إِذا مَسَّه الْحُبُّ حَنَّ
إِذا مَسَّه الْحُبُّ حَنَّ
الدكتور محمد جمال صقر
قِراءَةٌ لِمَجْموعَةِ عَبْدِ اللّهِ الْكَعْبيِّ الشّاعِرِ الْعُمانيِّ الشِّناصيِّ : " إِذا مَسَّه الْحُبُّ " ،الْمَنْشورَةِ في 2005م ، عَنْ دارِ الِانْتِشارِ الْعَرَبيِّ بِبَيْروتَ .
سمى الكعبي مجموعته هذه الشعرية الأولى ، اسم إحدى قصائدها ؛ فسرني كثيرا ؛ فلقد كانت هذه القصيدة إحدى قصائد تسع لشعراء عمانيين شباب تسعة ، كانت مادة مقالي " شِعْرُ الشَّبابِ دَمُ الْعَقْلِ وَوَجْهُ الْجُنونِ " ، الذي تأملت فيه قديما رسائل أولئك الشباب في شعرهم ، كيف اقتدحوها بزَنْد اللغة ، غيرَ عابئين بزَمْهَرير العادة ؛ فكان الجَذَلُ هو رسالةَ الكَعْبيّ ، حتى لَيرى الحَجَرَ والشَّجَرَ والحَضَرَ والمَدَرَ ، في مثل شوقه إلى صاحبته ، وفي مثل شوقها إليه ؛ فيَمزُجُ بالكائنات نفسَه مرةً ، فتَنْتَسِجُ بهما عِشقًا وشَوقًا ، بُرْدةٌ منَ النعيم واحدةٌ ، قائلا : " قريبًا ستعشق نخلاتُنا امرأةً وغَريبًا / وتربطُ ريحٌ نَدى سَعْفةٍ قمرًا / واشتهاءاتِ رملٍ لِشَقِّ السَّماءِ / أخفَّ منَ الريشِ كنتُ تُطَيِّرُني الطُّرُقاتُ / وأثقلَ منْ قُبلْةِ الغُرباءِ أَعود " . ويمزُجُ بالكائنات نفسَ صاحبته مرةً أخرى ، فتنتسج بهما عشقًا وشوقًا كذلك ، البردةُ نفسها ، قائلا : " وعينُكِ يلبَس فيها الرجاءُ / ظلالَ الصُّدور التي ما تزالُ تحنُّ إلى خضرة السِّدرِ / فوقَ العُبورِ / وبينَ التِّلال " - ثم تأملت في ذلك المقال نفسه ، ثقافةَ أولئك الشباب العربيَّةَ ، كيف رَعَوْها وراعَوْها غيرَ عابئين بدَعاوى اطِّراحِها كما يُطَّرَحُ الداءُ الدَّوِيُّ ؛ فكان إشعال الكعبي تعبيره عن أثر الحب الهائل فيه ، بمناصاته باسم قصيدته " إذا مسه الحب " ، لقول الحقِّ – سبحانه ، وتعالى ! – " إذا مسَّه "، الواردِ خمسَ مراتٍ في الآيات 83 من سورة الإسْراء ، و49 و51 من سورة فُصِّلَتْ ، و20 و21 من سورة المَعارِج ، وضميرُ الغائبِ فيها كُلِّها للإنسان ، والمَسُّ في أربعٍ منها للشرِّ ، وفي واحدةٍ للخير المانعِ منه صاحبُه غيَره ! - ثم تَأمَّلتُ في ذلك المقال نفسه شُموسَ " التَّصْوير " بين أيدي أولئك الشباب ، كيف انْصَهَروا في طلبها غيرَ عابئين ببُعدِ مَنازِلها ؛ فكان قول الكعبيِّ : " نعم كنتِ عالقةً في جُذوعِ اللُّبانِ / بَخورًا ومِلحا / وفي وَرَقِ السِّنديانِ / نقوشًا وصَمْتا " ، هو شمسه التي رأينا فيها صاحبتَه جَمالَ كلِّ جَميلٍ ، وأَصالةَ كلِّ أَصيل .
