غواية التراث

كتاب د. جابر عصفور الأخير

("غواية التراث" أم غواية الكلام المرسل دون دليل؟)

أ.د/إبراهيم عوض

[email protected]

حين رأيت، للمرة الأولى قبل عيد الفطر الفائت بنحو أسبوعين، كتاب الدكتور جابر عصفور: "غواية التراث" المنشور فى سلسلة "كتاب العربى" عند بائع الصحف لم أتحمس له كثيرا، ومن ثم لم أشتره. وربما كان لعدم وجود فكّة معى فى ذلك الوقت دخل فى هذا القرارـ وربما كان لكتاب إبراهيم عبد المجيد: "غواية الإسكندرية" دخل أيضا فى عدم الشراء، إذ كنت قد اشتريته قبلها بقليل ممنِّبا نفسى أن أعثر فيه على ما يمكن أن يفسر سر نفورى من قراءة ذلك الكاتب، الذى لم أستطع فى التسعينات أن أقطع من روايته: "الصياد واليمام" أكثر من صفحات معدودات ألقيت بالرواية بعدها جانبا ضيقًا ببطئها وثقلها وعجز الكاتب عن التعبير السلس المبين بسبب اضطراب الضمائر فى يده فلا تعرف عمن يتكلم إلا بصعوبة غير مسوغة فنيا، كما لم أجد فى مجموعة قصصية له اشتريتها من "مكتبة الأسرة" بعد ذلك بسنوات ما يبرر الكلام الكبير عنه وعن أعماله، إذ بدت لى عادية جدا يستطيع أى شخص أن يكتب مثلها، فقرأت منها بعض ما فيها من قصصٍ بُغْيَةَ العلم بالشىء ليس غير، لا بحثًا عن المتعة أو رغبةً فى الكتابة عنها لأنى لم أجد فيها ما يستحق الانشعال بها أكثر من ذلك. لكن تكرار رؤيتى للكتاب ووجود الفكّة معى فى المرة الثانية أو الثالثة قضى على ترددى فوجدتنى أشتريه وأتغاضى عن الزيادة القليلة التى أضافها البائع إلى سعره الرمزى. ومضيت فى قراءة كتابه الجديد: "الغواية" بهذه النية وذلك التطلع، إلا أننى لم أجد فيه ما يساعدنى على التخلص من النفور القديم من الكاتب وما يخطه قلمه. زد على هذا أن الرجل ينحاز لكل ما هو أجنبى عن التربة المصرية العربية المسلمة، سواء كان فكرا ماركسيا كان هو واحدا من أعضاء الحزب الذى يعتنقه ويرفع رايته، أو جاليات أوربية مختلفة أو احتلالا رومانيا قديما، ولا يرى فى شىء من ذلك ما يمثل غزوا ثقافيا يهدد حياتنا السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية، وفى ذات الوقت يَسِم المصريين الذين ذهبوا إلى السعودية للعمل ثم عادوا بأنهم يمثلون "غزوًا ثقافيًّا رجعيًّا" بنص كلامه. يا ألطاف الله! إلى هذا الحد؟ مع أنه هو نفسه قد ذهب مثلهم للعمل بالسعودية! آه، لكنْ يبدو أنه، كما ذهب ماركسيًّا، عاد ماركسيًّا، وليس فى الماركسية بطبيعة الحال، كما هو واضح، شىء من الغزو الثقافى بالمرة! يعنى أن المصريين المسلمين الذين عادوا من الخليج هم غزاة ثقافيون رجعيون متخلفون بما يعنى أنهم عنصر غير مرغوب فيه وينبغى التخلص منه ومن أخطاره وتهديداته، رغم أن هناك من الكتّاب من إذا سمعوا أحدا ينادى باليقظة والتصدى للغزو الثقافى الغربى خوفًا من الفكر الإلحادى مثلا أو الانفلات الجنسى زِنًا ولِوَاطًا وسِحَاقًا اتهموا من يتكلمون بهذه الطريقة بالتخلف والانغلاق. المهم إذن أن هناك فعلا غزوا ثقافيا، وليس الأمر وهما خاطئا فى أذهان من يقولون به. كل ما فى الأمر أن الغزو المكروه هنا ليس هو الغزو الغربى بل الغزو العربى الإسلامى! أقول هذا رغم أنى لا أرى وجوب تغطية المرأة وجهها أو إطلاق الرجل لحيته مثلا، بَيْدَ أننى لا أرى أيضا فى سلوك أولئك الذين يتصرفون بخلاف ما أرى إلا لونا من الحرية التى ليس فى القانون ولا فى الشريعة ما يمكن أن يؤاخَذوا بسببه. وعلى الأقل فهذا أفضل ألف مرة من العُرْى وشرب الخمر وأكل الخنزير والإلحاد والتبعية الذليلة للثقافة الغربية التى لا يستطيع من ابْتُلُوا بها من الأذناب عندنا أن يفرزوا غَثَّها من ثمينها، إذ لا يعرفون لهم مرجعية عربية إسلامية، وإن كنت أيضا آخذ على طائفة من المتدينين اهتمامهم المغرق فى الشكلية وتمسكهم الشديد بالتفصيلات غير الجوهرية على حساب القيم العليا للدين: كالسعى لتحصيل الثقافة والتعمق فى العلوم والتفوق فى التخصصات المختلفة وإتقان العمل والتدقيق والإبداع فيه والحرص على التخطيط والنظام والنظافة والجمال والأناقة والتسامح الفكرى والمذهبى والوعى الحقيقى بالأخطار المبيرة التى تتهدد وجودنا فى هذا العصر العجيب. خلاصة الكلام أن إبراهيم عبد المجيد لا يرى مثلا فى دخول الفكر الماركسى إلى مصر واعتناقه هو وأشباهه له وانخراطهم فى أحزاب تدعو إليه وتعمل على نشره فى البلاد ما يعاب وما لا ينبغى أن يسمَّى: "غزوا ثقافيا"، أما النزعة العربية الإسلامية فهذه رجعية وتخلف. ثم يحدثنا بعض من يمسكون بالقلم من أبناء جلدتنا عن وجوب قبول الآخر. نعم، لكنه الآخر الغربى الذى يخطط منذ قرون لاستئصالنا ثقافيا على الأقل، إن لم يكن استئصال وجودنا نفسه لو استطاعوا كما فعلوا مع الهنود الحمر فى أمريكا وسكان أستراليا الأصليين، وكما فعلوا أيضا إلى حد ما ويريدون أن يمضوا إلى نهاية الطريق فيه مع الفلسطينيين.

فهذا أحد أسباب ترددى فى شراء كتاب الدكتور عصفور، إذ ذكّرتنى كلمة "الغواية" فى عنوانه بمثيلتها فى عنوان كتاب "غواية الإسكندرية" الثقيل الظل الوخيم الأنفاس الذى لا يطيق صاحبُه وجودَ طائفة من المصريين فى الإسكندرية، وإن لم يحدثنا عما ينبغى أن نعمله فى موضوعهم: أنحبسهم؟ أم ننفيهم من البلاد كليةً؟ أم نكتفى بردّهم على أعقابهم من عروس البحر المتوسط التى لا يمكن طبعا أن تتسع فى نفس الوقت لهم ولأمثال الخواجة داريل وكفافيس وتزالاس وتسيركاس والميّتين فى هواهم كالأستاذ عبد المجيد والأستاذ إدوار الخراط اللذين يمثلان، فى نظر كاتبنا، قيم التحضر، وعليهما ألقت الأقدار عبء مواجهة التحدى المتمثل فى ذلك التخلف التصحيرى ودحره، أو على الأقل إرجاعه من حيث جاء رغم أنهم جاؤوا (والله العظيم) من مصر؟ أم نعدمهم ونخلّص مصر من شرهم وعارهم فنريح ونستريح؟ وطبعا لن تفتح أمريكا فى هذه الحالة ملفّهم أو تؤلّب الدنيا على مصر بسببهم، فأمثالهم ليس لهم عند "ال أمري كان لى" أية حقوق إنسانية أو حتى حيوانية!

إن الرجل يتكلم باعتزاز وحنين عن الجاليات الأوربية المختلفة التى كانت تعيش فى الإسكندرية من قبرص ويوغوسلافيا وأرمينيا واليونان وإيطاليا وروسيا. حتى ثوار المدرعة بوتومكين الروسية الذين أسسوا أول حزب شيوعى فى "كنانة الله فى أرضه" وأصدروا أول صحيفة ماركسية فى بلادنا الطاهرة فى السنوات الأولى من القرن البائد، هؤلاء الشيوعيون الحمر المغرمون بالدماء والعمل فى الظلام وبث الكراهية بين الطبقات وتأليب فئات الشعب بعضها على بعض يجدون، رغم أنهم أجانب أغراب لا علاقة لهم بمصر ولا بطين مصر، مكانا رحبا وسيعا فى قلب إبراهيم عبد المجيد، ووجودهم فى أرض المحروسة إذن مبارَك ومكرَّم، أما أولئك المصريون الذين لا يشاطرونه أفكاره مثلما لا يشاطره إياها إلا قلة جِدّ ضئيلة ليس لها عدد يذكر من عموم أهل الوادى فكلا وألف كلا، وكأن مصر (أو الإسكندرية على الأقل) قد تحولت إلى عزبة يملكها ملكية خاصة لا يشاركه فيها أحد، فمن حقه أن يقول لهذا: "نعم"، ولذاك: "لا" دون أن يكون لأى إنسانٍ الحق فى التعقيب عليه ولو بكلمة "بِمْ"! لَكُمُ الله (آسف! بل عليكم اللعنة) أيها الرجعيون المتخلفون الرِّمَالِيّون! والرِّمَالِيّون هذه نسبة إلى"الرِّمَال" كما هو بَيِّن، إذ حقّر الأستاذ الكاتب ثقافة الرمال (أو حسب تعبيره: "الروح القبلى الجاهل المشبع بالرمال". والمقصود حسب فهمى، والله أعلى وأعلم، ثقافة العروبة والإسلام لكونها آتية من الصحراء حيث تكثر الرمال كما نعرف جميعا) مثلما حَقَّرَ من شأنها سلمان رشدى فى روايته: "الآيات الشيطانية". ولعل من المناسب أن أوضح للقارئ أن كلام إبراهيم عبد المجيد هذا قد قاله ضمن مداخلة له فى ندوةٍ ("عالميةٍ" كما سماها) بمكتبة الإسكندرية عام 2001م. هل تعنى هذه المعلومة لكم شيئا؟ ومع ذلك فقد قلت لنفسى: إن كلمة "التراث" فى عنوان كتاب الدكتور عصفور جديرة يا فلان (فلان هذا هو أنا) بأن تجعلك تتغلب على ترددك ونفورك من كتاب الأستاذ عبد المجيد الذى ألقى بظلاله الثقيلة الوخيمة على كتاب الدكتور جابر. وكان أن اشتريتُ "غواية التراث"!

