قراءة في كتاب فلسفة اللغة
قراءة في كتاب فلسفة اللغة
للدكتور كمال يوسف الحاج
من صالح أحمد البوريني/عمان
عضو رابطة الأدب الإسلامي
مقدمة :
جاء في المعجم الوسيط أن الفلسفة هي " دراسة المبادئ الأولى وتفسير المعرفة تفسيرا عقليا "(1) وأنها " كانت تشمل العلوم جميعا واقتصرت في هذا العصر على المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما وراء الطبيعــة "(2) .
ويسمى الباحث في فروع الفلسفة فيلسوفا ، ويختلف البحث الفلسفي عن البحث العلمي في أن الأول يعتمد في الوصول إلى الحقيقة على التفكير المنطقي المجرد بينما يعتمد البحث العلمي على الملاحظة الواقعية والمنهج التجريبي .
وعلى ضوء ما سبق ، نستطيع أن نقول إن فلسفة اللغة هي دراسة مبادئها الأولى ومحاولة تفسيرها تفسيرا عقليا مجردا . إنها محاولة التعرف على اللغة من حيث هي أداة تعبيرية ووظيفة اجتماعية وعلاقة وجدانية قائمة بين ذات الإنسان ومحيطه ، بين الفرد ومجتمعه . إن فلسفة اللغة هي البحث المعني بالكشف عن الأسرار التي تكتنف اللغة وتجعلها لغزا محيرا .
والكتاب الذي هو موضع العرض والدراسة بين أيدينا هو كتاب ( في فلسفة اللغة ) وهو من تأليف الدكتور كمال يوسف الحاج أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية .
ويعرض الكاتب للغة على أنها معضلة من المعضلات التي شغلت الإنسان منذ وجوده . وهو يتجاهلها من حيث البحث في بنيتها وتراكيبها على طريقة أولئك الذين عالجوا اللغة من قديم بأسلوب جامد ، فتعاملوا مع الكلمات كأنها أحجار صماء في أبنية صماء ، وإنما يعرض للغة بما هي كائن حي يعيش في أعمال الإنسان ، وينطلق من داخله ، ويتنفس في تنفسه ، ويحيى في نبض فؤاده . ولذلك فإنه يقول في مقدمة كتابه عن أهميـة اللغة في وجود الإنسان : " كانت منذ أن كان ، بها قوامه وبناء نوعه ، لأنها في مغارس جوارحه . تنبثق من ذاته ، بل من ذات ذاته ، انبثاقا حياتيا ، منطقها منطق النبضة البشرية لا منطق اللغويين والمجامع اللغوية " (3) .
ويشير في مقدمته إلى أهمية الترجمة في إظهار عمق ارتباط اللغة بالفكر الإنساني ، ويؤكد ذلــك بما عاشه من تجربـة صعبة في ملاحقة الأفكار، ومحاولة تقييدها واصطيادها أثناء ممارسته الترجمة . ويقول في موقع آخر من مقدمته : " لقد آمنا بأنه لا فرق بيــن فكّـر وعبّـر ، بين عقل ونطق ، فلا مطلب للوجدان المتسامي بمعزل عن حركـة اللسان " (4) .
فالكاتب يؤمن بأن اللغة والفكر شيء واحد ، وجهان لعملة واحدة ، لا فرق بين اللسان والجنان ، وليس هناك فاصل بينهما . وهو يجتهد في إقناع قارئه بهذه الحقيقة من خلال فصول كتابه الأربعة التي سنعرض لكل منها باختصار فيا يلي .
الفصل الأول :
ينطلق بنا قلم الكاتب بعيدا في أعماق التاريخ ، ويسافر بنا عبر العصور رجوعا إلى الحضارات القديمة ، وأهمها حضارة الإغريق ، ومن هناك ، من حيث كانت البدايات الواضحة التي سجلها التاريخ للسلسلة الجدلية التي تحيط حلقاتها بعنق اللغة منذ أن كان الإنسان ، من هناك ، يتدرج بنا عودا في مراحل أربع ، أو يقف بنا ـ كما تسجل حروف عبارته ـ " عند الخطوط الأربعة التي رسمها تاريخ اللغة " (5).
