الدكتور جابر قميحة وأدبيات الأقصى والدم الفلسطيني

في إطار اهتمامه بالأدب الإسلامي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

كتاب أدبيات الأقصى والدم الفلسطيني الذي طبعه مركز الإعلام العربي في إبريل 2001 يأتي ضمن مشروع فكري للدكتور جابر قميحة، يتمثل ذلك المشروع في الاهتمام بالأدب الإسلامي عموما والاهتمام بأدب القضية الفلسطينية خصوصا؛ فهي تجري في شرايينه منذ الطفولة التي سمع فيها الخطباء يتحدثون عن الجهاد في فلسطين، ويحفظ ما يقوله الشعراء من أناشيد كقول عبد الرحيم محمود:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدا

فانفعل الدكتور جابر قميحة بما يسمع، ويحفظ وكان ذلك قبيل النكبة بقليل إثر الحرب العالمية الثانية؛ فكان أول شعره في طفولته عن فلسطين ومنه:

فلسطين أمي وحق اليقين

وحق الشهيد غدا تسمعين

غدا تسمعين بأنا أسود

إذا ما حصلنا فلول اليهود.

وظلت هذه القضية منقوشة في قلب الدكتور جابر الذي يقول عنها: "نقشت اسم فلسطين على جدران قلبي، فكانت –حتى في المكره والضراء- أعذب المناهل التي استقيت منها موضوعات شعري في ريعان شبابي واتزانات كهولتي وارتعاشات شيخوختي، إنها فلسطين أرض الأنبياء، ومسرى خاتمهم ..كانت ولم تزل العبير والدم والحياة التي تتدفق في شراييني" ص36  

ومع هذه العاطفة الجياشة يأتي التأصيل والتفصيل في الحديث عن القضية الفلسطينية وما قيل فيها في الأدب والتاريخ، فمن صلاح الدين الذي حرر الأقصى من الصليبين يبدأ كتابه عارضا سلوكيات هذا البطل الذي كان يتفقد خيام المجاهدين معه الذين أمرهم بالصلاة وقراءة القرآن فوجد إحدى الخيام صامتة لا يقرأ فيها القرآن، فقال: "الآن أعرف من أين نؤتى".

ومن هذه الحكاية عن صلاح الدين ينطلق المؤلف في الحديث عن الجهاد ودعائم النصر؛ فمفتاح القدس في أن ينطلق الجميع ليعيدوا الصلة بالله تعالى، ومن يعرض عن هذا المفتاح، فإن أبواب النصر لن تفتح له أبدا.

وهذه الرؤية يطبق عليها الدكتور جابر برسالة بعث بها إلى الطيب عبد الرحيم عضو اللجنة المركزية بحركة فتح الذي آثر أن يكون مع من يناصرون أوسلو، ويهاجمون المجاهدين معتبرين ما يفعلونه ضارا بالقضية الفلسطينية، فذكره المؤلف في الرسالة بتاريخ القضية، وذكره بجده محمود العالم الكبير، وبوالده الشاعر عبد الرحيم محمود الذي أجج المشاعر تجاه القضية، وحثه على أن يقتفي نهج أبيه وجده، ولا يركن إلى الذين ظلموا حتى لا تمسه نار اللعنة من التاريخ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها ويكتبها نورا لمن أحسن، ونارا لمن أساء.

والتاريخ يمجد الكلمة؛ فهي طريق البيان الذي أنعم الله به بعد خلق الإنسان، ومن ثم ينبغي أن تكون الكلمة طيبة أبدا تدافع عن الحق وتنصر المظلوم وتأخذ على يد الظالم، لا أن تكون خبيثة تخرب وتدمر، وتفرق وتشرذم، يقول الدكتور جابر عن الكلمة الطيبة فيقول: "هي كلمة قوية ثابتة لا تعرف التردد، وهي شامخة رفيعة، وهي كلمة نافعة للفرد والجماعة، ونفعها دائم متجدد لا ينقطع" ويقول عن الكلمة الخبيثة: "إنها كلمة تؤدي إلى التخريب والضرر، وهي كلمة لا أصالة فيها، وليس لها جذور، ومن ثم حرمت الخلود؛ لأن بقاءها ضد الحياة وطابع الوجود والأشياء ص22.