وبالمناسبة فهذه الأيام تشهد هوجة من الغوايات ولا هوجة عرابى فى زمانه: فهذه غواية التراث، وهاته غواية الإسكندرية، وهذى غواية الحرف، وهاتى غواية الحب، وذى غواية السحر، وتى غواية الشيطان، وذِهْ غواية المستحيل، وتِهْ غواية الدمعة، وهاذيك غواية الحركة، وهاتيك غواية السرد، وتيك غواية الكتابة، وتلك غواية الجسد... إلى آخر الغوايات التى تخطر والتى لا تخطر على البال. وبالمناسبة أيضا فقد كتبتْ شيخة الإسلام السِّحَاقِيّة إرشاد مانجى فى كتابها:" مشكلة الإسلام اليوم"، الذى تهاجم فيه الإسلام وإلهه ورسوله وأتباعه وتدعو فيه المسلمين بقوة إلى إباحة اللواط والسحاق حتى يثبتوا أن الإسلام دينٌ حنونٌ غير قاسٍ، هذه الشيحة السحاقية كتبت تثنى على د. جابر ثناء شديدا وتنقل عنه ما تراه سببا لاستحقاقه هذا الثناء الحار، وهذا نص كلامها فى ترجمته العربية: "جابر عصفور كاتب مصري يُبْدِي ارتياعه إذ يرى زحف "إسلام الصحراء" على ما في بلده من تقليد في التبادل الصاخب بالأخذ والرد. وهو يشير إلى أن إسلام الصحراء يتعارض مع ما في "حياة "الحارة" من تعددية ومساومات، إذ انه متعصب". وعلى غرار بَدْو القرن السابع (أرجو أن يأخذ القارئ باله جيدا من عبارة "بدو القرن السابع" هذه!) الذين كانوا يرَوْن في كل منعطف ثأرا يتربص بهم فإن الإسلاميين الذين يستوحون حياة الصحراء يرتابون فورا بـ"الآخر"، وحتى يضمرون له الكراهية. و"الآخر" هو اليهود، والغربيون، والمرأة التي يقول عصفور إن ثقافة الصحراء تعدُّها "مصدرا للغواية والشر"...". نفس الكلام الذى يقوله إبراهيم عبد المجيد! وقد نقلت هذا النص من دراستى المنشورة على المشباك بعنوان "شيخة الإسلام السحاقية، والاجتهاد على الطريقة الأمريكية" منذ أكثر من عام.

وكتاب الأستاذ الدكتور يضم عشرين مقالا نشرتها مجلة "العربى" الكويتية فى عامى 1994م- 1995م تتحدث عن الأدب العربى القديم شعره ونثره وعدد من القضايا المتعلقة به وبعض الدارسين الذين اهتموا بذلك التراث كالدكتور طه حسين ود: محمد النويهى ود. مصطفى ناصف والأستاذ صلاح عبد الصبور. وسوف ينصبّ كلامى هنا على ما جاء فى المقدمة والفصلين الأولين من الكتاب لما اطلعت عليه فيها من أفكار وآراء بدت لى غريبة ومتسرعة ولا تقوم على أى أساس سوى القفز المتعجل من شاهد هنا أو عبارة هناك إلى نتائج لا وشيجة بينها وبين تلك المقدمات. ولسوف أدلف إلى الموضوع رأسا دون تضييع وقت فأقول إن الدكتور جابر قد ربط بين الشاعر والنبى فى أكثر من موضع مؤكدا أن الجاهليين كانوا ينظرون إلى الشاعر والنبى بنفس العين (د. جابر عصفور/ غواية التراث/ كتاب العربى رقم 62/ 15 أكتوبر 2005م/ 15، 17)، وساق فى هذا الصدد كلمة منسوبة إلى أبى عمرو بن العلاء تقول: "كانت الشعراء عند العرب فى الجاهلية بمنزلة الأنبياء عند الأمم الأخرى" (المرجع السابق/ 17). لكن ههنا سؤالا ملحا يحتاج إلى جواب مقنع شاف، وإلا ظل يَشُوك العقل ويزعجه، وهو: كيف يا ترى يقال إن الجاهليين كانوا ينظرون إلى النبى والشاعر على أنهما شىء واحد، وهم قد رفضوا النبوة متمثلة فى شخص النبى محمد، فى الوقت الذى لم يكونوا يرفضون فيه الشعر ولا الشعراء؟ بل كيف اتهموه عليه الصلاة والسلام بأنه ليس نبيا بل شاعرا لو كان الشعر هو النبوة عندهم، والنبوة هى الشعر؟ الحق أنْ ليس لموقفهم هذا من معنى إلا أن النبوة والشعر لديهم شيئان مختلفان لا يلتقيان. ذلك أنهم، باتهامهم له صلى الله عليه وسلم بالشعر، إنما كانوا ينكرون النبوة من جهة، ويحاولون التحقير من شأنه وشأنها من جهة أخرى. لقد كانوا يريدون أن يقولوا له إن الأمر الذى جاءهم به هو أمر عادى جدا، فهو ليس إلا واحدا من هؤلاء الشعراء الذين يملأون الجزيرة شمالها وجنوبها وشرقها وغربها، أما النبوة فدونها خَرْط القَتَاد. أى أن الكلام عن النبوة ليس هو الكلام عن الشعر. إنهما أفقان مختلفان لا يلتقيان، وليس كما يُفْهَم من كلام الكاتب من أنهما كانا عندهم شيئًا واحدًا. وأمامنا نصوص الشعر الجاهلى وتراجم شعرائه، ويا ليتنى أجد مَنْ يدلّنى على نص يناقض ما أقول! أما كلام أبى عمرو بن العلاء فهو مجرد دعوى لا ندرى أقالها فعلا أم لا. وإذا كان قد قالها أكان يعنيها بحذافيرها أم لا. وحتى لو كان يعنيها بحذافيرها فإنّ كلامه لا يلزمنا ما دمنا لم نجد فى أخبار الشعراء ولا وقائع التاريخ ما يصدّق ما قال. ثم لقد كان العرب يطالبون النبى عليه السلام بأن يأتيهم بمعجزة، فهل مَنْ سمعهم قد طلبوا من أىٍّ من شعرائهم شيئا من هذا البتة؟ وكان موقفهم من النبوة عنيفا غاية العنف، ولم يكونوا يقبلون أن يقول لهم النبى عليه الصلاة والسلام إنه متصل بالسماء يأتيه الوحى منها بُكْرَةً وعَشِيًّا، واتهموه بسببها بالجنون وعرضوا عليه أن يأتوه بالأطباء كى يعالجوه ويشفوه من هذا المس الشيطانى الذى نزل به، فهل من سمعهم يتهمون أيا من شعرائهم بهذا أو بعشر معشار هذا؟

ولقد ردد الدكتور هنا أيضًا ما قاله بعض العلماء القدامى من أن القبيلة كانت، إذا نبغ فيها شاعر، احتفلت به أيما احتفال وجاءت وفود القبائل الأخرى لتهنئها بهذا (ص 18)، فهل من سمع أن قريشا احتفلت بالنبى عليه السلام وهنأت أنفسها باصطفاء السماء له؟ أقول هذا رغم تحفظى على مثل هذا الكلام الذى نقله الدكتور وردده كما هو دون أن يعرضه على ميزان التحقيق والدليل، وسوف آتى إلى هذا بعد قليل. لكنى أردت أن أحاجج الكاتب بكلامه لأبين له أن الطرق كلها مسدودة فى وجه الربط بين النبى والشاعر عند العرب! بل لقد كانوا فى مكة يستغربون أن تنزل النبوة على النبى عليه السلام بالذات ولا تنزل على الأغنياء ورؤوس القوم، وقالوا: "لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين (مكة والطائف) عظيم؟" (الزخرف/ 13)، فهل من سمعهم يقولون شيئا من هذا لشاعر من شعرائهم؟

كذلك هل قال لهم أى من الشعراء عندهم إنه يُوحَى إليه من السماء و دعاهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ونَبْذ الربا وإكرام الضعيف والمسكين واليتيم وتَرْك عبادة الأوثان، وسفَّههم على تلك الوثنية، وحرَّم عليهم الزنا والتفاخر بالآباء والأحساب، وبغَّض إليهم العصبية القبلية، وعمل على الخروج بهم من دائرة البداوة الضيقة إلى رحابة الآفاق الحضارية والإنسانية، وأفهمهم أن لهم دورا عالميا يكفل لهم الذكر الجميل فى تاريخ البشرية، وفَرَضَ عليهم الزكاة والصلاة والصيام وطَهَّر الحج مما شابه من خَبَثٍ وثنىّ على مر العصور فابتعد به عن صفائه التوحيدى القديم كما كان يمارسه أبو الأنبياء خليل الرحمن عليه السلام؟ فمَنْ ذلك الشاعر يا ترى؟ وحتى لو كانت النبوة التى يعنيها الدكتور عصفور هى التنبؤ الغيب، فهل من سمع أن شاعرا جاهليا تنبأ أو حتى حاول أن يتنبأ بالغيب أو حتى طالبه أحد ممن حوله أن يتنبأ بالغيب؟ فمَنْ ذلك الشاعر يا ترى؟ وهذا كله بغض النظر عن أن الإسلام ينكر إنكارا شديدا أن يكون هناك من يقدر على مثل هذا التنبؤ! لكننا إنما نملى للمعارض فى حبل المعارضة حتى لا تكون لديه أية حجة يمكن أن يرفعها فى وجهنا! إن كل ما كان الشعراء يقولونه لا يعدو التفاخر بالأحساب أو بشرب الخمر أو التغزل فى النساء أو مدح الملوك ورؤساء القبائل أو وصف مشاهد الصحراء أو حيوان الوحش أو الحصان أو الناقة أو الوقوف لدى الأطلال... وما إلى ذلك، فأين هذا من النبوءات والتنبؤ؟ أفتونى أيها القراء إن كنتم لى من المخالفين! الحق أنه لم يحدث أن قال شاعر من الشعراء إنه قادر على التنبؤ، ودعنا من أن يكون قد تنبأ فعلا!

