الملاح التائه

الملاح التائه "علي محمود طه" في ذكراه

محمد بركة

علي محمود طه من أعلام مدرسة "أبولو" التي أرست أسس الرومانسية في الشعر العربي.. يقول عنه أحمد حسن الزيات: كان شابّاً منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك!!

ولد علي محمود طه في الثالث من أغسطس سنة 1901 بمدينة المنصورة عاصمة الدقهلية لأسرة من الطبقة الوسطى وقضى فيها صباه . حصل على الشهادة الابتدائية وتخرج في مدرسة الفنون التطبيقية سنة 1924م حاملاً شهادة تؤهله لمزاولة مهنة هندسة المباني . واشتغل مهندساً في الحكومة لسنوات طويلة ، إلى أن يسّر له اتصاله ببعض الساسة العمل في مجلس النواب .

وقد عاش حياة سهلة لينة ينعم فيها بلذات الحياة كما تشتهي نفسه الحساسة الشاعرة . وأتيح له بعد صدور ديوانه الأول " الملاح التائه " عام 1934 فرصة قضاء الصيف في السياحة في أوربا يستمتع بمباهج الرحلة في البحر ويصقل ذوقه الفني بما تقع عليه عيناه من مناظر جميلة .

وقد احتل علي محمود طه مكانة مرموقة بين شعراء الأربعينيات في مصر منذ صدر ديوانه الأول " الملاح التائه "، وفي هذا الديوان نلمح أثر الشعراء الرومانسيين الفرنسيين واضحاً لا سيما شاعرهم لامارتين . وإلى جانب تلك القصائد التي تعبر عن فلسفة رومانسية غالبة كانت قصائده التي استوحاها من مشاهد صباه حول المنصورة وبحيرة المنزلة من أمتع قصائد الديوان وأبرزها. وتتابعت دواوين علي محمود طه بعد ذلك فصدر له : ليالي الملاح التائه (1940)- أرواح وأشباح (1942)- شرق وغرب (1942)- زهر وخمر (1943)- أغنية الرياح الأربع (1943)- الشوق العائد (1945)- وغيرها.

وقد كان التغني بالجمال أوضح في شعره من تصوير العواطف، وكان الذوق فيه أغلب من الثقافة . وكان انسجام الأنغام الموسيقية أظهر من اهتمامه بالتعبير. قال صلاح عبد الصبور في كتابه " على مشارف الخمسين ": قلت لأنور المعداوي: أريد أن أجلس إلى علي محمود طه. فقال لي أنور : إنه لا يأتي إلى هذا المقهى ولكنه يجلس في محل " جروبي " بميدان سليمان باشا. وذهبت إلى جروبي عدة مرات، واختلست النظر حتى رأيته .. هيئته ليست هيئة شاعر ولكنها هيئة عين من الأعيان . وخفت رهبة المكان فخرجت دون أن ألقاه، ولم يسعف الزمان فقد مات علي محمود طه في 17 نوفمبر سنة 1949 إثر مرض قصير لم يمهله كثيراً وهو في قمة عطائه وقمة شبابه ، ودفن بمسقط رأسه بمدينة المنصورة . ورغم افتتانه الشديد بالمرأَة وسعيه وراءها إلا أنه لم يتزوج .

ويرى د. سمير سرحان ود. محمد عناني أن "المفتاح لشعر هذا الشاعر هو فكرة الفردية الرومانسية والحرية التي لا تتأتى بطبيعة الحال إلا بتوافر الموارد المادية التي تحرر الفرد من الحاجة ولا تشعره بضغوطها.. بحيث لم يستطع أن يرى سوى الجمال وأن يخصص قراءاته في الآداب الأوروبية للمشكلات الشعرية التي شغلت الرومانسية عن الإنسان والوجود والفن، وما يرتبط بذلك كله من إعمال للخيال الذي هو سلاح الرومانسية الماضي.. كان علي محمود طه أول من ثاروا على وحدة القافية ووحدة البحر، مؤكداً على الوحدة النفسية للقصيدة، فقد كان يسعى - كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه ثورة الأدب - أن تكون القصيدة بمثابة "فكرة أو صورة أو عاطفة يفيض بها القلب في صيغة متسقة من اللفظ تخاطب النفس وتصل إلى أعماقها من غير حاجة إلى كلفة ومشقة.. كان علي محمود طه في شعره ينشد للإنسان ويسعى للسلم والحرية؛ رافعاً من قيمة الجمال كقيمة إنسانية عليا..

ويعد الشاعر علي محمود طه أبرز أعلام الاتجاه الرومانسي العاطفي في الشعر العربي المعاصر ، وقد صدرت عنه عدة دراسات منها كتاب أنور المعداوي " علي محمود طه: الشاعر والإنسان " وكتاب للسيد تقي الدين " علي محمود طه، حياته وشعره " وكتاب محمد رضوان " الملاح التائه علي محمود طه "، وقد طبع ديوانه كاملاًََ في بيروت .و يذكر أن قصائد ( الجندول وفلسطين و كليوباترا ) غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب وثمة قصائد وأشعار أخرى لطه دخلت عالم الغناء وخلدت هذا الاسم الكبير .