فأما المرحلة الأولى فيدور الجـدل فيهـا بيـــن أصحــاب النظـرة ( التوقيفية ) القائلين بأن الأسماء وضعتها قوة إلهية ، وأن معرفة الاسم تقود إلى معرفة المسمى ، وبين أصحاب النظرة ( التواطئية ) القائلين بأن الأسماء يطلقها الناس على الأشياء بالاتفاق والتواضع عليها . ويجتهد أفلاطون في الجمع بين النظرتين والتوفيق بين الموقفين ، فهو يقبل بأن يكون هناك أمر إلهي في تسمية الأشياء بأسمائها على أن لا يزيد ذلك عن مستوى محاكاة أو مشابهة الأسماء لمسمياتها ، ثم يسلم بوجود جهد للإنسان في هذا الميدان ، ودليله على ذلك وجود الخطأ في لغة الإنسان بإمكان إطلاق الاسم الواحد على ضدين .
وقد سـاد الاعتـقاد عنـد المسيحييـن ـ في العصر الوسيط ـ بأن اللغة ( توقيفية ) استـنادا على ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم(6) . إلا أن القديس غريغوريوس يقف موقف أفلاطون من التوفيق بين التوقيفية والتواطئية .
ولكن المشرق الإسلامي في العصر ذاته يشهد تقدما باهرا على صعيد اللغة بإطلالة ذلك النور القرآني المتلألئ ، وسطوع شمس ذلك البيان الإلهي المعجز المتحدي المتمثل بنزول القرآن الكريم . ثم يقع الخلاف بين العلماء والفلاسفة المسلمين فينقسمون كما انقسم الفلاسفة الإغريق من قبل إلى توقيفيين وتواطئيين ، ويقوم مقام التوفيق بينهما فريق ثالث يرى إمكان الأمرين .
وبمحاولة النظر في رأي القائلين بالتوقيف نفهم أن الأسماء تدل بالضرورة على مسمياتها ، وأن المعاني مدركة بالألفاظ ، مسورة بأسوارها ، معقولة بعقلها ، وأن الألفاظ بطبيعتها تدل على معانيها ، ومعنى هذا أن فكر الإنسان صفحة مقروءة في كلامه ، وأن زئبقية المعاني أو مراوغتها واستعصاءها على اللغة أمر لا وجود له ، فالفكر واللفظ متطابقان .
وبالنظر إلى التواطئية نفهم العكس ، فالأشياء أصلا موجودة ، والحاجة تفرض أن توضع لها أسماء لتعرف بها ، وهكذا يتواضع الناس على تسميتها ، فما الألفاظ إلا أصوات تشير إلى المعاني وتدل عليها ، فاللغة بطبيعتها غير الفكر ، إنها واسطة إليه ، إنها مجرد أوعية جوفاء نملؤها من المعاني بما نشاء .
وأما المرحلة الثانية فيمضــي بنا قلم الكاتـب فيها إلـى القرن السابع عشر ، ويضعنا في ميدان الجدل حول اللغـة أمام سؤال هـو : " أبإمكان الألفاظ أن تدل تمام الدلالة على المعاني الداخلية أو إنها تقصر عن تعريف كل ما في الوجدان؟"(7).
وتبرز كل من ( التوقيفية ) و ( التواطئية ) مرة أخرى كفكرتين متضاربتين في ميدان الجدل ، بينما يقف البعض موقف الجمع ومحاولة التوفيق بينهما ، ويظل السؤال المذكور قائما . إلا أن نقلة عظيمة في تاريخ اللغة كانت قد حدثت في هذه المرحلة ، تلك هي التحول عن وجهة الجدل الفلسفي في معضلة اللغة إلى النظر في اللغة بما هي علم ينبغي أن يؤصل ويقعد ، ويجـري عليه ما يجري على سائر العلوم التـي تخضـع للمنهج الإحصـائي التجريبي . وقد جاء ذلـك على يدي ليبنتـز ( leibnitz ) الذي رفض التوقيفية والتواطئية واتجه إلى البحث الإحصائي المقارن .