وأخيرًا وليس آخرًا: هل هناك شاهدٌ ولو واحدًا يتيمًا على أن العرب قد سَمَّوْا أحدًا من شعرائهم بالنبى، أو سمَّى أىٌّ من هؤلاء الشعراء نفسه نبيا؟ لقد كانوا يقولون إنهم يستلهمون فنهم من الشياطين، أما الأنبياء فلم يحدث أن قال أحدهم إنه تتنزل عليه الشياطين، بل كانوا ينفون أن تكون لهم أية صلة بالشياطين، ومنهم سيدنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفَضَحَ سبحانه وتعالى كل من يحاول الإساءة إليه بأى طريق، إذ نزل القرآن الكريم بهذه الآيات فى سورة "الشعراء": "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)"، وذلك ردا على سخافات المشركين الذين كانوا يَفْتَرُون على الحقيقة الكذبَ قائلين إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نبيًّا بل شاعرًا يستلهم الشياطين فيما يقول، مما يعد من أقوى الأدلة على أنهم لم يكونوا فى أى يوم من الأيام يسوّون بين النبى والشاعر. كما أكد القرآن فى نفس السورة أن رسالة القرآن إنما يحملها وينزل بها على قلبه من السماء روح القدس الكريم: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)". وبالمثل نقرأ فى مواضع أخرى من القرآن المجيد قوله عز من قائل من سورة "عبس": "كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)". ومثل ذلك قوله تعالى من سورة "النحل": "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)"، وكذلك قوله سبحانه من سورة "البقرة": "قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)".

يقول العامة: ربنا عرفوه بالعقل. ونحن أيضا نقول هذا، والعقل يطرح تلقائيا أمثال هذه الأسئلة التى طرحتها هنا، والمطلوب أن يرد أحد عليها بما ينقض شيئا من هذا الذى نقول! ذلك كل ما نطلبه، وليس فيما نطلبه شىء من التعنت! أما ترديد الكلام الذى لا رِجْلين له يقف عليهما ولا حتى عكازين يستند إليهما فلا يُحِقّ حقا ولا يُبْطِل باطلا، بَلْهَ أن يحق الباطل الأبلق البطلان أو يبطل الحق الذى لا يخر منه الماء ولا يتسرب منه الهواء! يقول القرآن فى من كانوا يرددون الشائعات فى عائشة رضى الله عنها وأرضاها وصلى وسلم على زوجها الكريم العظيم: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ" (النور/ 15)، فهذا التلقى بالأفواه والقول بالألسنة دون علم ودون حجة ودون شاهد واحد فى موضوعنا هنا هو هو نفسه ما جرَّمه ودانه القرآن المجيد فى حالة المرددين للشائعات فى حق الصِّدّيقة بنت الصديق! وحاشا لله أن نكون نحن أهل العلم ممن يرددون كلاما لا دليل عليه يمكن المناضلة به عنه! ومع ذلك كله فإنى أعلن للقراء من الآن أن هناك من سيظل يردد هذا الكلام، وكأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم، وهؤلاء هم أصحاب مذهب "عنزة ولو طارت"!

كذلك ورد فى الكتاب المذكور نقلا عن "العمدة" لابن رشيق أن العرب كان، إذا نبغ فى إحدى قبائلها، شاعرٌ احتفل به رجالُ القبيلة ونساؤها ووِلْدانُها أيما احتفال وأقيمت الأفراح وضُرِبَتِ المزاهر وأتت القبائل الأخرى تهنئها (ص 18). وهذا فى الواقع كلام مرسل لا دليل عليه سوى أمثال هذه الكلمة الطائرة التى أذكر أنى قرأتها مرارا وأنا بصدد البحث فى تاريخ العرب قبل الإسلام، لكنى لم أكن أعيرها التفاتا خاصا، بل كنت أنظر إليها على أنها نوع من المبالغات التى قد يكون لها مغزاها، لكنها لا يمكن أن تكون صحيحة بحرفها، وإلا فأية قبيلة يا ترى قد احتفلت هكذا بشاعرها؟ أو من ذلك الشاعر الذى احتفلت قبيلته به على هذا النحو وجاءت الوفود من القبائل الأخرى لتهنئها بنبوغه؟ إن لدينا مئات الشعراء الجاهليين، فهل يستطيع أحد أن يتذكر أنه قرأ شيئا محددا فى هذا السبيل غير تلك العبارة الطائرة التى من الواضح أن فيها غلوا شديدا ينكره ما نعرف من حياة الجاهليين؟ وبالمناسبة هل كانت حصة كل قبيلة من الشعراء دائما شاعرا واحدا؟ إننا نعرف أن كثيرا من القبائل كان ينبغ فيها عدد من الشعراء لا شاعر فرد فقط، كما هو الأمر فى حالة أَوْس بن حجر وابن أخته زهير بن أبى سُلْمَى وابنا زهير: كعب وبُجَيْر، ثم الحُطَيْئَة راوية كعب، وكما فى حالة هدبة، الشاعر الذى كان له ثلاثة إخوة كلهم شعراء هم حَوْط وسيحان والواسع، فضلا عن أمهم حيّة بنت أبى بكر بن حيّة... إلخ. ومع ذلك فالكلام عن احتفال القبيلة بنبوغ شاعر فيها يوحى أن كل قبيلة لم يكن ينبغ منها إلا شاعر واحد! ثم فى أى وقت يا ترى كانت القبيلة تحتفل بنبوغ شاعرها؟ أتحتفل به حين ينظم أول قصيدة؟ أم تحتفل به متى نظم عددا معينا من القصائد؟ أم تحتفل به عندما يهجو قبيلة معادية؟ أم تحتفل به إذا أجازه الشعراء الكبار فى سوق عُكَاظ مثلا؟ أم كانت هناك لجنة أدبية فى كل قبيلة هى التى تحدد نبوغ الشاعر من عدمه؟ أم لا بد أن تكون شهادة نبوغه صادرة من الشاعر الذى كان هو راوية له؟

إن الأمر، كما هو واضح، يخلق من المشاكل أكثر مما يَحُلّ، بل يُدْخلنا فى متاهة لا مخرج منها. وعندنا، كما قلت قبل قليل، المئات من شعراء الجاهلية، فهل نجد فى شعر أى منهم أن قبيلته قد احتفلت به أو أن أية قبيلة أخرى قد احتفلت بشاعر من شعرائها على أى نحو من الأنحاء؟ فمن ذلك الشاعر يا ترى؟ وأين نَصّ ما قاله فى هذا الموضوع؟ ليس ذلك فقط، بل إن هناك شعراء قد خلعتهم قبائلهم كالشعراء الصعاليك مثلا، فكيف نوفق بين هذا الموقف الرافض الذى اتخذته قبائل هؤلاء الشعراء منهم وخَلْعها لهم وبين ما يقال عن احتفال كل قبيلة بشعرائها على النحو الذى وصفناه؟ ألا ما أكثر مثل هذه العبارات فى تراثنا وتراثات الأمم الأخرى، لكن واجبنا يقتضينا دائما التفرقة بين الحقيقى منها وبين الرمزى أو المبالَغ فيه، وذلك بعرضها على وقائع التاريخ ومنطق العقل والنصوص المقطوع بصحتها أو التى يغلب على الظن فى الأقل أنها صحيحة. أما أن نصدق كل ما نقرؤه دون تمحيص أو تحقيق فهو أمر خطر على البحث العلمى!

من هنا فإن قول الكاتب تعقيبا على كلام ابن رشيق: "ومن المؤكد أن اقتران فرحة ميلاد الشاعر بفرحة الأعراس التى يتباشر بها الرجال والولدان فى كلمات ابن رشيق تشير إلى ارتباط الشعر بالمعنى الأسطورى للولادة الجديدة، والخلق الدائم، وذلك فى الدائرة التى وصلت العرس البشرى لتزاوج الذكر والأنثى بأعراس الطبيعة الطبيعية والحيوانية حيث تتجدد الطبيعة فى دورة الفصول، وتتجدد السلالة الحيوانية فى دورة الخصوبة، وتتجدد الطاقة الإبداعية فى دورة الشعر. وذلك هو السبب فى اقتران الفرحة بدلالة الولادة الثلاثية الأبعاد فى كلمات ابن رشيق حيث الإشارة واضحة إلى غلام يُولَد وفرس يُنْتَج وشاعر يَنْبُغ. وأحسب أن البعد الجنسى الذى انطوت عليه الرمزية الأسطورية للولادة الجديدة فى هذا السياق هو الذى وصل بين "فحولة" الشاعر و"فحولة" الحيوان" وأنزل الشاعر المبرِّز بين من هم أدنى منه شعريا منزلة الفحل بين "الحِقَاق" (الإبل الصغيرة)، وهو نفسه الذى وصل بين "القصيدة" و"المرأة" فى رمزية المعنى "المفتَرَع" للجِدّة والبكارة، وذلك فى الدلالة المتكررة التى ظلت تترجع عبر القصائد إلى أن لخصها بيت أبى تمام:

والشعر فرجٌ ليست خصيصته طول الليالى إلا لمفترعه"

(ص 18- 19)، هذا الكلام من الكاتب عن الفحولة والولادة الجديدة يفتقر إلى أساسٍ ينهض عليه، إذ ليس هناك أى دليل على أن مثل هذه الاحتفالات بنبوغ الشعراء كانت تتم، اللهم إلا تلك الكلمة الطائرة المنسوبة إلى ابن رشيق والتى لا تدل، فيما هو واضح، على ما جاء فيها دلالة حرفية، بل دلالة رمزية كما سلف القول.