ويتتبع الدكتور جابر نماذج من الكلمات الطيبة والخبيثة فيذكر أن إسرائيل طبعت آلاف النسخ من القرآن بعد حذف الآيات التي تفضح اليهود، وينوه بالأدب الصهيوني الذي يؤصل ادعاء الصهاينة الحق في أرض فلسطين، وغرس هذه الأدبيات في المناهج التعليمية في مقابل غفلة أصحاب الحق أو تغافلهم عن ترسيخ هذه القضية في مناهج التعليم.

يذكر الدكتور اب هذه الملاحظة من خلال استقراء طويل لمناهج التعليم خارجا بجملة من النتائج مفادها أنه لا مكان لما يحض على الجهاد من آيات قرآنية وسيرة نبوية، ولا مكان لعرض جرائم اليهود وإيجاز الحديث عن القضية الفلسطينية في كتب التاريخ الحديث، وإغفال أدب المقاومة من مقررات الأدب والنصوص إلا في أضيق الحدود، واختصار أدب المقاومة في ثلاثة شعراء هم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد مع عرض شعر "لما يسمى بشعر المقاومة" فيه استهتار بالقيم الأخلاقية وثوابتنا الإسلامية، وفيها جرأة على الله وعلى الدين مثل سميح القاسم في قوله:

...واقتلوني أتحدى

أقتل الموت

وآتيكم إليها يتحدى

أما أصحاب التوجه النضالي مثل عبد الرحيم محمود وهارون هاشم رشيد وأبي سلمى فلا وجود لهم ولا اعتبار.

ولهذا الفراغ كانت دراسة الدكتور جابر عن رصد لأدبيات الأقصى التي قيلت على مدار ستين عاما فالتاريخ الإسلامي تعانقت فيه الكلمة بالسلاح، ومن ثم قام برصد قضية فلسطين في ديوان الشعر العربي، فبدأ برصد الشعر متزامنا مع التاريخ فذكر بدايات من هذا الشعر كقصيدة محي الدين الحاج التي منها:

كم كان وعدك يا بلفور مشأمة

أعوذ بالله من شؤم المواعيد

وقصيدة لإبراهيم طوقان التي يسخر منها من الاحتلال البريطاني الذي رسخ أقدام الصهيونية في فلسطين ويقول فيها:

قد شهدنا لعهدكم بالعدالة

وختمنا لجندكم بالبسالة

وعرفنا بكم صديقا وفيا

كيف ننسى انتدابه واحتلاله

وخجلنا من لطفكم يوم قلتم

وعد بلفور نافذ لا محالة.

ويظل الكاتب متتبعا مراحل هذا الشعر فيذكر ما قاله مطلق عبد الخالق بعد النكبة بعشرين عاما، فيقول:

عشرون عاما قد مضين ولم تكن

يا يوم إلا ريبة المرتاب

أو لست ذا وجهين وجه باسم

لهم ووجه بارز الأنياب

دخلوا بلادك فاتحين فصنتهم

وأذقتنا يا يوم مر عذاب

ما أشأم الدنيا وذكرك حافل

بفواجع الأشلاء والأسلاب

ولا يقتصر الدكتور جابر على التتبع الزمني لما قيل من شعر في القضية الفلسطينية بل يقسم هذه القضية إلى موضوعاتها الرئيسية، وتأتي قضية القدس على رأسها، فيتناول في فصل من الكتاب "القدس والمسجد الأقصى في ضمير الشعراء"، ويبدأ رصده لما قيل من أدبيات في المسجد الأقصى فينقل قول شوقي الذي يقول:

أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه

والرسل في المسجد الأقصى على قدم

لما خطرت به التفوا بسيدهم

كالشهب بالبدر أو كالجند في العلم.

