الإنباء عن ديوان أشواق الغرباء
الإنباء عن ديوان أشواق الغرباء
|
للشاعر الدكتور محمد وليد |
نقد: خالد بن محمد النعمان/المدينة المنورة
أيها الإخوة الكرام.
يطيب لي أن أشكر لكم مقدماً حضوركم. وإصغاءكم إلى ما سوف أسامركم به في هذه الليلة السعيدة. بعنوان (الإنباء عن ديوان أشواق الغرباء) وإن كان حديثي في الواقع ليس دراسة نقدية تبحر في محيط البحث والتمحيص، وإنما هي قراءة متأنية. وملاحظات وانطباعات شخصية. أحببت أن أنقلها إليكم، وأسامركم بها في هذه الليلة الطيبة بين ردهات منتدانا العامر هذا. فأقول:
صافحته عيني على إحدى رفوف المكتبات الثقافية في جدة. جذبني نحوه عنوانه المشوق (أشواق الغرباء) فوجدتُ نفسي مشتاقة إليه فذهبتُ أقلب غلافه الخلفي أستطلع سعره المادي. انطلاقاً من عقدة عقدتها في نفوس كثير من القراء بعض دور ومكتبات الطباعة والنشر. وهي المبالغة في زيادة أسعار الكتب. فوجدت أن سعره ستة ريالات. أمعنت النظر مرة أخرى أتأكد مما أقرأ. ديوان شعر عربي مقفى موزون بستة ريالات. لا أكاد أصدق هذا في وقتنا الحاضر وفي بلدنا بالذات. ولكن ما علينا (على طريقة بعض كبار الكتاب لدينا) واستحضرتُ ما جاء في الأثر (أقلهن مهراً أكثرهن بركة) سهرتُ معه ليلتين كاملتين. أتنقل بين رياضه الغناء. وفنونه الوارفة. وأريجه الفواح. يشدني إليه كلما استرخيتُ حبلٌ من نسب الغرباء (إذ لم أحظ بمعرفة الشاعر، ولا أدري من أي قطر هو) ولكنه شعورٌ يوحي بأن الغربة ليست قطعاً في فراق الأهل والوطن والاغتراب الجسماني فقط، وإنما هي غربة من نوع آخر يعرفها الغرباء أنفسهم. يحسّون بها في أرواحهم، يمتطون صهوتَها، أو بالأصح، امتطت هي صهوتهم، فغادرتْ بهم الواقع دون أن يغادروا هم المكان والزمان. وما أشد أن يحس ذو الشعور المرهف بهذا الإحساس. ولا أبالغ إذا ما قلت: إن لكلمة الغرباء جرساً يطرق نواقيس القلوب، ولا سيما الشاعرية منها. فيتّقد نبضها المتدفق بشعور الغربة. ولا أخال امرأ القيس إلا وقد عايش الغربتين معاً، حينما راح يخاطب عسيباً قائلاً:
(وكل غريب للغريب نسيب)
وكذلك شاعرنا الدكتور محمد وليد. قد حمل إلينا أشواق الغرباء في ديوانه هذا، معبراً عنها في مجالات ثلاث وأخرى رابعة. غربة الإسلام، وغربة الأوطان، وغربة الأهل والأولاد. ثمّ غربة أخرى رابعة أشار إليها الشاعر تلميحاً، ولم يتسن له البوحُ بها تصريحاً؛ لأنها مشاعر عاطفية.
وقصائده: نيسان في دمّر – ودرّ – والرابطة - وطير الأشواق – ونجمة وقمر- وقصة قلب.. قد يأتين لنا بالخبر اليقين. فالسابرُ في أغوار البئر الجموم، لا يعود إلا وقد اغترف ما عرف.
وذهب الشاعر مذاهب متعددة، وطرق أغراضاً مختلفة، شأنه كشأن أي شاعر عايش حياته ومجتمعه بكل خصوصياته وعمومياته. فتفاعل مع من وما حوله. انطلاقاً من سمات الشعر العربي الأصيل الذي هو بحق ديوان العرب يشمل ذكر أحداثهم ووقائعهم وواقعهم، وينبض بأحاسيسهم ومشاعرهم. وديوان شاعرنا هذا جزء منه. فنظرة إلى فهرسه تنبئنا بمواضيع مختلفة تجاوزت ستاً وأربعين قصيدة. قد تشترك أكثر من قصيدة في موضوع واحد.
وقبل أن أحدثكم عن تفاصيل مضمون الديوان، أود أن أشير إلى شكله الخارجي. فقد رُسم على صفحة غلافه الأيمن منظر هو في حد ذاته قصيدةٌ صامته تُوحي بالرحيل والغربة. أشجار تسبح في كثبان من الرمال الزرقاء عصفتْ بها رياح هوجاء فتناثرتْ أوراقها في الساحة على أبعاد مختلفة، امتدت في أفق المنظر البعيد حمرة انتهى مد البصر فيها إلى ما يشبه الشفق، عندما يملأ الأفق بعد غروب الشمس واختفائها. فاللوحة بذاتها كما أسلفت قصيدة صامتة موحية بالفرقة والتناثر، والرحيل، ثم الغروب.
افتتح الشاعر ديوانه، بعد المقدمة، بقصيدة (يا رب) التي أشارت إلى تأمله في آيات الله، واستلهامه منه الهدى والرشاد. وذكر حقائق لو فكر فيها الكفار الضالون لعادوا هداة مهتدين. ألا وهي كيفية خلقهم وما حولهم في الكون من نجوم وجبال وبحار ولآلئ ونباتات وغيرها. فقال:
كم ذا يماري المُدّعون ويجحد المتنكرون
لكنهم، لو يعلمون، عن الحقيقة غافلون
لو فكروا في خلقهم يوماً لعادوا مهتدين
تلك الطبيعةُ حسنُها يختال في بُرْد الفتون
تلك النجومُ الزاهرات جمالها يَسبي العيون
ولا عجب من ذلك فرسوخ قدم الشاعر الدينية، وثقافته الإسلامية، جعلتاه يقيم الحجة الإلهية على الكفار. ويكرر ما طلبه منهم القرآن الكريم في قوله تعالى:
)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السماء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت؟ وإلى الأرض كيف سطحت(
إلى آخر ما جاء بهذا الخصوص في القرآن الكريم.
وقد حكمت الضرورة الشعرية على الشاعر فجعلته يقول (ويجحد المتنكرون) بدلاً من (ويجحد المنكرون). ولا يخفى ما بين المعنيين من فارق فالمنكرُ غير المتنكر.