أما ذكر الفحولة هنا فليس دليلا على شىء مما قاله الكاتب، وإلا فقد كان العرب يستخدمون كلمة "الفحل" فى كل مجال يبرز فيه الشخص ويفوق غيره لا فى الشعر وحده، ومثلها كلمة "الافتراع". ومن الشواهد على الأول وصف أبى سفيان للنبى عليه السلام حين علم بتزوجه صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة رغم العداوة الملتهبة التى كانت فى ذلك الحين بينهما، إذ قال معلقا على تصرفه عليه السلام: "هو الفحل، لا يُقْدَع أنفه"، وكذلك الأبيات التالية لأبى العلاء المعرى وأبى تمام وابن المعتز والأخطل والمتنبى وقتيلة بنت النضر على الترتيب:

أَيّـامَ سُـنـبُلَةُ السَماءِ زَريعَةٌ
* * ii*
قَد كانَ عُذرَةَ مَغرِبٍ iiفَافتَضَّها
* * ii*
وَكَـأَنَّ الـرَعْـدَ فَـحلُ iiلِقاحٍ
* * ii*
لا شَيءَ أَقبَحُ مِن فَحلٍ لَهُ iiذَكَرٌ
* * ii*
أَمـحـمّدٌ، ولأَنْتَ نَجْلُ iiنَجِيبَةٍ








وَسُـهَيلُها فَحلُ النُّجومِ iiحُوارُ
* * ii*
بِالسَيفِ فَحلُ المَشرِقِ iiالأَفشينُ
* * ii*
كُـلَّـمـا يُعجِبُهُ البَرقُ iiصاحا
* * ii*
تَـقـودُهُ أَمَةٌ لَيسَت لَها iiرَحِمُ
* * ii*
مِن قَوْمِها، والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

وإذا كان "الفحل"هو الذَّكَر من كل حيوان، فإن من اللغويين من يوسع الكلمة بحيث تشمل النبات أيضا فيقال: "فَحْل النخل"، وهو ذكرها الذى تُلَقَّح به حوائلها. كما تطلق الكلمة على الحصير الذى يُتَّخَذ من خوص النخيل، وتُسَمَّى المرأة السليطة:"فحلة"، والخشونة بالــ"فحولة". كما جاء فى "الأغانى" عن سليمان أخى الحسن بن وهب أنه "فحل من الكتاب" لأنه "عريق في الكتابة". وبالمثل أورد صاحب "الأغانى" وَصْف إسحاق الموصلى مَعْبَدًا المغنى بأنه كان "من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعةً، وأحسنهم حَلْقًا، وهو فحل المغنين وإمام أهل المدينة في الغناء". بل لقد غنى معبد هذا للأحوص الشاعر الأموى بيتين قالهما فى جارية ذات صوت فاتن سمعها تغنى وهى تملأ جرتها من الغدير، ووصف غناءها بالفحولة:

إن زيـن الغدير من كسر iiالجَرَّ
قلت: من أنت يا ظعين؟ فقالت:

وغـنَّـى غـنـاء فحلٍ مجيدِ
كـنـت فيما مضى لآل الوليد

وعلى نفس الشاكلة وَصَفَ الصفدىُّ الملكَ الأفضل بدر الجمالى فى كتابه: "الوافى بالوفيات" بأنه "كان مثل والده: حسن التدبير فحل الرأى". كذلك أورد الصفدى من شعر ابن النبيه البيت التالى الذى يتغزل فيه بلحظ معشوقته واصفًا إياه بالفحولة:

مفلَّج الثَّغْر معسول اللَّمَى غَنِجٌ مؤنَّث الجفن فَحْل اللحظ شاطرُهُ

وبالمثل لا يختص "الافتراع" بالشعر وحده، إذ كثيرًا ما يُوصَف الأديب بأنه "يفترع أبكار المعانى" سواء كان شاعرا أو ناثرا، كما أن هذا اللفظ كثيرا ما يُسْتَخْدَم خارج نطاق الأدب والبلاغة تماما كما فى الأبيات الشعرية التالية، وهى للمتنبى وشرف الدين الحلى ومحمد توفيق على والسلامى ولسان الدين بن الخطيب ومصطفى الغلايينى على التوالى:

هُوَ افْتَرَعَ الفَتحَ الذي سارَ مُعْرِقًا
* * ii*
مَـلِـكٌ مـا افـترع المُلْكَ iiإلى
* * ii*
مِـن فَـراعينِهِ قَد افتَرَعَ iiالمَجْد
* * ii*
أيا أخا الجود وابن المجد، لا iiبلدٌ
* * ii*
والـعَـزْمُ يَفْتَرِعُ النّجومَ iiبناؤهُ
* * ii*
لـم يَفْتَرعْ هامَ العُلا. إنَّ iiالفَتى










وَأَنْـجَـدَ في عُلْوِ البِلادِ iiوَأَتْهَما
* * ii*
أن رآه الـلَّـه كُـفؤًا iiمُرْتَضَى
* * ii*
وَمِـن عُـربِـهِ نُيوب iiالأُسودِ
* * ii*
إلا بـذكـرك أو بالسيف يُفْتَرَعُ
* * ii*
مـهْـما أقامَ علَى التُّقى iiتأسيسا
* * ii*
مَـنْ شَـدَّ لِلْعَلْياءِ رَحْلَ iiمَضائهِ

بل إنه لا صلة بين الكلمة فى أصل معناها وبين الجنس، على عكس ما قد يوهم كلام الكاتب، فالفَرْع من كل شىء أعلاه، والفرع من القوم شريفهم، والفرع هو المال الطائل المُعَدّ، والفرع شعر المرأة، والفرع هو الغصن، والفرع هو القوس غير المشقوقة، والفرع هو مجرى الماء إلى الشِّعْب، والفرع هو أول ولد تنتجه الناقة... وإذا كانوا يقولون: "فَرَع فلانٌ المرأة وافترعها"، فإنهم كذلك يقولون: فَرَعَ الرَّجُلُ في الجَبَلِ: صعد، وفَرَعَ رأْسَ فلان بالعَصا والسَّيْفِ فَرْعًا: عَلاهُ بها ضَرْبًا، وفَرَعَ القَومَ فَرْعًا وفُروعًا: علاهم بالشرف والجمال أو بالطول، وفرع الفرسَ باللجام: قَدَعَه، وفرع بين القوم: حجز وأصلح... فمن هذا يتبين لكل ذى عينين أن ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور لا محل له من الإعراب برغم ما فى الكلام عن الأسطورة والخصوبة والولادة الجديدة والخلق الدائم وما إلى ذلك من المصطلحات التى غزت ثقافتنا مؤخرا من بريق يُعْشِى أبصار طائفة من القراء ويجعلهم يتوهمون أنهم قد أحاطوا بالعلم من جميع أطرافه وأنهم قد تعمقوا بحر المعرفة كل التعمق!

وبالمناسبة فإذا كان أبو تمام قد شبَّه الشعر بالفَرْج فى البيت الذى ساقه كاتبنا، فغيره من الشعراء قد شبَّهوا العملية الإبداعية تشبيهات أخرى لا علاقة لها بالفرج بأى معنى ولا على أى وضع: يقول الحطيئة مثلا:

فَـالشِعرُ صَعبٌ وَطَويلٌ iiسُلَّمُه
إِذا اِرتَـقى فيهِ الَّذي لا iiيَعلَمُه
زَلَّـت بِهِ إِلى الحَضيضِ iiقَدَمُه
وَالـشِعرُ لا يَسطِيعُهُ مَن يَظلِمُه
يُـريـدُ أَن يُـعـرِبَهُ iiفَيُعجِمُه
وَلَم يَزَلْ مِن حَيثُ يَأتي يَحرُسُه
مَـن يَسِمِ الأَعداءَ يَبقَ iiمِيسَمُه

ويقول عُوَيْف القوافى:

أَبـيـتُ بِـأَبـوابِ القَوافي iiكَأَنَّما
عَـواصِـيَ إِلاَّ ما جَعَلتُ iiوَراءَها
إِذا خِـفْتُ أَن تُرْوَى عَلَيَّ iiرَدَدْتُها


أُصَادِي بِها سِرْبًا مِنَ الوَحْشِ نُزَّعا
عَصَا مِرْبَدٍ تَغْشى وُجوهًا iiوَأَذْرُعا
وَراءَ الـتَـرَاقِي خشْيَةً أَن iiتَطَلَّعَا

ويقول أحد الشعراء فى "البيان والتبيين":

وقافيةٍ لجْلجتُها فرَدَدْتُها لذي الضرس لو أرسلتُها قَطَرَتْ دَما

وقال الفرزدق فى "البيان والتبيين" أيضا: "أنا عند الناس أشعرُ العرب، ولرُبَّما كان نزْعُ ضِرسٍ أيسرَ عليَّ من أن أقول بيت شعر". وقال منيع كذلك فى كتاب الجاحظ:

ويقول على بن الجهم فى ترويض القوافى:

أَعـاذِلَ، ما أَعَزَّكِ بي إِذا iiما
وَعَـنَّـت كُـلُّ قافِيَةٍ iiشَرودٍ
عَـلـى أَعجازِها قَرمٌ إِذا iiما
شَـوارِدُ إِن لَقِيتَ بِهِنَّ iiجَيشًا
وَإِن نازَعتَهُنَّ الشربَ iiكانَت
يَثُرْنَ عَلى اِمرِىءِ القَيسِ iiبنِ
إِلَـيكَ، خَليفَةَ اللَهِ، iiاِستَقَلَّت






أَتـاحَ الـلَيلُ وَحشِيَّ iiالكَلامِ
كَلَمحِ البَرقِ أَو لَهَبِ iiالضِرامِ
عَـناهُ القَولُ أَوجَزَ في iiتَمامِ
صَـرَفنَ مَعَرَّةَ الجَيشِ iiاللُّهامِ
مُـدامًـا أَو أَلَـذَّ مِنَ iiالمُدامِ
حُجرٍ فَما أَحَدٌ يَقومُ بِها مَقامي
قَـلائِـصُ مِثلُ مُجفِلَةِ النَعامِ

ويقول مهيار الديلمى فى ذات المعنى:

فـكـالشجا قافية في iiاللَّها
تـخدعُ بالتأنيس من iiرامها
بعثتُ من فكري لها iiرائضًا
وقُـدْتُها أُمكِنُ من iiظهرها
يـنـقُـلني الودُّ إلى iiمثلها




تـمـاكسُ الحاذِرَ والراقيا
صِلُّ صَفًا لا يرهبُ الحاويا
ذَلَّـل مـنـها اللَّحِزَ iiالآبيا
أُركِـبـهُ أحسابَ iiإخوانيا
والـمـالُ لا يَنْقُل iiأخلاقيا

لا بل إن البيت الذى استشهد به كاتبنا لأبى تمام قد ورد ضمن قصيدة طويلة فى أحد أصدقائه من الشعراء جاء فيها تشبيه الشعر ألوانا أخرى من التشبيه:

فَـالْـبَسْ بِهِ مِثلَها لِمِثلِكَ iiمِن
صَـعـبِ القَوافي إِلاَّ iiلِفارِسِهِ
سـاحِرِ نَظمٍ سِحْرَ البَياضِ مِنَ
كسوَةُ وُدٍّ أَصبَحْتَ دونَ iiالوَرى
سَـبَـقْتَ حَتّى اِقتَطَعتَ iiقَبْلَهُمُ
وَالشِعرُ فَرجٌ لَيسَت iiخَصيصَتُهُ