ويتتبع ما أثاره الشعراء في هذه القضية بغض النظر عن سن الشاعر، أو جنسيته، فيذكر مثلا قول يوسف العظم:

يا قدس يا محراب يا مسجد

يا درة الأكوان يا فرقد

سفوحك الخضراء ربوع المنى

وتربك الياقوت والعسجد

كم رتلت في أفقها آية

وكم دعانا للهدى مرشد.

وينتقل الشاعر لقضية الشهادة والدم الفلسطيني فيذكر جملة من المختارات منها قول عرنوس:

قل للشهيد وصحبه أديتم

حق الرسالة فاذهبوا بسلام.

ويفرد الدكتور جابر قميحة فصولا كاملة لمن سخروا قلمهم خدمة للقضية الفلسطينية مثل الشاعر نجيب الكيلاني وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم طوقان مبينا حس الأدب الإسلامي عندهم، فيرصد بصمات القرآن والسنة في شعر إبراهيم طوقان، ويبرز مثلا أن نتاج نجيب الكيلاني كان مسخرا لخدمة الأمة الإسلامية، وينقل قوله:

أريد الفن أن يلهب روح الغضبة الكبرى

يشكل جيلنا الحيران، يذكي فكره الحُرا

يطارد خيبة الآمال والإلحاد والفقرا

يفيض على الربا عدلا، ويملأ أرضها برا.

وينقل قول الكيلاني في القدس حيث يدعو إلى الثأر من اليهود فيقول بقلب يتفجر عزما ويجيش أملا:

والقدس أرجعها إلى الأحرار والشعب المجيد

وأعيدها قدسية الأعطاف كالماضي السعيد

وعلى المآذن يهدر التكبير في الفجر الوليد

وستعلم الأحداث كيف تقارع الخطب الشديد

يحمي الإله حشودنا وبقلبنا العزم الحديد

وكان للطفل أيضا نصيب وافر في أدبيات الأقصى والدم الفلسطيني، فتحت عنوان الانتفاضة والطفل المارد يحلل الدكتور جابر قميحة قصيدة للشاعر عمر بهاء الدين الأميري راسما صورة الطفل الذي هو رمز للأمل عندما يجاهد فيقول:

صائحا الله أكبر

ضاق بالقمقم واستعلى عليه

فتكسر

وانبرى من سجنه

مثل شهاب

وتحرر

عقد العزم أبيا

ومضى لا يتعثر

صائحا الله أكبر

يقول الدكتور جابر معلقا على هذه المقطوعة: "إن هتاف الله أكبر وقد كرره الشاعر في القصيدة إحدى عشرة مرة هو العبارة المحورية التي ارتبطت بها كل خيوط القصيدة، ومنحتها دفقات من العبق الطيب الذي حملته وتحمله على مدى التاريخ".

ويتكلم المؤلف عن صورة الطفل محمد الدرة في قلوب الشعراء، ذلك الطفل الذي قتله الصهاينة عمدا دون جريرة، فينقل مثلا قول أحمد بخيت:

يا كحل عيني يا محمد

يا رغيف الطيبين

يا يوم عيدي

يا شهيدي

يا مخيم لاجئين

ويأتي بقول عبد الله رمضان الساخط على الأنظمة الحاكمة التي لا تملك الجرأة في الدفاع عن الطفولة الحالمة في قصيدته الكل باطل وفيها يقول:

الكل باطل

والكل قاتل

والكل في بئر الخيانة والرذائل.

ويختم الدكتور قميحة هذا الكتاب بمختارات مما قاله شعرا في القدس ونختار منها قوله في قصيدة فتى الانتفاضة:

يا أيها الأبطال يا شرفاء أوفوا بالعهود

لا تقنطوا من رحمة الجبار ذي العرش المجيد

فالفجر آت –لا محالة- لم يعد منكم بعيد

وغدا ستنهار المواقع والموانع والسدود

وتذوب من إيمانكم وجهادكم كل القيود

وتعود راية أحمد للقدس في هزج سعيد .

تلك كانت لمحة خاطفة عن محتويات كتاب أدبيات الأقصى والدم الفلسطيني للدكتور جابر قميحة وهي كما قلت تأتي في إطار الأدب الإسلامي الذي سنفرد له الحديث في مقالات قادمة إن شاء الله.