ويقدم لقصيدته (غرباء) بالحديث النبوي الشريف:
(بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء)
ويستفتحها بقوله:
سلوا فؤادي فقلبي اليوم حيران قد مسَّه بعدكم همٌّ وأحزان
براه طول الجوى مـما ألمَّ به فليس يطربه شعر وألحان
ولولا خشية الإطالة لوقفنا في مرسى هذين البيتين طويلاً قبل أن نُبحر إلى ما عداهما. لما فيهما من الأحاسيس الوجدانية التي تلامس الأفئدة المرهفة، وكعادة الشعراء حتى وهم في أحلك نوائب الدهر، لا تغيب عن أعينهم رؤية الظباء. ولا عن أذهانهم مخاطبتها. فحضورها لديهم تجلبه النفس الشاعرية ولكن إن أشاح عنها شاعرنا ولم يخاطبها في هذه المرة، فليس ذلك عن قلى، ولكنه انصراف إلى مَنْ هم أهمّ لديه منها، وأغلى مكانة. دعونا نصغي إليه وهو يقول:
لا تعتبي يا ظباء الغيد نحن لنا هـم الأحـبة إن الدهر فرقنا |
مـن بين أهلك أحباب وما لنا مع طول الدهر سلوان | وخلان
ولئن حكمت الأقدار وهي ذات اليد الطولى في حياة البشر لا محيد عنها ولا مفر فعاش الغريب بعيداً عمن يحب فإن قلبه يظل متعلقاً لم ينأ عنهم بل يزداد قرباً والتصاقاًً. وهذا إن صح لنا أن نسميه فهو الترابط الروحي أو العاطفي يشدّ وثاقه، فيشكل حلقات وصل يتشابك بعضها ببعض، فيوصل أدناها إلى أقصاها دون أن يحصل انفصام في الوشيجة. أو يحول البعدُ الجغرافي بينهما. وهذا ما عناه شاعرنا بقوله:
القلب يحيا مع الأحباب في رغد وإن تناءت عن الأحباب أوطان
والذكرى تؤرق المحب إذا ما فتئ طيفها يثب أمام ناظريه. وقد سكن مخيلته ولم يزده مر الجديدين إلا تألقاً وتأكيداً. وكيف لها أن تمحى من الذاكرة وزند مثيلاتها يقدح الشرر في النفس، فيبعث ما كمن تحت الرماد، فيستعر وله أوار لا تواريه الأستار. لنصغ إلى الشاعر وهو يقول:
إنـا لـنـذكركم في كل مشرقة ما البدر حين ينير الكون مؤتلقاً يـوماً بأطيب عَرفاً من مودتنا |
وكـل زاهـرة بـالبشر والروض يبسم بالأزهار فينان ولا بأسنى. ووحي القلب برهان | تزدان
وإذا كان هناك تقديم وتأخير في التشبيه. حيث ذكر البدر والروض ثم ذكر العرف والسنى. فذلك في رأيي لضرورة الشعر. إذ كان من المستحسن أن يذكر البدر والروض. ثم السنى والعرف، لتتبع الصفة الأولى الموصوف الأول. والثانية الموصوف الثاني.
وتكبر المحبة وتعظم وتأخذ صفة الديمومة والبقاء أطول من غيرها، إذا كانت صلتها متصلة بالله وفي الله، فما كان له دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل. والشاعر يجسد لنا هذه الحقيقة بقوله:
صوتٌ من الله والإسلامُ يجمعنا أكرمْ بجامعنا: ربٌّ وقرآن
ثم يصدح بين الغرباء منادياً ومؤكداً ومؤازراً ومشجعاً على التواصل فيقول:
يـا مـعشر الغرباء الصّيد إن طوبى لكم غربة في دار هجرتكم هذي سفين الورى تاهت وليس لها أنتم لها يا جنود الحق فاصطبروا |
لكمفـي كـل مـعركة سيف طـوبـى لكم دعوة روح وريحان فـي لـجـة الكفر والإلحاد ربّان مـا ضـاع حـق له جند وأعوان | وميدان
والدعوة إلى الحق والجهاد في سبيل الله لم يكن السبيل إليها يوماً ما ممهداً ومفروشاً بالورود، سليماً من الأشواك والأذى. فلا يروعنّ المجاهد ما يلقى، أو يسكنهُ اليأس ويمتلكه القنوط، فالأمر أعظم من ذلك. والحق يُفدى بالأبدان والأرواح لذا فإن الشاعر يُهيب بالدعاة فيقول:
وإن تساقطت الأبدان ولـلغريب إذا بانت مرابعه لـكـنـنا غرباء ضَمَّنا أمل |
هامدةفـالحق تفديه أرواح وَجْدٌ يطوف به الدنيا وتحنان بـأنّ مستقبل الإسلام ريّان | وأبدان
ويضيف متفائلاً:
إني لألمح في الأفق البعيد سنى ركبُ الدعاة مشى يحميه بارئه |
تحدو به في طريق الله ولـيس يُخضعه جَوْرٌ وطغيان | ركبان
ويختم الشاعر هذه القصيدة بقوله مخاطباً أخا الإسلام بعد أن يُحيّيه:
أنت الخليفة في هذا الثرى أبداً فعمّر الأرض بالإيمان تزدان
حقاً لن تعمر الأرضُ إلا بالإيمان. ويذكّرنا هذا بقول الشاعر محمد إقبال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يُحْي دينا
* * *
رمضان زائرٌ خفيفُ الظل. محببٌّ إلى النفوس المؤمنة. تفرح بلقائه، وتحزن لفراقه. قال فيه الشعراء الكثير. وأوحى إليهم بالكثير. لمقْدَمه كما قال شاعرنا الكبير محمد حسن فقي (هماهمُ نشوةٍ) تشرئبُّ لرؤية هلاله الأعناق. وتسعد بلقائه الأرواح. وتسعد بالاستعداد للقيام بواجباته الأجسام. يكفيه شرفاً أنه شهر القرآن. شهر المثوبة والغفران. للمسلمين فيه عادات حميدة، وتقاليد محمودة. يلتئم فيه شمل الأسرة، يتوافد أفرادها من كل مكان لقضاء أيامه معاً. فهيّا بنا نسمع ما قاله الشاعر الغريب محمد وليد في هذا الصدد:
رمضان يا روحاً يحلّ على الورى وإذا الـمـساجد روضة من جنّة |
فـإذا الـدُّنـى بـرُوائـها تزدان وإذا الـنـفـوس يهزّها الإيمان |
وقبل ذلك يقول، حينما قدم رمضان وهو بعيد عن أهله ووطنه:
رمـضان جئت تزروني في رمضان كيف تركت أهلي في الحمى |
غربتييـا مـرحـبـاً بـك إنـني كـيـف الـصحاب هناك والإخوان | جذلان
ويقول بعد ذلك مكرراً القول. والتكرار كما نعلم يفيد التأكيد:
رمضان أقبلَ والديار أين الأحبّة في لقاهم يهتدي |
بعيدةخلف البحار الأهلُ والخلان قـلبي ويغمره سنى وأمان |