أما في المرحلة الثالثة فقـد ظهـر الاتجاه العلمي في اللغـة ، وتوجـه العلمـاء إلـى دراستهـا من جهات ثلاث : الصوت ( Phoneteque ) والشكل ( Morphologie ) والتركيـب ( Syntaxe ) . ويجتهـد هـذا الاتجـاه في دراسة كيفية النطق ، ويرمي إلى الوصول في النهاية إلى قواعد علمية ثابتة . ولكن الحقيقة القائلة بأن تطور اللغات مستمر لن تسمح للغة بأن تقف في مكان واحد وعلى هيئة واحدة منتظرة ما يسفر عنه جهد الأجيال المتعاقبة في هذا المضمار ، ولذلك فإن الوصول إلى قواعد ثابتة في هذا المجال أمر يشبه محاولة القبض على الماء .
وهنا ينقلنا الكاتب إلى المرحلة الرابعة ، ويعود بنا من جديد إلى القول بأن منشأ اللغة يظل معضلة قائمة . ويعرض لآراء بعض فلاسفة وأدباء القرن العشرين ، ويظهر لنا من خلال بحثه أن هناك صراعا قائما بين الفكر والكلمة في نفس الأديب ، وأن الأديب يلقي بكل ثقله في هذا الصراع ليحيط بأطراف المعنى ، ويسجل دقائقه بالحروف ، ولكنه كثيرا ما يعجز عن ذلك .
الفصل الثاني :
يتجـه الكاتـب في هذا الفصـل إلـى تأكيـد مقولـة أن اللغـة والوجدان شيء واحـد ، ويجتهـد في توضيـح دلالات اللغـة والوجدان والمعنى . ويخلص إلى بيان أن اللغة لا يمكن أن تكون مجرد أصوات تنطلق بحركة اللسان أو قرع الشفتيــن ، بل لا بد أن يكـون لتلك الأصوات ارتباط ـ أصلا ـ بالمعنى ، ولا بد أن تكون دالة إلى معان ، وإلا فإن إحداث أصوات من غير إفادة معنى لا يمكن أن يسمى لغة ، إنما هو لغو عابث لا أكثر . فغاية اللغة إذن إفادة المعنى ، وحركة اللسان الذي هو أداة النطق الأولى والأهم معناها تحـول المعنى إلى كلام ، فاللغة إذن أداء لساني يفصح عن وجوه المعاني .
أما الوجدان فإنه كيان معنوي شعوري يقيم في ذواتنا ويسكن في أعماقنا ، إنه مجموع الحس والوعي والعقل والإرادة الكامن في غور النفس ، إنه صورة فردية خاصة لغريزة الاجتماع التي فطر عليها الإنسـان ، وهذا يؤكد وجود ثنائية شخصية في ذات الإنسـان وتكوينه تجعل من الطبيعي أن يقوم الحوار بين طرفيها ، إنها صورة تؤكد الميل الفطري في الإنسان للحياة الجماعية ، فالإنسان كائن اجتماعي في عمق ذاته وغور نفسه ، من هنا ، من هذا المستوى الداخلي العميق ، تنبعث اللغة حاملة فكر الإنسان إلى الخارج ، عاكسة صورة نفسه على الحياة .
أما المعنى ، فهو الشيء المقصود ، من ( عنـى الشـيء ) أي : قصده ، والمعاني في الإنسان تكون في منطقة اللاوعي ، وهي ما دامت هناك فإنها تظل مبهمة كما الغرائز ، ولكن تحولها إلى المفهوم والمعقول يكون بانتقالها من اللاوعي إلى الوعي الـذي هو ( الوجدان ) ، حينئذ تصبح ( صورا ذهنية واضحة ) ، فكأن تدرج الكاتب في بيان دلالات المعنى والوجدان واللغة يوحي بأن اللغة كائن حي يعيش دهرا في رحم اللاوعي ، ثم يولد في الوجدان ، فيصفو لونه من كدر الغموض ، ثم يطل على الحياة كائنا سويا تتجسد فيه ذات الإنسان ويتمثل فيه وجوده الاجتماعي .