كلما قرأت للكعبي شعرا ذكرت كلمة قالها أحد الشعراء لبعض من جاءه يشكو إليه كذب بعض المغنين عليه - والشعراء والمغنون قبيلة واحدة - قال له : " إِنَّ فُلانًا - يعني ذلك المغني - لا يَصْدُقُ إِلّا إِذا غَنّى " !
وكذلك الكعبي لا يظهرُ حتى يقول شعره ، ولا تعرفُه حتى تقرأه !
إن الكعبي " إِذا خَبَرَ ادَّخَرَ " . حكمة عربية أندلسية قديمة بالغة ، عمل بها ؛ فصعدت به إلى هذا المقام الذي ترونه فيه الآن . لا تسمعونه يتفنن في مَنْطِقٍ ولا في مَظْهَرٍ ولا في مَسْلَكٍ ، فإن سمع مَنْطِقًا أو رأى مَظْهَرًا أو أدرك مَسْلَكًا ، فوجد في أيٍّ منها أَثارَةً فَنّيَّةً ، ادَّخَرَها ، حتى إذا ما مَسَّه الحُبُّ حَنَّ ، فأقبل يُفَجِّرُ كُنوزَه تفجيرا .
إن الكعبي إِذا مَسَّه الْحُبُّ حَنَّ :
حَنَّ يَحِنُّ حَنينًا ، أي اشتاقَ وطَرِبَ .
حَنَّ يَحِنُّ حَنانًا ، أي عَطَفَ ورَحِمَ .
ولن يَفْتَقِدَ مُتَأَمِّلُ مجموعته هذه ، مَوادَّ الحَنينِ والحَنانِ في أَيَّةِ قصيدة من قصائدها .
ولكن كيف يجتمع الاشْتِياقُ والطَّرَبُ والعَطْفُ والرَّحْمَةُ ، مَعًا ؟
إن الاشتياق والطرب كليهما معا ، هما سبيلا الأنفس السوية إلى العطف والرحمة كليهما معا ، أي لَوْلا حَنينُ الْأَنْفُسِ السَّويَّةِ ما كانَ حَنانُها ؛ ومن ثم نحتاج دائما أن نُعَلِّمَ أولادنا - ونُذَكِّرَ أنفسنا - الاشتياقَ والطربَ ، لا كما قال السّوريُّ وغَنّى الْمِصْريُّ :
" اشْتَقْتُ إِلَيْكَ ؛ فَعَلِّمْني أَلّا أَشْتاقْ " ،
وإن جاز ذلك من باب السياسة الغزلية !
فكيف إذن حَنَّ الكعبي ؟
إنه إذا مسه الحب ، رَقَّتْ نَفْسُه ، ثم رَقَّتْ ، ثم رَقَّتْ ، حتى صارت مثل الماء ؛ فنفذ منها الكون كله : مَنْ فيه وما فيه ، ومَنْ كان فيه وما كان فيه ، حتى إن نفسه الماضية لَتَنْفُذُ من نفسه الحاضرة ، فيما ينفذ !