وعندما يكون الإنسان في الغربة يزداد شوقه إلى أهله ووطنه وإخوانه ويتبادر إلى ذهنه شك في أنهم نسوه أو تناسوه، في حين أنهم قد يكونون أكثر منه تذكراً، وأشدّ اشتياقاً والتياعاً. ولكنه شعور ذاتي ينبعث من شدة الحب. وما أكثر ما ينتاب الشعراء من الخوف العاطفي، لأنهم يحملون أفئدة رقيقة لا تتحمل الهجر والنسيان. وهذا ما يؤكده شاعرنا بقوله:
يا إخوتي هل تذكرون مودتي بالله لا يُنسيكم الشيطان
ولا يقف عند هذا الحد من التساؤل والرجاء، بل يطلب منهم أن يتذكروه دائماً وأبداً بدون انقطاع. ويذهب يشير إلى مستمرات في الحياة لازمة الديمومة ما دامت السموات والأرض، يطلب من إخوته أن يتذكروه كلما كانت. وهل هناك أدوَمُ وأبقى من الأذان والإقامة والصلاة والسجود وتلاوة القرآن.؟ إنها باقية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وقائمةٌ بدون انقطاع. ولئن قال قائل: إن للأذان والصلاة والسجود وتلاوة القرآن أوقاتاً مخصوصة ثم لا بد أن تنقطع، فتنقطع الذكرى بحدوث الفواصل بين تلك الأوقات، فإننا نقول مؤيدين ما ذهب إليه الشاعر، من أن الأذان والصلاة والسجود وتلاوة القرآن لا تنقطع على مرّ الدقائق والثواني من على وجه البسيطة، ففي كل ثانية أو أقل يرتفع أذان، وتقام صلاة على وجه الكرة الأرضية، ذلك لأن دوران الأرض، وتعيين أوقات الصلاة لكل بلد أو كل شبر من الأرض لا يُحْدث انفصالاً بين استمرارية الأذان والصلاة. بل يُحدث ترابطاً وتواصلاً، ففي كل لحظة من لحظات الزمن، يرفع أذان وتقام صلاة. ناهيك عن البلد الواحد من بلدان المسلمين المزدحم بالسكان، فلا يستبعد المرء وجود من يقيم صلاة نافلة، أو يتلو قرآناً خلال ساعات يومه ودقائقه. فعمق المفهوم الإسلامي لدى الشاعر أوحى إليه بهذا التصور المستقيم إذ يقول:
يـا إخوتي فلتذكروني وهفتْ قلوب للصلاة يؤمّها ولتذكروني كلما سجد الورى |
كلماأسرى إلى كبد السماء حبٌّ ويغمرها هدى وحنان عـند الصباح ورُتّل القرآن | أذان
وأكثر ما يتجسد هذا المعنى لدى أولئك الذين تربط بينهم هذه الأواصر القوية، فأصبح يتذكر بعضهم بعضاً عند حلولها. وأكرم بصحاب يلتئم شملهم على ذكر الله، ومائدة القرآن. وهل هناك وشائج محبة تبقى وتستمر حتى في الآخرة، أوثق من عُرى وشائج التقوى التي قال عنها الله سبحانه وتعالى:
)الأخلاء بعضهم لبعض يومئذ عدو إلا المتقين(.
* * *
التقدمية والرجعية دعوى أحسبها بدأت تنحسر في هذه الأيام، بعد أن كانت لها شنشنة وطنطنة، لا سيما في عالمنا العربي في وقت مضى. ولئن كان تصوري هذا هو حسنُ ظنّ مني، وأنها لم تزل قائمة على سوقها، فإن التاريخ قد سجل الفوارق بينهما نثراً وشعراً. وأكاد أجزم أن الفجر قد بزغ واتضحت الرؤية لكل ذي بصر وبصيرة. ولا مجال لمدع يقلب الحق باطلاً، والنور ظلاماً. وعلى أية حال، وسواء أصاب حدسي أم لم يصب فلنصغِ إلى الشاعر وهو يقول:
يـرموننا سفهاً أنْ في لو كان يعلم ما الإسلام قائلهم قـالوا: التقدم. قلنا: دين أمتنا |
تمسكنابالدين رجعيةٌ يا سُخف لـمـا رأيـتَهمو للدين قالينا قالوا: العدالة قلنا: وحي بارينا | رامينا
إلى أن يقول:
قرآننا حجةُ الهادي شريعتُنا منذا يدانيه إحكاماً وتبيينا
إلى أن يقول، وهذه أمنية كل مسلم صادق الانتماء:
أكرمْ بدستورنا أكرمْ بمنزله لا ساد غيرك يا قرآننا فينا
فنقول له على لسان الأمة الإسلامية: آمين
* * *
وينقلنا الحديث في هذا المضمار إلى حلقة جديدة من حلقات الديوان المتصل بعضها ببعض. فنقرأ قصيدةً بعنوان: (صحوة الإسلام) ولي ملاحظة على العنوان. فالإسلام صحو منذ بزوغ فجره، لم تنتبه غفوة من الغفوات. ولكن المسلمين هم أنفسهم الذين تهجع أعينهم في غفوات قد يقصر مداها وقد يطول. ثم يصحون منها. وإنني لأميل إلى أن يكون العنوان (صحوة المسلمين) وإن كان لا ينتابني شك في أن الشاعر قد عنى هذا. ولكنه سبْق قلم لم يقصده يقول في هذه القصيدة، بعد أن أشار في مقدمتها إلى أن هناك صحوة من غفوة، فتألق النور وانداحت الظلمة ودوى صوت الحق:
الله أكـبر دوّت في فـهذه صحوة الإسلام قائمة |
مرابعناكأنما هبَّ في الآفاق إعصار ودولـة الكفر بالكفار تنهار |
ومن البديهي أن يلقى كل أصحاب دعوة إسلامية من يقف أمامهم ويحاول النيل منهم. ولكنه الجهاد في سبيل الله يتطلب بذل الأعمار بعد بذل الأموال. وها ذا هو الشاعر يشحذ هممهم ويشد أزرهم فيقول:
يـا عصبة الحق هيّا للجهاد لـتـهن أنفسكم روح الجهاد فما |
فقدتـزاحمتْ في ركاب الله ضاعت سُدى في سبيل الله أعمار | أحرار
* * *
وحينما فرض التباينُ نفسه على الأمة الإسلامية وكان منهم من يدعي أنه مسلم وهو يفت في عضد الأمة ويشهر سلاحه ضد أخيه المسلم لأنه يملك السلطة والقوة وهو الذي أمام أعدائه جبان خوار ينطبق عليه قول القائل (أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة) فإن الشاعر يقول له:
على الأعادي حسام كَلَّ أما جرى منك دمع العين تذرفه |
مضربهُأما على الشعب فالصمصام بتار فـقد جرت بدماء الناس أنهار |
ويذهب الشاعر منوّها بالماضي ومذكّراً ذلك الغافل أن الظلم عاقبتهُ وخيمة وإن دوام السلطة من المحال فيقول:
إيوان كسرى عفت آثار دولته وغادر القصر أعوانٌ وأنصار
ويؤكد ذلك مرة أخرى بقوله:
الله أكـبـر إن الـظـلم هذا الذي وعد الرحمنُ عصبته وقـل لـمـن قام للإسلام يغلبه |
ينهارفي الشرق والغرب للإسلام إنْ تنصروا الله ينصركم ويختار إن كنت ريحاً فقد لاقاك إعصار | تيار
* * *
أيها الإخوة الأفاضل.
