ملاحظات على الالتزام في مسرح باكثير التاريخي
قراءة في كتاب:
الالتزام في مسرح باكثير التاريخي
للدكتورة: سحر حسن أشقر
د. عبد الحكيم الزبيدي
مؤسس ومدير موقع الأديب علي أحمد باكثير
صدر هذا العام (1430هـ/2009م) عن نادي مكة الأدبي كتاب قيم للباحثة الدكتورة سحر حسن أشقر، الأستاذة بكلية التربية للبنات بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، بعنوان: "الالتزام في مسرح باكثير التاريخي". والكتاب في الأصل أطروحة تقدمت بها الباحثة لنيل درجة الدكتوراه في الأدب الحديث من جامعة أم القرى عام 2005م، وقد اطلعت عليه حديثاً حيث أهداني صديقي الدكتور محمد أبوبكر حميد – الأمين على تراث باكثير- نسخة منه خلال زيارته للإمارات. وقد استمتعت بقراءة البحث ودونت بعض الانطباعات التي أرغب في مشاركة القراء في بعضها.
ثغرات فى المنهج:
مما يؤخذ على المنهج –في رأيي- أن الباحثة لم تعرف في المقدمة ولا في ثنايا البحث المقصود بمصطلح "التاريخي"، ولم تضع له قيوداً ضابطة تعين القارئ وتنير أمامه طريق البحث. وبالتالي فإن القارئ يعجز عن استنباط المنهج الذي اختارت الباحثة على أساسه المسرحيات موضوع الدراسة. فنراها –مثلاً- تعد من المسرح التاريخي مسرحيات أسطورية مثل:
- إخناتون ونفرتيتي
- أوزيس وأوزيريس
- سر شهرزاد
- فاوست الجديد
- مأساة أوديب
وأخرى سياسية معاصرة مثل:
- التوراة الضائعة
- الزعيم الأوحد
وأخرى اجتماعية معاصرة مثل:
- حبل الغسيل
- همام أو في عاصمة الأحقاف
وإذا كان فهمها لمصطلح التاريخي يشمل المسرحيات التي تناولت الأسطورة، كما رأينا في إخناتون ونفرتيتي، وإيزيس وأوزوريس، فلماذا لم تتناول مسرحيات أسطورية فرعونية أخرى مثل: الفرعون الموعود، والفلاح الفصيح؟
ولعل الباحثة اختارت مسرحية (التوراة الضائعة) لأن فيها مشاهد تاريخية، ولكن كان عليها توضيح هذا المنهج في المقدمة. ولعلها أيضاً اختارت مسرحية (الزعيم الأوحد) لأنها تتناول شخصية حقيقية وهي الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، ولكن المسرحية لا تتناوله تناولاً تاريخياً –كما تتناول نابليون مثلاً- وإنما تناولته في قالب كوميدي سياسي، وباسم يرمز له ولا يصرح. ولم أستطع أن استنبط السبب الذي جعلها تختار مسرحيتي (همام) و(حبل الغسيل) ضمن المسرح التاريخي وهما من المسرح الاجتماعي المعاصر.
على أن البحث أيضاً لم يشمل كل مسرح باكثير التاريخي –حسب الفهم المتعارف عليه لمصطلح التاريخي، فلا نجد مثلاً مسرحية "السلسلة والغفران"، وهي اجتماعية تاريخية. كذلك فإن البحث لم يشر من قريب ولا من بعيد إلى أهم عمل مسرحي تاريخي لباكثير وهي ملحمة عمر. وكان على الباحثة أن تقدم المسوغات لاستبعادها. بل إنه من الواضح أن الباحثة لم تطلع عليها، ذلك أنها تناولت مسرحيتين قصيرتين لباكثير نشرتا في مجلة الفيصل السعودية إحداهما بعنوان: (بيت عمر في المدينة) والأخرى بعنوان (عندما يموت البطل) دون أن تفطن إلى أن المسرحيتين ما هما إلا مشهدان من مشاهد ملحمة عمر. وقد أدى بها عدم الالتفات لذلك إلى أن وقعت في خطأ فاحش إذ ظنت أن شيرين الفارسية في مشهد (عندما يموت البطل) هي أخت المثنى بن حارثة حين سمعته يناديها: (يا أختاه) فسمتها (شيرين بنت الحارث) وبنت على ذلك نتائج خاطئة، وظنت أن ذلك كان في معركة ذي قار([1]).
مزايا البحث
على أن كل تلك الهنات لا تقلل من أهمية البحث، فقد بدا واضحاً ما بذلته الباحثة من جهد في البحث والتأويل والرجوع إلى المراجع المتعددة، ومحاولة الجمع بين الآراء المتناقضة، والاعتداد بالنفس في إصدار الأحكام والآراء الخاصة بها. وقد جاء البحث (الكتاب) في أكثر من خمسمائة صفحة، وقد قسمته الباحثة إلى تمهيد وثلاثة أبواب. تناولت في التمهيد لمحة من حياة باكثير، ومقدمة عامة حول الالتزام. أما الباب الأول فقد قسمته إلى عدة فصول تناولت فيها: مظاهر الالتزام في مسرح باكثير: الالتزام العقدي، السياسي، الاجتماعي، الأخلاقي. وتناولت في الباب الثاني البناء الفني للمسرحيات التاريخية موضوع البحث، وشمل ذلك مظاهر مثل: اللغة، الحوار، الشخصيات، الصراع، الحبكة الفنية. وتناولت في الباب الثالث الرؤية والموقف النقدي، وقسمته إلى فصلين: ملامح مسرح باكثير التاريخي، ومسرح باكثير التاريخي في ميزان النقد.
