء النص , وما يتشكل به من علاقات , وتجسيد لرؤية القاص , وكشف عن مصادر نسيجه الابداعي ...
يتميز الحلو كحالة متفجرة , بقدرته الفائقة على استيعاب التجربة الانسانية ككل, واعادة صياغتها سرديا. سواء كان ذلك فيما تكشف لنا, بقراءتنا لروايته " صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل " او قصته موضوع هذه القراءة : " قصر المرايا ", التي تجعل من مجابهة الموت احد تيماتها الاساسية , في سياق رمزية المرايا بما هي انعكاس لكل الرؤي المتراكبة في النفس البشرية, وكذلك هي سؤال الذات في مواجهة نفسها , ومواجهة الاخر في آن.. ..
رمزية الفضاء النصي :
انتسجت هذه القصة بما للحلو من قدرة فائقة, على حشد الوقائع والاحداث , التي تحيط بقضية صغيرة , يقوم بتصعيدها الى اقصى مديات ممكنة , في حلقات متماسكة وترابط وثيق الصياغة, والبناء الدرامي الفني . تتخلله الاغرابية شكلا ومضمونا - الاغرابية بمعنى الخارج عن المألوف في القصة القصيرة - فقصر المرايا حكاية زوجين هما : حليم وبهيجة . تتأزم علاقتهما الزوجية .
ووفقا لوجهة نظر الراوي: ان السأم وغيرة حليم من عوض زهران, هما سبب هذا التازم .. عوض زهران هو والد بهيجة, بالتبني .. حاول الراوي تهدئة خواطرهم, لكنهم لم يكونوا ينصتون, سوى لاصوات ذواتهم " مراياهم " .. من وجهة نظر الراوي ان حليم مصطفى: كهل ذو جمال شرير . وكان هذا الجمال الشرير, هو الذي دفع عوض زهران ليصادق حليم, ثم يزوجه من بهيجة, ليخلص نفسه (او ليخلصوا انفسهم ) عبر هذه العلاقة الثلاثية . كما ان عوض زهران, رغم ما يبدو عليه, من ورع وتقوى, وشيء من كرامات الصوفية , يظل مستغلقا على الفهم . وهنا يحكي الراوي, عن علاقة عوض زهران بسميرة خليل - التي نعرف فيما بعد انه تزوجها - " هب واقفا لينصرف . وعندما سألته عن الخبر . اجابني :- هناك امرأة عانس , تعاني الوحدة وتتوهم بمحب غير موجود أصلا . سيعود على ظهر فرس ابيض (..) - قلت أتعرفها من قبل ؟ .. - لا .. المسألة أنها اضاءت في صدري شيئا, كما لو اوقدت شمعة(6). وبعد موت عوض زهران وحليم, وطرد بهيجة لسميرة خليل من قصر المرايا , ترحل بهيجة ايضا الى الاسكندرية, ثم تمضي بعيدا لتنضم للمقاتلين في سراييفو ..
منذها يرى الراوي خيالين : لحليم وبهيجة , لكنهما غير حائرين كما كانا من قبل - كأن موت عوض زهران وحليم خلصا روح بهيجة من مأزقها الوجودي ازاء اسئلة ذاتها, مثلما خلص حليم من حيرته - " ورجحت ان بهيجة على قيد الحياة, وان سميرة بدورها هناك في مكان ما. من ام درمان (..) تقضي نهارها تصيح في الشوارع والناس (7).. لكن اشباح هؤلاء جميعا يظل الراوي يراها كما تراها سميرة - بمشاهدها القديمة وعالمها القديم .. فهو لا شيء بدونهم . يتحقق وجوده فقط من خلالهم " مراياهم " ..
وجهة نظر بهيجة بابا دبلوس - لها وجهتي نظر , تمثلان شخصيتيها: كابنة لوالدها الاصلي( بابا دبلوس - مسيحي) ووالدها بالتبني : عوض زهران/المرآة - في الازمة التي عصفت بحياتها الزوجية. لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر الراوي : أن غيرة حليم من عوض زهران هي السبب . في تصاعد الامور التي آلت بحليم, الى الاختفاء الغامض ثم الموت , خروجا من ازمة العلاقة .. فلا يبقى لبهيجة سوى ان تلوك ذكرياتها - منذ كانت في سن السادسة -, كامرأة خمسينية ..
فبهيجة ذات الجذور اليونانية, تعيش الحرمان من الاب, ثم الام بعد ان انفصلت والدتها( ايلين - مسيحية ) ,عن والدها. وجاءت بها من القاهرة الى الخرطوم . ثم توفيت, فتبناها عوض زهران, ولذلك ينشأ بينها وبين عوض زهران, نوعا غامضا من الحب " يا من علمتني ان احب الحب ذاته ولذاته " ولذلك تعتنق دينه- الاسلام - سرا دون ان يكون لديه علم - كما تتصور هي - وباختفاء حليم الغامض بعد موت عوض زهران , وتأكيد موت حليم في نشرة رسمية, من مناطق العمليات - بعد مضي شهرين من ذلك - تبدأ بهيجة عوض زهران في, الحديث عن سميرة خليل " جاءتني امرأة في الثلاثين (..) وطلبت مني ان تسكن معي , لنتشارك العزلة , فهي وحيدة بعد ان هجرها عوض زهران (8) لكنها سرعان ما تطرد سميرة , وتكتشف ان كل ما حولها وهم , فتعود الى شخصيتها ك(بهيجة بابا دبلوس) وتقرر العودة الى ارض ميلادها ( الاسكندرية ). وهناك لا يعرفها احد . فتنضم الى المقاتلين في سراييفو " قالوا ان اسرتي من البلقان او النوبة , وبعد اسبوع رحلت الى سراييفو, وانضممت الى المقاتلين (9) .. تتشظى مرايا بهيجة (ذاتها), لحظة احتكاكها بسميرة خليل, التي تتشظى هي الاخرى - فكلاهما مرآة للأخرى - والتي كانت قد جاءتها لتشاركها - كابنة لزوجها- احزان الفقد ولوعة الذكريات , فتكتشف انها ليست ابنة لزهران كما توهمت وتوهم زهران , وان سميرة ليست سوى وهم- كليهما يكتشف انه وهم - هذا الكشف يفتحها على وعى ذاتها التى تتشظى بقوة هذه اللحظة - ووعيها بالاخرين الذين طالهم الوهم كذلك - فتبدأ البحث عن هذه الذات , لتعرف حقيقة هويتها!! ..
وجهة نظر حليم في ازمة زواجهما: ان زواجهما كان بمثابة السجن. وعوض زهران يتفرج عليهما, يتخبطان داخله " كان عاجزا تماما عن حب بهيجة , فادعى الزهد فيها , وزوجني منها . يعلل عدم زواجه منها بانها ربيبته . وهي كابنته (..) الحب عند ثلاثتنا تقوى وتغذى, من الغيرة فان غاب طرف من الاطراف يهلك الحب بيننا " .. فغياب المرآة يغيب الصورة . لابد من سطح المرآة , الاملس حتى يرى الانسان صورته . وعوض زهران هو مرآة حليم وبهيجة .. بل ومرآة الراوي نفسه .. وبغيابه تغيب ذواتهم, وهو ما استطاعت سميرة آخيرا ان تفهمه " لقد خرجت من هذا القصر في تلك الليلة , بعد ان يئست وفشلت في المواساة التي تجمع الضحايا (..) أعاقلة أنا ؟ واصبحت اتحسس كياني . هل انا سميرة حقا ؟ ام انا اكذوبة ؟ (..) فكانت بهيجة هائجة تلك الليلة . كانت تصيح في جنون : انت وهم يبحث عن وهم . انت لاشيء البتة . احقيقة ما تقوله بهيجة . ربما انني لا شيء "..
تقيم رواية ماركيز الاخيرة ( ذكريات عن عاهراتي الحزينات )(10) حوارا مع هذه القصة , فهاجس الموت( اللامرئي). يهيمن على فضاء النصين . تحكي( ذكريات عن عاهراتي الحزينات): قصة رجل عجوز. ينتبه فجأة الى ان عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين , فيما يعيش في عزلة تامة .. يقرر العودة الي متعته الوحيدة, التي مارسها كثيرا في حياته, منذ ان بدا وعيه يتفتح على العلاقة مع الانثى مصادفة, وهو لم يبلغ بعد الحادية عشرة . يقرر عندها العودة الى ماضيه السابق من خلال " روسا كاباراكاس"تلك السيدة التي تدير البيت السري, الذي كان نافذته على هذه الدنيا . وتنفيذا لحلمه اراد ان يعيش ليلة حب مجنونة, فطلب منها: ان تكون رفقته في هذه الليلة " صبية صغيرة " بشرط ان تكون عذراء .. لكن الصبية التي يلتقي بها في رحلته الجديدة في الحياة بعد التسعين .. تجعله يغير نظرته الى الحياة ومعها تحدث له التحولات ...
كل النصين ينهضان في ذكريات الماضي - والاستيهامي, من خلال استرجاع او تبديد الزمن في اللحظة الحاضرة, التي تشتغل في مجابهة الموت - , ومحاولات الانعتاق منه .. في اجواء تخييم الموت او مجابهته او الاحساس بدنوه .. فالراوي يستمد حياته من هذا العالم المتحفز ( عالم عوض زهران ) فعوض زهران - كاله صغير - يحرك كل شخوص عالمه - مخلوقاته - بما في ذلك الراوي, الذي يبدو ان عوض زهران اثر فيه عميقا - حتى بعد ان مات بوقت طويل - اذ ظل يلاحق الراوي.. ومجابهة الموت عند بطل ماركيز كانت بعودته الى ايام شبابه , من خلال صبيةعذراء - كأنها القربان - جددت دماء عروقه - برحيق الذكريات - وهو في هذه السن المعمرة.. واحدثت تحولا جديدا في حياته ..
وعوض زهران جابه حبه - ذاته - لبهيجة بتزويجها من حليم . ولم تفلح علاقته بسميرة- التي رغم بلوغها السبعين, الا انها ظلت كانها فتأة في الثلاثين تجري في عروقها- دماءالذكريات , التى خلفها زهران وراءه , هذه اللعنة التي جعلتها, تنام في المقابر. وتجري في الشوارع تلاحق. اطياف عالم عوض زهران - في التخفيف من وطء هذه المجابهة, التي احدثت تحولا في حياته , انتهى به الى مجابهة الموت, في مناطق العمليات .. كذلك ما فعله حليم .. حيث تنهض بهيجة هنا كلعنة لعوض زهران, طالت كل من يقترب منها, حتى عوض زهران نفسه - لعنةالذات النرجسية, التي سنأتي اليها لاحقا- ذات عوض زهران - لتنتهى هذه اللعنة في مكان ما اخر..
كذلك هو حال الراوي, الذي تلاحقه اطياف عالم زهران . لتكون خلاصة هذه المجابهات : انتصارا لفكرة الابدية من خلال الاستمرار في المراقبة, لهذه الحياة الابدية. التي صنعها عوض زهران وليس غيره ..
كما نجد ان النص يقيم علاقة حوارية مع نص قصصي اخر . هو قصة " وصية سيسيليا الاخيرة ) ل " اليثيا شتايمبيرج " (11) فعند موت سيسيليا تجد بطلة القصة انها تركت وصية غريبة لورثتها , جاءت على هذا النحو " الى بيب اترك سنواتي العشر الاخيرة من حياتي , بما فيها من متعة وألم متماثلان ( سيقول بيب ان الالم فاق المتعة ) على اى حال هو يعرف انها لم تكن اسوأ سنوات عمري (..) اترك هذا الخيال لجوسية , اتصور من العذاب الدائم المرتسم على وجهه انه سيعرف ماذا سيفعل به (..) الى ما تيلدا اترك مجموعة الصرخات الهائلة, التي احتفظت بها دوما (..) اعرف من غير المعتاد ان تترك اشياء لشخص مات بالفعل (..) (أنا) اليك .. يا من ستجديني حتما . تلك الاوراق على البيانو (..) اليك يا (أنا) .. وهكذا تمضي الوصية التي تخاطب فيها سيسيليانفسها التي تجد الوصية, بعد موت سيسيليا فتقول " طالما انا على قيد الحياة . سيسيليا ستعود " فاللامرئي والمرئي يشكلان وصية سيسيليا واستمرارية وجودها, بعد الموت - كروح هائمة, او طيف حلمي ربما ..- مثلما يشكل عوض زهران استمرارية الراوي , فسيسيليا مرآة الانا .. وعوض زهران مرآة الراوي .. مثلما بهيجة هي سميرة ذاتها .. المرآة التي رأت فيها نفسها . فطردتها " انت وهم يبحث عن وهم " .. ومثلما مثلت عذراء ماركيز المرآة للراوي العجوز ..