اسمحوا لي وأنا أسامركم في هذه الليلة الطيبة أن أنتقل بكم إلى نوع آخر من أنواع الأغراض التي تطرق إليها الديوان. فأقول: قلت فيما سبق: إن هناك رابطةً قويةً بين القصائد التالية (نيسان في دمر). و(درّ) و(انتظار) والرابطة و(نجمة وقمر). وقصة قلب. وطير الأشواق قد يأتين لنا بالخبر اليقين فالسابر في أغوار البئر الجموم لا يعود إلا وقد اغترف ما عرف. وإن كانت آبار بعض الشعراء أعمق من أن يصل إلى أغوارها باحثٌ مهما كان رشا دلوه طويلاً لما يكون بين ثنايا (طيّها) من رمزيات وتوريات ومعذرة منا للشاعر إن ذهب بنا الظن إلى بعض ذلك. فالشعراء دائماً متهمون وإن كان بعضهم بريئاً. يقول في قصيدة رابطة:
حـمامةَ الأيك في أرض الشآم ألـقـي الـسـلام عليهم إنّ حبّهمُ يـا ويـح قـلبيَ كم أضناه بُعْدُكمُ |
لنامـا بـيـن أهـلك أحباب وسمّار أضنى فؤادي وكم في الحب أسرار إن الـحـيـاة تـصاريف وأقدار |
ويقول في قصيدته قصة قلب:
كان قلبي هائماً في الأفُق الرحب كان قلبي هائماً يعدو على السفح الخضير كـان قـلـبي زهرةً باسمةً بين الزهور كـانـت الدنيا لقلبي فرحة العمر الغرير | الكبير
إلى أن يقول:
ذات يـوم مرّ بالسفح رسولُ واكـفـهـرّ الجو بالغيم وبالغمّ الكثير ودجـا الـليل لأنغام الصباح المستنير وذوى الـزهر كئيباً عند أقدام الصخور خاف قلبي وجرى يبكي أُويقات السرور | الزمهرير
وبعد أن يذكر لنا قصة طويلة عمرها أعوام إذ يقول:
ومضى عام وعام وفؤادي في الوعور
ينهي القصة بقوله:
وإذا قـلـبي مُضاءٌ بثُريّات يـقرأ القرآن في إشراقة الفجر المنير ورنـا قلبي طويلاً في خشوع وحبور وحمدتُ الله من أعماق قلبي وشعوري | السرور
ليس لنا هنا أن نضرب أكباد الإبل لمعرفة هل كانت تلك رحلة شك عقدي أتْبعها يقين أم رحلة ضياع عاطفي أتْبعها استقرار. فلو فعلنا ذلك لركبنا مركباً ليس باليسير. ما علينا نعود إلى قواعدنا وننطلق منها ثانية لنسمع ما قالت النجمة لأختها حيال غياب البدر:
قـالـت لأخرى مـاذا يـريد وما الذي إنـي أريـد عـتـابه أتـريـن أن أسعى له فـتـألقتْ بنتُ السنا قـالـت وخبثٌ ساحر أخـتـاه لا تخشيْ فإن أنا لا أظن البدر يصبر |
نجمةٌأخـتاه أين البدرُ يحلو له خلف السحاب أواه لـو نـفع العتاب فالقلب في جنبيّ ذاب وتبسمتْ خلف النقاب يـبدو بعينيها العذاب الـبـدر مفتونُ اللباب سـاعة بعد الغياب؟! | غاب
إلى أن تقول:
إن لم يعد من شوقه سيعود من فرط العذاب
لم تمض إلا ساعة حتى رأين البدر آب
في الواقع لا تعليق سوى أن الحب يفعل الأفاعيل.
* * *
أكثر من قصيدة تدور في فلك واحد. لا تثريب فالشعر رئة الشاعر وقلبه النابض. وقد نكون غير منصفين إذا ما ذهبنا نطلب من الشاعر التنفسَ بغير رئته والنبضَ بغير قلبه والقلب أصدق ما في الإنسان. قد يواري المرء بلسانه أو بتصرفاته أو حتى بعينه ولكن الذي لا يستطيع التحكم في مشاعره وأحاسيسه هو القلب إذ يُكنُّ الحقيقة كما هي ولذلك كانت من أعظم الأسرار مخفيات القلوب. وقد عذر الله من لم يستطع التحكم في ميل قلبه تجاه من فرض العدل المادي بينهن.
* * *
قصيدة انتظار قد تشعل لنا جزءاً من الضوء الأخضر لنتمكن من السير خلالها والربط بينها وبين ما ذكرنا من قصائد زعمنا أنها تسير في فلك واحد. وقد تكون هذه القصيدة أوضح رؤيا من غيرها إذ يقول فيها الشاعر:
الـطـير يبحث عن أليف بين جنات والـبحر أضناه الهوى فهواه مشبوب السعير والقلب يبحث عن حبيب صادق سامي الشعور أضناه طول السير ما بين المزالق والصخور | الزهور
إلى أن يقول:
والبدر غاب ليختلي بحبيبه خلف الأثير
ولو قال خلف الستور (والستور كما نعلم جمع ما يستتر به) لكان ألصق بالفعل (غاب) ثم إن الأثير عند علماء الطبيعة مادة تتخلل الأجسام وهي لا تحجب. ومن متطلبات الاختلاء الحجاب. ولا يخل ذلك بالوزن ولا القافية.