ينفذ من خلال مائيَّة نَفْسِه الحاضرة ، ذلك كلُّه مُكَبَّرًا ؛ فَيَنْدَهِشُ مِنْهُ ، وَيَبْتَهِجُ بِه ، وَيَخِفُّ لَه ، وَيَمُدُّ يَدَه يُصافِحُه ، حتى إذا ما وَجَدَ سَرابَه ، رَجَّعَ في إِثْرِه تَرْجيعًا يَظُنُّ أَنَّه يَرْجِعُه بِه :
" كَمْ نَرْتَمي في حِضْنِ أُمِّكَ
أَنْتَ يا وَجْهي الَّذي لَمْ يَخْتَمِرْ
وَلَدي
أَبي
وَلَدي
أَبي
وَلَدي طَريٌّ في الْقُلوبِ
مِساحَةٌ لِلدَّمْعِ
وَجْهُكَ أَوَّلُ الْمُتَجَنِّبينَ لِقُبْلَتي
كَالْعُشْبِ رِمْشُ الْأَرْضِ يا وَلَدي
وَرِمْشُكَ كُحْلُها
ما بالُ أَسْئِلَتي مُحَيِّرَةً
سُؤالي وَرْدَةٌ حَمْراءُ
هَلْ لِلْبَحْرِ أَجْنِحَةٌ
لَكَمْ تَتَحَطَّمُ الْأَمْواجُ ناحِيَتي
أُراقِبُ صورَةً أولى
أَحَقًّا بَسْمَةُ الْأَطْفالِ جافِلَةٌ
كَأَنَّ وراءَها مَلِكًا سَيَسْلُبُ صَمْتَها
لا صَوْتَ يَتْبَعُني كَصَوْتِكَ
أَضْبِطُ الْمِذْياعَ
أَسْمَعُه
خِلالَ مُغامَراتِ الْعاشِقينَ
قَناةِ قُرْآنٍ
دُعاءِ مُراهِقٍ يَبْكي عَشِقْتُ فَتُبْتُ
أُمُّكَ تَسْأَلُ الْوُعّاظَ
هَلْ لِحَليبِها يَوْمَ الْقِيامَةِ راضِعٌ غَيْرُ ابْنِها
أَمْ إِنَّ ما يَبْقى سَيَرْضَعُه النَّحيبُ
كَما النَّخيلِ أُبوَّتي مَوْلودَةٌ
كَفٌّ تُصافِحُ مِعْصَمًا
لِلْبَحْرِ ذاكِرَةٌ يُعانِقُها سُقوطُ الرَّمْلِ مِنْ قَدَمي
مَعًا تَتَهْربُ الْأَنْظارُ مِنّا
ثِقْ بِأَنَّ أَباكَ يَعْشَقُ أُمَّكَ الثَّكْلى
وَأَنَّ رُجولَتي تَرِثُ الْحَليبَ
الصَّيْفُ يولَدُ في الرَّبيعِ
هَزيمَةٌ وَضْعُ التُّرابِ عَلى التُّرابِ
أَكُلَّما أَضَعُ النِّقاطَ عَلى الْحُروفِ
أَراكَ
لا تَحْزَنْ فَحَبّاتُ الذُّرى أَحْلى مَتّى تَتَعَرّى
لي طَلَبٌ أَخيرٌ
ضُمَّني " .
هذه قصيدته " لُقْيا " ، ذات الاسم المفتقد في متون المعاجم الكبيرة ، مثلَ افتقاده في متن هذه الدنيا الفانية ، فيما أَشْعَرَنا الكعبي !
في هذه القصيدة المشتعلة ، أَشِعَّةٌ تَصْويريَّةٌ ثائرةٌ شارِدَةٌ ، تَضْطَرِبُ أَمامًا وَوَراءً ، وَيَمينًا وَشِمالًا ، أَشْتاتًا أَشْتاتًا ، إذا أَنْفَذْناها من جهاز التَّأَمُّلِ ، تَجَمَّعَتْ ، وتَكَثَّفَتْ ، وتَرَكَّزَتْ ؛ فَاشْتَعَلَتْ بها أربعُ شُعَلٍ :
شُعْلَةُ الأَبِ : تشعلها " هَزيمَتُه " ، و" أُبوَّتُه " ، و" أَسْئلتُه " ، و" رُجولَتُه " ، و" عِشْقُه " ، و" وَجْهُه " ، و" قُبْلته " ، و" دَمْعُه " ، و" كَفُّه " ، و" قَدَمُه " ، و" سَمْعُه " ، و" نَظَرُه " .
شُعْلَةُ الِابْنِ : يشعلها " تُرابُه " ، و" دَفْنُه " ، و" بُنوَّتُه " ، و" ضَمُّه " ، و" مِعْصَمُه " ، و" وَجْهُه " ، و" رِمْشُه " ، و" صَوْتُه " ، و" بَسْمَتُه " .
شُعْلَةُ الْأُمِّ : يشعلها " ثُكْلُها " ، و" نَحيبُها " ، و" حِضْنُها " ، و" حَليبُها " ، و" سُؤالُها " .
