قراءة في المجموعة الشعرية عناقيد آخر الليل

شعلان حسين الدراجي

قصائد الشجو مع الوطن

شعلان حسين الدراجي

صحفي و إعلامي

في كل مرة يطالعنا الشاعر عبدا لزهرة لازم شباري بنفس جديد و بإبداع يختلف عن الذي سبقه ، ففي مجموعته الرابعة ( بكائيات الربيع ) و التي كان لي الشرف في تصميم غلافها ، كان محورها يدور حول أزيز الشظايا و حديقته الخالية من الزهور التي تسقي نخلتها الوحيدة بالدم بتعابيره المجازية للمشاعر الإنسانية التي انتابته في مرحلة عصيبة احتوت جيله و أجيال أخرى من أبناء هذا الوطن الجريح كلل الشاعر إرهاصاته و خلجاته مصوراً الحياة القاسية التي يعيشها شعبنا في خضم أيام القهر فكانت هذه البكائيات !!

أما مجموعته الأخرى و هي الخامسة ( عناقيد آخر الليل ) فهي الأخرى تحتوي على لوحات شعرية و صور إبداعية يعرض الشاعر فيها معاناته الذاتية و ما يعتصر من أسى و هو يشاهد في كل زاوية من زوايا هذا الوطن الخراب و التشرد بذره الوعي المعرفي في ثقافة الآخر و التشرذم في المنافي فيقول في قصيدته :

فعلام نعبر الديار الغريبة

و أنت الملاذ الدافئ ،

و علام تلفظنا الشوارع والهين !!

الوطن هو الملاذ الدافئ الذي يشعر فيه الشاعر بالسكينة و الهدوء رغم ماينتاب هذه السكينة من نغم نشاز ربما يعكر صفوه في رسم الكلمات و الصور و حلمه في مملكته الوارفة بين ظلال أشجار النخيل فيقول :-

عند شجوي مع الوطن

ينتابني هاجساً

في أن الثم تراب قدميك

و أغفوا على همس عينيك !!

طالما مازج الشاعر بين تراب الوطن الذي يمني النفس في أن يلثم تراب قدميه و ينام مطمئناً بين ذراعيه الحبيبتين و هذا التعبير المجازي الذي يقصد به الشاعر بلده و ما يمر فيه من مأساة انعكست على سلوكه و نفسيته و على شعره بطريقة ما سواء كان عالماً بذلك أم لا هو أدق التعابير و أسمى آيات الوصف و التصوير فيقول :-

عند شجوي مع الحبيب

يتوسدني في ذراعيه .

و غمازتيه المعبأة بالحنان

ثم يسحب صمتي المطبق ......

ينشطر حب الشاعر و ينشق صمته المطبق الذي كان يلوذ به بين ذراعي الوطن الحبيب .

هنا تتقدم الدلالة الرمزية عبر الصور الشعرية التي يوظفها الشاعر لأغراضه و أساليبه الفنية التي يستوحي فيها خيالات قصوى لفظية و دلالات شعرية لخدمة القصيدة و في أحيان أخرى يأخذها لتغطيته المباشرة حتى يقطع المسافة التي تفصل بينه و بين المتلقي سواء كان ذلك المتلقي نخبوي أم كان من عامة الناس .

الشاعر يحاول دائماً ردم هذه المسافة ليكون قريباً من متلقيه ..

و أتنسم هواك الرطبي

أتعبتنا أحلام السنين

التي أربكت أفراحنا و ضيعتنا !!

هذه الاستعارات اللفظية تبدو لي مباشرةً ليس ركةً في جزالة الشاعر و إنما لتوصيل الفكرة التي يطرحها دون تكلف و الابتعاد بالمعنى عن فكر المتلقي و في قصيدته يطفئ الشاعر سراج الأيام ووهجها و يتوسد بوحه داخل ظلمة النفس التي طالما حملت الكثير من معاناة الأيام العقيمة واسترجعت هالات التقزم و الانفلات التي كان الهوام يستخدمها ضد أبناء شعبه لعله يسترجع وقع الذكريات عندما يستسلم إلى الصمت الحزين فيقول :-

عند شجوي مع الصمت

أطفئ سراج الأيام

و أتوسد بوحي

لعلي أركن إلى الصمت

الحزين ..!!

هذه المجموعة كغيرها من مجاميع الشاعر و هي عصارة جهد فكره و تأملاته و معاناته الذاتية و ما ضمت من قصائد جميلة و مبدعة كان الأحرى بالقارئ أن يسترجع تلك الأيام الخوالي و يعيش معه و هو يهظم معاناته في جو من الصمت الدفين ( كأحلام المحطات، صحراء العمر ، أيام الغربة ، قلق ، خدوش في الذاكرة ، و غيرها كثير) كل هذه القصائد هي زفرات تختلج في داخل أعماقه و معاناته الإنسانية التي تنعكس عليه من خلال محيطه الذي يعيش فيه و الذي يعاني من ويلات الحروب و التشقق الطائفي فمن خلال هذه الإحداث استطاع الشاعر أن يصوغها في قالب شعري عبأ فيه كل معاناته على شكل صور و لوحات رومانسية تارةً و تارةً أخرى يسترجع حالات عاشها في الماضي ليميزمن خلالها صمته و السكون الذي يلتف حوله ليعبر إلى متلقيه عوامل الضجر و يدفع عنه هاجس الملل عند تناول قصائده فهو ينأى بنفسه عن النمطية في تناول الموضوع و صياغة مشهده الشعري ، و إني لعلى ثقة تامة بأن الشاعر ينحو بشعره على طريقته الخاصة و هذا الطريق قد يكون ابتكره لنفسه دون عناء للمتلقي و القارئ .

و عليه لاأريد أن أتابع في تحليل قصائد هذه المجموعة المبدعة و أسلب من القارئ فرصة التمتع و الإبحار مع خلجاتها و إرهاصاتها بقدر ما أروم الإشارة إليها بالنقد الهادف لعلي أصبت فيما هو هادف و جميل .

و من الله التوفيق ...