فالموت او الاحساس بدنوه . يشكل بؤرة تنطلق منها حياة الشخوص, من المبتدأ الى المنتهى . بمعنى تتكشف فيه كل لحظات الالم, واللوعة والغبطة .. وتتكثف فيه الذكريات والاحلام .. فهو كالرحم الذي نتخلق فيه ويحتوينا , ثم لا يلبث ان يقذف بنا الي حدود الحلم واللا مرئي ..الى الوجود , اذ يعيدنا مرة اخرى الي ظلام هذا الرحم - الارض - .. والاحداث والوقائع - الحياة - عندما تتحول الى ذكريات , و تصبح اشبه باحلام البارحة . كما في " متحف المساعي العبثية " ل ( لكريستينا بيري روسي) اذ يقول بطل قصتها هذه " كنت كل مساء ازور متحف الحياة العبثية . اطلب الكاتلوج واجلس الى الطاولة الخشبية الكبيرة (..) كتالوج سنة 1922 (..) سنة مكثفة . كثير من الناس قاموا بجهود عبثية . كم مجلد هنا ؟ (..) اكدت لي الموظفة ان المتحف يحتفظ بجزء صغير جدا من المساعي العبثية (12).. فبطل هذه القصة يجد نفسه مأخوذا الى حد الادمان , بالمضي كل يوم لمطالعة عالم الماضي , والتعرف على حكايات من مضوا , كان يستمد استمراريته ووجوده. من هذه الدورة .. دورة الحياة بوقائعها التي تمثلها مساعي ابطالها وهزائمها ومراراتها .. فالموت.. انه يجابه الموت بالتعرف على حياة من ماتوا : ماذا كانوا يفعلون في حياتهم - فحياتهم هي المرآة التي يرى فيها حياته - فتتجذر هذه الحيوات فيه , لتعطيه الاستمرارية ..
رمزية المرايا في قصر المرايا ..
حول استراتيجية العنوان : (قصر المرايا ):
يتكون هذا العنوان من كلمتين الاولى : هي " قصر" والثانية: هى" المرايا" . في المحتوى الدلالي للطرف الاول :" القصر " دلالة على المكان, الذي تجري فيه احداث القصة. و"المرايا" كواحدة من المكونات التي شيدت به, على المستوى المعنوي لا المادي , فالقصر هو (القفص الذي يفترض ان يكون ذهبيا - بيت الزوجية ).. لكنه هنا محض قصر من المرايا للدلالة على مدى تشظي هذه العلاقة الزوجية ..
يقول غاستون باشلار" من الواضح تماما, ان البيت كيان مميز, لدراسة ظاهراتية لقيم الفة المكان من الداخل . على شرط ان ندرسه كوحدة, وبكل تعقيده . وان نسعى لدمج كل قيمه الخاصة, بقيمة واحدة اساسية (..) فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها , والبيوت التي حلمنا ان نسكنها , فهل نستطيع ان نعزل, ونستنبط جوهرا حميما. ومحددا, يبرز القيمة غير الشائعة, لكل الصور المتعلقة بالالفة المحمية ؟(..) قد يقدم لنا الجغرافي او عالم الاثنوغرافيا اوصافا لمختلف انواع البيوت (..) البيت هو ركننا في العالم . انه كما قيل مرارا . كوننا الاول (13)..
فما هو بيت ( قصر المرايا ).. يصف لنا الحلو في قصته( قصر المرايا) هذا البيت بضمير المتكلم ( بهيجة بابا دبلوس): " لنا انا وزوجي حليم .. قصر صغير . بديع . مكون من غرفة واحدة , تلحق بها صالة ومطبخ.. وتحيط بالقصر اربع حدائق من الجهات كافة . يسوره سياج حديدي رمادي اللون . كتبنا اسمينا : حليم وبهيجة , على بطاقة مضيئة عند البوابة . وعند البوابة كانت العصافير تأتي من كل مكان لتغني في مرح ذاك النشيد الذي ينطلق كالرصاصة النارية (..) يتهمونني على الخصوص بالجنون . فما القصر عندهم الا بيت صغير . بنى من الآجر الاحمر, المخلوط بالحصى . كشأن كل بيوت ام درمان القديمة منذ عهد الخليفة التعايشي , وهو يقع في الجهة الجنوبية من المدينة, على طرف خور ابي عنجة الشمالي, حيث استقرت الفيالق المحاربة (..) ولكن بيتنا هو حقيقة راسخة , لكل عارف ذي بصيرة . قصر عال .. يتأرجح وسط السراب , يذهب ويجيء غيمة كبيرة من البخار , يتصاعد في علو السموات الزرقاء, متشكلا بألوان الفجر والضحى والمساء (..) وحينما يؤذن الاذان, ينبثق القصر مثل زهرة , وينكشف البهاء فتكشف الرؤيا جدرانا من الماء الشفيف الممطر .. ويأتلق كله قصرا من الزجاج , الكرستال ومن المرايا (14). فهذا القصر هو عبارة عن : بيت عتيق يعود تاريخه الى حقبة المهدية, -المستوى المادي - مكون من غرفة واحدة , مسورة- سور رمادي اللون , بما للون الرمادي من دلالة على الزمن المنصرم . ولما لهذا اللون ايضا من دلالة على الكآبة _ ومزروعة .. لكنه مشيد ايضا على المستوى الدلالي, من هذه الذكريات العتيقة لمدينة ام درمان , ويرتبط بذاكرتها المدينية, في لحظة تكونها وتشكلها الاولى , في اكثر لحظات التاريخ حرجا و دمجا للمجتمعات السودانية من كل اطراف البلاد, لتلتحم في ام درمان - اذ نهضت ام درمان نتيجة للحراك الاجتماعي الواسع , والاول من نوعه في السودان ابان المهدية, بما نقل المجتمعات , من مرحلة القبيلة الى مرحلة متقدمة عليها هي مرحلة الطائفة -..
هذا البيت الذي يسكنه حليم وبهيجة . تاسس اذن على هذه الذكريات (المرايا) , لذلك هو قصر عال, يتارجح في فضاء هذه الذكريات , التي اضيفت اليها ذكريات اخرى بتعاقب الزمن . واضيفت اليها ايضا وقائع واحداث حياة حليم وبهيجة التى نهضت - الوقائع والاحداث - , في هذا البيت ذي الغرفة الوحيدة , لكن الكافية لرعاية ميلاد زواجهما ونموه, و ذكريات حبهما التي سبقت هذا الزواج , حتى مرحلة الصبا فالشيخوخة , لتتشكل من كل هذه المراحل التي تعاقبت على البيت مزيدا من المرايا ( مزيدا من الذكريات ) , التي يرون فيها انفسهم, كانهم هم وليس هم , بين بين .. ففي لحظاتهما السعيدة , تسقط احاسيس الغبطة على البيت , فيشاركهما هذه الغبطة , مثلما شاركهما لحظات صراعهما الانساني العديدة ..
والطرف الاخر من عنوان القصة هو ( المرايا ), وهي المفتاح المركزي لعالم هذا القصر . فالمرايا في السرد , تقنية وأداة تعبير فني , قبل ان تكون سطحا املسا , دوره ينحصر في تأدية الانعكاس , انها مرايا الذات .. يقول حاتم الصكر " المرايا مقترح شعري ارتبط بادونيس , الذي عرف عنه استخدامه المبكر للرمز والقناع, وهما ممهدان ضروريان للمرايا (15).
ان اى دراسة للامكان السردي , في( قصر المرايا) يجب ان تبدأ اولا بتامل دلالة المرايا من شتى وجوهها : الظاهرية بحكم وجودها الشيئي ضمن وعينا وشعورنا.. والنفسية لما تحمله من دلالة وجود القرين , ورؤية النفس , وتعرفها عليها, ضمن حيز المرآة: جذرا رمزيا يربطها برغبة( نرسيس) في رؤية وجهه منعكسا على صفحة الماء . والفنية بكونها دالا شعريا وادبيا عاما , يمكن ان يحمل معه تقنيات خاصة , ترتبط بالانعكاس وتشويه الانعكاس معا , او التشظية والتناثر ..
فقصر المرايا تشظت داخله حياة حليم وبهيجة, كما تشظت داخله, كل الذكريات الماضية منذ تاسيسه .. حليم وبهيجة رأيا ذاتيهما , بكل غروريهما - حب ذاتهما : اذ توهما انهما يحبان بعضيهما, بينما هما يحبان الحب لذاته , متمثلا في ذاتهما: فهما, الحب .( كنرسيس النرجسي ).. تشظيا عندما رأيا ذلك في مرايا نفسيهما .. واول ما يجب ملاحظته , ان وجود المرايا بالنسبة الى الجسد , يرتب تغير موقع المتلفظ ايضا , وموقعه كراو او سارد من هذه المرايا .. وهم كانوا محاصرين بالمرايا .. المرايا التي امامهم والتي خلفهم .. المرايا من حولهم, وداخلهم.. غرقا في لعبة المرايا .. المرايا التي لها
وجودا شيئيا, اكثر عمقا وتاثيرا مما يحسب المبصرون, المتعجلون . والمرايا التي هي اول ما يقع عليه بصرنا .. والمرايا تقتضي وجودا لشيء ما يتمرأى فيها . وبذلك تصبح موضوعا دائما, لذات تمارس فعلها عليه, لكن وظيفة المرآة, تتعدى التاثيث ولوازم الوجود الكمالي, على الجدران او فوق المكاتب والزوايا , لأن الحيز الذي تشغله , في تفكير الانسان وافعاله وسلوكه, هو الاكثر اهمية , وهو الذي اثر في حياة حليم وبهيجة ..
ان المرايا توهمنا بانها حيادية, تعكس ما ينطبع عليها , او يتراءى امامها او يعرض عليها . وفي حقيقة الامر تكمن وظيفة المرآة, في كونها تضاعف. وعبر فعل المضاعفة هذا تعطينا "صورة القرين " . الاناالاخر. غير المرئي ولكنه موجود ..
ورغم ان المرايا ترينا ما تقتنصه اعماقنا فانها - كما يلاحظ فوكو - الى جانب كونها تضاعف , لا ترينا ما لا يظهر عبر سطحها . فيظل ثمة فاصل بين ما نرى وما نقول .. فالمرايا لا تقترح علينا آخرا, بل ترينا هذا الآخر الذي نقترحه عليها ..
اننا لا نبحث في المرايا, عن واحدية اجسادنا وصورنا , بل نسارع الى البحث, عن تفاصيل منسية او مطمورة , كي نؤلف منها صورة القرين , الذي يشاركنا خطانا وحياتنا .. وهو ذو وجود سردي , لانه يمثل الجانب الثاني في حوارية شخوصنا . وقد استثمر القصاصون المزايا السردية لوجود قرين المرآة وطوروه ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي او الشخصية ..
وترينا الحكايات والاساطير انواعا متعددة من المرايا منها : مرايا الزمن : حيث كانت( سندريلا) تهرب من مرآة زمنية , فلو انها تأخرت عن ساعة محددة, لعادت الى صورتها الاولى فتاة فقيرة . ومرايا الاسطورة : حيث يتحول كل ما يقع عليه بصر( ميدوزا) الى حجر . وثمة في هذه المرايا الاسطورة وجود نرسيسي ( او نرجسي بالمصطلح العربي المتداول ) (16) لكن ما يدعوه المحلل النفسي الشهير" جاك لاكان" (1901 - 1981) بمرحلة المرآة يستحق التأمل . فهو يرى ان الطفل يستطيع التعرف, على صورته في المرآة في سن مبكرة , على انها صورته , ويختبر حركات الصورة , ومحيطها المنعكس في المرآة, ثم العلاقة بين ذلك, والواقع المزاوج له , اى جسد الطفل والافراد والاشياء المحيطة به ..
والمهم في مفهوم( لاكان) لمرحلة المرآة بانها تماه, وبان تمثل الصغير لصورته المرآوية, مع عجزه الحركي, والغذائي. شبيه بالرحم الرمزي. حيث يندفع ضمير الذات الى شكل اولي , قبل ان يتموضع في جدلية التماهي مع الاخر . ان المرايا تنطوي علي طبيعة, او جوهر من جوانب ذاتها الاصلية , تحتفظ بها مهما اخضعت لتحولات .. بوصفها رمزا من رموز الشخصية , وتقنية سردية يقف امامها ليرصد, ما يتراءى في اعماقها .. يلاحظ( جبرا ابراهيم جبرا) ان اللحظة( النرجسية) هي لحظة لا زمنية . لحظة الممثل على المسرح, وقد انفلت من قيد التسلسل.. والنرجسية هي الخط الدقيق الذي ينظم وجود الرموز الاسطورية والتاريخية على مستوى الرؤية .
يفسر بعض النقاد( قتل المرايا) بانها اعدام وحرق للكل الثقافي - كما عند ادونيس - الذي تعادله المرايا ( فالقصر ينهار ليعود الى مكوناته كما يراها الجيران: مجرد غرفة مبنية من الاجر الاحمر, المخلوط بالحصى. شأن كل بيوت ام درمان القديمة .. ينهار بانهيار ذكرياته , باختفاء ابطالها , بحيث لا تعود ثمة اهمية لذاكرة المكان " القصر", دون شهود او سكان, يحيون هذه الذاكرة , فينهار باختفاء حليم وعوض زهران وموتهما .. وينهار بطرد سميرة منه ورحيل بهيجة ) = وفي المثل السوداني ما معناه اذا كان للانسان منزلا من زجاج فليحذر رمي الاخرين بالحجارة . وهي كناية تحذيرية عن عدم الحديث عن عيوب الناس لان لنا عيوبنا , التي سيتحدثون عنها ايضا اذا تحدثنا عن عيوبهم .. عيوبنا التي ستستحيل ايضا الى ذكريات , لكنها تظل احدى مكوناتنا النفسية , فهي جزء من تاريخنا الاجتماعي على مر السنين , وتستطيع مرايانا منحنا رؤيتها بوضوح , كأنها جسم مادي ..
وثمة مرايا لا يمكن اخضاعها للتقابل الثنائي, او للتفسير الرمزي العابر , وهي - كما تسميها( خالدة سعيد) مرايا الاعماق حيث تتقاطع الرؤي جميعا .. واشار احسان عباس الى المرايا باعتبارها اسلوب نظر الى الماضي(17) . وتقنية انعكاس المرايا في القص الحديث , من ابرز التقنيات لاستدعاء التاريخ الذاتي ...
فأى نوع من المرايا تلك التي شيد منها قصرالمرايا , و الشخصيتين اللتين تسكنانه (حليم وبهيجة ) . مما تقدم قدمنا اشارات, حول طبيعة هذا القصر التي يصفها لنا الحلو - مقرؤة في سياق علاقتها بطبيعة علاقة هذين الزوجين - على لسان الراوي" كانا : حليم وبهيجة . زوجين من الارق والتوتر . وذلك عندما وضعا , بمحض حريتهما, علاقتهما الزوجية على حافة الخطر . اذ كانا بحياتهما المشتركة يلهوان . فبعد مضي العام من الزواج. شعرا بالسأم . وهكذا انخرطا في اللعب المهلك , ان يكتشفا في الحياة شيئا بينهما اعمق واصدق , وان يريا في علاقتهما, نفسيهما على المرايا (..) كففت عن الكلام مجبرا . ومن ثم .. في نهاية الامر, اخذوا يكلمون المرايا, المحتشدة بالصور (18).. ثم على لسان بهيجة بابا دبلوس " يأتلق كله قصرا من الزجاج الكريستال, ومن المرايا , بحيرة من الجمال الصافي (..) أرفع رأسي . رأيت صورنا على المرايا . كنت انا وحليم.. وانا الاخرى مع عوض زهران . وعوض زهران تارة اخرى مع سميرة.. ورفع حليم عينيه من الكتاب : - ما بك ؟ انت شاحبة جدا ؟! وكنت ارى صورا على المرايا, شديدة العجب, الزمن فيها يجري كيفما شاء . الماضي والحاضر والمستقبل . كل الزمن المستدير يأتي (..)..( اجلس وحدي وصوري تتكاثر, على سطوح المرايا . وتجيء صورة حليم وعوض زهران (..) وتداخلت في هذا الوقت كل الاشياء .. الخواطر والافكار والاحداث .. حتى بت اشك في القصة بمجملها (19).. ويمضي الحلو في عرض شخوص نصه , معتمدا على تقنية تعدد الاصوات التي اشرنا اليها سابقا . منتقلا الى شخصية اخرى فيطل علينا حليم مصطفى زوج بهيجة , مستعرضا وجهة نظره بضمير الانا المتكلم " كنا في داخل هذا القصر الزجاجي, اشبه بسمكتين صغيرتين ملونتين . نسبح داخل هذا الماء الزجاجي (..) كانت كل الايام تمر متشابهات . نجلس ثلاثتنا نحلق في وجوهنا, التي تنطبع على سطح المرايا, المحيطات بنا . فنرى دواخلنا حتى النخاع (20)..
ثم نعود الى شخصية الراوي مرة اخرى , مضيفا الى وجهة نظره, التي استهل بها هذه القصة, لننتقل بعد ذلك الى بهيجة - لكن هذه المرة هي ليست ابنة" بابا دبلوس" والدها الحقيقي بل - ابنة عوض زهران الذي تبناها "انني ارى حياتي في عزلتي . ارى هذا الحب الغريب الاطوار . دائرة تجري في الاتجاهات الاربعة . وكيف ان هذا الدوار قد قاد كل منا, الى طريق مختلف . فكنا ندور في متاهة, وشعور يجعلني موقنة, اننا سنلتقي على تخوم ذلك العالم . مكان يشبه قصر المرايا (..) اهو صورة بهيجة على مرايا عوض زهران ؟ ام جئت ابحث عن صورتي.. عن معنى وهدف هذه الحياة ؟ (21)...
ليطل علينا بعد ذلك الوجه الاخر لبهيجة : بهيجة بابا دبلوس , ثم ننتقل الى الراوي " الذي يحكي حياة سميرة, بعد ان انهى حكاية بهيجة " كانت سميرة بالجمال تضيء بدرا مكتملا . لقد توقف دوران الزمن فيها عند الثلاثين . وكانت الاقدار تمسح غبار الزوال عنها . رغم بلوغ سميرة السبعين, وعندما تنظر في المرايا, كانت تحدث نفسها بصوت عال (..) الضؤ امواجا من الوان الطيف المزبدة . يرفرفون . يشقشقون . وعلى سطوح المرايا هالات زرق (..) وكلما كانت على سطوح المرايا صور , وكلما كان في الفضاء جناح , فانا بدونهم لا شيء .. لا شيء البتة (22) وهكذا يمكننا ان نستخلص من طرفي العنوان : " قصر - المرايا " .. اضافة الى ما اشرنا اليه , ان المرايا هي ذكرياتهم وطريقتهم في النظر الى ماضيهم وحياتهم . وهي نزعتهم الانانية في تكريس ذواتهم , دون رغبة في عطاء هذه الذات للاخر , بل عطاءها فقط لنفسها , فحتى في تصور - بهيجة مثلا - لنفسها ما بعد هذه الحياة - الموت - ترغب في ان تلتقيهم ( عوض زهران / سميرة / حليم ) وتتصور انهم سيلتقون, في قصر شبيه بقصر المرايا .. تريد ان تلتقيهم لتأكيد وجودها المطلق , ليس لأي شيء اخر فهي " لا شيء بدونهم " وحتى تكون شيئا, يجب ان تكون معهم . وهي ذات الرؤية التي توصل اليها حليم , فقد ادرك منذ البداية ان انسحاب اى طرف من اطراف, علاقتهم الثلاثية. يعني ان ينهار كل شيء . فلا احد من ثلاثتهم يعني شيئا, دون الاخرين . كذلك الراوي يستمد وجوده عبرهم في حياتهم , وعبر اطيافهم التي تلاحقه, بعد ان آلوا الي مختلف طرق .. وهكذا تشكل رمزية المرايا ايضا , في علاقةالذات بالاخر ..
(2)
عالم علي المك القصصي ..
الحديث عن القصة القصيرة لدى جيل علي المك , ( منتصف الاربعينيات والخمسينيات ) , لهو حديث محفوف بالمخاطرة ولا يخلو من مغامرة ومعاناة الولوج الى عالم من الاحاسيس, وفيوضات المشاعر والتدفقات الحدسية , التي يعيشها القاريء وهو يقرأ ( هل ابصر أعمى المعرة ) أو ( حمى الدريس ) , الخ ..
اذ يجد نفسه لا يقرأها بقدر ما هو يعيشها , فمن خلال نصوص علي المك, بصياغاتها اللغوية ذات العالم الخاص , والنظام اللغوي االاكثر خصوصية , في ترابطاته وعلاقاته الخاصة. بسبب ان اللغة عند المك تختلف, عن اللغة النمطية التي تجعل هدفها الاساسي التوصيل والابلاغ - فلقصة علي المك خصوصيتها- رغم انها تجري على النهج الموباساني - فبسبب هذه الخصوصية, لم انشغل عند قراءة علي المك, بالبحث عن صور مجازية تضيء( حمى الدريس- القصة ) او حتى البحث عن مجموعة, من الرموز والدوال اشغل نفسي بحلها , وانما هي لحظات من التوتر, والترقب والحذر , تملكتني وانا احاول في جهد مضن, متابعة المك عبر تخوم عالمه , الثر . لاتوقف اخيرا عند كوّن اللغة والحس الشعبي ..
تنبع أهمية علي المك من كونه أحد أبرز , الكتاب الذين ارسوا, وكرسوا لكتابة القصة القصيرة في السودان . وفقا للنهج " الارسطي - الموباساني " : ( بداية - ذروة - نهاية ) .. وساد هذا الاسلوب في كتابة القصة , منذ فترة الخمسينيات حتى الستينيات , ويعتبر هو قاعدة الانطلاق , للا ساليب الاخرى في كتابة القصة - ما أفضى الى كتابة القصة الحديثة في السودان , نتيجة لجدل التلاحم بين مختلف الاساليب والذي مهدت له مجهودات علي المك وغيره من ابناء جيل الاربعينيات والخمسينيات بارسائهم لدعائم المنهج الموباساني - الذي شكل القاعدة لانطلاق الأساليب الأخرى في القصة الحديثة في السودان ابتداء من ستينيات القرن الماضي ..
ولذلك يعتبر بروفيسور علي المك, احد رواد القصة القصيرة في السودان, بشكلها الارسطى الموباساني ..
وتجدر الاشارة هنا الى ان القصة عند علي المك, اعتمدت بشكل اساسي على الفضاء المفتوح( قصة كرسي القماش - مثلا ) وهذه القصة ( حمى الدريس ) (23) التي يلعب فيها " هذيان الحمى " كفضاء ميتافيزيقي شاسع , تيمة اساسية لهذا النص, الذي تتفاعل فيه هذيانات اللغة والفكرة ..
فبطل هذه القصة , لا يكتفي بتحديد الشارع, كفضاء مفتوح للهذيان الواعي او اللاواعي , بل يتعداه الى مناقشة قضايا جمالية معنوية , تجسد علاقته بالنيل الازرق, الذي تمت الهيمنة عليه من قبل الابيض , فينطلق من هذه العلاقة, بالنيل لممارسة هذياناته , التي هي في واقع الامر ليست هذيان محموم, بقدر ما هي محاولة لتكيف انسان, مع عالم كل شيء فيه قاهر.. حتى الطبيعة ..
حمى الدريس نموذج للقصة, التي يهيمن فيها صوت الراوي المتكلم, كما هو الحال في قصص الاسلوب الموبساني عموما , وقصص علي المك خصوصا ..
ان الدخول الى النص وعلاقاته في سياق معين , انما يتحدد بمحاور عديدة , تبدأ بالخطاب - يعرف بنفيتست الخطاب بانه : اى منطوق او فعل كلامي يفترض وجود راو ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما , والخطاب عند فوكو : هو مجموعة من المنطوقات التي تنتهي الى تشكل واحد يتكرر على نحو دال في التاريخ , بل على نحو يغدو معه الخطاب جزء من التاريخ هو بمثابة وحدة انقطاع في التاريخ (24) - وعلاقته باللغة ومدى تفاعل النص مع السياق الناشيء فيه ...
مغامرة اللغة والحس الشعبي في حمى الدريس :
تتسم كتابة علي المك بالحميمية والحس الشعبي , والبراءة ( وتلك هي وفاء . تقول لها : - من الذي اخترع اللبن الزبادي ؟... اهل منغوليا .. قالوا . بل قرأت مرة.. كذبا كاذب ..".. فعلي الملك يعيد صياغة الحوارات التي تدور بين الاطفال, و يعمل على توظيفها في لغة النص بكل ما تتركه من اثر على هذه اللغة .. لاغناء تجربة الانسان مع اللغة , بما هي كون تنتظم فيه الحياة الانسانية , حيث تتكشف في النص عن علاقة الانسان بتأثيرات الحياة والتجربة
الاجتماعية ,التي يمثلها المك هنا بعلاقة الورق بالكتابة عليه , فمهما ارتدى الانسان من مظهر خارجي ففي خاتمة المطاف يبقى الجوهر الانساني , كذا مهما تسودت الاوراق باللغات المختلفة , تبقى اوراق ( كشخص ما يوماً يلبس جلابية وتارة قفطاناً ، وطوراً بنطلوناً وقميصاً والروح هي ذاتها ، هي اياها ، هي.. هي ..) ..
الحس الشعبي ينعكس لدى علي المك, على مستوى لغة القصة , فلا تخلو منه الكثير من مفرداتها - وبذات الوقت العالم موضع اهتمام الراوي - العالم الشعبي في اقصى تفاصيله وحكاياه, يتماهيان معا حتى يشكلان شيئا واحدا, هو كوّن اللغة : ( ذاك الصديق كان قد عشق امراة يغشاها (دم التاجر) كثيراً في الصيف ، تحك جسدها ، يكاد يدمي .. قال ان مرضها ينبئ .. يتلمظ .. يقول ما يعني ان ذاك الهياج انما هو اعلان عن رغبتها فيه ، قلتم له : مسكين .. مريض انت لا هي ) .. ( وما شانك بالقماير.. ).. ( قبلها قلت ان ذلك كله من بعض ما يسمي امراض الحساسية منها حمى الدريس (هي فيفر) ..) .. ( ثم تصبر او ان يزهر النيم الي احمرار في العينين يفيض ، وفيض من العطس. انت تعلم اصرارها ذكران الدكتورسعيد طبه ناجح يده لاحقة باختصار رجل مبروك ومختص في مثل ما كنت منه تشكووتتعذب ، ولتضف لهذا ذاك الصوت الصفيري يجعل الصدر جحيماً ، قيل الريوذاك وجمعوا هذا كله فاسموها الحساسية )..
وقد تميز علي المك بقدرة مدهشة على الانسياب في الحكي- طبيعة اللغة الانتقالية التي يستخدمها : سنأتي اليها لاحقا - والتنقل في القصة الواحدة بين مواضيع مختلفة, دون ان تدرك اللحظة التي تم فيها هذا الانتقال, ففي هذه القصة( حمى الدريس) التي يستهلها بعشقه للنيل الازرق, وتحسره على اطفاء المقرن للونه , يمضي مع( وفاء) في اللحظة ذاتها, للحديث ببراءة تتلائم وهذا الشعور بالانتماء, الى النيل الازرق . ثم لا يلبث ان يقدم اشارات عن هذا المجتمع الذي يحيا فيه ووفاء , والطامعين في وصالها من الاصدقاء واهتماماتهم,الخ ..
هكذا ينساب في بساطة وسرعة لا نستشعر معها, انه يتحدث الان عن موضوع اخر , ليس هو ذاك الموضوع, الذي كان يتكلم فيه منذ قليل, وكل ذلك يتم بحس شعبي عالي - رغم رصانة اللغة الفصحي - , التي يجري عليها التركيب الدارجي السوداني, والتي عندما يوظفها في هذا التركيب الشعبي للغة الدارجة, تتحول الى لغة مدهشة تتماس مع الفصحى القحة , التي كتبت بها امهات الكتب..
- تمتلك لغة علي المك هكذا خصائص مرونة مدهشة, تجعل قدرتها على الانتقال, في التعبير عن مواضيع مختلفة , غير محسوس - , فتخال نفسك عند بعض المقاطع, تري تلك اللغة تبعث في طبعة جديدة عند علي المك ( اذا كانت اللغة اداة للتوصيل والتواصل الانساني, في المستوى الاول من وظائفها , الا انها كنواة للنظام الدلالي , ولما تتمتع به من قدرة سيميو طيقية خلاقة ومتجددة , بتجدد استخداماتها , فهي تعتبر وسيلة الادب, الذي يعد مستوى ارقى من التعبير ومن استخدام اللغة, على مستوى الشكل والمضمون , لذلك فارتباط اللغة بالخطاب الادبي وثيق , وبالاضافة لخصوصية هذا الارتباط , فالخطاب هو الذي يحدد لغته الخاصة, التي تفرز شكلها الملائم. وتتحرك فيه وفقا لقوانين هذا الخطاب , التي تحقق لكل منهما تميزه عن الخطابات واللغات الاخرى , وتحقق لكل لغة جمالياتها الخاصة (25)..
يمضي راوي حمى الدريس في القول وقال قدم الى لورنس كانساس يزور اخته اولاً ويعالج لغته الانكليزية من بعد ، ويتحرى اصول البلوز .. لحظت انك اندهشت .. قالت : نطقي في الانكليزية لا باس به اليس كذلك لا تظن انني مثل بعض مذيعي راديو امدرمان لا يعرفون الفرق بين امريكا وام ريكا !! ضحكتما.. انقضى أوان حمى الدريس وشهور حمى الدريس انقضين وسفر الصيف ".." صدر كتاب الحكايات – كل العصور – المصادفة قاعدة .. اما الاستثناء ؟ يقولون انه بينما كان يعبر الطريق بصربها نظراليها، اليه نظرت حين نظرت الي عيني وفاء اول مرة كانت حمي الدريس كما تعرفها انت عن نفسك ، تفور في وجهها ، ما وصف احدعيوناً تغشاها حمرة ، هي حمرة، الدماء .. كان كتاب الحكايات ، يتحدثون عن المصادفة كما اعتاد الشعراء نبش العصافير في قبورها .. كل عصفور وصفوا عصفور ميت .. هل رايت الاحمرار في عينيها ، اذاك شي جميل؟ فيوصف اصمت صه ..تذكر صديقاً اذن دعني اقص عليك هذه .. نعم .."
ولنلاحظ في المجتزأ أعلاه كيف استخدمت اللغة " وقال قدم الى لورنس..." كأنك تقرأ في مفتتح من كتب السير والاخبار العتيقة .. لكنك ما ان تمض قليلا حتى تفاجا بانك خارج من بطن المعاجم , الى لغة العصر التي اختلطت بلغة هذه المعاجم : " يتحرى اصول البلوز .." وهكذا مرورا بالتناص مع لغة القرآن وتراكيبها " عيونا تغشاها حمرة .."..ويمضي راو على المك في حمى الدريس ليفتحنا على مزيد من اغوار هذا الكون : اللغة( تعود الي امر المصادفة عند كتاب الحكايات ، صدق اولئك ، كذبت انت عيادة طبيب ، ايام كانت ادواء الحساسية تأخذك كل جانب ، العام جله، تارة كله.. حكة تبدأ علي الاذن اليسري تقول تعالجها بظفر اذ يبلغ مقامها ناب تستكين وتغفو، تظن انك قضيت علي ثورتها ، احتويت حدتها ، هذه لغة السياسة كما تعلم . يقولون الاحتواء واء .. واء .. انصرعن هذا العبث الساذج .. قل كلامك .. " حاضر طيب " ..
قلنا تهبط الثورة من الاذن اليسري الي الساق اليمني .. طريق معقد كما تراه ، ولها معبد اذهي تسلكه غير هيابه سبيلها مجري الدم في لمحة اوبعض لمحة تنحدر يدك تتبعها بظفر،وقد تبلغ مكانها بناب،اوانت اعسر تكون اليد اليسري،او ايمن فباليمني .. بديهي ايها الثرثار .. تقول حين تبلغ ساقك اليمني بظفر من اصبع في اليد اليسري، ام هي اليمني ؟ انت معقد.. لا ريب لانك اعسر ، تسمع كثيراً من يذكر الشيطان في اليد اليسري ، والاعسر يخالطه الشيطان . صه يصعد الدم الفوار الي الكتفين والي الظفر نفسه الذي به نستعين . هذا يدعو ان تعض مكانه باسنانك كلها..) وفي هذا المجتزا نلاحظ بوضوح تخلل الحس الشعبي, لكل ثنايا اللغة:" حكة تبدأ على الاذن تقول تعالجها بظفر".."الاعسر يخالطه الشيطان "..وفي المجتزا التالي يوظف المك الذاكرة الشعبية المشتركة , بتوظيفه لاشارات تنتمي اليها مثل حكاية دخول النيم السودان :
( شجرة النيم التي في البيت غرست يوم مولدك ان اجتثت تموت انت وان جفت عروقها قضيت ايضاً. ولله العجب! فلها انوثة طاغية تزهر قبل الاوان وتؤذيك .. وما الصوت الصفيري ؟ وما حكاية الناس في القمائر ؟ والنزلات المعوية ؟..
حسنا سافر الي بلاد ليس بها نيم ، كثيرة بلاد الله التي لم يدخل اليها اللورد كتشنر شجرته الاثيرة .. ذكروا هذا وصدقنا في عيادة الدكتور سعيد تلفزيون ملون، ومصلي .. والناس المرضي مؤمن وغير مؤمن جلس الي جانبها في العيادة– مصادفة اتفاقاً كان صوته الصفيري يسمع، وسعاله متصل يلتفت اليك المرضي من الناس من يعرف بصوت سعاله سيقولون هوذاك هو ذاك وليس لديك نظارة فتخفي وراءها العينين الحمراوين كل اولئك قد لحظوا امرعينيك تكون كارثةلوتبع هذا اولئك مااولئك سوي حك الاذن اليسري فالساق اليمني وبعد ذلك الانف والسرة وهلم جرا.....
اول مانزلت ارض مصر راك احد معارفك من الطلاب السودانيين تحك كل مكان تارة تحك فيما يشبه العنف اللذيذ، كالمحموم يلذ له الجلوس اوالوقوف تحت الشمس والشمس تصليه .. كنت انت .. قال صديقك الطالب في مصر " تغير الهواء " ، كان المفروض ان تاكل بصلة ساعة وصولك اليها ! مسكي طالب وبائس ما عرف من خيرات ام الدنيا شئياً سوي بصلها..) .. فنجده يستخدم احدى اشارات هذه الذاكرة المشتركة للتعبير عن موقف نفسي راهن لا يخلو من الاسقاط التاريخي ...
على سبيل المثال نلاحظ رصانة اللغة في : عيونا تغشاها حمرة - ان جفت عروقها قضيت ايضا, الخ -.. ومثالا للغة الفصحى التي اجراها مجرى الدارجة السودانية : وما حكاية الناس في القماير والنزلات المعوية -انك اندهشت - المصادفة قاعدة - الفرق بين امريكا وأم ريكا, الخ .. ومثالا ثالثا للتركيب المألوف في القص : حين نظرت الى عيني وفاء اول مرة كانت حمى الدريس كما تعرفها انت ..
وهكذا نجد ان علي المك في دمجه,الاسلوبين الذين اشرنااليهما : ( رصانة اللغة - والفصحى التي تجرى مجرى الدارجة السودانية ) في تركيب اللغة , مع الاسلوب( القصصي المالوف) الذي يحاول انتقاء الكلمات الادبية في التعبير السردي, خلق اسلوبه القصصي المميز في مغامرة اللغة.. فمن هذا الهجين كانت( حمى الدريس) النص القصصي ترتبط بحمى لغة النص وشكله . بحيث شكل علي المك من كل ذلك توحدا مع موضوعه : هذيان الحمى, التي سعى لتحديدها وتأكيدها على مستوى اللغة والفكرة- التي حملتها هذه اللغة - . ما خلف اثرا كبيرا فينا . ليس هو بموضوع هذه القراءة. واخيرا نجد ان المك يتميز بقدرة على التوليدات في اللغة , بسبب قدرته العالية على الاختيار الواعي الحر للغته وقدرته الفائقة على بناء علاقات خاصة من عناصر اللغة العادية , كاشفا عن الطاقات التعبيرية الكامنة فيها : من حيث اللفظ وتركيب الجملة وبناء الفقرة - وفقا لما اشرنا اليه - وهو ما عناه تشوفسكي بقوله :" ان اللغة خلاقة تتكون من عناصر محدودة وتنتج او تولد انماطا لا نهاية لها " .. ولغة المك بحاجة لدراسة متأنية فهي لغة متوترة مشحونة مقطعة متداخلة ومركبة تركيبا خاصا ..
يظل بروفيسور علي المك احد العلامات المضيئة في تاريخ القصة القصيرة في السودان - التي من الصعب تجاوزها دون الوقوف عندها طويلا - , ومرحلة من عمر هذا الجنس القلق المتوتر المسمى بالقصة القصيرة ..
(3)
العالم القصصي للشوش..
( وجوه واقنعة ) لدكتور محمد ابراهيم الشوش(26) , تندرج في ذلك النوع من القصص القصيرة المكثفة, التي يسميها النقاد في مصر " قصة الومضة ".. تقيم مجموعة عبد الحميد البرنس - (تداعيات في بلاد بعيدة - اقصد القصص القصيرة جدا ) - حوارا مع هذه المجموعة .. كما تقيم هذه المجموعة حورا مع مجموعة قصص القاص التركي عزيز نيسين ( ذيل الكلب).. واعني هنا بانها تقيم حوارا ," التناص "..
بمعنى ان فكرة التناص تنشأ من علاقة النص بغيره من النصوص , فالنص لا ينشأ في فراغ , وانما ينشأ في لغة / في عالم ممتليء بالنصوص الاخرى والابنية النصية والمعرفية التي تسهم في تكوين هذا النص من خلال محاولته للتعامل مع هذه النصوص من خلال العمليتين الحفريتين : " الاحلال والازاحة " , ومحاولة الحلول محلها في الكيان اللغوي, وهذه العلاقة هي علاقة تفاعلية, تقوم على الاحتكاك بين النصوص, والتحاور معها. فقد يقع النص في ظل نص, او نصوص اخرى(27) , وقد يتصارع مع بعضها. وقد يتمكن من الاجهاز على بعضها - مثلما اجهزت موسم الهجرة على صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل او اجهاز خريف البطريرك ومائة عام من العزلة على الفرقة الموسيقية وعصافير اخر ايام الخريف - وتترك جدلية الاحلال والازاحة هذه اثارها على النص , والتناص هنا بين نيسين والبرنس والشوش, على مستوى آلية المواقف في التناص السردي, وهي ادنى حد من اليات التناص , اذ لا تتجاوز المستوى الشكلي ..
حول قصص الشوش :
تتميز القصة عند الشوش - وهي تجري على نسق الحكاية - بالتكثيف الشديد . ففي قصته (ضياع) " عشرة اسطر فقط " يتركز المعنى في ان الاشياء التي ليس بامكاننا استبدالها او الاستغناء عنها هى في واقع الامر تلك الاشياء التي لا نتذكرها ( قال عابر السبيل : منذ اشهر وانا اراك تأتي يا ابتي الى هذا المكان , وتبحث في نفس البقعة , هل ضاع منك شيء . قال الشيخ العجوز دون ان يرفع رأسه : نعم يا ابتي ضاع مني شيء ثمين . سأل الشاب : وما ذاك ؟ . اجاب الشيخ تلك هي المصيبة الكبرى يا بني انني نسيت ما هو . قال الشاب : وما وجه المصيبة في ذلك ؟ ان كنت لا تذكره فهو ليس بشيء . تمتم الشيخ وهو ينظر حوله وينقب في داخله : لو انني تذكرته يا بني لامكن ان استبدله او استغنى عنه بشيء اخر . اما الان فقد ضاع مني الى الابد (28) .. ففي هذه القصة يجري الحوار بين الماضي ( الرجل العجوز ) والحاضر ( الشاب) , ليكشف من خلال هذه العلاقة الزمنية , عن قيمة الزمن المستقبلي غير المرئي , من خلال ما هو ماض - لكنه( كان) مستقبل" قبل ان يمضي" بالنسبة للشيخ العجوز , فالمستقبل هو اى لحظة قادمة - ولان المستقبل دائما غائب , لا ملامح له سوى في احلامنا و خططنا التي قد تتحقق وقد لا تتحقق, والتي عندما لا تتحقق تسقط في جب الذاكرة , واطلالتها الى سطح الذاكرة احيانا يحمل معه نوعا من المرارات , ربما .. وربما لا شيء . ومع الاعتياد ربما ننسى . لكن يظل الزمن الذي بامكاننا - في الماضي- كان من الممكن ان ننجز فيه هذه الاحلام والخطط , دوما هو زمن عزيز علينا , وبنسيانه يسقط شيئا عزيزا من وجداننا ..وتحتمل هذه القصة اكثر من هذا التأويل الذي توسلها بالزمن . وتلك هي طبيعة النصوص المكثفة, اذ تحتمل العديد والعديد من التأويلات. فهي نصوص مفتوحة على فضاء شاسع من التأويلات الممكنة ..
وفي قصة ( الحافلة)التي ككل قصصه لاتزيد عن اسطر قليلة , مضي بنا الراوي للتعبير عن لحظة انسانية( مصادفة) يمكن ان تحدث لاي انسان , لكنها تكفي الى احداث تغيير وجداني يظل ممسكا بتلافيفه طيلة سنوات عمره القادمة(29).. وفي قصته " تحسن" يتكثف المعنى حول الزمن المعنوي , واثره على شعورنا بمدى سؤ الاحوال او تحسنها(30).. وفي قصته ( المهم ) يمضي للتعبير عن مدى سلطة المال في تغيير مواقف البشر (31) ..وكل هذه النصوص للشوش هي نصوص مفتوحة للتاويل لاحتمالها معان عديدة ..
ويلاحظ على قصص الشوش اعتمادها على المفارقة وروح النكتة والسخرية ( او ما يشبه الكوميديا السوداء ) في توصيل رسالة النص, ونموذجا لذلك سنتخذ من قصته (البنسلين الى جانب قصص اخرى ) نموذجا للدراسة ..
المفارقة في عالم الشوش القصصي...
يقول شليجل" اننا لن نصل الى المفارقة, الا بعد ان تكون الاحداث والناس , بل الحياة بأسرها مدركة وقابلة للتمثل بوصفها لعبة , فالحياة حشد من المتناقضات, والمتعارضات التي لا يمكن الامساك بها, في اطار موحد من الادراك. اللهم الا بعد ان نصل, الى حالة من ادراك ان المفارقة هي جوهر الحياة(32) ..
هذه القصة ( البنسلين ) ( 33)اشتغلت بالتعبير عن ازمة التعبير , والحجج الواهية التي يتم التبرير بها لهذه الازمة .. فالقصة( على لسان الراوي المتواري) تتكشف خلال حواربين كاتب تم رفض نشر مقاله, من قبل رئيس التحرير , فيمضي للحوار مع هذا المسئول, للتعرف على اسباب منع مقاله من النشر ( قال رئيس التحرير في يأس : - انني آسف ولقد اوضحت لك الظروف , وليس عندي ما اضيفه ".." لم يقل لي احد من قبل ان الظروف قد منعت نشر مقال لي . فما هي الظروف التي جدت هكذا فجأة, بعد مجيئك انت الى رئاسة التحرير ؟ . قال رئيس التحرير : - يا اخي الظروف قد تتغير فجأة , فقد ظلت الامراض تفتك بالبشر قرونا طويلة حتى اكتشف العلماء البنسلين .).. ونلاحظ في هذه القصة قوة المفارقة في ذهن الكاتب , من مقارنة الحال التي لا تجوز فيها المقارنة على هذا النحو .
وفي قصته ( مذكرة تفسيرية ) . التي يستهلها بالحوار, بين رئيس تحرير ومحرره للصفحة الادبية, حول عدم نشر نص شعري, لا حد الشعراء الشباب البارزين " قال رئيس التحرير لمحررالصفحة الادبية : يا اخي الموضوع ابسط من ذلك بكثير , فانا لست ضد الشعر المعاصر, او المستقبلي او الحديث او الحر او المنطلق . سمه ما شئت . ولست امانع ان تنشر له قصائده , فهو كما تقول شاعر معروف وله معجبون في اوساط الشباب . كلما في الامر انني - ربما لغبائي الشديد - لا افهم حرفا واحدا في شعره , ولا ادري ماذا يريد ان يقول . وبوصفي رئيس التحرير, المسئول عن كل كلمة تكتب في هذه الصحيفة , فانني اصر بان يرفق مع كل قصيدة, ننشرها له مذكرة تفسيرية, توضح بلغة عربية سليمة, ما يريد ان يقوله بالضبط , لانني بصراحة , لا اريد ان انشر شيئا لا افهمه , فاتورط في مصيبة (34) .. اذ تركز هذه القصة الضؤ على منطقة مهمة من الصراع في المشهد الثقافي / الاعلامي .. وهو ليس مجرد صراع بين قيم الحداثة والقيم التقليدية , اذ يتعلق في جوهره بالاسس المعنوية, التى ينهض عليها طرفي الصراع , فهذه الاسس المعنوية هي ما يشكل القاعدة لجوهر الصراع: " المصالح " .. لكن لا يعبر هذا الصراع عن نفسه بهذه الفجاجة " المصالح " بل يتمظهر بطرق واساليب اخرى , هي الصراع بين القديم والجديد في مستويات مختلفة : لكن الى اى مستوى هذا الصراع ؟ فهذا ما انطوى عليه النص , كسؤال للتاويل ..
وفي قصته (معجزة) يدور الحوار في احدي البلدات, عن انها لا تعتبر انه لو حدث وتكلم الحمار , يمثل ذلك معجزة , حيث يعمل المعنى البعيد _ على المستوى البلاغي - بدلا عن القريب ( قال الصحفي في لهفة لشيخ البلدة الصغيرة : هل صحيح ما سمعت انكم وجدتم هنا حمارا يتكلم ؟ . قال شيخ البلدة بدون اكتراث : نعم . قال الصحفي : هذا شيء غريب للغاية . لا اصدق ان هناك حمارا يتكلم , الا اذا رايته بعيني وسمعته باذني . رفع شيخ البلدة رأسه وقال في هدوء : وما الغريب في ذلك ؟ قال الصحفي وهو في حالة قصوى من الدهشة : حمار يتحدث كالادميين تماما , الا يعد ذلك معجزة خارقة في نظرك ؟ قال الشيخ وهو ينصرف الى عمله : لا ! اننا لا نعد ذلك معجزة في هذه البلدة(35) ففي هذه القصة يدور سؤال المفارقة حول التبلد الذي اصاب الانسان , جراء هذا الواقع ( الذي في حقيقة الامر غير واقعي مع انه واقع معاش لكنه غريب!!) , ولذلك اختيار الصحافي ( بوصفه ملاحقا للاحداث واحد عناصر تشكيل الرأي العام بل احد اعمدة صياغة المعنى الاجتماعي العام ) فبهذه الصفة , تتبدى المفارقة في كون ان الرجل العجوز الذي ليست له وضعية الصحفي ادرك غرابة الواقع التي لم يستطع ادراكها هذا الصحفي بعد, على الرغم من وضعيته كصحفي .. وهنا يأتي توظيف الحمار الذي يتكلم كاسقاط على شخوص الواقع !!!..
وبالاحالة الى قول زولجر : " ان المفارقة لا ينبغي ان تختلط بالسخرية " سنجد ان الشوش يحاول ازاحة المفهوم التقليدي في البلاغة القديمة للمفارقة " تنقسم المفارقة الى نوعين : - المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف . وتتحقق الاولى في النص الادبي على المستوى البلاغي ومستوى التعبير واسلوب السرد والشكل الادبي عامة . اما النوع الثاني فيعتمد اساسا على المستوى التاريخي والايديولوجي (36) ..
ربما ان اعتماد الشوش للمفارقة جاء من كونه احد افراد جيل التحولات الاجتماعية والسياسية الضخمة , التي عاشت الهزيمة السياسية والاجتماعية لسودان ما بعد الاستقلال , ورأت احلامها الكبرى تنهار يوما بعد آخر , فلم يبق امامها سوى الغربة و الشعور بالغرابة .. وحملت كتابات هذا الجيل , آثار هذه الهزيمة . لتكون هنا - في السرد - تجسيدا للمفارقة بين الحلم والواقع , في تطور المجتمعات السودانية . نتاج الانكسارات والهزائم .المريرة .
(4)
قراءة في عالم زهاء الطاهر القصصي.
اللغة و الراوي ..
زهاء الطاهر احد كتاب القصة القصيرة , الذين افرزتهم مرحلة التحولات الحداثية , منذ اواخر السبعينيات من القرن الماضي .. ملمحان اساسيان يستوقفان قاريء زهاء الطاهر , سواء كان في كتابته القصة القصيرة( مجموعة ليلى والجياد - مثلا ) او في ( وجه جالا يتجلى - كتابة ) (37), التي اصدرها عن مركز الدراسات السودانية في العام 2003. او في قصصه العديدة التي طالعناها في الملفات الثقافية المختلفة . والملمحان الاساسيان هما : - الاسلوب المميز في تعامله مع اللغة القصصية , او لغة الكتابة كما في وجه جالا يتجلى - ونوعية الراوي ( المتكلم ) التي يستخدمها في كل كتاباته . حتى في , خطابات تكريم الاخرين ( عثمان علي نور : العدد الثاني والعشرون من كتابات سودانية - ديسمبر 2002 - والتي استعنا بمجتزا من خطاب زهاء في هذا العدد الخاص بتكريم مركز الدراسات السودانية لعثمان علي نور , في مقدمة هذا الكتاب ) .وقد أشار الناقد معاوية البلال من قبل الى أن زهاء الطاهر من اميز القصاصين , الذين يستخدمون صيغة المتكلم , كاسلوب سرد ذو فعالية , دون افتعال(38) وتعمل هذه الصيغة بالاحالة للبلال على توافق سردي بين الايقاع والنسيج وتعمل على ضبط حركتها داخل النسق السردي من خلال تدفق الوعي . وصيغة المتكلم هذه تقنية حديثة, تتيح ما يمكن قوله الى ما يجاور ويلامس تخوم الشعر , وارتبطت هذه الصيغة بتيار الوعي ..
كما ان لغة زهاء الطاهر القصصية , تتميز بالاختزال والتكثيف والايحاء, واستخدام المفردات فيما يشبه الجناس مع توظيف المترادفات أيضا (39).. و كتمهيد لقراءة الراوي في قصته القصيرة ( الساهي) (40) .. نبدا أولا بملاحظاتنا حول اللغة في ( وجه جالا يتجلى )...
أولا : اللغة في وجه جالا يتجلى :
تتكون هذه المجموعة ( وجه جالا يتجلى ) من 13 نص ( اتتركني ليزدردني وحدي المطر - ليتها لو انها كانت هي الزمن كله - حين خرج المساء من بهر السماء - شربنا فهمنا فاستهامت نفوسنا - آه يرول ما انقى لسانك - محمود محمد طه آخر عهدنا بالفرح - وجه جالا يتجلى - هي دنيا تحجل في رونقها - زاك .. ايها الولد المشاكس .. اين نحن الان ؟- ويزهر الطيب صالح هكذا .. دوما هكذا - نضرة وزاهية هي الطائرات رغم اجهادها - ثم اني لا املك الا اوتاري وعقيرتي ).. واول ما نلاحظه على هذه المجموعة وجه جالا يتجلى التوظيف المدهش للغة عند زهاء . اذ تتناثر مفردات العامية لتشكل مع الفصحى ولغة الوسط جسدا واحدا لا تكاد تبين بينه المستويات الفاصلة للغة . لكننا سنتخذ هنا نموذجا نصه الذي وظف فيه أيضا لغة غرب السودان( النص : يا بعض اهل الله بالله كيفكمو ؟ ) .
اللغة بالنسبة لسوسيور جزء معين من الكلام, وان كانت اساسه الجوهري , وهي كل مستقل بذاته قابل للتصنيف , وعلى ذلك فان اللغة هي : نظام من الرموز المختلفة التي تشير الى افكار مختلفة (41) يقول علماء اللغة : ان ادراج الكلمة في بنية مركبة متعددة المستويات , يضفي عليها قيمة دلالية موحدة, تجعلها صالحة لاداء وظائفها على هذه المستويات المختلفة (42) .. واللغة عند زهاء الطاهر مدهشة . بانسيابها, ونعومتها.. هذا المزيج من الدارجة التي تتخللها مفردات من غرب السودان , وفقا لتراكيب ا العربية الفصحى .
ويتقاطع زهاء الطاهر هنا على _ مستوى اللغة _, مع لغة الطيب صالح : لغة وسط السودان , ومع ابراهيم اسحق في استخداماته المزيج , وبذلك تشكل اللغة في كتابة زهاء الطاهر نسيجا مختلفا عن اللغة عند الطيب صالح بذات درجة الاختلاف عن اللغة عند ابراهيم اسحق , اذ تقف لغة زهاء في منتصف المسافة بينهما , لكنها تقيم حوارا مع اللغة عند كل منهما , فلغة زهاء ليست صعبة بمفردات غير مألوفة تماما , كما نستشعر عند ابراهيم اسحق . وليست سهلة بسيطة, كما نجدها عند الطيب صالح .
وربما اسهم زهاء بذلك في لعبة اللغة القصصية , بأن جعلها - لغة القصة - قادرة على تأدية معانيها الى اقصى حد ممكن , لكأن لغته تخرج من اغوار ذلك العالم الحكائي الحلمي الناعم لالف ليلة وليلة , لتمتزج بلغة القصة المعاصرة ولغة الشعب في غرب ووسط السودان . ليشكل هذا المزيج خصوصية اللغة عند زهاء . ونلاحظ ذلك في " يا أهل الله بالله كيفكمو " (43) , وقبل ان نسترسل في وجهة نظرنا نشرح هذه القصة " يا اهل الله بالله كيفكمو " بهذا التخطيط السمولوجي :
التعليم المدني ______ الدراسة
___________________________ النجاح في الدراسة والتخرج والوظيفة
__________________________ الرضا التام بما تم التوصل اليه .
__________________________ انعدام الرضا
المخطط يشرح المنفعة التي يسعى اليها بطل القصة ( الراوي المتكلم/ زرقان) . فقد تحول , لدى لقاءه امرأة " جفالة" من " مهاجري " : أي طالب علم قرآني في الخلاوى . الى طالب تعليم مديني " رأتني حين رأيتها .. مالك والشرافات وقد سمع وحطب الخلاوى .. كلمت ناظر المدرسة عشان ياخدك في المدرسة تدرس مع العيال (44) " ..ونجح في دراسته بالتعليم المديني وتخرج من مدرسة الرسم " التي صاغوني بها جيدا , حتى صيروني مدرسا بها (45) " . لكنه لا يشعر بالرضا بعد كل هذه السنوات " يا ولد. ناديت على نفسي .. هو انا في اسمال الذكرى .. ازمان الرمل والمدارس بكل فصولها الاربعة ومستقبل الالوان الذي تسبب في موتي وبعثي , لكني لم اشا . وزغردت جفالة بجلال وجمال ووفاء , فيا بعض اهل الله بالله كيفكمو ؟ (46)" . ويشرح المخطط ادناه الضرر المحتمل, لبطل هذه القصة جراء تركه لطريق اسلافه , واتخاذ طريقا مدنيا جديدا :
_____________________________ مساكنة زرقان لجفال .
_____________________________ التخلي عن حفظ القرآن في الخلوة.
_____________________________ التخلي عن جفالة
التخلي عن حياة الخلوة ______ ضياع زرقان
فقد تخلى زرقان عن حياة الخلوة. والمهمة الاساسية التي ابتعثه اهله لاجلها " حفظ القرآن " بمساكنته جفال , ما يعد ضياعا له وفقا لوجهة نظر الفقيه الذي يحفظه القرآن ووفقا لوجهة نظر اهله وزملاؤه " وبكى الفكي ابكر كثيرا حتى تمخط ثم استغفر وهو يقول : - زرقان ضاع الى الابد (47)" . وانخرط زرقان في التعليم المدني واستمرت حياته مع جفالة بعد التخرج والوظيفة .
حملت لغة القصة عند زهاء هذه الافكار, بسهولة ويسر. فبينما نجد لغة الوسط تكاد تطغى على لغة النص :" يلا بينا فقرا .. وتغطيني من العين , واكتب لي بخرات .. ثم خرج الفكي مبسوطا .. يا ولية كيفن اقعد وسط عيال فرافير ادرس معاهم ؟ .. بكره من صباح الرحمن تمشي السوق لحمدين الترزي , الخ ..) نجد ان الفصحى تزاحم هذه اللغة " فلما مددت لها بآياتي المكتوبة .. كان عاما كريما حين خرج بنا الفقيه ابكر المسلاتي .. ذهبت معها وقابلت الناظر والمدرسين , الخ ..) يتخلل هذين التوظيفين للغة مفردات غرب السودان بصورة تنافس التوظيفين السابقين للغة ( عبد البنات ..الأضية .. جفالة .. أبكر المسلاتي .. انبسطت الداجاوية .. دقيق الجير ..اسكت يا جنقجورا .. وانا الأرنتنق ضحكت معها .. ترى انتايا الناظر .. الورتاب , الخ ). فاللغة عند زهاء ليست مجرد مرآة عاكسة للحياة .فقط _ حياة هذه الشريحة من الناس : المهاجرية _ بل هي كائنا في حياة هؤلاء المهاجرية , يقع في قلب عالمهم المحفوف بسلطة الفقيه, والتعليم المديني والمجتمع , الذي تنتمي اليه جفالة , بكل طموحاته وتطلعاته ..ومن هنا لا تكتفي اللغة في يااهل الله بالله كيفكمو في توصيف العالم الباطني للراوي المتكلم بطل القصة وحبيبته جفالة , اذ تتحول الى نشاط يكشف عن دلالات كثيرة وغنية , تتلاقح فيها لغة الوسط مع الغرب والفصحى .. " ان الامساك بالجانب المتعلق بمحتوى اللغة بصورة علمية, هو اصعب من الوقوف على الجانب المتعين منها , اى الجانب الذي يتمثل في التعبير بصورة ملموسة , فالوحدات التي تتمثل على مستوى الدلالة, اكثر كثيرا منها على مستوى النحو او الصوتيات . ذلك بان ما هنالك من صيغ نحوية وأشكال صوتية اقل مما هنالك من المعاني (48)..
وتقودنا هذه الملاحظة الى حقيقة ان محتوى النص اللغوي, مراوغ بحيث يصعب ضبطه, على نحو ما يصنع علم النحو, او علم الاصوات اللغوية . واهم من هذا ملاحظة ان المعاني - على ضخامة حجمها - انما تتجسد لغويا في عدد محدود نسبيا من الصيغ . وهذا ما يخلق مسافة كبيرة في بعض الحالات . بين الصيغة النحوية والمحتوى الدلالي للعبارة . ولتوضيح ذلك لنفكر نحويا في الجملة عند زهاء الطاهر . على سبيل المثال : ( كنت اسجع . فقربت مني (49) فمن الناحية النحوية تحدد هذه الجملة علاقة بين فعل وفاعل . لكن من حيث الدلالة الامر مختلف فاقترابها " جفالة " وهو " زرقان " في سجعه نحويا يمكن قراءتها بصورة عامة هكذا : ( التاء في محل رفع اسم كان . واسجع فعل مضارع مرفوع . والفاء للعطف وقربت فعل ماضي . والتاء للتانيث في محل رفع فاعل . ومن حرف جر والياء للمتكلم و مني : " جار ومجرور" ).. وعلى المستوى الدلالي نجد ان جفالة ليست هى فاعل الاقتراب, , لان سجع زرقان, مارس دور الغواية, ودفعها للاقتراب. فهى اقتربت مدفوعة دفعا بغواية السجع . بالتالي زرقان اقرب لان يكون فاعلا في حاله : السجع .. وهي اقرب لان تكون مفعولا بها . عكس القراءة النحوية . . التي تعلن عن حالة الفعلية في ( كنت اسجع ) في شقها الاول , وفي شقها الثاني ( فقربت مني ) تعلن عن حالة الفاعلية . في حين انها تضمر بشقيها الاول والثاني على المستوى الدلالي - وفقا لما ننحاز اليه من تأويل - حالة واحدة فقط اما : الفاعلية , او الفعلية . وتقودنا هذه الملاحظة الى الوقوف على اللغة, بوصفها نظاما عاما ينطوي على مجموعة, من النظم المتكاملة والمتآزرة ( النحوي - الدلالي - الوظيفي ) ولمزيد من التوضيح, يمكننا اخذ مثال من النص ( حملنا اخراجنا على ظهورنا . ظهور ايامنا (50) . فهذه الجملة المكونة من جملتين متصلتين - طريقة بناء الجملة عموما عند زهاء - يربطهما التأكيد (ظهور - ظهورنا) . موضوعها" الايام" - وليس "الاحمال" كما قد يتبادر الى الذهن, على المستوى النحوي - فالكلام هنا وصفي . يصف فيه المتكلم بضمير الجمع, ان للايام ظهور . فهو يعرف ذلك .و مفردة " ظهور" نفسها . ليست غريبة على احد فلكل شخص ظهر- بله كا كائن حي نراه حولنا - كما ان هناك فضل الظهر كتعبير كنائي . لكن ليس ذاك هو غرض المتكلم . فهو يريد تمليكنا معلومة جديدة هي : ان ظهورهم التي حملو عليها احمالهم, ليست هي الظهور التي نعرفها . فهي ظهور الايام واكد على ذلك بالتكرار .
وهكذا نجد ان المتكلم اضاف هنا حقيقة جديدة للايام من معنى يندرج في التجريد الذهني , الى جسم مادي محسوس, وهو ان للايام ظهور. بالتالي لها جسد هذا الظهر جزء منه وهذه الحقيقة هي حقيقة محتملة بين عدد من الخيارات, فمثلما للايام ظهر لها انياب وساق واقدام واسنان وعيون ولسان , الخ الخ .. وهو امر مدهش ان تكون الايام = غير المحسوسة . جسد محسوس . فمن خلال الدلالة التي يحملها اللفظ , ندرك هذه المعرفة الجديدة , وهكذا ...
ان زهاء الطاهر بلا شك اضاف للغة القصة القصيرة اضافات هامة . واتصور انه الى جانب ابراهيم اسحق, قدما مداخل لمشروع لغوي جذري للقصة _ ينهض في بلاغة وجمال الدارجة ولغة غرب السودان _ . حري به ان يكون هولغة مستقبل القصة الحديثة في السودان . التي تتلاقح وتتفاعل فيها لغات السودان في مختلف اطرافه, ليتخلق من هذا المزيج, نص لغوي مشحون بالدلات المتنوعة, ويفيض بالمعاني المدهشة ..
ثانيا : الراوي في الساهي :
لابد لنا من الاشارة الى ان للمتكلم في الحكي حالتان : اما ان يكون الراوي, خارجا عن نطاق الحكي , او ان يكون شخصية حكائية, موجودة داخل الحكي . فهو راو ممثل داخل الحكي . وهذا التمثيل له مستويات " فاما ان يكون الراوي مجرد مشاهد متتبع لمسار الحكي , ينتقل عبر الامكنة , ولكنه مع ذلك لا يشارك في الاحداث . واما ان يكون شخصية رئيسية في القصة " . وعندما يكون الراوي ممثلا في الحكي _ كما في قصة الساهي _ , اي مشاركا في الاحداث اما كشاهد او كبطل , يمكن ان يتدخل في سيرورة الاحداث, ببعض التعليقات او التاملات , تكون ظاهرة ملموسة . اذا ما كان الراوي شاهدا , لانها تؤدي الى انقطاع في مسار السرد , وتكون مضمرة متداخلة مع السرد , بحيث يصعب تمييزها اذا كان الراوي بطلا . وفي بعض الحالات التي يكون فيها الراوي غير ممثل في الحكي , ويلجأ الى التدخل والتعليق على الاحداث , فان الامر قد يؤدي الى تصديع البناء الخيالي الذي اقامه الراوي نفسه_ وهذا ما لا نجده عند راو زهاء _ , اذ يصعب بعد هذا على القاريء ان يصدق بان الابطال لديهم حرية الحركة والتصرف .(51)..الراوي / المتكلم في الساهي يباشر بالحديث المتواطيء عبر الجملة ذات الايقاع الوصفي , ما يجعل المتلقي منذ السطر الاول يشرع مشاعره لتداعيات هذا الراوي " ومفعما كنت حتى الجلد , وحتى منبت الكلام وأرجاء الروح الهادلة , وشائقا كعهدي , وشيقا كعهدها ومندفعا كلي نحوي , تواقا وعذبا كنهير في حلم أخضر . فياضا ومسكونا ببعض الوحي الموحي . كنت كأني اصيل مذهول (52)" فنلاحظ في هذا المجتزأ ان الجملة التعبيرية تدفع بالقاريء الى التسلل الى النسيج السردي . اذ يستخدم زهاء الاحالات المجازية الباعثة على التأثير في وجدان المتلقي " ومفعما كنت حتى الجلد - اصيل مذهول ومنغوم , الخ " وهكذا يتم توظيف طاقة الانفعال في المجاز الذي يسقطه في عالم الاشياء " لاصبحت لهذه الادارة نكهة آسرة وحالمة " واستخدام المجاز هنا ليس الا مستوى من مستويات التعبير عند زهاء , والذي يستخدمها في توسل الراوي للتحقق مما يسرد .
الانا / الهي :
يرصد زهاء هنا شخصية الراوي عبر ضمير المتكلم , وشخصية سالي (الهي) مبينا كيف نشأت العلاقة بينهما من قلب التناقض " مالها لو غارت او طارت , فان فعلت فحتما ابدا لن اطراها طريت النبي "- " لو انه توقف او اوقفوه وفارقنا لاصبح لهذه الادارة نكهة اخرى " .. وهكذا ابتداء يتم تحديد الابعاد النفسية للانا ( الراوي) ول (الهي) = سالي موضوع حب وحنين الراوي .. ويجد المتلقي نفسه مرتبكا, ازاء هذه العلاقة , فالعلاقة تنهض بشكل اساسي في ( السهو ) وهكذا يشكل السهو محورا لعلاقات السرد , تنهض فيه علاقة الراوي الساهي بسالي الساهية . " مرة اخرى رفعت راسي بجبهته العريضة ولم اسألها بل سألت ضيفتها : اما جاء وسأل عني احد في غيابي يا رجاء ؟ لم يكن اسمها رجاء . ابدا لم تكن رجاء فغمغمت بضياع ثم قالت لي : - فقط ابوك سال عنك لكنه لم يجيء . اين كنت يا ناصر ؟ .. لم يكن هذا اسمي ابدا لم اكن ناصر ... اذا هي امك التي سألت .. ابتسمنا ثلاثتنا واخرجت لهما صورة امي من جيب جلبابي .." .. واخيرا : تحتشد هذه القصة بالدلالات والرموز التي تتأسس على المفارقة في عدم تطابق الاسم مع المعني " رجاء / الرجاء " - " ناصر / النصر " . . يسرد زهاء بضمير الراوي بلغة مميزة لا تعوق الحدث . لغة مزيج من العامية والفصحى . يسحبنا بهذه اللغة الى اغوار سرده دون ان نحس بملل ..
(5)
عادل القصاص و"الوصف" في صور زنكوغرافية ليوم عادي ..
عادل القصاص , احد القصاصين المميزين الذين افرزتهم, مرحلة التحولات الحداثية, في القصة القصيرة في السودان . وقد بدأ في نشر انتاجه القصصي, منذ اواخر الثمانينيات من القرن الماضي , وهو من القصاصين الضنينين بالنشر , كما وصفه القاص بشرى الفاضل ...
القصة موضوع قراءتنا " صور زنكوفرافية ليوم عادي ..(53) " واحدة من قصصه المتميزة , اللتي حملتها مجموعته " لهذا الصمت صليل غيابك" .. وكنا قد قدمنا من قبل , متابعات نقدية حول قصته " ذات صفاء , ذات نهار . سادس اخضر (54) الى جانب قصته " نشيد التماسك (55)".., تمهيدا لنشرها في ادب ونقد . ولكن يبدو انها ضاعت ,مع كثير من الكتابات التي تضيع في المنافي , فسمة المنافي التنقل الدائم وعدم الاستقرار .
الوظيفة التي يلعبها الوصف في النص القصصي , ظلت تجد اهتماما مستمرا , لدور هذه الوظيفة في : التفسير والترميز معا - فهي ليست مجرد حلية للاسلوب كما كان يعتبرها النقد القديم , ولاهي بمثابة تجميل للقصة فحسب - اذ يتحرك الوصف فيما يحيط بالشخصية , او المكان ليكشف عبر توصيفه المكان او الاشياء التي توجد فيه , عن التركيب النفسي للشخصية , مشتغلا في التبرير لسلوكها - الشخصية - ..
فوظيفة الوصف رمزية وسببية , كما انها ايضا نتيجة " ويعتبر الوصف, عنصرا ذا اهمية حيوية, في العرض. بخلاف ما كان عليه, في العصور القديمة , وقد انتهى هذا التطور, الى غلبة العنصر الروائي في القصة , اذ وظف له العنصر الوصفي, الذي فقد ما كان يتمتع به من استقلال ,مقابل اكتسابه للاهمية الدرامية , غير ان هناك بعض المحاولات القصصية المعاصرة, تهدف الى تحرير الوصف ,من سطوة الحكاية , عن طريق بناء ما يسمى ب "الحكايات الوصفية" (56)" ..
والراوي في هذه القصة : ( صور زنكوغرافية ليوم عادي ) - هذا اليوم غير العادي في واقع الامر , فالمفارقة انه في مكان مثل البلاد, محل هذه الوقائع يعد عاديا, نتاج تراكم العسف والقمع الناهضان في التجسس, وحركة اجهزة الامن. كما حددت اللغة الوصفية المشحونة, بالوقائع والاحداث والانفعالات !! - , يتم تقديمه لنا عبر الوصف - منذ الاستهلال - الدقيق , لصور واقعية مشحونة ومحتقنة , لمشاهد من الحياة اليومية . يصف فيها : حالة متوترة لبطل المشهد الاول ( انحنى بزاوية حادة نحو الارض . جهدت يده اليمنى في محاولة جادة لالتقاط كتاب, من وسط الكتب ,التي كانت تفترش الارض ,بطريقة حاول فارشها ان تبدو قدر الامكان , متسقة . وباسلوب فوضوي اقرب للتشنج , وباتحاد عشوائي, مع قدميه النابت منهما ساقان مرتجفتان , راحت يده اليسرى. تحاول منعه الانكفاء, على وجهه . حينما كانت اليد اليمنى, تلامس الكتاب , امتدت ثلاث من اصابعها, بالانكماش نحو الراحة . وبينما افلح الابهام والسبابة, في التقاطه , تحولت الزاوية الحادة الى منفرجة .. فالى وضع طبيعي (57)" ..
فعبر هذا المقطع الوصفي , نستطيع تحسس مدى اهتمام بائع الكتب بالنظام . ومدى الجهد الذي يبذله, هذا المشتري للحصول على الكتاب . حيث يعبر الوصف عن حالته النفسية .. حالة التوق لتحقق الامتلاك للكتاب. فالوصف هنا, يقدم لنا موضوع الاستهلال , وفضاؤه واشياؤه , في بطانة من الحمى والمقاومة .