فَضْفاضِ ثَوبِ القَريضِ مُتَّسِعِهْ
أَبِـيّ نَـسجِ العَروضِ iiمُمْتَنعِهْ
الألـوانِ سـائِـبِهِ خَبِّهِ خَدِعِهْ
نُـجـعَـتَهُ لا نَقولُ مِن iiنَجَعِهْ
مـا شِئتَ مِن تِمِّهِ وَمِن iiقِطَعِهْ
طـولَ الـلَـيالي إِلاَّ لِمُفتَرِعِهْ

فالشعر ثوبٌ فَضْفَاضٌ، والشعر فرسٌ صعبٌ إلا على فارسه المحنك، والشعر لون أبيض ساحر، والشعر كُسْوة ودّ... أى أن تشبيه أبى تمام للشعر بفرج المرأة فى القصيدة ليس هو التشبيه الوحيد، بل مجرد تشبيه من تشابيه. بل لأبى تمام أيضا فى التمدح بشعره أمام ممدوحه:

مُـحَـمَّد بنَ سَعيدٍ، أَرْعِني أُذُنًا
لَم تُسْقَ بَعدَ الهَوى ماءً عَلى ظَمَإٍ
مِـن كُلِّ بَيتٍ يَكادُ المَيْتُ iiيَفْهَمُهُ
مـالـي وَمالَكَ شِبْهٌ حينَ أُنشِدُهُ
بِـكُـلِّ سـالِـكَـةٍ لِلفِكرِ iiمالِكَةٍ




فَـمـا بِأُذْنِكَ عَن أُكرومَةٍ iiصَمَمُ
كَـمـاءِ قـافِـيَـةٍ يَسْقِيكَها فَهِمُ
حُـسْنًا وَيَحْسُدُه القِرطاسُ iiوَالقَلَمُ
إِلاَّ زُهَـيرٌ، وَقَد أَصْغَى لَهُ iiهَرِمُ
كَـأَنَّـهُ مُـسـتَـهامٌ أَو بِهِ iiلَمَمُ

كما أن له أيضا:

خُـذْهـا مُثَقَّفَةَ القَوافي iiرَبُّها
* * ii*
فَـجِـئتُكَ راكِباً أَمَلَ iiالقَوافي
* * ii*
إِنَّ القَوافِيَ وَالمَساعِيَ لَم تَزَلْ
هِـيَ جَوهَرٌ نَثْرٌ، فَإِن iiأَلَّفتَهُ
* * ii*
هَذِي القَوافي قَد أَتَيْنَكَ iiنُزَّعًا







لِـسَـوابِغِ النَّعْماءِ غَيرُ كَنُودِ
* * ii*
عَـلـى ثِقَةٍ مِنَ البَلَدِ iiالبَعيدِ
* * ii*
مِثلَ النِظامِ إِذا أَصابَ iiفَريدا
بِـالشِّعرِ صارَ قَلائِداً iiوَعُقودا
* * ii*
تَـتَـجَشَّمُ التَهجيرَ iiوَالتَغْلِيسا

وكما هو واضحٌ جلىٌّ فإن شاعرنا العباسى لم يشبِّه شعره هنا بأى شىء له صلة بالمرأة البتة. وبالمثل يقول ابن الرومى:

هـذا لـذاك، ورُبَّ قافيةٍ
* * ii*
ولا تَزَلْ لي بالشكرِ iiقافيةٌ
تَـلَـذُّ من كلّ سامع iiأُذُنًا
* * ii*
ولـستُ أرمي بنَبْل iiقافيةٍ
* * ii*
فَجِئتُكَ راكِبًا أَمَلَ iiالقَوافي







قـد قلتُها كالطعنة الخَلْسِ
* * ii*
فيك تسيرُ الوَجِيفَ والرَّتَكا
حُسْنًا، ومن كل مُنشدٍ حَنَكا
* * ii*
ذوي مـعاذيرَ لا iiيَجُودونا
* * ii*
عَـلى ثِقَةٍ مِنَ البَلَدِ البَعيدِ

ويقول الشريف الرضى:

فَـاقْـتَـدْ إِلَـيـكَ أَبا إِسْحَقَ قافِيَةً
كـادَت تَـقاعَسُ لَو ما كُنْتَ قائِدَها
تَستَوقِفُ الرّكْبَ إِن مَرَّت iiمُعارِضَةً


قَـوْدَ الـجَـوادِ بِلا جُلٍّ وَلا iiرَسَنِ
تَقاعُسَ البازِلِ المَجْنُوبِ في الشَّطَنِ
تُـهْـدِي عَقِيلَتَها العَذراءَ مِن iiيَمَنِ

ويقول دِعْبِل الُخَزاعِىّ:

مَن مُبلِغٌ عَنّي إِمام الهُدى قافِيَةً لِلعِرضِ هَتّاكَه؟

ويقول مهيار:

فَـلَـيَـحْمَدَنِّي في كلّ قافيةٍ
أمـسحُها فيك أو تَقِرَّ، iiوقد
حُلًى من المعدن الصريح إذا


تـزيدُ حسنا في دُرّها الثُّقَبُ
أوغل في أمّ رأسها iiالشّغَبُ
غشَّ تِجارُ الأسعارِ ما iiجَلَبوا

ويقول إبراهيم الطباطبائى:

ولـي أدبٌ يـطـيـر إلى iiالثريّا
إلـيـك انـظـر بمعترك iiالقوافي
وإنـي إنْ طَـمَـى أو جاشَ بحر


وحـظٌّ واقـعٌ بـثَرَى iiالحضيضِ
تـجـد قـلـبي يُقَدُّ من iiالقريضِ
العَرُوض سبحتُ في بحر العَرُوضِ

ويقول أبو العلاء المعرى:

أتَمْشي القَوافي تحتَ غَيْرِ لِوائنا ونَحْنُ على قُوّالِهَا أُمَراء؟

ويقول ابن حجاج:

خَـرَايَ عـنـد iiالـقوافي
ومـن تـكـلَّفَ في iiالشّعر
نَـظَـمْـتُ من مثل طبعي
* * ii*
يا سيدي، هذي القوافي التي
خـفـيفةٌ من نضجها iiهَشَّةٌ





وذقـن غـيـري iiبشعري
نَــظْـمَ سُـبْـحَـةِ iiدُرِّ
الـخـسـيـس سُبْحَةَ iiبَعْرِ
* * ii*
وجـوهـهـا مثل الدنانيرِ
كـأنـهـا خـبز iiالأبازيرِ

ولأبى العلاء فى ممدوح له:

وشِـعْرُكَ لو مَدَحْتَ به iiالثّريّا
كـأنّ بُيوتَهُ الشُّهْبُ iiالسّواري

لَصَارَ لها على الشمس افْتِخارُ
وكـلّ قـصـيـدةٍ فَلَكٌ iiمُدَارُ

وللأبيوردى:

وهـذهِ قَـصـيـدَةٌ شَـبيهةٌ
إنْ غـرّدَ الرّاوي بِها iiتطَرُّبًا
ومَـنْ تـمنّى أنْ يَنالَ iiشَأْوَها
فـالـشِّـعْرُ ما لَمْ يُقْتَسَرْ iiأَبيُّهُ



بالماءِ تُسْقاهُ على بَرْحِ الصَّدَى
تـلقّفَ السّامِعُ منْها ما iiرَوَى
هَـوَى بهِ إِلى العَناءِ ما iiهَوَى
وذادَ عنهُ الطّبْعُ وحْشيّ iiاللُّغَى

ولكعب بن زهير:

أَتى العُجْمَ وَالآفاقَ مِنهُ قَصائِدٌ بَقِينَ بَقاءَ الوَحْيِ في الحَجَرِ الأَصَمّْ

ولابن هرمة:

أَحْـذُو قَـصـائِدَ للراوينَ iiباقيَةً
إِمّـا نَـسِـيبًا وَإِمّا مَدْحَ ذي فَخَرٍ
حَـتّى إِذا اِمتَلأت أَسماعُهُم iiعَجَبًا
أَهْوَوْا اليها لِغَوْصٍ في iiمَسارحِها
فـاسـتَطْلَعُوا عُقُلاً لا يَعقِلونَ iiبِها




كَـأَنَّـهـا بَـينهُم مَوْشِيَّةُ iiالحُلَلِ
يَبْقَى وَإِمّا ادّخارًا مِن ذَوي iiخَطَلِ
وَاِستُوقِفَتْ في قُلوبِ القَومِ كالعَسَلِ
لَـم يَقْرَعوا أُمَّهاتِ الشَّوْلِ iiلِلحَبَلِ
وَأَوْضَعُوا قَعَدَ المَجموعِ في iiالهَمَلِ

ولابن هانئ الأندلسى:

وعِنْدي على نأيِ المَزارِ وبُعْدِهِ قصائِدُ تَشْرَى كالجُمَانِ المُنظَّم

وللبحترى:

شَفيعي أَميرُ المُؤمِنينَ iiوَعُمْدَتي
قَصائِدُ مَنْ لَمْ يَستَعِرْ مِن iiحُلِيِّها
خَـوالِدُ في الأَقوامِ يُبْعَثْنَ iiمُثَّلاً


سُلَيمانُ أَحْبُوهُ القَرِيضَ iiالمُنَمْنَما
تُخَلِّفْهُ مَحرومًا مِنَ الحَمدِ مُحْرِما
فَـما تَدْرُسُ الأَيّامُ مِنهُنَّ iiمُعْلَما

من كل ما مر يتبين لنا بكل جلاء أن الأمر ليس بالبساطة التى يظنها الأستاذ الدكتور وأنه، فيما يبدو، قد دخل البحث وفى ذهنه فكرة جاهزة سلفا يريد أن يُشِيعها فى القراء بكل سبيل بغض النظر عن مدى صحتها أو فسادها، ثم أظهرت الشواهد التى سقناها أنها باطلة أو على الأقل ضعيفة المنطق ضعفا شديدا. ومثل هذه النظرة من شأنها أن تضلل الباحث عن الوصول إلى الحق، إذ كل ما يهمه أوَّلاً وآخِرًا هو العمل على إقناع القراء، أو بالأحرى إيهامهم بصحة ما فى ذهنه، فإن وجد ما يعضد فكرته طار به وعض عليه بالنواجذ، وإلا تجاهله كأن لم يكن وقفز فوقه إلى غيره. كما أنه لا يهمه قلة الشواهد التى تدل على صحة ما يقول، ولا كثرة الشواهد التى تدل على عكس ذلك. إن كل ما يشغله هو الفكرة التى فى ذهنه، أما الحقيقة فلها رب اسمه الكريم.