وبالإجمال فالبحث جميل وممتع، ويستحق القراءة والإشادة به. على أن أهم ما يميز البحث –في رأيي- أمران: أولهما غيرتها الشديدة على أدب باكثير ومنافحتها عنه ورد التهم والانتقادات التي وجهت إلى أدبه، حتى أنها عقدت لذلك فصلاً خاصاً جعلت عنوانه: "مسرح باكثير التاريخي في ميزان النقد"، تناولت فيه الانتقادات التي وجهت إلى مسرح باكثير التاريخي وفندتها وردت عليها، في غيرة واضحة وحب جلي، وغضبة مضرية أن يمس تراث باكثير الأدبي بشيء من النقد المحيف.
وعلى الرغم من سطحية بعض ردودها على بعض الانتقادات التي وجهت لمسرح باكثير التاريخي إلا إنه يحمد لها تلك الغيرة وتلك الرغبة الواضحة في التماس الأعذار لباكثير وإظهار مسرحه في صورة الكامل أو شبه الكامل. ومن تلك الردود السطحية ردها على الدكتور الحديدي الذي اتهم لغة باكثير في مسرحية (حرب البسوس) بالسهولة التي لا تتناسب مع لغة العصر الجاهلي، مستشهداً بقوله على لسان جليلة بنت مرة مخاطبة ابنها هجرس: "قلت لك سبعين مرة.."([2])، وقد حاولت الباحثة أن توفق بين رأي الدكتور الحديدي السابق وبين رأي الدكتورة مديحة عواد التي وصفت لغة باكثير في المسرحية نفسها أنها تتميز بالجزالة التي هي من خصائص لغة أهل البادية. وقد حاولت الباحثة التوفيق بين الرأيين بأن استشهدت بأقوال لباكثير يؤكد فيها أنه يكتب بمستويات متعددة، وانتهت إلى أن باكثير استخدم في مسرحية (حرب البسوس) مستويين من اللغة، أحدهما جزل يتناسب مع أسلوب أهل البادية –وهذا ما لاحظته الباحثة مديحة عواد- وأسلوب سهل يتناسب مع مستوى القارئ المعاصر –وهذا ما لاحظه الدكتور الحديدي([3]). والحق أن رأي الدكتورة مديحة عواد هو الصحيح، أما عبارة الدكتور الحديدي فمردودة عليه، إذ ظن أن استخدام عبارة مثل "سبعين مرة" هو استخدام عامي سهل -حسب تعبيره، ولعله حسبه من قبيل قول العامة: "ذهب في ستين .. كذا"، وليس منه في شيء بل هو استخدام فصيح كان العرب يستخدمونه في الجاهلية للدلالة على المبالغة، وقد ورد في الذكر الحكيم في قوله تعالى عن المنافقين: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة، 80).
والأمر الآخر الذي يميز البحث، والذي يدل على ذكاء الباحثة وحسها النقدي النافذ، هو ما لاحظته من أن باكثير كان يحرص على أن تظهر المرأة في أعماله مبرأة مما يعيبها ويقدح في عفتها وشرفها، مما أدى به أحياناً إلى الخروج على نصوص التاريخ، وإعادة تفسيرها أو صياغتها من أجل أن يبرأ المرأة وينفي عنها ما يقدح في عفتها وكرامتها([4]). وهو ملحظ جميل لم أجد من التفت إليه قبلها في جميع الدراسات التي وصلت إلى علمي، وقد سبق لي أن تناولته في مقال لي بعنوان: "باكثير الكاتب الذي أنصف المرأة" نشر في الملحق الثقافي لصحيفة الاتحاد([5])، ولم أكن قد اطلعت حينها على هذا البحث، ولا أحسب الباحثة اطلعت على ذلك المقال لأنها ناقشت أطروحتها قبل نشره.
بحث يستحق النشر
ومما يحمد للباحثة أنها سعت إلى نشر هذا البحث القيم ويحمد لنادي مكة الأدبي تبني نشره حتى يطلع عليه الباحثون والدارسون، وحتى لا يبقى حبيس الأدراج مثل كثير من الأطروحات التي أعدت عن باكثير ولم تر النور بعد، ولا يقلل من أهمية الكتاب كثرة الأخطاء المطبعية فيه، ووجود بعض الأخطاء النحوية اليسيرة مثل: "حتى لا يتواطآن عليه" (ص 479)، "لذا تناشد أخيها... فضلاً عن أن جساساً أخاها الوحيد وتخشى فقده" (ص 481)، "حول دور العبدان نشوان وذكوان" (ص 488)، وغيرها. وكل هذا يدل على أن الباحثة لم تراجع البحث قبل نشره، وقد دفعته إلى المطبعة بصيغته التي تقدمت بها للجنة المناقشة، حتى أن اسم الباحثة على الكتاب قد ورد غفلاً من لقب الدكتورة وهي الدرجة التي حصلت عليها بعد مناقشة هذا البحث.
[1] - سحر حسن عبد القادر أشقر: الالتزام في مسرح باكثير التاريخي، نادي مكة الثقافي الأدبي، 1430هـ/2009م، ص 166
[2] - السابق، ص 533
[3] - السابق، ص 534-535
[4] - السابق، ص 243
[5] - 24 يناير 2008