شُعْلَةُ الْبَحْرِ : يشعلها " مَلِكُه " ، و" ذاكِرَتُه " ، و" أَجْنِحَتُه " ، و" أَمْواجُه " .
أشعة شعل الأب والابن والبحر كلها مختلفة فيما بينها ، متعاكسة الضوء والحرارة أحيانا : أما أشعة شعلة الأب ففي حيرة بين الهزيمة والعزيمة ، وأما أشعة شعلة الابن ففي حيرة بين العدم والوجود ، وأما أشعة شعلة البحر ففي حيرة بين المَضَرَّة والمَنْفَعة .
وأشعة شعلة الأم مؤتلفة كلها فيما بينها ، متوازية الحرارة في مقام الهزيمة وحده !
ذاك الذي جَمَّعَ أشعة القصيدة التصويرية فيما سبق - وكذلك يفعل بقصائد المجموعة كلها - وكَثَّفَها ، ورَكَّزَها ، حتى اشْتَعَلَتْ بها الشُّعَلُ الأربع ، هو " جِهازُ التَّأَمُّلِ " جِهازُ اسْتِقْبالِ الْمُتَلَقّي . ولكن لو لم يكن " جِهازُ الْحَنينِ " جِهازُ إِرْسالِ الْكَعْبيِّ ، قد جَمَّعَ تلك الأشعة أَنْفُسَها مِنْ قَبْلُ - وكذلك فعل بقصائد المجموعة كلها - وكَثَّفَها ، ورَكَّزَها ، حتى اشْتَعَلَّتْ بها الشُّعَلُ الأربع أَنْفُسُها ، ما استقبلها المتلقي .
لقد أراد الكعبي في مجموعته هذه الشعرية ذات الأَرْبَعَ عَشْرَةَ قصيدة ، أن تكون كلُّ قصيدة منها في نفسها ، بيتًا واحدًا ، خَصيبَ الأنغام ، عميق َاللحن ، مُتَداخِلًا ، مُتَآخِذًا ، مُتاحًا من داخلٍ لساكنيه أن يثوروا ويهدؤوا وأن يهزلوا ويجدوا ، مُغْلَقًا من خارجٍ عليهم أن يخرجوا وعلى غيرهم أن يدخلوا !
ولا سبيل إلى ذلك إلا بالشعر الحر ، بل ذلك نفسه هو أصل فلسفة نشأة الشعر العربي الحر في خَمْسينيّات القرن الميلادي العشرين ، التي كانت على أثر تطور الحركة الإيقاعية العامة ، ولا سيما الموسيقيَّةُ التي أنشأت السينفونيةَ والكونشيرتو وغيرَهما ، واللُّغَويَّةُ التي أنشأت القصةَ والروايةَ وغيرَهما .
انجذب الكعبي للشعر الحر ، على رغم تصديره مجموعته بثلاثة أبيات عمودية من أول فائيَّة عمرَ بن الفارض مولانا سلطان العاشقين ، تأملناها معا قديما ، وأحببناها معا :
" قَلْبي يُحَدِّثُــني بِأَنَّكَ مُتْلِفـي روحي فِداكَ عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَعْرِفِ
لَمْ أَقْضِ حَقَّ هَواكَ إِنْ كُنْتُ الَّذي لَمْ أَقْضِ فيهِ أَسًـى وَمِثْلِـيَ مَنْ يَفي
ما لي سِـوى روحي وَباذِلُ روحِه في حُبِّ مَنْ يَهْواهُ لَيْسَ بِمُسْــرِفِ " .
على مذهبه في الحنين نفسه !
ربما أراد الكعبي أن ينبهنا على أن ما سلكه في مجموعته ، لا يمنع غيره أن يسلك غير مسلكه ، أو لا يمنعه هو نفسَه أن يُغَيِّرَ مَسْلَكه . وربما أَيَّدَ هذا التأويل الأخير ، أن الكعبيَّ أَرْسَلَ إليَّ هذه الأيام بعد صدور مجموعته هذه ، قصيدةً عَموديَّةً ، مُنْسَرِحيَّةً ، طَويلَةً ، مُحْكَمَةً على نَمَطٍ من أَعْصى الشعر العربي القديم ، سَمّاها " كَعُرْسِ الرِّمالِ مَمْلَكَتي " ، وقال في مطلعها :
" حُجَّ إِلى مَفْعـولاتُ يا زَمَني إِذْ لَيْسَ ذَنْبًا مَحَـبَّةُ الْوَطَنِ " ،
جاعلا الماضي وطن الحاضر ، على مذهبه نفسه في الحنين !