إلى أن يقول:
والبحر قد هدأ الوجيب بقلبه الجم الكبير
ولو أنه قال (بقلبه الصبّ الكبير) لكان في نظري أولى من كلمة (جم) التي تعني الكثرة ولا محل لذكر الكثرة هنا. أما كلمة الصب - وهي صفة للقلب العاشق - فهي توافق ما سبق في قوله (والبحر أضناه الهوى)
ويختتم هذه القصيدة بقوله:
لكن قلبي لم يزل في الدرب ما بين الوعور مـا زال يـبحث عن أليفته ويعيا بالمسير |
ولنا أن نقول هنا: يرحم الله الشعراء ما أكثر شكاواهم
أما قصيدة (الحقيقة) التي قال الشاعر فيها مجاوباً من قالت له (الزم حدودك قد تجاوزت الحدودا) تقول:
أغـريتَ قلبي بالهوى غضاً وسـألـتـه أن يستفيق من الهوى |
وليداوتـركـتـه في وجده فرداً وحيدا هيهات من عرف الصبابة أن يعودا |
إلى أن يقول:
لـكن روحي لن تكف عن وإذا قـضيتُ فلستُ أولَ عاشق |
الهوىوالقلب عن درب المحبة لن يحيدا أضناه فرط غرامه فقضى شهيدا |
ويطيب لي أن أهمس في آذان الشاعر بأن لا يستفتي أبا عبد الرحمن بن عقيل الظاهري (سلمت براجمه من الأوخاز) في مسألة الشهادة في الحب فإنه سوف يقول له (إن على شعر الصادقين ميسماً لشعورهم وحرقهم لا يتوسمه إلا مَنْ فدحتهم نوازع الهوى فبكوا في أعماقهم وقنّعوا رؤوسهم في جواشنهم بخنخنة. لا يرقأ دمعهم وأبو عبد الرحمن واحد منهم كتب الله لنا الشهادة إلا في الحب. لأننا لا نصدق أن أولئك شهداء. وإنما نقول كذب سويد وانخدع أمامنا محمد ابن داوود. أما شيخنا أبو محمد فقد تفادى هذه الشهادة المزورة ولهذا قال (لا ينفذ عتق الأمة إذا كان كلفاً بحبّها) انتهت فتوى ابن عقيل (المجلة العربية لشهر ذي الحجة 1408هـ).
* * *
إذا قال امرؤ أنه لا يملك قلبه فليس ذلك عندي بكاذب. ويعود بنا الحديث هنا إلى ما سبق فناصية القلب لا يملكها من يحملها بل هي تملكه وتسيّره وفق اتجاهاتها. قد يختلف اثنان أو أكثر في موضوع ما ولكن الحكم النهائي للقلوب. يقص علينا الشاعر في قصيدته (درّ) أنه نهى قلبه عن منح حبه بعد أن بلغ الأربعين لرفيقة درب عرف بعينيها روح الحنين تدفق كالجدول. وفي نظراتها أقبل وعد بزهر الربيع الجلي. ومضى يتساءل: في قصيدة غير عامودية؟
كيف أحبك في الأربعين
وماذا أقول لركب السنين
إذا ما أتاني يسائل قلبي
لقد نبت الحب في قلبك الشاعر
كما ينبت الورد في حقله العاطر
ومدّ لقلبي غصناً رطيباً
ليعرش فيه الهوى
كما عرَشت ورقات الدوالي
تسامر في ساجيات الليالي
ضياء القمر
ولئن اعتذر الشاعر عن قبول (هذه الهدية) ومنح قلبه أن يحب فهو يقدر هذا الحب ويمنح صاحبته الحب فيقول:
أنا لا ألومك يا درتي
وكيف ألوم الزهور إذا فتّح الحُبُّ أكمامَها؟
وكيف ألوم الطيور إذا عمّر الحب أحلامها؟
وكيف ألوم العذارى إذا عطّر الحب أنسامها؟
ولكنني يا رفيق دربي.
أنا آسف إذْ نهيتُ عن الحب قلبي
وكيف أحبك في الأربعين
وماذا أقول لركب السنين
إذا ما أتاني يحاكم قلبي؟
لا تهمنا التفاصيل التي عرف بها شاعرنا (درته) أو عرف منها كيفية حبها له فقد اقتنع بذلك تماماً إذ يقول:
خرجتِ ورائي إذ رحت ألقي إليك الوَداعا
وإني أكاد أصيخ لقلبك يخفق حبا
ويهفو التياعا.
وقفتِ إزاء الجدار
فلا الخطو يمضي
ولا لهفة القلب تقضي
توقف قلب الزمن
عن الخفق حتى استحال شعاعا
ولنا أن نتساءل ماذا كان الموقف الآني للشاعر. هل استطاع أن يجابه العاطفة بقوة العقل في الحال؟ وهل انتصر في معركة سريعة لصالح عقله وينهي القصة دون أي تدخل عاطفي من مشاعره وأحاسيسه النفسية. لو حصل ذلك لانتابنا شك في صدق رقة شاعريته. ولكن دعونا نسمعه وكأنّه يجيب على تساؤلنا هذا فيقول:
مشيتُ بعيدا
أدافع قلبي
بعيداً عن النار
حتى اُجير من النار قلبي
ياله من رجل حذر يدافع قلبه عن النار ثم يكرر العبارة مرة أخرى (حتى أجير من النار قلبي)، وكأنه استحضر في تلك اللحظة الحاسمة الحكمة القائلة (إن معظم النار من مستصغر الشرر) والشاعر، مهما قسا، يشعر بذنبه ويعترف بالواقع لذا ذهب شاعرنا وقد أحس بما أحس يقول:
حزنتُ لقلبك ألا يبادله الحبَّ من يُسألُ
أنا أعرف الصدّ كم مؤلم؟
وكم يؤلم الجرحُ لا يدمل
وأعلم أن فؤادك بالحب طرّز حلم الهوى
ذاك الهوى حبك الأول.
ولو وقف بنا الشاعر عند هذا الحد من القصة لوجهت إليه أسئلة تستنطقه الخبر. والمكنون عما خفي وراء هذا الرفض فالشعراء أكثر الناس بحثاً عن الحب وكيف لا يكونون كذلك وهذا أحدهم يعلن:
الحب في الأرض بعض من تخيلنا=لو لم نجده عليها لاخترعناه
نعلم إن افتقدوه حساً التمسوه خيالاً ترتاح إليه أنفسهم وتنام على أسرّته المخملية أرواحهم. تهدهدهم أنسامه الدافئة وتسرح بهم في عوالم الأحلام مراكبُه الهادئة. ينتجعون إلى مرابعه. يكادون أن يسألوا الناس إلحافاً. فكيف بهم إذا وصل إلى ديارهم يرفضونه ويشيحون عنه. أذلك إمعاناً في تشويق الطرف المقابل؟ أم رَدةُ فعلٍ عنيفةٍ كصدمةٍ كهربائيةٍ تُردي لامسها. أم لعل له عذراً وأنت تلوم.