فما دامت اللغة كذلك فهي إذن كائن واحد ، آخره امتداد لأوله . فلا يمكن والحالة هذه أن نفصل بين المعنى والوجدان واللغة ؛ فنعد اللغة مجرد مظهر خارجي لمخزون الإنسان الداخلي . فلا يصح إذن قول القائلين بأن اللغة واسطة أو وسيلة تحمل المعاني ، وأن القيمة هي للمعنى أولا ، أما اللغة فلا قيمة لها إلا بمقدار ما تنجح في توصيل هذه المعاني إلى جو العلاقات الإنسانية . بل الصحيح أن اللغة هي الوجدان نفسه ، هي المعاني التي تولدت في أغوار الذهن ، وهذا يعني أن اللغة تعكس الفكر تماما ، فغموضها ليس عيبا في الألفاظ ، وإنما هو غموض في الفكر نفسه .
بيد أن أكثر متهمي اللغة بالقصور عن الوفاء بحق الوجدان ؛ هم من فرسان الكلمة المنثورة والمنظومة ، هم الأدباء والشعراء ، ولعل السبب في موقفهم هذا أنهم يغوصون إلى أعماق الفكر وأغوار الوجدان ؛ فتبهرهم لآلئ القاع فيلتقطونها ، ويحاولون الصعود إلى السطح فيعييهم ثقلها ، فلا يزال واحدهم يصعد إلينا في عناء ومشقة ؛ حتى يصل وليس معه منها إلا القليل النادر ، وهنا يرمي اللغة بالقصور والعجز عن القيام بحمل الوجدان والوفاء بحقه . والسبب أنهم اعتقدوا أن اللغة من طينة غير طينة الفكر والوجدان ، وأنها مجرد قوالب لفظية ؛ مجرد ملابس خارجية تكتسي بها المعاني ، إنها ـ في نظرهم ـ مجرد وسيلة .
والأمر في حقيقته غير ذلك ، فليس العجز في الألفاظ المجردة ، بل إن المسؤول عن هذا الأمر هو غنى الوجدان وتنوعه الهائل ؛ إنه اختلاط الألوان وتعددها ، إنه غزارة الموفور الوجداني الإنساني وتماوج خطوطه ، الأمر الذي لابد أن ينعكس على صفحة اللغة وينطبع على جبين الكلمات .
إن الحيرة التي تقرؤها في لغة الشاعر ، وتطالعك في صياغة الأديب ، لهي الحيرة التي تملكت كلا منهما تحت سماء الوجدان المدهشة الألوان . فاللغة إذن وجدان ناطق ، والوجدان لغة صامتة . من هنا يتأكد لنا أن اللغة غاية لا واسطة .
الفصل الثالث :
يلغي الكاتب العلاقة التي يتوهم وجودها بين اللغة الأم والعرق ، أو بينها وبين الوراثة ، فليس لزاما أن تكون اللغة الأم هي التي يأخذها الإنسان من أبويه ، أو من بني جنسه أو عرقه ، إنها تتجاوز هذا المعنى المادي . إن اللغة الأم هي التي يأخذها الإنسان بالمعايشة القائمة على التجربة والملاحظة والعفوية ، إنها اللغة التي يستطيع أن يعبر من خلالها عن أي شيء بعفوية ، ثم إنها اللغة التي يستطيع أن يرتقي في استعمالها , ويرتفع عن مستوى قضاء الحوائج المادية إلى مستوى التعبير عن الوجدان الإنساني في الذات .
لذلك فإن اللغة الأم هي التي يخلد ذكر العباقرة من خلالها , وليس غيرها من اللغات التي قد يجيدونها ، إنها اللغة التي يمتزج ذكر عباقرتها بالتاريخ فيستمر باستمراره ويبقى ببقائه .