وهناك ضَرْبٌ آخر من الباحثين لا يدخل البحث وفى ذهنه فكرة مسبقة، لكنه مع هذا لا يمتلك القدر المطلوب من الصبر للبحث والتَّقَصِّى. وهذا الضرب من الباحثين متى وجد شاهدا أو اثنين ظن أنه قد بلغ الحقيقة، فلم يبذل جهدا آخر واكتفى بما وضع يده عليه أول شىء، ورمى بالكتب التى بين يديه جانبا وشرع يكتب وينظِّر ويستخلص النتائج، وهى نتائج للأسف متعجلة لا صبر وراءها ولا استقراء ولا تنقيب ولا تدقيق، ناسيا أن العلم صعبٌ وطويلٌ سُلَّمه، وأنه لا تصلح معه النظرة الخاطفة، بل لا بد له من الوقت والوسوسة والمراجعة والرغبة فى الوصول إلى الكمال وعدم الرضا بسهولة بما يتحقق من نتائج. ونحن كثيرا ما تلفت أنظارَنا بعضُ الشواهد فى موضوع من الموضوعات التى تشغل بالنا، فنشرع فى افتراض الافتراضات بناءً على ذلك، بَيْدَ أن الأمر معنا لا يتوقف عند هذا الحد، بل نظل ماضين فى القراءة والبحث والشك وتقليب المسألة على وجوهها المختلفة بغية الاطمئنان إلى صواب ما افترضناه فى البداية، وإلا نَبَذْنا ما كنا قد تصورناه صحيحا وانتقلنا منه إلى شىء آخر مختلف تماما أو له صلة بما كنا قد فرضناه، ولكن بعد تحويره قليلا أو كثيرا. صحيح أننا نشعر فى البداية بشىء من خيبة الأمل والحزن على أن جهودنا قد ذهبت هباء، لكننا بعد قليل نستعيد توازننا ونسترجع ما قد يكون غابَ عنّا من وجوب الخضوع للحقيقة مهما تكن متاعبها والوقت الذى ضاع فى البحث عنها ومحاولة دَرْكها. وفى النهاية نحس بالسعادة تغمرنا حين ننتهى إلى نتائج أكثر صلابة مما كنا قد افترضناه فى بداءة البحث حتى لو كانت أقل مما كنا نؤمِّل أو عكس ما كنا نريد. وهذا الشعور بالسعادة هو حسبنا!

الدكتور جابر إذن قد دخل إلى الحَلْبة وفى نيته الربط بين النبى والشاعر والساحر والشامان، وكذلك الاعتماد فى تفسير الإبداع الشعرى عند الجاهليين على أساس من مقولات دورة الخصوبة والميلاد الجديد والرمزية الأسطورية وما أشبه ذلك مما دهانا به النقد الأوربى فى العقود الأخيرة وردده بعضنا وآمن به وكأنه وحى مقدس لا يأتيه البطلان من بين يديه ولا من خلف ظهره، ومن ثَمّ فإنه ما إن وجد شاهدا يتيما يمكن أن يُسْتَغَلّ فى إثبات هذه الفكرة حتى انصرف عن متابعة البحث إلى طرح النتائج التى كانت فى ذهنه منذ البداية، ولم يحاول أن يتأكد من صحة ما يضعه أمام القراء بوصفه الحقيقة المطلقة، مع أنه لو بذل شيئا بسيطا جدا من الجهد لوجد أن ما قاله لا وشيجة بينه وبين الحقيقة، وهذا ما أثبتته الشواهد الكثيرة التى سقتُها ووضعتُها بين يدى القارئ الكريم، وما هى إلا مجرد أمثلة، وإلا فهناك نصوص أخرى أكثر كثيرًا من تلك التى ذكرتُها لو أراد.

ومما قاله الدكتور أيضا عن الشاعر ولا علاقة له بالحقيقة قوله عن "النموذج الأصلى الأقدم الذى بدأ به الوعى بالشاعر عند العرب": "هذا النموذج الأصلى هو نموذج الشاعر العارف بكل شىء، القادر على كل شىء. وهو نموذج مفارق يتحدد بالمغايرة التى تمكنه من معرفة ما لا يعرفه الآخرون، ويمتلك القدرة التى يستطيع معها أن يغيِّر حركة المجموع ومواقف الفرد. والمعرفة والقدرة وجهان للدلالة التى ينطوى بها حضور هذا النموذج على المفارقة التى تجسدها علاقته بغيره، فهو ناءٍ عن الٍبشر العاديين بالمعرفة التى يجهلونها والتى يستمد منها اسمه منذ أطلقت اللغةُ العربيةُ عليه اسمَ "الشاعر" لأنه يَشْعُر (أى يَعْلَم ويَعْرِف ويَفْطِن) بما لا يشعر به غيره، وردَّت جذر الدلالة اللغوية لكلمة "الشعر" إلى العلم والمعرفة والفطنة التى لا تتاح إلا للكائن المتفرد الذى يشعر بما لا يشعر به غيره أو يفطن أو يعلم. هذا الشاعر النائى عن الآخرين لأنه يعلم ما لا يعلمون، قريب منهم بقدرته على أن يفعل ما لا يفعلون... هذه المفارقة التى يتأسس بها النموذج الأصلى تراثيا فى دلالته التى تفصله عن الآخرين وتُدْنِيه منهم تؤكد طبيعته المفارقة وتجعل منه نموذجا كليا ينطوى على الأوجه المتعددة للكاهن والشامان والساحر والعراف والنبى والعالم والحكيم، ولكن على النحو الذى يردّ كل هذه الأوجه إلى جذرها الذى يصل بين المعرفة والقدرة فى دائرة الدلالة المتحررة التى تحرك فيها وبها هذا النموذج تراثيا ورمزيا على السواء والتى قاربت بينه والكائنات غير البشرية (الذى أعرفه: "قاربت بينه وبين الكائنات غير البشرية") كالجن والشياطين والأرواح الشريرة أو الخيرة كما قاربتْ بينه وعناصر الطبيعة المتفاعلة المقترنة بالخصب والنماء (المعروف: "قاربتْ بينه وبين عناصر الطبيعة"). ولم يكن من قبيل المصادفة أن يشيع الاعتقاد الذى يردّ الشعر إلى نوع من الإلهام الذى يصل الشاعرَ بقوةٍ عُلْوِيَّةٍ تنطق على لسانه وأن يغدو لكل شاعر شيطانًا أو رئيًّا (الصواب: "وأن يغدو لكل شاعر شيطانٌ أو رَئِىٌّّ") يلهمه الشعر ويُغْوِيه على إنشاده ويعينه حين يُجْبِل عليه النَّظْمُ (الذى يقال هو: "أَجْبَلَ الشاعرُ" لا "أجبل النَّظْمُ على الشاعر")..." (ص 14- 15).

هذا ما يقوله الكاتب، أما ما يقوله الواقع التاريخى واعتقاد العرب فمختلف تماما عن ذاك: فمثلا كان كثير من الشعراء فى الجاهلية (وهو تقليد استمر بعد الجاهلية قرونا) يقولون الشعر فى توديع حبائبهم عند رحيل قبائلهن إلى مواطن جديدة يتوفر فيها الماء والكلأ أو يقفون على الأطلال يبكون ويستبكون عاجزين تمام العجز عن صنع أى شىء. وهناك شعراء آخرون يشكون من مواقف لأقربائهم يرونها ظالمة متجنية، ولا يزيد ما يصنعونه هنا عن مجرد الشكوى ومحاولة إقناع أولئك الأقارب بالرجوع عن خطة الظلم والتجنى. وهناك شعر لحاتم الطائى يشكو فيه من زوجته لعَذْلها إياه على كرمه وبذل أمواله فى سبيل المجد ومعونة الضعفاء، كما أن هناك شعرا منسوبا لأمية بن أبى الصلت يشكو فيه من عقوق ابنه ويذكّره بما فعله من أجله حين كان صغيرا فربّاه وأحسن إليه ... إلى آخر ما يقوله كل أب فى مثل هذا الموقف لا يختلف عنه فى شىء. وعندنا كذلك عبد يغوث، الذى أسرته قبيلة معادية وشدّوا لسانه بنِسْعَةٍ وأخذت النسوة العجائز فى تلك القبيلة ينظرن إليه ويضحكن منه ساخرات شامتات، وهو عاجز تمام العجز عن صنع أى شىء. وعندنا عنترة بن شداد، وكان شاعرا من الفحول، ولم ينفعه شعره أو يُعِنْه فى شىء، إذ كان أبوه يرى أنه أقل من أن يعترف ببنوته لأن أمه كانت عبدة حبشية. وعندنا امرؤ القيس، الذى قُتِل أبوه على أيدى بعض رعيته فلم يستطع شاعرنا أن يصنع لهم شيئا مما دعاه إلى السفر إلى قيصر طلبا للمساعدة، ومع هذا لم يُجْدِه السفر أىّ جدوى، بل عاد عليه بالخسران المبين حتى لقد سمَّوْه بــ"الملك الضِّلِّيل". وعندنا جليلة بنت مُرّة، التى آدتها الحيرة بين حبها لأخيها وولائها لزوجها الذى قتله ذلك الأخ، فأخذت تولول عاجزة عن أن تفعل شيئا، وتندب سوء حظها قائلة إن ما صنعه أخوها، رغم شدة محبتها له، سوف يقوّض بيتيها جميعا: بيت أهلها وبيت زوجها، وسوف يقصم ظهرها ويدنى أجلها. وعندنا أيضا الخنساء، التى تركت لنا ديوانا شعريا كاملا كله بكاءٌ ولطمٌ على الخدود حزنا على أخيها صخر فى عجز تام وقهر مطلق. وعندنا زهير بن أبى سلمى، وهو أيضا من كبار الشعراء الجاهليين، ولكنه رغم ذلك يقولها بصراحة لا تعرف اللف ولا الدوران:

وأَعْلَمُ عِلْمَ اليوم والأمس قبله ولكننى عن عِلْمِ ما فى غَدٍ عَمِى

فالشاعر هنا يعترف بكل وضوح أنه عاجز عن معرفة أى شىء من شؤون الغيب، وأن ما يعرفه هو نفسه ما يعرفه كل إنسان لا يزيد عليه فترا، ألا وهو علم ما مضى! وعندنا كذلك المتلمِّس وطَرَفة بن العبد، وكان عمرو بن هند الملك قد أعطى كلا منهما رسالة لعامله على البحرين وعمان أفهمهما أنها رسالة بمكافأتهما، لكن المتلمس تشكك فى الأمر ففتح رسالته واطلع على ما كان الملك الماكر ينوى به، إذ كانت الرسالة أمرا بقتله على إساءة سبقت من ابن أخته طرفة فى حق ذلك العاهل، أما طرفة فلم يشأ أن يفتح الرسالة الخاصة به ممنِّيًا نفسه الأمانى قائلا إنه لا يمكن أن يفكر الملك فى أذاه، وكانت نهايته مأساوية حسبما ذكرت الروايات! فكيف لم يعرف ذانك الشاعران ما تتضمنه الرسالتان دون فتحهما كما يفعل أى بشر آخر؟