في الواقع أدرك شاعرنا هذا وذاك. وأدرك أن لا بد من إبداء المبررات المعقولة التي يمكن قبولها لدى رفيقة دربه وتمكنه من الهرب من هذا الموقف الصعب لديه. فقال:
أنا آسف إذ نهيت عن الحب قلبي
فإني أشفق أن يهطل المطر الدافق
ويحرقنا برقعه الصاعق
ويصبح سيلاً عرم
فيقال له ثم ماذا؟ فيقول:
يدمر كل زهور الحياة
ويُغرق في بحره الزوارقَ والأمنيات
فيقال له أيضاً: ليس هذا التخوف بكاف أن ترفض الحبَّ وأنت شاعر ولم يبد إلى الآن ما يبرر الرفض فيقول:
أنا من عرفتُ الهوى والشباب
وكابدتُ من حرقة الحب طعم العذاب
فيقال له: فربما يكون في هذا الحب ما يطفئ الحرقة ويُحلي طعم العذاب فيستطرد قائلا،ً لرفيقة دربه؟
دعيني وقلبي
ففيه تقيمُ شريكةُ عمري
وفيه يقيمُ صغاري
هديةُ ربي
بحقك لا تقلقي أمنهم
فهم يستحقون كل الحنان
وكل الأمان
ولنا هنا عند كلمة بحقك وقفة فإذا كان المقصود بها القسم وهذا هو الظاهر. فليس ذلك بجائز شرعاً.
ويضيف مؤكداً وموضحاً لها أن لهم في نفسه مكانة من الحب لا يمكن إعطاءها لغيرهم فيقول:
صغاري ينادونني من بعيد
فيهفو لذاك النداءِ فؤادي
ويخفق قلبي.
ولو زرتهم
بأرض الشآم لأحببتهم
ففيهم تفتح زهر الحياة
ويُروي شذاه شارينَ قلبي
وهنا يختم شاعرنا هذه القصيدة بالشمع الأحمر الذي لا يقبل المس لخطورته الرسمية فيقول:
أنا آسف يا رفيقةَ دربي
إذا ما ضننتُ عليك بحبي
فما عدت والله أملك قلبي
* * *
وننتقل بعد ذلك إلى قصيدته التي تنزف شرايينُها ويشخبُ وريدُها لما يجري في العالم العربي من تناحر وتطاحن وفرقة مدت ظلالها حتى كادت أن تعم وتضربَ بأطنابها في الساحة إلى أن قيل (إن الزمن العربي رديء) فنفى الشاعر هذه التهمة عن الزمن بقوله:
ليس الزمان رديئاً أيها العرب فليحكم العقل إن لم يحكم الأدب
وقد قدم للقصيدة بالحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (يؤذيني ابنُ آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر) ثم يقول الشاعر بعد أن عدد الخيرات التي تنعم بها الأمة العربية من أراضي خصبة ومياه عذبة وثمار وافرة ومادة متوفرة وعدد وفير.
لستم قليلاً فعدُّ الرمل عدُّكمُ ولا ضعافاً ففيكم عصبةٌ نُجُبُ
ويكرر:
وما أرى الدهر قد أخنى بساحتكم فلا تلوموه ظلماً أيها العرب
ويذهب بعد ذلك يندد بفعال بعضهم ممن كان سبباً في هذا التناحر ومسبّباً لهذه الفرقة فيقول:
لا تنكروا في الأفاعي سوءَ من قال للعرب أن هاتوا خناجركم مـن حـوّل الوطن الغالي وجنتَه |
فعلتهافالشرقُ والغرب من أفعالكم عجبوا ثم اطعنوا جبهة التحرير وانتحبوا سـجناً كبيراً به الأوغاد والوُشُبُ |
إلى آخر ما جاء في القصيدة من نزيف ينبع من قلب جريح يمثل قلوب الأمة العربية التي تصدح وتردد معه قوله:
متى يعود الضمير الحرّ من سفر طالت إجازته والله يا عرب
ثم يختم القصيدة:
لا تعذلوا يا بني قومي فذا عتَبٌ تجري دموعي مدراراً لمحنتكم |
لولا المحبة ما يحلو لي نـسيتم الله يا قومي وذا السبب | العتبُ
حقاً ليس الزمان هو الرديء ولكن بعض النفوس البشرية هي الرديئة وصدق القائل:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
وصدق شاعرنا حينما قال (نسيتم الله يا قومي وذا السبب) وكيف لم ينس قومُه الله وهم الذين قال عنهم في قصيدته مأساة أمة:
في أرضنا تُمنح المستهتراتُ حمىً لـم تبق غانيةٌ سكرى وراقصةٌ أمـا حـرائرنا وسط السجون فلا |
وتُـسـتباح ذواتُ الدين إلا وتُـمدح في الأخبار والصحف ذكـر لـهن ولا صوتٌ فوا لهفي | والشرف
* * *
ولنا أن نواصل التنقل بين هذه الحدائق الغناء نقطف ثمارها ونستروح نسائمها العاطرة الرقيقة فمن فَنَنٍ إلى فَنَنٍ ومن زهرة إلى زهرة. فإن لم يكن يطيب لنا المكوثُ بين الخمائل الشعرية نطرب لموسيقى قوافيها ونسبر أغوار معانيها - والشعر ديوان العرب - فأين يطيب لشداة الأدب وعشاق الكلمة حط الرحال.