ولذلك كان من اللازم على كل أمة أن تجتهد في حماية أبنائها في مراحل التعليم الأولى؛ التي يكتسبون خلالها لغتهم الأم ولسان قوميتهم ، حتى تحميهم من خطر تنازع لغتين مختلفتين في ذواتهم ، فاللغة الأم هي التي يخلد بها تاريخ هذه الأمة وأدبها وحضارتها بشكل عام .
يقول الكاتب في الصفحة 140 " من أجل هذا كان عظيما جدا ، خطأ الذين يفرضون لغة أجنبية كأداة للتدريس على التلميذ ، دون العاشرة .. لكأننا بهم يفرضون عليه أن يعيش غير تاريخه .. أن ينتسب إلى أجداد غير أجداده " ، ويقول في الصفحة 149 " يبين لنا الآن الخطأ التربوي الذي نرتكبه عندما ننيخ الأولاد باكرا لتعلم اللغات الأجنبية " .
إن اللغة الأم في الأمة هي عنصر أساس من عناصر وحدتها ، وركيزة مهمة من ركائز قوتها ، فالأمة القوية تعتني بلغتها فتجعلها لغة الطبقات جميعا ، تجعلها لغة العلم ولغة الأدب ، لغة العقل ولغة القلب . أما أن تقبل بلغة أخرى أجنبية إلى جانب لغتها الأم تنازعها لسان أبنائها ، وميادين الحياة الأدبية والعلمية فيها ، فذلك دليل ضعف وشاهد عجز .
بين الفصحى والعامية :
أما قضية العامية والفصحى فلا يرى الكاتب أن وجودهما مجتمعتين يشكل خطرا على اللغة ، وإنما هو أمر طبيعي تستلزمه الطبقية الاجتماعية ، ولكن الازدواجية الخطرة هي في وجود لغة قومية منافسة غير اللغة الأم ، مختلفة عنها تماما ، كأن تكون لغة المستعمر الذي يجتهد في إقحامها على حياة الشعوب التي غلبها ؛ وذلك لإحكام سيطرته عليها وتكريس تبعيتها له .
إن ارتباط اللغة الأم بكيان الأمة هو ارتباط عضوي متين ، ففي ظروف سيادة الأمة تسود اللغة الأم ، وحين تتراجع الأمة أمام قوة المستعمر تنكص اللغة على عقبيها ، ويصبح تأثرها أكبر من تأثيرها . وحينما يستطيع المستعمر أن يقصي اللغة عن واقع الحياة ، ويفرض لغته القومية على حياة الشعب المقهور ، فإنه يضمن تبعيته الطويلة الأمد . من هنا كان لزاما على الأمة العربية أن لا تترك بابا لتمكين لغتها إلا طرقته ، وخاصة في مجالات التعليم المدرسي والجامعي ، لأن اللغة الواحدة دعامة من دعائم قوة الأمة ووحدتها .
إذا كانت اللغة هي الوجدان ، وإذا كان الوجدان هو ذات الإنسان الواعية ، وقيمه الأصيلة ، فإن اللغة هي وجود إنساني متجسد في حياة مجتمعية راقية ، إنها سلاح عظيم الخطر في الصراع العقدي والحضاري ، فإما أن يأكله الصدأ بالإغفال والإهمال ، وإما أن تصمد الأمة به في وجه التحدي فتصعد في مدارج العزة والكمال .
الفصل الرابع : ازدواجية اللغة :
يدور الحديث في هذا الفصل على قضية الخلاف بين دعاة العامية ودعاة الفصحى ، والمعروف أن دعاة العامية ينادون بترك الفصحى واتخاذ العامية لغة بديلة عنها ، بينما يرى دعاة الفصحى أن اللهجات العامية خطر على اللغة الفصحى ، وأنها تضعف ارتباطنا بها ؛ وذلك يعني ضعف ارتباطنا بتاريخنا وموروثـنا الديني والأدبي والعلمي . ويستند دعاة العامية إلى حجج منها صعوبة تعلم قواعد اللغة العربية وعسر متناولها .