انجذب الكعبي إذن في مجموعته هذه الأولى ، للشعر الحر في صورته الفلسفية الحقيقية ، ولم يستعمل من أبحر الشعر العربي الستة عشر ، غير أربعة :
المتقاربُ الذي نَهِلَ منه سبع قصائد ( 2 ، 3 ، 4 ، 7 ، 9 ، 12 ، 14 ) .
الكاملُ الذي نَهِلَ منه خمس قصائد ( 1 ، 8 ، 10 ، 11 - وهي قصيدته " لُقْيا " الآنفة - 13 ) .
الوافرُ الذي نَهِلَ منه قصيدة واحدة ( 5 ) .
الرملُ الذي نَهِلَ منه قصيدة واحدة كذلك ( 6 ) .
فانحصر فيما انحصر فيه سلفه من شعراء الحر ، من الأبحر المفردة التفاعيل ؛ فتقاليد الفنون خالدةٌ خلودَ حَنينِ الإنسان ، ينبغي ألا تقاس إلى تقاليد العلوم المتغيرةِ تَغَيُّرَ آلاتِها .
وإذا كان الوافر أخا الكامل ( عِلَتُنْ مُفا = مُتَفاعِلُنْ = دددن ددن ) ، وكان الرمل أخا الهزج ( عِلاتُنْ فا = مَفاعيلُنْ = ددن دن دن ) ، الذي يَلْتَبِسُ بالوافر المَعْصوب كثيرا جِدًّا ( مَفاعيلُنْ = مُفاعَلْتُنْ = ددن دن دن ) - كانت قصائد المجموعة على حَرَكَتَيْنِ :
بَطيئةٌ حَزينةٌ ، في قصائد المتقارب ( ددن دن ) ، تقل فيها المقاطع القصيرة .
سَريعةٌ فَرِحةٌ ، في قصائد الكامل ( دددن ددن ) تكثر فيها المقاطع القصيرة .
وهل الحَزَنُ والفَرَحُ إلا شَطْرا الحَنينِ !
ثم ألغى الكعبي قوافي القصيدة ، وأطلق عن تفاعيل البحر ، ودَفَّقَها ، ووَزَّعَ كتابتها على أسطر صفحتها ، حتى ينسلك المتلقي في دُوّامتها ؛ فيظل يدور يدور يدور حتى يَتَمَغْنَطَ بشِحْنَةِ الحنين التي فيها !
ولكن ربما عَلِقَ الكعبي نَفْسُه أحيانا من قَبْلِ المتلقي ، بمِغْناطيس الحنين ؛ فعجز عن كَبْحِ جِماحِ قصيدته !
لقد كنتُ أجد القصيدة تنتهي فَجْأَةً ؛ فَأَتَخَيَّلُ الكعبيَّ بعد ما يَبْذُلُ فيها نَفْسَه حتى يَسْتَغْرِقَ وُسْعَه ، يَتْرُكُها مُقْسِمًا أَنْ لَنْ يَنْظُرَ فيها مَرَّةً أُخْرى !