إن للكلمة الشاعرية سحرها الحلال الفعّال تخترق جميع الحواجز. تسري بالأرواح تجنح بها، تحدو لها كالحادي يسلب لبّ الإبل ليقطع بها الفيافي والبيداء. لا تحس بسأم ولا تشعر بألم. هكذا تفعل الكلمة الشاعرة الصادقة بالنفوس البشرية. كان بعضُ جفاة العرب في الجاهلية يغلظ ويقسو ولكنه يرهف السمع للكلمة الشاعرة فتسلبه المشاعر والأحاسيس يطرب لها ويرددها حتى ولو لم يكن شاعراً. تملكه فتسيطر عليه لا يستطيع التخلص من وَثاقها المحْكم. وما دام الحديث قد تطرق بنا إلى مشاعر النفوس وأحاسيسها فإنه يجدر بنا أن لا نبرح حتى نطرق أبواب قصيدة شاعرنا المعنونة (ولدي) لنبحر عبرها ونستشف كوامن نفس الشاعر نحو ولده فلذة كبده وقد قيل (أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض) ولنصغِ إليه وهو يقول:
على الأعناق تُحمل وإن نـاديـت بابا في دلال |
والأياديوحبُّك في الضلوع وفي الفؤاد يهفّ القلب للصوت المنادي |
ونستسمح الشاعر أن نضع تحت كلمة يهف خطاً أحمر ذلك لأن صوابها يهف بفتح الحرف الأول وتسكين الثاني وضم الثالث. ولكن لضرورة الوزن الشعري تقرأ بتشديد الفاء لإضافة الحركة الرابعة. وأرى أن استبدالها بكلمة (يجيب) يدفع عنها الضرورة فيستقيم الوزنُ والصق بالفعل (ناديتَ) ونتابعه وهو يقول:
فنم يا ابني بمهدك في هناء وإن حـل الظلام بجانحيه ونام الخلق في أمن جميعاً |
وداعب طيف أحلام وأرخـى ظله في كل واد فـقـلبي ساهر عند المهاد | الرقاد
ونضع أيضاً تحت كلمة (بجانحيه) خطاً فإن كان المقصود بها مثنى جناح فليس مفردها (جانح) وإن كان المقصود بها جنوح الليل فإنها تستقيم معنى ولا تستقيم لفظاً لذا نرى أنها لو كانت:
وإن سدل الظلام جناح ليل وأرخى ظلمه في كل واد
لكانت أنسب.
ومعذرة إن قطع ما أبديه من ملاحظات استرسال الحديث ولكنها انطباعات قارئ طاب له السمر مع الديوان فأخذ يتجاذب معه حلو العبارات.
ويشارك قلب الأب قلب الأم في إضفاء شعور الحنان على الولد ودعاء الله له في السر والجهر فيقول الشاعر:
وإن أبصرت في يوم ملاكاً ويـدعو الله في سرّ وجهر فذلك قلب أمك حين يدعو |
يـغـنّـي حبّه في كل ناد يـرقّ لـوقعه قلبُ الجماد حماك الله من شر العوادي |
ويعجبني الشاعر الذي لا يُغفل التغزّلَ في أهل بيته ولو مرة واحدة متى ما وجد إلى ذلك سبيلاً. فكم من شاعر له الدواوين العديدة والقصائد الغزلية المطولة دون أن تحظى حليلته ببيت شعر أو بكلمة واحدة من ذلك تعتز بها وتوحي إلى أبنائهما بالسعادة والطمأنينة. ولقد علمتُ من بعض الشعراء أن زوجاتهم تعاتبنهم في هذا الصدد عتاباً طويلاً. أما شاعرنا الألمعي فلم تفته مناسبة قصيدته المهداة إلى ولده دون أن يشير إلى (الملاك) كلمة واحدة فقط لكنها في عرف النساء ألف كلمة تشد أصر الأسرة وتضفي عليها المحبة والسعادة ويكفي ما للحياة الزوجية من مشاعر ذكرها القرآن الكريم )وجعلنا بينهما مودة ورحمة(.
ولئن تساوى حب الآباء والأمهات لفلذات أكبادهم ومدى منحهم الرقة والحنان فإن آمالهم وطموحاتهم تجاه أبنائهم تختلف كل حسب وجهة نظره ونزعته وميوله. ولذا قيل قديماً:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه
فلننظر ما هي طموحات شاعرنا التي يريد لابنه أن يتسنم ذروتها. ويتربع على شعافها. وهي بلا شك أمنية عزيزة على قلب كل أب مسلم وأم مسلمة فيقول:
ألا يـا بـنـي نـذرتك وُلـدتَ بـعـالـم عـبد الدنايا محاريب الهوى في الأرض قامت |
للجهادفـسـر فـي سـاحتيه وعـربـد فـيـه شيطان الفساد تـبـاركـهـا سياط الاضطهاد | باجتهاد
إلى أن يقول: وهي الحقيقة التي لا مراء فيها ولا جدل إذ أن الناس كل الناس، أحرص ما يكونون على العمر:
ألا فاعلم بنيّ بأن عُمْراً وما في العالمين إلى نفاد
وعندما يعلن الموجه رغابه ويتمنى من الموصى إليه اتباعها وتنفيذها فلا بد أن يكون لهذه التوصيات من دعم مادي ومعنوي يستمد منهما المرء قوته ويشحذُ على ضوئهما هممه فملاقاة الأعداء لا بد لها من عدة، أولها الإيمان والسير على الهدى والصوى ليمكن ضمان النتيجة التي ستكون إحدى الحسنيين وها هو شاعرنا يقول لابنه وهو يوصيه:
لك القرآن نبراساً تـفيأ في حماه تلق أمناً |
وهدياًوداعيةً إلى سبل ويهديك الهدى ربُّ العباد | الرشاد
ولنا أن نقول هنا بملء أفواهنا وملء قلوبنا وبكل إيمان (أنعم بمن كانت على هدى القرآن مسيرته).
* * *
عوداً على بدء.
إذا كان الغزل والحب والذكريات الحالمة كلها هواجس تسكن لب كل شاعر يجتر منها بقية حياته. لا يكاد ينساها أو يتناساها حتى تشخص أمامه أو في مخيلته عوامل التذكر فتثير الرماد وتشعل الشرر الكامن تحته. فشاعرنا (ولا أقول هذا إلا من إيحاءات شعره) قد أحب وهُجر فذهب كعادة الشعراء يشكو همه ويبث لواعجه ويسكب أحزانه ويناجي أزهار روضه، كلما أرسل إلى حبيبته رسولاً من ورود وأزهار وأقحوان وليل وصباح أسرته لديها واستخدمته كجزء من مظهرها الفاتن لتغيظ به صاحبها. دعونا نستطلع بعض أخبار هذه الرسل. يقول الشاعر مخبراً عن فؤاده الذي مضى مع حبيبته الهاجرة:
قلت يا قلب احفظ العهد وارجع قال إني أهوى المقام لديها
ثم يقول:
وإذا وردة على ضفة قلت يا وردتي فؤادي أسيرٌ فإذا الوردة الجميلة غابت وتوارت عن الحبيبة يوماً |
النهرتـوشّـي ثيابها بيد فتعالي كوني رسولي إليها ساعة بين صاحبات لديها ثـم أبصرتُها على خديها | يديها
خيال شاعري وتصوير فني مبدع. ما أشبه الليلة بالبارحة (عضت على العُنّاب بالبَرَدِ) وهذا شأن حبيبة شاعرنا مع رسله تأسرهم وبعد مكث يظهرون عليها كجزء منها وها هو يحدثنا أيضاً بعد ما أرسل إليها أقحوانة فيقول:
ثم عادت مع الحبيبة شالاً قرمزياً يزهو على كتفيها
وعن الليل:
فإذا شَعرها يرفرف حولي وإذا الليل ساكن خصلتيها
وعندما أعجزه الحال قال:
ويح قلبي أبالمحبة يشقى أم يحب الشقاء في عينيها
* * *
التشدق باسم الحرية شعار يرفعه كثير من الناس تلعب به الألسنُ وتلوّح به الأعلام. ويقصدون بذلك الحرية المطلقة التي لا ضابط لها ولا رابط.