أأمضى فى ضرب الأمثلة أم إن هذا يكفى؟ إن كلام الأستاذ الدكتور ليس له من معنى إلا أن الشاعر الجاهلى كان يستطيع أن يصنع من الأشياء ما لا يقدر عليه غيره من البشر: أتراه إذن كان يستطيع أن يمدّ يده فى الهواء ثم يردّها وقد امتلأت من خيرات الله بما لذ وطاب دون أن يبذل فى ذلك جهدا كما يفعل سائر عباد الله؟ أتراه كان يقدر على الطيران فى الهواء دون حاجة إلى جناح، أو على الغوص تحت الماء دون حاجة إلى الهواء؟ أتراه كان يعلم الغيب؟ أتراه كان يقتل أعداءه لا بسيف أو رمح أو سهم بل ببيت أو بقصيدة من الشعر يقولها فيسقط الأعداء صرعى لا يحطّون منطقا؟ دعنا من هذا كله، ولنحوِّر السؤال فنقول: أترى الجاهليين كانوا يعتقدون فى شعرائهم شيئا من هذا؟ أبدا والله العظيم. أم ترى الشعراء أنفسهم كانوا يزعمون ذلك، وهو زعم كاذب بطبيعة الحال لو كان قد حدث؟ أبدا ثلاثة أيمان بالله العظيم! فلماذا إذن الزعم بأنهم كانوا يعرفون ما لا يعرفه سواهم، ويقدرون على فعل ما لا يقدر هؤلاء على فعله؟ إن كل ما كان الشاعر الجاهلى يتميز به عن سواه هو هو ذاته ما يتميز به الشاعر فى أى عصر ومن أية أمة عن سواه: الموهبة الفنية التى تدير الرؤوس إذا كانت موهبة عبقرية، وهذا كل ما هنالك. وبهذا المعنى لا بد أن نفهم كلمة الرسول الكريم حين أُعْجِب بأحد الشعراء ومقدرته على تزيين الكلام وخلْب لب السامع، فقال عليه السلام: "إن من البيان لسحرا".ومرة أخرى هذا كل ما هنالك، ولا سحر فى الواقع الفعلى ولا يحزنون. إنما هو كلام على المجاز!

لقد ادعى الأستاذ الدكتور أن الشاعر كان يجمع فى شخصه بين الكاهن والساحر والنبى والعالم والحكيم والشامان ولا أدرى ماذا أيضا. وهذا، مرةً أخرى، كلام كبير لا ظل له من الواقع بَتَّةً. لقد كان الجاهليون يقصدون الكهان لكى يعلموا لهم، حسب أوهامهم، علم الغيب أو ينفِّروا بينهم وبين خصومهم المنافسين لهم على المجد والشرف أو يستقسموا لهم بالأزلام أو يذبحوا لهم قرابينهم لآلهتهم، فهل سمع أحد أن العرب قبل الإسلام قد قصدوا يوما شاعرا لهذا الغرض؟ أبدا أبدا. كذلك فالكهان كانوا يَسْجَعون، أما الشعراء فكانوا يَشْعُرون، والشعر غير السجع كما هو معروف شكلا ومضمونا، ولا يمكن أحدا أن يخلط بينهما بأى حال. أما اتصافهم بصفات النبوة أو على الأقل اعتقاد الجاهليين بأنهم كانوا يتصفون بصفات النبوة فقد بينّا من قبل أن ذلك غير صحيح بأى معنى من المعانى. وببقى السِّحْر، فهل مَنْ سمع أن شعراء الجاهلية كانوا يمارسونه أو شيئا قريبا منه يوما أو أن أحدهم قد ادعى أنه ساحر؟ أما الحكمة فلا ارتباط حتمى بينها وبين الشعر، فقد يكون الشاعر حكيما، ولكنه قد يكون أيضا أحمق من هَبَنَّقَة! كما أن غير الشعراء كثيرا ما يكونون حكماء. لقد كان زُهَيْر بن أبى سُلْمَى، كما يقولون، شاعرا حكيما، لكن هل كان فى طَرَفة مثلا أو امرئ القيس أو الشَّنْفَرَى أو ابن الزِّبَعْرَى شىء من الحكمة الزُّهَيْرية؟ على أننا، حين نقول إن بعض الشعراء كانوا حكماء، لا نقصد أنهم بالضرورة كذلك فعلا، بل المراد أنهم اشتهروا بالنظم فى الحكمة، أما أن يكونوا حكماء فى الواقع فتلك نقرة أخرى كما هو مفهوم! ونفس الشىء نقوله عن ارتباط الشعر بالعلم، فمن الشعراء من كان مثقفا ثقافة واسعة، لكن كان منهم أيضا من لم تتسع ثقافته، وهذا مُشَاهَدٌ فى كل عصر وفى كل مكان. وعلى أى حال ينبغى أن يكون مفهوما أننا، حين نقول إن بعض الشعراء قبل الإسلام كانوا مثقفين ثقافة واسعة، لا نعنى الثقافة على إطلاقها، بل ثقافة مجتمعهم وعصرهم، وهى ثقافة بسيطة تناسب أوضاع العرب قبل الإسلام لا تزيد عن ذلك شيئا. ومن الناحية الأخرى لا بد أن نعرف أيضا أن الثقافة الواسعة (الواسعة نسبيا كما قلنا) لم تكن حكرا على الشعراء، بل كان من غير الشعراء من هو واسع الثقافة مثلهم أو ربما أوسع منهم. مرة أخرى نقول إن الشعراء بما هم شعراء، جاهليين كانوا أو غير جاهليين، إنما يمتازون عمن سواهم بالموهبة الفنية ليس إلا. وكل كلام غير هذا باطل كزواج عتريس من فؤادة: "باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل! باطل!" كما كانت المجاميع تردد فى صوتٍ مُنَغَّمٍ مَهِيبٍ (أو بأسلوب الدكتور هيكل: "مَهُوب") فى فِلْم "شىء من الخوف"!

إن الكلام الواسع يضر أكثر مما ينفع، وكثير من أبناء الأجيال الجديدة تفتنهم ألفاظ "المفارقة والولادة الجديدة والشعائر السحرية" وما إلى هذا ويرددون ما يسمعونه من تلك الألفاظ دون أن يعرضوا شيئا منه على محكّ العقل، وبخاصة إذا قرأوه عند أحد الكتاب المشاهير، ولا يتصورون أبدا أنه مجرد كلام لا يؤكِّل فى دنيا الواقع عيشا! ومثال واحد يكفى فى هذا المجال: فقد كان عندى منذ سنوات طالب يدرس معى للحصول على درجة الماجستير فى الأدب العربى، وكان مغرما، رغم ضيق أفقه وضحولة معارفه، بترديد ما كان قد سمعه من بعض الأساتيذ من أن عرب الجاهلية كانوا يعبدون الناقة والمرأة والملوك والكهان والثور الوحشى... إلى آخر المعبودات إن كان لذلك من آخر. فسألته يوما بعدما عَيِيتُ به ووضعت أصابعى العشرة فى الشِّقّ: فما مظاهر عبادتهم تلك للناقة يا ترى؟ فردَّ علىَّ فى الحال بأنهم كانوا يركبونها. فضربت كفا على كف عجبًا وحيرة. فانظر، أيها القارئ الكريم، إلى أى مدى يمكن أن يكون كلامنا مضللا للعقول!

إننى لا أستطيع أن أمضى فى مناقشة كل ما جاء فى الكتاب من كلام مرسل على عواهنه يأخذ النقادَ الشبانَ بالدهشة ويربك عقولهم بالمصطلحات الغريبة والتحليلات المعقدة المستفيضة التى لا تخرج عن حيز التنظير والكلام المجرد ولا تقدم على صحة ما تقول شيئا من الأسانيد، اللهم إلا بيتا من الشعر أو بيتين يُمْلَخان من سياقهما ويُلْبَسان ما شاء الكاتب من التصورات والمفاهيم التى ما أنزل الله بها من سلطان. وهذه مسألة غاية فى السهولة لمن يريد، ولو كان هذا هو النقد لقد كان الناس جميعا قادرين على أن يكونوا نقادا، إذ ما أسهل الكلام على كل إنسان، لكن المهم هو إرساء القواعد ورسم الحدود حتى يكون القارئ على بينة مما يقرأ فيحاكمه إلى أسس محددة بعيدا عن الكلام المعقد المرهق الذى لا يساعد على الوصول إلى بر الأمان، وإن أعجبتْ هذه الطنطناتُ الأغرارَ من الأجيال الجديدة بما تحتوى عليه من مصطلحات براقة طنانة تبعث على الدهشة! ولذلك سأكتفى بمسّ نقطة واحدة أخرى وأنتهى.

وهذه النقطة هى قول المؤلف فى الفصل الثانى من الكتاب، وعنوانه "تحول النموذج الأصلى للشاعر"، إن مجىء الإسلام قد استتبع، ضمن ما استتبع، أن يتحول النموذج الأصلى للشاعر الجاهلى إلى نموذج آخر يتناسب والظروف التى طرأت على حياة العرب بمجىء الدين الجديد. ثم أضاف قائلا إن هذا التحول أو "هذا الانتقال أحلَّ شاعر البلاط بأعرافه وطرائقه وتوجهاته الفنية والاجتماعية وميوله السياسية المرتبطة بسلطة الدولة التى يقع على رأسها الخليفة الفرد...محلَّ شاعر القبيلة المرتبط بوجدانها الجَمْعِىّ من ناحية، وبسيد من ساداتها الذين يجسِّدون بسلوكهم هذا الوجدانَ الجمعىَّ من ناحية ثانية. إذا كان ظهور شاعر البلاط (يقصد بلاط الخلفاء الأمويين ثم العباسيين من بعدهم...إلخ) يمثل صوت السلطة المركزية المهيمنة، فإن هذا الظهور فى هذا السياق كان يعنى تقليص الحرية الإبداعية لهذا الشاعر فى مواجهة السلطة التى تحميه وينطق باسمها والتى نظرت إلى منزلته بوصفها منزلة تتراوح بين موضع النديم الذى يزخرف أمسيات المسامرة بما يُسَرِّى عن الهموم ويُجِمّ الأنفس ببعض الباطل حتى تقوى على الحق، ومنزلة الداعية الذى يدافع عن السلطة التى ترعاه وتدفع له. وقد قالوا إن اللُّهَى (يقصد "الأعطيات") تفتح اللَّهَا (أى الحناجر)... هكذا تخلخلت منزلة الشاعر القديم وفارق منزلةَ النبى، الشامان، عقلَ القبيلة الذى يُسْمَع قوله ويُصَدَّق حكمه" (ص 24- 25).