إنه إذا كان قد وُفِّقَ بِقَوْله في آخر قَصيدته " لُقْيا " الآنفة :
" لي طَلَبٌ أَخيرٌ
ضُمَّني " ،
إلى أن ينبه المتلقي بكلمة " أَخيرٌ " في نعت كلمة " طَلَبٌ " ، على نهاية القصيدة - فقد عجز عن ذلك في أكثر قصائد المجموعة ، ولا سيما في قصيدته الوافِريَّة " كذا أَبْدو " ، التي قال في آخرها :
" نَسيتُ بِأَنَّني عَبَثًا أُسابِقُ نَخْلَة " ،
نَسيتُ بِأَنْـ |
نَني عَبَثًا |
أُسابِقُ نَخْـ |
لَةً / ـهْ |
ددن دددن |
ددن دددن |
ددن دددن |
ددن / دن |
مفاعلتن |
مفاعلتن |
مفاعلتن |
مفا / × |
سالمة |
سالمة |
سالمة |
× / × |
الذي إذا أَعْطَيْنا كل تفعيلة منه حقها ، تَمَّتْ له ثلاثُ تفاعيل ، ثم بَقِيَ ذَيْلٌ ، إذا عاملناه على رَسْمِ الكعبي له بالتاء المربوطة المنقوطة ، كان جُزْءًا من أول تفعيلة جديدة مظلومة ، وَتِدًا مَجْموعًا ( ددن = مفا ) ، وإذا عاملناه على ما ينبغي لوقف النهاية ، كان جُزْءًا غَريبًا تائهًا ، سَبَبًا خَفيفًا ( دن = × ) .
وعلى عكس ذلك شَذَّتْ في قصيدتيه : السادسة الرَّمَليَّة " في صحراء كلا " ، والثالثة عشرة الكامِليَّة " حصاد " - وَقْفَتانِ غَريبَتانِ ، مَنَعَتا من الكعبي تَدْفيقَهما الذي حَرَصَ عليه :
أما الوقفة الأولى فكانت بأول قصيدتها :
" اقْرَئيني
وَإِذا الْحُبُّ أَتي
سَأُلاقيهِ عَلى الرَّبْوَةِ قَبْلًا " ،
فلا بد من وقفة واضحة ، على " ـبُ أَتى = دددن = فَعِلا = المخبونة المحذوفة " ، من قبل الانتقال إلى " سَأُلاقيـ = دددن دن = فَعِلاتن = المخبونة " ، وإلا انكسر الوزن !
وأما الوقفة الأخرى فكانت بآخر قصيدتها :
" بِعْ ما تَبَقّى لا تَذَرْها كَالْمُعَلَّقَةِ انْتِظارَ خُطاكَ
قَفْزَهْ
مَوْجٌ يُحَطِّمُ كُلَّ أَوْرِدَتي
أُريدُكِ قُرْبي " .
فلا بد من وقفة واضحة ، على " رَ خُطاكَ قَفْزَهْ = دددن ددن دن = مُتَفاعِلاتُنْ = المُرَفَّلة " - وإن رَسَمَ الكعبيُّ تاءَ " قَفْزَة " مَنْقوطَةً - من قبل الانتقال إلى " مَوْجٌ يُحَطْـ = دن دن ددن = مُتْفاعِلُنْ = المضمرة " ، وإلا انكسر الوزن !
ولقد كان الكعبيُّ في الوقفتين مُكْرَهًا لا بَطَلًا ؛ فأما الوقفة الأولى فقد اضْطُرَّ إليها لما ذَيَّلَ قصيدته فَجْأَةً بالجزء الأخير ، تَعْبيرًا عن رفض حَصادِ الهَشيم الذي تَذَرّى فيها على رَغْمِه ، وأما الوقفة الآخرة فقد اضْطُرَّ إليها لما تَوَّجَ قصيدته فجأة كذلك بالجزء الأول ، تَعْبيرًا عن فَراغِ صَبْرِه الذي تَمَرَّرَ فيها على رَغْمِه كذلك ؛ فمن ثَمَّ كانت الوَقْفَتان مِنْ آثارِ لَحَظاتٍ غَلَبَتْ فيها على فَنّيَّةِ الْكَعْبي عِلْميَّتُه !
وفي غَمْرَةِ الحنين نَدَّتْ من الكعبي عَثَرات لُغَويَّةٌ كَثيرةٌ وعَروضيَّةٌ قَليلَةٌ ، كَفيلَةٌ بأن تَلْفِظَ المتلقي البَصيرَ من دُوّامات قصائدها ، من قبل أن يَتَمَغْنَطَ بشِحَنِ الحنين التي فيها !