ويؤكد الكاتب أن ثنائية اللغة ـ الفصحى والعامية ـ هي ظاهرة طبيعية في كل اللغات العريقة المتطورة ، وهي انعكاس لثنائية الفكر الإنساني . إن العامية لا يمكن أن تحل محل الفصحى وهي لا تشكل خطرا عليها ، إن لكل واحدة منهما مجالها الخاص بها ، فمجال العامية هو ميدان الحياة العامة ، والعلاقات الاجتماعية العادية التي يكفي فيها الرمز والإشارة والكلمة المباشرة السريعة ، ولا تتحمل وطأة المنطق وقواعد النحو وأساليب البلاغة . أما مجال الفصحى فهو التعبير عن المعاني الأبعد والعلاقات الأدق ، إنه مجال التعبير عن الآداب والعلوم والفنون ، إنه مجـال التعبير عن ذهن الإنسان ووجدانه في أرقى مستوياته . العامية هي لغة الانفعال والحس في المستوى العادي البسيط ، والفصحى هي لغة العقل والمنطلق ، وهي لغة الانفعال والحس ولكن في المستوى الأعلى والأعمق . والعامية والفصحى لهما وجود في ذات الإنسان ؛ لأن كلا منهما تعكس تفكيرا داخليا في مرحلة معينة ، إن وجودهما يعني وجود فكر عامي وفكر فصيح .
بيد أن اللغة الفصحى بحاجة إلى تيسير تقديمها لطلبة العلم ، وتطوير أساليب عرضها عليهم ؛ حتى يسهل فهم قواعدها ويتمكن الطالب من استعمالها بكفاءة .
ويرد الكاتب على من يتهم اللغة العربية بأنها عقبة في طريق تقدم العرب ، ويؤكد أن التقدم ما كان ليتم لأمة في معزل عن لغتها الأم ، إنما العرب هم العقبة في طريق تقدم لغتهم ، وتطورها الذي يعني بالضرورة تقدمهم وتطورهم .
العربية والمصطلح العلمي :
وأما عن قضية اللغة العربية والمصطلح العلمي الأجنبي فإن الكاتب يبين لنا أن ما تعنيه العربية من قصور في هذا المجال ليس ناشئا عن عجز في ذاتها وإمكاناتها وإنما هو بسبب الحصار الذي يضربه حولهــا المتزمتـون والمتشددون الذين وقفوا مهمة نقل المصطلحات العلمية الأجنبية على المجامع اللغوية العربية . ويرى الكاتب أن العربية لغة قادرة على مجاراة اللغات العالمية الأخرى في مجال العلم ، وهي قادرة على استيعاب كل المصطلحات العلمية الجديدة شريطة أن يعمد أهلها إلى الترجمة فينقلوا كل العلوم إليها حتى تكون هي لغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات العربية .
مآخذ لا تُـفَـوّت :
وبعد ، فإن القارئ المسلـم يأخذ علـى الكاتـب ما يأخذه علـى كثيـر من الكتاب العرب ، الذين تأثروا بالغرب ؛ فظهر ذلك الأثر ضعفا في عقيدتهم ، وانحرافا في تصورهم الديني . وإنك لتقرأ ذلك في عبـارات مثل ( مشيئة الطبيعة ) و ( منحتـنا الطبيعة ) . غير أن هذا المأخذ يتحول في خاتمة الكتاب إلى ذنب كبير ؛ حيث يقول كمال يوسف الحاج في معرض مدحه الحضارة الغربيـة : " وقعدت المجتمع على أساس الإيجاب فجعلت الدين علاقة خاصة بين الله والإنسان . تلك الحضـارة هي التي أنجبت ديكارت وسبينوزا وكانت وهيجـل وماركس وبرغسون ، هي التي علمنت ( الله ) فأدركنا قوة الأرض ، و ( ألهنت ) العلم فأدركنا صحة السماء " .
فبأي ميزان يوزن هذا الإعجاب بهذه الحضارة ؛ التي امتدت ذراعها حتى جاوزت القمر ؛ ولكنها أفلست على صعيد بناء الإنسان ، وأخفقت في تلبية حاجاته الوجدانية ، وعجزت عن ملء فراغ قلبه ، وإرواء ظمإ روحه .
ورغم أن كمال الحاج يؤكد انتماءه لتاريخ أمته ولغتها بعد ذلك ؛ إذ يقول في الصفحة 292 : " إن حضارة الغرب لا تجدي نفعا ، إذا كانت لا تتساوق مع ضوابطنا التاريخية ، التي كتب علينا أن نكونها أصلا . واللغة العربية هي من جملة ضوابطنا التاريخية ، التي ينبغي لنا أن نقدسها حتى نزاول القيم العالية ، بصدق وأمانة " ؛ إلا أن الانتماء إلى التاريخ واللغة لا يكفي ـ في غياب العقيدة الصحيحة والشريعة السمحة ـ لتعبيد الخلق لله تعالى ، وسياسة الحياة على هدي أحكام الشريعة ، وصياغة المستقبل وفق تصور الإسلام ورؤيته للكون والإنسان والحياة ، إلا إذا كان كمال الحاج يعد الإسلام أحد تلك الضوابط التاريخية ، والصواب أن الإسلام هو الذي يحدد تلك الضوابط ويدفعها إلى الفاعلية .
حضارة الإفـلاس :
لقد ولى زمن الانبهار بالحضارة الغربية التي حكم عليها بعض فلاسفة ومفكري الغرب أنفسهم بالفشل . إن مثل الحضـارة الغربيـة كمثل القمر الذي يدو حول الأرض ، ويستقبل نورها المنعكس عليه من الشمـس ؛ أحـد وجهيه ينعم بالنور ، ووجهه الآخر يغـرق فـي ظـلام دامـس . فالوجه العلمـي المادي لهذه الحضارة مشرق ، وأما وجهها الإنساني فحالك مظلم . إنها حضارة مادية بحتة ، كل شيء يتقدم فيها على حساب الإنسان .
إن جامعات الغرب الأكاديمية ، ومختبراته العلمية ، ومصانعه الذرية ، عاجزة عن تقديم الغذاء الروحي اللازم والضروري للإنسان ، لأنها تبذل وسعها كله في إطار ما هو محسوس ، وخاضع لنواميس هذا الكون المخلوق ، أما الغذاء المطلوب لروح الإنسان وقلبه ، فإن مزاجه مصنوع بيد ربانية ، وشرابه ممزوج بحكمة إلهية ، يجد الإنسان زاده منه في القرآن الكريم ، وفي السنة النبوية الشريفة المطهرة .
إن موقف الحضارة العلمية من الكنيسة النصرانية ـ في زمن كانت فيه تلك الحضارة تعاني مخاضها العسير ـ ينبغي أن يتعاكس تماما مع موقفها من الإسلام ؛ الإسلام الذي جعل من الأمة الأمية البدوية رائدة حضارة إنسانية وعلمية عريقة في التاريخ .
ونحن المسلمين لا يمكن أن نَخضَع ، ولا أن نُخضِـع ديننا ، لمقولات الحضارة الغربية التي أطلقتها في وجه الدين عامة ، ولا أن نقبل بحكمها الذي حكمت به عليه ، ذلك أن كل ما في الأديان من خير يمكن أن تفيد منه البشرية ؛ فهو موجود في الإسلام ، وكل ما في الأديان الأخرى من شر يمكن أن يضر بالبشرية ؛ فالإسلام منه براء .
الهوامش
( 1) و ( 2 ) المعجم الوسيط ج2 ، مادة : فلسف .
(3) في قلسفة اللغة ، ط2 ، ص 10 .
( 4 ) المصدر السابق نفسه ص 10 .
انظر ص 17 في فلسفة اللغة ، كمال يوسف الحاج .
(6) انظر ص 19 و 20 من المصدر السابق .
(7) المصدر السابقة نفسه ص 23 .