وقارئ هذا الكلام سوف يفهم منه أن الشاعر الجاهلى كان يوظِّف شعره كله دائما فى خدمة الجماعة التى ينتمى إليها، وهى القبيلة، والنطق باسمها والتعبير عن وجدانها، وأنه بعد الإسلام قد أصبح أشبه شىء بمهرج السيرك أو بهلول البلاط. وهذا كله غير صحيح، فلا الشعراء الجاهليون كانوا ينطقون فى أشعارهم جميعا باسم القبيلة، ولا من كان ينطق باسم القبيلة منهم كان يفعل ذلك دائما، ولا الشعراء العرب بعد الإسلام كانوا دائما نُدَماء فى بلاط الخليفة، بل كان منهم الشعراء الغزلون، والشعراء المتمردون على الدولة كالخوارج ومشايعى أهل البيت، وشعراء الدعوة الدينية، والشعراء المخلوعون، والشعراء المغنّون، وشعراء الفتوح، وشعراء الهجاء، وشعراء النقائض، وشعراء اللهو، وشعراء الوصف، وشعراء القنص، وشعراء الألغاز والأحاجى... إلخ. وفى الجاهلية كان النابغة الذُّبْيَانىّ مثلا شاعرا من شعراء البلاط الغَسَّانىّ والمُنْذِرِىّ، كما كان حسان بن ثابت من مدّاحى جَبَلة بن الأَيْهَم وغيره من أصحاب السلطان، ومثله فى مديح الملوك والأمراء الأعشى، الذى كان كذلك شاعرا من شعراء الشراب. بل إن زُهَيْرا وأُمَيّة بن أبى الصَّلْت أنفسهما كانا ضمن شعراء المديح فى الجاهلية. ثم أين نضع عنترة بن شداد وشعره، على الأقل قبل أن يعترف به أبوه ويلحق نسبه به؟ بكل تأكيد لم يكن ذلك الشعر فى خدمة القبيلة، بل فى خدمة قضية صاحبه الذى كان يتغنى بالحرية ويثور على وضعه المهين كعبد من عبيد القبيلة رغم أنه فى الواقع ابن لأحد شيوخها. وبالمثل فإننا نتساءل عن موضع شعر المَلِك الضِّلِّيل، أين ينبغى يا ترى أن يكون؟ أكان فى خدمة القبيلة ووجدانها الجمعى؟ بالتأكيد لا وألف لا، إذ كان امرؤ القيس شاعرا غزلا لاهيا يقضى وقته فى القنص: قنص ظباء البشر وظباء الوحش على السواء، ويتغنى فى شعره بذلك. وعندنا كذلك طرفة بن العبد، وكان شابا متمردا على مقتضيات العرف والتقاليد يحب أن يقضى وقته فى الخمر والميسر، ولم يكن يشغل نفسه البتة بشؤون قبيلته ومشاغلها. وعندنا أيضا طائفة كاملة من الشعراء لم تكن تشغل نفسها بشىء من الأمور الجماعية، بل كانت على العكس من ذلك تتمرد على القبيلة وأوضاعها، وهم شعراء الصعاليك. وبالإضافة إلى هذا كان هناك شعراء الحب المُدْنَفُون الذين لم يكن لهم من هَمٍّ إلا استرضاء المحبوبة والظفر منها بنظرة رضًا كالمرقّش الأكبر وعُرْوَة بن حِزَام مثلا. ووراء هؤلاء جميعا الشعراء الذين كانوا يتَغَنَّوْن بأمور الحياة المعتادة كشعر حاتم الطائى فى خلاف زوجته له كلما أنفق من ماله شيئا فى أغراض المجد الحميد والذكر الجميل، وكشعر ذى الأصبع العدوانى فى معاتبة ابن عمه الذى كان يجفوه ويَقْلِيه لغير سبب، وكشعر الشمّاخ فى وصف القوس وحمار الوحش، والأعشى فى وصف الخمر، وأمية بن أبى الصلت فى القصص الدينى، والخنساء فى ولولاتها على أخيها، والممزّق العبدى فى الأسى لما يحسه من دنو المنية منه وأنه عما قليل مفارق هذه الدنيا... وغير ذلك. بل إن شعر المديح ذاته لا يستغرق أبدا القصيدة كلها، بل أبياتا منها فقط، أما الباقى فيُنْفَق فى وصف الرحلة والدّابَّة ومناظر الصحراء والوحش الذى يقابله فى طريقه وما إلى هذا. أرأيتم، أيها القراء، الفرق بين الكلام المرسل على عواهنه والكلام الذى يريد الوصول، بالتحقيق والتدقيق والتوثيق، إلى بر الأمان العلمى والتاريخى؟

هذا، وقد مدح كاتبنا مدحا عنيفا الدكتور طه حسين من أجل ما كتبه عن الشعر الجاهلى فى الثلاثينات، وهى المقالات التى جُمِعَتْ فيما بعد فى كتابه: "حديث الأربعاء".وهذا يجرنا إلى ما كان طه حسين قد كتبه قبل ذلك فى كتابه الشهير: "فى الشعر الجاهلى" وما طنطن به بعض حوارييه من الزعم الماسخ بأنه، فى ذلك الكتاب الذى أنكر فيه وجود شعر عربى قبل الإسلام، كان أول من فكر فى تشغيل عقله، وكأن الكتّاب والمفكرين العرب والمسلمين قبله لم يكونوا يستعملون أمخاخهم، بل يحفظونها فى الفورمالين ويضعونها فى برطمانات! لقد صدق مشايعو الدكتور طه فى ما قالوه، فهو فعلا أول من حاول أن يستعمل عقله، بل هو فى الواقع أول وآخر من حاول استعمال ذلك العقل، لكنْ فى سرقة مَرْجُلْيُوث جِهَارًا نهارا، وأول سارق يتبرع ضحيته فى الدفاع عنه بأنه إنما كتب كتابه هذا فى نفس الوقت تقريبا الذى كتب ضحيتُه الدراسةَ المسروقة. ومَرْجُلْيُوث الضحيّةُ بقوله هذا لا يزيد عن أن يكون كهؤلاء الشهود الذين يقفون على أبواب المحاكم يؤجرون أنفسهم لشهادة الزور بالأجرة! إنه، كما وَصَفْتُه منذ نحو عشرين سنة، "كيذبان" و"كذاب بالثلث"، إذ إن المدة التى يصفها هذا الأفاق بأنها نفس الوقت تقريبا ليست أقل من عشرة أشهر، فضلا عن أننى تتبعت ما قاله طه حسين قبل ظهور دراسة مرجليوث تلك على مدى أكثر من عشر سنوات فلم أجده شكَّ يوما فى الشعر الجاهلى، بل وجدته كلما جاءت سيرة ذلك الشعر يتكلم عنه بما يؤكد إيمانه بصحته إيمانا لا يتزعزع كما فَصَّلْتُ القول فى ذلك فى دراستى المنشورة فى عدة مواقع مشباكية بعنوان "نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟"، فضلا عن أن هذه أول مرة نرى فيها كاتبًا يتنازل عن براءة اكتشافه العلمى لشخص آخر. ما كل هذا التواضع؟ ما كل هذه الحِنِّيّة؟ إننا لسنا هنا بصدد صدقة نخرجها لفقير من الفقراء، بل نحن أمام فكرة يحرص صاحبها فى الظروف غير المريبة على التمسك بها وعدم التفريط فيها! لكن الدفاع عن طه حسين، وكذلك العمل على أن يردد فكرةَ إنكار الشعر الجاهلى واحدٌ من أبناء العروبة أنفسهم، يستحق هذه التضحية الأثيمة وما هو أشنع منها!

ونفس الشىء نقوله هنا عما يردده الدكتور عصفور عن النبى والشاعر عند العرب. وعلى المتضرر مما نقوله بالحجة الناصعة أن يثبت ما يقول بحجة أقوى منها لا بمجرد ترديد الكلام المرسل دون دليل، وإلا فما أسهل ترديد مثل ذلك الكلام الذى لا يكلف صاحبه شيئا والذى لا يزيد فى أحسن الأحوال عن أن يكون افتتانا من بعض الكتّاب بالألفاظ، فتراهم يحبسون أنفسهم فى قمقمها ويذهبون فينسجون أثوابا من الخيال، أو بالأحرى من الأوهام، وهى أثواب قد تكون جميلة فى نظرهم، لكنها مع ذلك لا تصلح لشىء! على أن قضية الدكتور طه لا تقف عند هذا الحد، ذلك أنه ما من باحثٍ الآن بين العرب أو المستشرقين إلا وينكر ما قاله الرجل بل ينبذه النَّبْذ الذى يستحق بعد أن تبين للناس جميعا ما فيه من تهافت فى أصول البحث وركاكة فى إعمال الفكر وحذلقة تثير الاشمئزاز وتسرُّعٍ فى استخلاص النتائج التى لا تسلم إليها المقدمات وقلة إحاطة بالموضوع، وبعد أن أشبعه المفكرون المحترمون نقدا وفضحا وتمزيقا. وبرغم ذلك نرى حتى الآن بعضًا من حوارييه يحاولون أن يخدعوا قراءهم من خلال المضىّ فى التهليل للرجل بحجة أنه أراد أن يفكر تفكيرا مستقلا، وهم إنما يخدعون أنفسهم ولكن لا يشعرون! فأى تناقضٍ هذا! وأى بؤسٍ عقلىٍّ وفكرىٍّ! ومن الطريف أن الدكتور عصفور قد أثنى هنا على الدكتور طه لسبب مناقض تماما لذلك السبب، ألا وهو ما كتبه الدكتور طه عن الشعر الجاهلى فى الثلاثينات. وهذا الذى كتبه طه حسين إنما يعنى، ظاهرًا على الأقل، أنه هو نفسه قد ارتد عما كان قد زعمه فى شأن ذلك الشعر. أى أنه قد لعق ما كان قد قاله عن ذلك الشعر من قبل، فما معنى مضىّ الحواريين فى ترديد معزوفة أنه أول من حاول من الكتاب العرب فى العصر الحديث أن يستعمل عقله وأن يضع المسلَّمات فى دنيا الفكر العربى والإسلامى موضع المساءلة؟