فمن عثراته اللغوية التي صَحَّحْتُها له في قصيدته " لُقْيا " الآنفة :
رفعُ " مُحَيِّرَةٌ ، ومَلِكٌ " في قوله :
" ما بالُ أَسْئِلَتي مُحَيِّرَةً (...)
كَأَنَّ وراءَها مَلِكًا " ،
والصواب نصبهما ، لأن الاسم الأول حال ، والآخر اسم " كأنّ " .
فتحُ همزة " أَنَّ " في قوله :
" هَلْ لِحَليبِها يَوْمَ الْقِيامَةِ راضِعٌ غَيْرُ ابْنِها
أَمْ إِنَّ ما يَبْقى سَيَرْضَعُه النَّحيبُ " ،
والصواب كسرها ، لصدارتها الجملة المستأنفة بـ" أم " المنقطعة .
استعمالُ " سَويًّا " بمعنى " مَعًا " ، في قوله :
" مَعًا تَتَهْربُ الْأَنْظارُ مِنّا " ،
والصواب " معا " ، لأن السوي المستوي .
حذفُ ألف " تتعرى " ، ظنا أنه مجزوم بـ" متى " ، في قوله :
" لا تَحْزَنْ فَحَبّاتُ الذُّرى أَحْلى مَتّى تَتَعَرّى " ،
والصواب أَلّا جَزْمَ بـ" متى " التي لم تترتب هي وما بعدها ترتب الشرط ، ولكن لا حيلة في حَذْفِ الألف نُطْقًا المكتوبة عُرْفًا ، وإلا انكسر الوزن .
ومن عثراته العروضية القليلة في قصيدته الرابعة عشرة " خيال " :
طَمْسُ تفعيلتين من المتقارب ( فعولن فعولن ) ، بما يؤدي إلى تفعيلة من الرمل ( فعلاتن ) ، في قوله :
" عَصا الشَّيْخِ عَطَّلَتِ الْمَشْهَدَ الْكُلُّ مَضى
يَسْتَعِدُّ " ،
فـ" ـلُ مَضى يَسْـ = دددن دن = فعلاتن " ، لا مكان لها هنا ، ولوكان مثلا : " ـلُ يَمْضي يُعِدُّ = ددن دن ددن د = فعولن فعولُ " ، لاستقامت التفعيلتان .
زيادة مقطع قصير ( سح ) في وسط وتد ( فعولن ) ، بما يؤدي إلى مثل تفعيلة الرمل السابق نفسها ، في :
" لأن الرجال يعودون من الحرب جرحى " ،
فـ" نَ مِنَ الْحَرْ = دددن دن = فعلاتن " ، لا مكان لها هنا ، ولو كان مثلا : " نَ مِ الْحَرْ = ددن دن = فعولن " ، لاستقامت التفعيلة .
إنه إذا جاز من الشعراء جميعا أن يَعْثُروا هذه العَثَراتِ ، لم يجز من ابني أنا عبد الله الكعبي ، الذي عَرَفَ معي أن الشاعر العربي إمام عَروضي أكبر من العَروضيين جميعا ، وإمام لُغوي أكبر من اللُّغويين جميعا ، وحَفِظَ معي كلمة البحتري في تفضيل أَبي نُواسٍ الْحَسَنِ بْنِ هانِئٍ الْحَكَميِّ ، على مُسْلِمِ بْنِ الْوَليدِ صَريعِ الْغَواني ، بعد ما قيل له : " إِنَّ أَبا الْعَبّاسِ ثَعْلَبًا لا يُوافِقُكَ عَلى هذا . فَقالَ : لَيْسَ هذا مِنْ شَأْنِ ثَعْلَبٍ وَذَويه ، مِنَ الْمُتَعاطينَ لِعِلْمِ الشِّعْرِ دونَ عَمَلِه ، إِنَّما يَعْلَمُ ذلِكَ مَنْ دُفِعَ في مَسْلَكِ طَريقِ الشِّعْرِ إِلى مَضايِقِه ، وَانْتَهى إِلى ضَروراتِه " !
وَلكِنْ لا بَأْسَ بِه ، كانَ اللّهُ جارَه !