فالقصة كلها تنهض في مناخ العسف, والرقابة والخوف. بكل ما يعتمل في الوجدان, من حذر وترقب الاعتقال.. فهذه الحمى تتحكم في مسيرة, بطل القصة وهو ينتظر الحافلة, او يركبها متخللا الزحام, باحثا عن موطيء قدم ,او وهو يستيقظ من نومه, ليمضي الى مساعدة عم خضر او لعب الدومينو, مع عم جابر او وهو يتبادل المثاقفة, مع اصدقاءه حول: الكتابة و الكتاب والموسيقى, والغناء والحياة والناس. والاجتماعي المأزوم الذي يتخلل كل ذلك . الى ان يتم اعتقاله في المشهد السادس .
تمر كل هذه المشاهد عبر الوصف, متخللة الوحدات السردية الصغرى, بروح البوح المعطون في التساؤل , محمولة على اكتاف اللغة المجازية , بكل ما تحتوي على طاقة انفعال . لتشكل مجالا ديناميا, يمثل فيه البطل الذي تعرفنا عليه ,ابتداء من الاستهلال , مركزا لاحداث ووقائع الفضاء القصصي , اذ يلقي بظلاله على مشاهد الحياة الاخرى " كان ركاب عربة البوكس صامتين , يحاولون تجنب النظر الى بعضهم ,بالالتفات يمينا او يسارا, او بانكفاء رؤسهم على صدورهم, الا من اختلاس النظر, بين لحظة واخرى, الى وجهي فتأتين ,كانتا من ضمن الركاب . وحينما تركت العربة شارعا, ذا اشجار ضخمة وعتيقة , منتقلة الى شارع ذي بنايات حديثة وسامقة , قالت احدى الفتأتين للاخرى الجالسة بجوارها : - انني بعد كل محاضرة , ازداد اعجابا واحتراما للدكتور مكي, ارأيت كيف ناقش اليوم, أزمة المثقف السوداني ؟ .. - ولكن الا ترين معي, ان رؤيته للمسألة كانت ممنهجة بصرامة ,ومتطرفة اكثر من اللازم ؟ .. - وهذا ما نحتاجه حقا في هذه المرحلة . - معك حق. ففي مثل هذه الظروف ,لسنا في حاجة للحلول الوسطى . . انتبهت اذنا شاب كان يجلس قبالة الفتأتين . انتقل الانتباه الى عينيه. مسح وجهي الفتأتين بنظرة مستقيمة . وبلا تفكير , وبطريقة آلية , تحولت نظراته الى وميض غريب . توقفت العربة, في المحطة النهائية . نزل الركاب . اشعل الشاب ذو النظرات ,ذات الوميض الغريب .سيجارة ثم سار خلف الفتأتين (58)" ..
وهكذا يختم راو القصاص يومه غير العادي , بمتابعة رجل الامن للفتاتين . . ان غلبة الوصف في نص ( صور زنكوغرافية ليوم عادي ) على السرد , تأتي بابراز عالم الاشياء و شحن هذه الشخصية بمزيج من المشاعر المتناقضة , لتكون الشخصية بهذا التركيب النفسي المعقد , معادلا موضوعيا لمتناقضات الواقع الحي المعاش ..
وكل ذلك عبر وظيفة الوصف . الى ان تختم القصة ببناء الوحدات السردية المقتطعة ,من مشاهد الحياة الواقعية , من حيث حركة الاحداث .. اذ يمهد القصاص, لكل حدث . بمناخاته الشعورية. ما يجعل الشخوص, اكثر قدرة على مواجهة مصائرهم المأساوية .
هامش :
(1) معاوية البلال . الشكل والمأساة " دراسات في القصة القصيرة السودانية " . الشركة العالمية للطباعة والنشر. ص: 9
(2) مجلة فصول للنقد الادبي . الهيئة المصرية العامة للكتاب المجلد 16 العدد الثاني خريف 1997. ص : 17
(3) مجلة الثقافة الجديدة. قصور الثقافة . العدد 172. اكتوبر 2004 . ص : 108
(4) معاوية البلال. الكتابة في منتصف الدائرة. الشركة العالمية للطباعة والنشر . ص : 132
(5) معاوية البلال . الشكل والمأساة " مرجع سابق " ص : 32
(6) كتابات سودانية " كتاب غيردوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد 22 ديسمبر 2002. ص :133
(7) السابق ص ك 136
(8) نفسه ص : 134
(9) نفسه ص : 135
(10) جابرييل غارثيا ماركيز . ذكريات عن عاهراتي الحزينات . ترجمة د. طلعت شاهين . طبعة اولى ديسمبر 2004. سنابل للنشر والتوزيع . القاهرة (11) _ مناظر من أرض جديدة ( قصص لكاتبات من اميركا اللاتينية ) . ترجمة ايزابيل كمال .قصور الثقافة . آفاق عالمية . طبعة اولى 2003.
- أليثيا شتايميرج (1933) كاتبة ارجنتينية . كتبت اربع روايات ومجموعة قصص قصيرة . من اهم الكاتبات المعاصرات في الارجنتين .
(12)كريستينا بيري روسي .كاتبة من اوروغواي . ولدت في منفيديو . وهي ابنة لمهاجرين ايطاليين . وتعمل والدتها مدرسة . وقد علمها خالها الشيوعي تذوق الادب . تخرجت في كلية الاداب في جامعة منتفيديو . وعملت بالصحافة وتدريس الادب . اضطهدت من قبل السلطة لموقفها المناهض للظلم . فانتقلت الى برشلونة في اسبانيا في 1972. صدر لها في العام 1963 اول كتاب وهو مجموعة قصص قصيرة " الحياة " عن الجو المعتم المحيط بالمرأة ومعاناتها كضحية للمجتمع الابوي . في 1969 صدرت لها مجموعة القصص القصيرة " المتاحف المهجورة " وحازت بها على جائزة اركا للكتاب الشباب في ارجواى في 1968 وتصف فيها انحطاط الثقافة في ارجواي . وتظهر فقدان التواصل بين الرجل والمرأة . كما في قصة " الاشياء الغريبة التي تطير " . وفي 1969 حصلت قصتها " كتاب اولاد عمتى " على جائزة مجلة مارشا . وهي قصة على لسان طفل . بها تحولات سردية عميقة . وبيري روسي تستخدم حيلا مرئية , وتمزج النثر بالشعر . وتهدف الى السخرية من البرجوازية , خاصة الفتيات اللائي ينشأن محاطات برعاية مبالغ فيها . نشرت في 1970 " علامات ذعر" وهو مجموعة من 46 قطعة ادبية وقصة قصيرة وقصائد ومقالات وامثال تعبر عن سمات عصر القمع في ارجواي . وفي 1971 نشرت اول ديوان شعري لمجموعة قصائد حسية تحتفل بجسد المرأة . في 1975 نشرت ديوان " وصف حطام سفينة " تركز قصائده على النفي السياسي والحب . على النقيض من ذلك في 1983 نشرت " متحف المساعي العبثية " الذي تناقش فيه محاور معاصرة مثل العزلة والتحليل النفسي والحرب والقمع السياسي . وفي 1984نشرت " سفينة الحمقى " وفي 1986 "آلام ممنوعة" .
(13) غاستون باشلار . جماليات المكان . ترجمة غالب هلسا . المؤسسة الجامعية.2000 . بيروت الطبعة الخامسة . ص : 35
(14) كتابات سودانية " كتاب غيردوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد 22 ديسمبر 2002. ص : 129/130
(15) فصول للنقد الادبي " مرجع سابق " ص : 25
(16) تقول الاسطورة ان نارسيوسي ( وهذا هو اسمه في الاصل اللاتيني ) هو ابن احدى حوريات النهر اللاذوردية الشعر . انجبته من اله النهر . فهو كائن مائي تتبعه الحوريات العاشقات , لكنه لا يستجيب لهن فتحكم عليه الالهة استجابة لدعاء احدى عشيقاته , بان يقع في شراك حب لا يخرج منها فائزا .
واذ يحس نرسيس بالعطش ينحني ليشرب من ماء النبع , فيرى صورته وقد انعكست على صفحة الماء , فسحرته ووقع في غرام طيف حسبه جسدا , وهو لا يعدو ان يكون ظلا . وحاول تقبيل وجهه المنعكس على صفحة النبع , وحاول ضم خياله . وتورد الاسطورة هاجسا يحاور نارسيوسي " اى نار سيوسي ! ايها الصبي الساذج , فيما محاولتك الامساك بصورة خادعة ؟ ان ما تبحث عنه ليس له وجود حي , ولو انك استدرت لغاب عنك هذا الذي تهيم به . ان ما تراه ليس الا خيال نشأ عن انعكاس صورتك على الماء .."..
.. واذ يكتشف نرسيس الحقيقة يدرك وهمه قائلا : " ان هذا الصبي الذي يتراءى لي , ليس غيري . ان صورة وجهي لا تخدعني . انني احترق بنار حبي لنفسي . ويموت نرسيس حزنا , وتبكيه حوريات الغابة بنواح حزين . واذ تختفي جثته تظهر مكانها زهرة النرجس التي ستظل ترمز الى الاعجاب المرضي بالذات . لقد غدا الماء المرآة التي يبحث فيها نرجس عن ذاته التي حسبها شخصا آخر . ولذا اقترن ذكر المرايا بالماء او الظل .
(17) فصول للنقد الادبي " مرجع سابق " . ص : 33.
(18) كتابات سودانية " مرجع سابق " ص : 129
(19) السابق . ص : 130/131
(20) نفسه ص : 132
(21) نفسه ص : 134
(22) نفسه ص : 136
(23) سحر سامي . اكثر من سماء .مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص : 40.
http://www.sudanjournal.com/Reports/Story4.htmlحمى الدريس ) : ) . (24) علي المك
(25) سحر سامي . أكثر من سماء . " حقوق الانسان في الفنون والاداب " مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص : 30.
(26) السابق . ص : 32.
(27) محمد ابراهيم الشوش . وجوه واقنعة .مكتبة مصر . الطبعة الاولى 1989.
(28) السابق : ص : 21.
(29) السابق : ص : 22.
(30) السابق : ص : 23
(31) السابق : ص :30.
(32) الثقافة الجديدة . قصور الثقافة . العدد 173 . نوفمبر 2004. ص : 110.
(33) محمد ابراهيم الشوش . مرجع سابق . ص : 85.
(34) السابق . ص : 90 .
(35) السابق . ص : 208.
(36) الثقافة الجديدة " مرجع سابق " ص : 110 .
(37) زهاء الطاهر . وجه جالا يتجلى - كتابة . مركز الدراسات السودانية . الطبعة الاولى 2002.
(38) معاوية البلال . الكتابة في منتصف الدائرة . الشركة العالمية للطباعة والنشر . ص : 162.
(39) معاوية البلال . الشكل والماساة " دراسات في القصة القصيرة السودانية " . الشركة العالمية للطباعة والنشر . ص : 80.
(40) كتابات سودانية ." كتاب غير دوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد العشرون يونيو 2002. ص : 105.
(41) د. صلاح فضل . نظرية البنائية في النقد الادبي . مكتبة الاسرة .مهرجان القراءة 2003. ص : 20 .
(42) السابق . ص : 199
(43) زهاء الطاهر " مرجع سابق " ص : 7
(44) السابق ص : 10
(45) نفسه : ص : 12.
(46) نفسه ص 12
(47) نفسه ص 8
(48)فصول للنقد الادبي . المجلد الخامس . العدد الرابع . يوليو اغسطس سبتمبر 1985 ص : 43
(49) زهاء الطاهر " مرجع سابق " ص : 7
(50) السابق ص 9
(51) محمد السيد محمد ابراهيم . بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ " دراسة في الزمان والمكان " . الهيئة العامة لقصور الثقافة . 2004. ص : 347.
(52) كتابات سودانية ." مرجع سابق " ص : 107
(53) عادل القصاص. لهذا الصمت صليل غيابك. الشركة العالمية للطباعة والنشر 2002 . ص : 23
(54) كتابات سودانية " كتاب غير دوري " العدد 22 ديسمبر 2002 ص :123
(55) ثقافات سودانية " كتاب غير دوري " المركز السوداني للثقافة والاعلام .العدد الخامس 1999. ص : 108.
(56) د . صلاح فضل . نظرية البنائية في النقد الادبي . مكتبة الاسرة مهرجان القراءة 2003. ص : 295
(57) عادل القصاص " مرجع سابق " . ص : 23.
(58) نفسه ص : 31/32