الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ 1

د. عبدالله الفَيْفي

الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ (1/2)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

صدر مؤخّرًا للأستاذة الدكتورة سوزان بينكني ستيتكيفيتش عمل قيّم بعنوان "الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ"، أهدته إليّ في 10 يونيو 2009.  والكتاب من ترجمة الأستاذ الدكتور حسن البنّا عزّالدِّين، (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2008).  ويمثّل الكتاب في أصله أطروحة الدكتوراه للباحثة، التي نالت درجتها من قسم لغات الشرق الأدنى وحضارته في جامعة شيكاغو، (مارس، 1981)، بإشراف بيير كاكيا (جامعة كولومبيا). 

ويتألّف الكتاب من ثلاثة أجزاء: الأوّل بعنوان "أبو تمّام والتقليد النقدي العربي"، والثاني بعنوان "شاعر المديح في بلاط الخلفاء"، والأخير بعنوان "أبو تمّام والمختارات الشِّعريّة العربيّة".  ولذا، فإن الكتاب- وإنْ جاء بعنوانٍ عامٍّ حول "الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسي"- ينصبّ على شِعر أبي تمّام: "البديع، قصيدة المدح، والحماسة".  وهو ما قد نرى فيه إسرافًا في حجم العنوان موازنة بمحتوى الكتاب.  صحيح أن أبا تمّام هو الرائد الأبرز للحداثة الشِّعريّة في العصر العباسيّ، لكنه لا يمكن أن يَختزال في تجربته وَحْدَه الشِّعر والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ، بثرائها وتنوّعها.  بل من غير الممكن أن ندرس الشِّعريّة في العصر العبّاسيّ وصراعاتها دون موازنة بين تيّاراتها المختلفة، أي دون أن ندرس شعراء آخرين إلى جانب أبي تمّام، كبشّار بن بُرد، وابن المعتزّ، وأبي نواس، والبحتري، والمتنبّي، وأبي العلاء، على سبيل المثال.  ومعروف أن رحَى الشِّعريّة في ذلك العصر كانت تدور على الثلاثة المشهورين: أبي تمّام والبحتري والمتنبّي، لا على واحدٍ منهم فقط.  وهو ما مثّلته عشرات الكُتب التي قامت حول هؤلاء الثلاثة، ودارت على الموازنة بينهم.  والحقّ أن عنوان الكتاب الأصليّ باللغة الإنجليزيّة، الذي قدّمت به ستيتكيفيتش رسالتها للدكتوراه، كان أصحّ وأدقّ، وهو "Abu Tammam and the poetics of Abbasid Age"، "أبو تمّام والشِّعريّة في العصر العبّاسيّ"، حسب طبعة الكتاب الأولى Leiden: E. J. Brill, 1991.  غير أن العنوان الأصليّ قد عُدّل- كما ذكر المترجم- "بالاتفاق مع المؤلِّفة كي يكشف للقارئ من الوهلة الأولى عن المجال الذي يدور الكتاب فيه..."، (ص9، ح2).  وهو مجال كان يكشفه العنوان الأصلي أيضًا، ولكن دون ادّعاء السياق موضوعًا والموضوع سياقًا، كما حدث في العنونة الجديدة.

ويكشف الكتاب عن معترك التناقض الجوهريّ الذي وَقَع فيه نُقّاد العصر العبّاسيّ، بين (جعل الشِّعر القديم هو معيار الإبداع) و(القول بأن محاكاة ذلك المعيار قد باتت مستحيلة)؛ لاختلاف البيئة زمانًا ومكانًا.  والنتيجة هي نفي الإبداع عن غير القديم.  وتلك نتيجة ثقافيّة في حقيقتها لا نقديّة، تمخّضت عن نزوع طاغٍ إلى تقديس القديم وازدراء الجديد، في الأدب وغير الأدب.  إلاّ أن الباحثة تعلّل ذلك تعليلاً طريفًا، فهي ترى أن التحوّل من الثقافة الشفويّة إلى الثقافة الكتابيّة قد كَمَن وراء تلك الأزمة؛ لأن بناء القصيدة العربيّة- من أوزانٍ وقوافٍ وفنون بيانٍ وبديعٍ- ما كان إلاّ لأن "وظيفة الشِّعر في التقليد الشفويّ الجاهليّ هي حفظ المعلومات"(1)، وتلك الأدوات تساعد على الحِفظ، وحين أضحت الثقافة كتابيّة تعطّلت وظيفة تلك الأدوات، ومن ثمّ تعطّلت وظيفة الشِّعر االقديمة.  وقد نَجَمَت حينئذٍ للشِّعر وظيفتان جديدتان، الأولى طقوسيّة، تأتي تعبيرًا عن الهويّة العربيّة، وتنبني على أساس البنية الطقوسيّة العميقة- النموذج الأصليّ للتضحية كما عُرف في الشرق الأدنى القديم(2)- والثانية تفسيريّة، بحيث أصبح شِعر البديع العبّاسيّ "ما بعد شِعر"، Metapoetry(3).  أي أن الشِّعر صار وسيلة تفسيرٍ للشِّعر القديم من أجل مجتمع متحضّر في العصر العبّاسي لم يألفه.  هذا إضافة إلى توظيف تلك الوسائل الفنّيّة، التي عُطّلت لاستغناء الذاكرة عنها، للتعبير عن المفاهيم التجريديّة الكلاميّة، ومن ثم جاء توظيف أبي تمّام للوعاء الشِّعريّ التقليديّ لتفسير أحداث عصره. وفي هذا جملة من القفزات التأويليّة، فيها نظر. لأن ظاهرة تقديس القديم هي ظاهرة ثقافيّة عربيّة، والموقف من المُحْدَث هو موقف فكريّ عامّ، وليس موقفًا من شفاهيٍّ في عصرٍ كتابيّ.

[ونواصل]

               

(1)  ص194.

(2)  انظر رأينا في نظرية استيتكيفيتش في ما تسمّيه "طقس العبور" في الشعر الجاهلي، كتابنا (مفاتيح القصيدة الجاهلية: نحو رؤية نقدية جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (جُدّة: النادي الأدبيّ الثقافيّ، 2001)، 11- 23).  ويبدو أن الباحثة قد باتت تفسّر التاريخ كلّه والشِّعر على أساس طقس العبور، فتقول مثلاً عن فتح عموريّة: "أمّا الغزو العسكري فهو مدرَكُ بوصفه إعادة تمثيل لنموذج التضحية في طقس الأخذ بالثأر، من حيث يؤثّر قتل المسلمين واغتصابهم للروم في إحياء أُمّة الإسلام وإماتة أهل الكفر." (ص343).

(3)   تُرجم المصطلح إلى "شِعر على الشِّعر"، وأرى تلك الترجمة مُلْبِسة ولا تؤدّي المعنى.