وهم أحد صنفين إما مارد متمرد أو أبلهٌ بليد. لأن الانطلاق اللامحدود والحريةَ المطلقةَ بدون ضوابط تضرّ بالنفوس وتسيء إلى المجتمع. مَثلُها مثلُ القيود المحكمة. فما زاد عن حده انقلب إلى ضده. لذا كانت الحرية الحقة هي التي لا تخرج عن حدود تتسع وتضيق وفق الأصلح وحتى كلمة الأصلح هنا مقيدة بالتشريع السماوي فما يحسبه المرء في بعض الأحيان صالحاً قد لا يكون في حقيقته كذلك. لأن نظرة المخلوق محدودة الأبعاد. لا تدرك ما وراءها كما يدركها ويعرفها التشريع الإلهي.
وإن زعم قائل بأن شعباً ما يعيش في حرية مطلقة فإنه في الواقع ومن منظور المعايشة قد جانب الحقيقة لأن الحرية الممنوحة له مطلقة من ناحية ومقيدة من نواح أخر. وما هي غير دعوى مزعومة لا دليل عليها صانعها ما رد متمرد والمصدق بها أبله بليد. وهذا ما أشار إليه شاعرنا في قصيدته المعنونة (يا شعب) فهو يقول فيها:
يا شعب انقد كلَّ أوضاع البلاد
وتكلمن على العباد
واشتم إذا شئت الإله فأنت في الأوطان حر
واشتم كرام الأنبياء فما على حرية التعبير قهر
لكن إذا إمارة السوء تولتْ
وبسوء فعلتها تجلتْ
واستسلمتْ للدس والخلق الخسيس
وتورطتْ بالخوض في أمر الرئيس
فتذكروا أن الرئيس له الشجاعةُ والرجولة
إلى أن يقول:
نقْدُ الرئيس خيانةٌ وعمالة
يوحي بها خبث الطوية
والخائنون المارقون سيُسحقون بلا روية.
فأين الحرية إذن؟ الجواب يعرفه التاريخ / وينبآننا بجزء منه قصيدتا (حرية الأديان وهبل).
* * *
سرى نداء العامرية (وامعتصماه) عبر الأزمان حملته الأسفار وتناقلته الركبان وصلت إلينا قصته وستصل إلى من بعدنا إذا ذُكرت الرجولة والإباء تبوأ المعتصم المقعد الأول من المقاعد المتقدمة. كيف لا يكون كذلك وقد شهد له التاريخ بما يرفع الرأس ويضيء الجبين. قَلَّ أن لا يرد ذكره في دواوين العرب السابقة واللاحقة. وها هو شاعرنا يعنون قصيدة باسم (وامعتصماه) ولا أحسب أحداً إلا وقد عرف المضمون من العنوان لا سيما في وقتنا الحاضر الذي ترزأ فيه الأمة العربية والإسلامية تحت وطأة الشقاق والتناحر بين القريب والبعيد. وما اعترى جُلَّ النفوس من جبن وتخاذل يقول عنها الشاعر:
ها عنتر العبسي قد ماتت به شيم الرجولة
قد باع للنخاس عبلة كالإماء.
وراح ينهش كل أعراض القبيلة
ماتت به روح الإباء
روح النَّدى والكبرياء
إلى أن يختتم القصيدة بقوله:
وامعتصماه
نامت على الذل الجباه
والشمُّ من قحطان
والصّيدُ من عدنان
وَهَنوا. وهم يتكالبون على ملذات الحياة
أما قصيدة تل الزعتر فقد قال فيها:
ما زالت السكين تلمع في يمين القاتلِ
والأدعياء يباركون جهوده بقصائد ومشاعلِ
وعندما سجل التاريخ بمداد من الخزي والعار أحداثَ صبرا وشاتيلا التي كانت وصمة سوداء في جبين الزمن العربي قال الشاعر:
صبرا وشاتيلا
وطنٌ تعفر في العراء قتيلا
جسد تقطعه المُدى
وتعيث في اشلائه حقداً وآها
وقبائل الأعراب ترمقه كأنّ دماه ليست من دماها
ولسوف يعرف من يأتي من الأجيال القادمة أن قتلى صبرا وشاتيلا لم يحظوا حتى بإهالة التراب عليهم وستر سوآتهم. وهنا يقارن الشاعر بين الغراب الأسحم وبين بعض البشر فيقول:
ألا يا غراب البين قد أجحف الورى فـإنـك أوفـاهم وإن كنتَ أعجما |
بـحـقـك أن ردوا إليك وأبـيـضُهم فعلاً. وإن كنت داجيا | المخازيا
* * *
أرى أن مركب المتعة مع هذا الديوان الشيق قد أبحر بنا. وسرى كما يسري النسيم العليل في هدأة السحر. ولولا مخافة أن أشق عليكم لطال بنا الإبحار إذ في الديوان بقية من قصائد آخرها قصيدة أمنية التي يتمنى فيها الشاعر أن يلتئم شمل الأمة الإسلامية ويُجمع عقدها المنفرط فتصبحُ أمةً واحدة فإن عزّ ذلك، وأدركه الموت قبل تحقيق هذه الأمنية الغالية فليس أقلَّ من أن يجمعوا تراباً لقبره ثم يجمعوا له طاقة زهر من كل قطر ثم ينشرونها على ضريحه إذ يقول:
نـبـئوني أن الوحدة في الأقطار أن أوطاني تلاقت في الهوى ثغراً بثغر أن نـور الله قـد أشرق في أجمل فجر فـإذا مـا كـنتُ حيّاً فهي أمنية عمري وإذا ما كنتُ ميتاً. فاجمعوا الترب لقبري واسـتريحوا ساعة ثم اجمعوا طاقة زهر وانثروا فوق ضريحي وردةً من كل قُطر | تسري
ونحن نقول حقق الله أمنية شاعرنا حياً إذ هي أمنية كل مسلم عاقل. فبتحقيقها تزداد الأمة العربية والإسلامية قوة ومنعة. ويتغير وجه التاريخ المعاصر إلى ما هو أنصع وأنور.
وختاماً معذرة في الإطالة فما هي غير انطباعات وتعليقات خرجت بها فور قراءة هذا الديوان أحببت أن تشاركوني المتعة.
وشكراً لإفساح صدوركم لهذه المسامرة الأدبية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته