حُسْنُ الظَّنّ

(في ديوان العرب)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرتْ مسرى الأمثال، قولهُم "العربُ أمة شاعرة". وكذلك قولهم "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

***

 في هذه الحلقة من ديوان العرب نعيش مع فضيلة من الفضائل الخلقية النفسية ذات الأثر الكبير في سلوك الفردِ وتماسك المجتمع، وهي (حسنُ الظن). ولكن قبل أن تلج ديوان الشعر العربي إليك هذه الإضاءة المُعْجمية لمفهوم الظن:

الظن: خلاف اليقين. أو علم الشيء بغير يقين، أو هو إدراك الذهن الشيءَ مع ترجيحه.

والظنة: التهمة، والجمع ظنن، فهو ظنينٌ أي متَّهَم.

والظنون من الرجال (بفتح الظاء): السيء الظنِّ بغيره، كلُّ ما لا يوثق به. يقال (دين ظنون) أي غيرُ موثوق بقضائه.

 وقد يحسن الظن فيكون بمعنى اليقين، كما نرى في قوله تعالى في وصف المؤمنين: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) البقرة 46 . ومن الظن السيء ما جاء على لسان الثريِّ الكافر الجاحد الذي رزقه الله جنتين أي حديقتين، فلم يشكره، بل كفر وجحد (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا). الكهف 35  36

 والظن السيء من صفات المنافقين كذلك، كما نرى في قوله تعالى: (...وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ...) آل عمران 154.

 ومن ثم نهى القرآنُ عن الظن السيء؛ لأنه شر وإثم، وخرطهُ في سلكٍ واحد مع رذائل أخر تخربُ النفوس، وتدمر المجتمعات. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ...).الحجرات 12 .

***

ونلتقي في ديوان العرب بصالحِ بن عبد القُدُّوس الذي التقط بعض الكلمات من الآية الأخيرة فقال على البديهة:

ألا إنَّ بعضَ الظنِّ إثمٌ فلا تكنْ                   ظَنُونًا لما فيهِ عليك أَثَامُ

وفي حكم طيبة تتوالى أقوال الشعراء داعيةً إلى الظن الحسن، ناهية عن الظن السيء. يقول أحد الشعراء:

 سأتركُ للظنّ  ما  بعدهُ                         ومن يكُ ذا ريبةٍ يسْتبنْ

 فلا تَتْبَع الظنَّّ إن الظنو                        ن تريكَ من الأمْرِ ما لم يكنْ

وقال آخر:

 فَظُنَّ بالناسِ خيرًا                       فالخيرُ طبعُ الكرامِ

 وشَرُّ شَرِّ البرايا                        من ظنَّ ظنَّ اللئامِ

ومن المعاني الجيدة في هذا المجال أن الإنسان إذا أساء الظن بغيره، فكأنما يحرضهم على الغدر والجحود، والخيانة من حيث لا يدري، وفي ذلك يقول يحيى بنُ زياد:

 إذا أنت خَوَّنْتَ الأمينَ بظنِّهِ                    فتحتَ له بابا إلى الخوْنُ مُغْلَقا

 فإياك إياك  الظنونَ  فإنّها                      أو أكثَرَها  كالآلِ  لما  ترقرقا

وقريبٌ من هذا المعنى ما يقوله الشاعر نفسه:

 وسوءُ ظنِّك بالأدنَينْ داعيةٌ                      لأن يخونَك مَنْ قَدْ كانَ مؤتَمَنَا

وسوء الظن يفتحُ الباب واسعًا لتسوىء العلاقة بين الأصدقاء ، ويجعلُ نفوسهم مهيأة لتصديق ما يُعقلُ وما لا يعقل، ويخلق للأعداء مرعى خصيبًا يرتعون فيه، وهذا المعنى عالجه الطرماح بن حكيم في قوله:

 متى ما يسوء ظن امرئ بصديقه                        وللظن أسبابٌ عراضُ المسارِحِ

 يصدق أمورًا لم يجئه يقينها                             عليه، ويعشقْ سمعه كل كاشح

وقد عُرف البهاء زهير برقته في الغزل بصفة خاصة، ويخشى أن تكون صاحبته قد أساءت به الظن، فكانت القطيعة والهجر، ومن ثم شرع يتساءل بأسلوبه الرقيق:

مـا لـه عَنَّيَ iiمالاًَ؟
أت_ـرى ذاكَ iiدلالا
كـيف  أنسى لك iiأو
أنت  في الحسنِ iiإمام
لا، وحق الله ما ظنُّك
إن بـعضَ الظنِّ iiإثمٌ





وتـجـنَّـى  iiفأطالا؟
مـن حبيبي أم iiملالا؟
أسلوُ جميلاً أو iiجمالا؟
فـيـك  قلبي iiيتوالى
فِـي  حـقـيِّ iiحَلالا
صـدق اللهُ iiتـعـالى

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه  ونحن في مقام الحديث عن الظن  هو: هل الظنُّ دائمًا خطأ وإثم؟ أم من الظن ما فيه صوابٌ ونفع؟ فلنترك الجواب لديوان الشعر العربي. يقول أبو العتاهية:

 وما كلُّ الظنونِ تكون حقًّا          ولا كلُّ الصوابِ على القياسِ

ويلح على هذا المعنى ويؤكده في قوله:

الظنُّ   يخطئُ   تارة   ويصيبُ                 وجميعُ  ما  هو كائنٌ فقريبُ

تصبو النفوسُ إلى البقاء وطولِه                  إن البقاء إلى النفوس حبيبُ

***

وواقع الحياة يقول إن الإنسان قد يظن الظن الحسن في شخص ما، ولكن سلوكه يخيب الظن فيه، وقد ينفعك بصدق من أساتَ الظنَّ فيه. فالظن  بالنظر إلى الواقع العملي السلوكي  دائر بين الصواب والخطأ، أو بين الصدق والميْن: على حد قول مهيار الديلمي

 وقالُوا يكونُ البينُ والمرءُ رابطٌ                         حشَاه بفضل الحزْم، قلتُ يكون

 وقد يضمنُ القلبُ الصراحةَ لو وفى                      ويصدقُ وعدُ الظن ثم يمينُ

 وديوان العرب يحكي واقعة عملية تؤيد هذا المعنى، وخلاصتها أن جعفرَ بن عفانِ الطائي ترك حصانه وديعة عند صديق له يدعى أبا حفص، وسافر لأداء فريضة الحج، فلما عاد وجد صاحبه قد أهمل حصانه، ولم يمنحه الرعاية الواجبة فأصابه المرض والهزال، فقال يعاتبه:

من عذِيرِي مَنْ أبي حفص، وثقْتُ به
فـلـم  يـكـنْ عند ظنِّي في iiأمانتهِ
أضـاعَ مُـهـري، ولم يحسن iiولايته


وكـان عـنـدي لـه في نفسه خَطَرُ
والـظـنُ يـخْـلف والإنسانُ iiيُخْتبرُ
حـتـى  تـبين فيه الجهدُ iiوالضررُ

 وأطرف من ذلك عتابُ جرير لابن سعدٍ صاحب ديوان العطاء، لقد أحسن به جرير الظن آملاً أن يعطيه وأهله ما يصبو إليه، ولكنه بخل عليهم بالكثير والقليل، فقال جرير:

لقد كان ظنِّني  يا ابنَ سَعد  سعادةً              وما الظن إلا مخطئٌ ومصيبُ

تركتَ  عيالي  لا   فواكهَ  عندهمْ              وعند  ابن  سعدٍ  سكرٌ وزبيبُ

منعتَ  عطائي يا ابنَ سعدٍ،  وإنما              سبقت إليَّ الموت، وهو قريبُ

وقد تكون هذه الوقائع العملية التي تمثل المعاناة الشخصية من الأسباب التي دعت كثيرًا من الشعراء إلى سوء الظن، بكل الناس حتى الأصدقاء منهم، على حد قول أبي العلاء المعري:

 فظن بسائر الإخوان شرًّا                ولا تأمنْ على سرٍّ فؤادا

ويقول البحتري:

 أما العُداةُ فقدْ أَرَوْك نفوسهُمْ           فاقصد بسوء ظنونك الإخْوانا

ولا شك أنها دعوة غالطة، تؤدي إلى فساد المجتمعات وغرس العداوة، والبغضاء في النفوس، وليس هناك أفضلُ من حد الوسطية، وهي جوهر ديننا الحنيف: فعلينا أن نسيء الظن بأعدائنا. أعداء ديننا، وأمتنا، ونكون دائمًا على حذر وأهبة كاملة، وعلينا أن نحسن الظن بالناس، ولكن حسن الظن هذا يجب أن يكون مشفوعًا بالحيطة، واليقظة والحذر.

 ***

ونتركك  يا عزيزي القارئ على أمل اللقاء  إن شاء الله  في حلقة قادمة من ديوان العرب، والسلام عليكم روحمة الله وبركاته.