يقول في قصيدة

فلسطين :

أَخِي ، جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَـدَى
أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُونَ iiالعُرُوبَــةَ
وَلَيْسُوا بِغَيْرِ صَلِيلِ iiالسُّيُـوفِ
فَـجَـرِّدْ حُسَامَكَ مِنْ غِمْــدِهِ
أَخِي، أَيُّهَـــا العَرَبِيُّ iiالأَبِيُّ
أَخِي، أَقْبَلَ الشَّرْقُ فِي iiأُمَّــةٍ
أَخِي، إِنَّ فِي القُدْسِ أُخْتَاً iiلَنَـا
صَبَرْنَا عَلَى غَدْرِهِمْ iiقَادِرِيـنَ
طَلَعْنَا عَلَيْهِمْ طُلُوعَ iiالمَنُــونِ
أَخِي، قُمْ إِلِى قِبْلَةِ المَشْرِقَيْـن iiِ
أَخِـي، قُمْ إِلَيْهَا نَشُقُّ iiالغِمَـارَ
أَخِـي، ظَمِئَتْ لِلْقِتَالِ iiالسُّيُوفُ
أَخِي، إِنْ جَرَى فِي ثَرَاهَا دَمِي
فَـفَتِّشْ عَلَى مُهْجَـــةٍ حُرَّةٍ
وَخُذْ رَايَةَ الحَقِّ مِنْ iiقَبْضَــةٍ
وَقَـبِّلْ شَهِيدَاً عَلَى iiأَرْضِهَــا
فِـلَسْطِينُ يَفْدِي حِمَاكِ iiالشَّبَابُ
فِلَسْطِينُ تَحْمِيكِ مِنَّا iiالصُّـدُورُ

















فَـحَـقَّ الجِهَادُ ، وَحَقَّ iiالفِـدَا
مَـجْـدَ الأُبُوَّةِ وَالسُّــؤْدَدَا ii؟
يُـجِـيبُونَ صَوْتَاً لَنَا أَوْ صَدَى
فَـلَيْسَ لَـهُ، بَعْدُ ، أَنْ iiيُغْمَـدَا
أَرَى الـيَوْمَ مَوْعِدَنَا لاَ iiالغَـدَا
تَـرُدُّ الضَّلالَ وَتُحْيِي iiالهُـدَى
أَعَـدَّ لَهَا الذَّابِحُونَ iiالمُــدَى
وَكُـنَّـا لَهُمْ قَدَرَاً iiمُرْصَــدَا
فَطَارُوا هَبَاءً ، وَصَارُوا iiسُدَى
لِـنَـحْمِي الكَنِيسَةَ iiوَالمَسْجِـدَا
دَمَـاً قَـانِيَاً وَلَظَىً iiمُرْعِــدَا
فَـأَوْرِدْ شَبَاهَا الدَّمَ iiالمُصْعَـدَا
وَشَـبَّ الضَّرَامُ بِهَا iiمُوقــدَا
أَبَـتْ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا iiالعِــدَا
جَـلاَهَا الوَغَى ، وَنَمَاهَا iiالنَّدَى
دَعَـا بِـاسْمِهَا اللهَ iiوَاسْتَشْهَـدَا
وَجَـلَّ الـفِدَائِيُّ iiوَالمُفْتَــدَى
فَـإِمَّـا الحَيَاةُ وَإِمَّــا iiالرَّدَى

ويقول في قصيدة

الملاح التائه :

أيّـها الملاح قم و اطو iiالشّراعا
جـدّف الآن بـنـا فـي iiهـينة
فـغـدا يا صاحبي تأخذنا موجة
عـبـثا تقفو خطا الماضي iiالذي
لـم يـكـن غـير أويقات هوى
فـتـمـهّـل تـسعد الرّوح iiبما
ودع الـلّـيـلـة تـمضي iiإنّها
سـوف يـبدو الفجر في iiآثارها
هـذه الأرض انـتـشت ممّا iiبها
قـد طـواها اللّيل حتى أوشكت
إنـه الـصّـمت الذي في iiطيّه
سـمـعـت فـيه هتاف المنتهى
أيّـهـا الأحـياء غنّوا و اطربوا
آه مـا أروعـهـا مـن iiلـيـلة
نـفـخ الـحـبّ بها من روحه
و جـلا مـن صـور iiالـحسن
نـفـحـات رقـص البحر iiلها
و سرى من جانب الأرض صدى
بـعـث الأحـلام مـن هـجتها
قـمن بالشّاطئ من وادي iiالهوى
أيّـهـا الـهـاجـر عزّ iiالملتقى
أدرك الـتـائـه في بحر iiالهوى
وارع فـي الـدّنيا طريدا شاردا
ضـلّ في اللّيل سراه ، و iiمضى
يـجـتـوي الـلاّفح منiiحرقته
و الأسـى الـخالد من ماض عفا
فـاجـعـل الـبحر أمانا iiحوله
و امـسـح الآن عـلـى iiآلامه
و قـد الـفـلك إلى برّ iiالرّضى




























لـم نـطـوي لجّة اللّيل سراعا
و جـهة الشّاطئ سيرا و iiاتّباعا
الأيّــام قـذفـاً وانـدفـاعـا
خـلـت أنّ البحر واراه ابتلاعا
وقـفت عن دورة الدّهر انقطاعا
وهـمت أو تطرب النّفس iiسماعا
لـم تـكـن أوّل ما ولّى iiوضاعا
ثـمّ يـمـضي في دواليك iiتباعا
فـغّـفـت تـحلم بالخلد iiخداعا
من عميق الصّمت فيه أن iiتراعا
أسـفرالمجهول و المستور iiذاعا
مـن وراء الغيب يقريها الوداعا
و انهبوا من غفلات الدّهر iiساعا
فاض في أرجائها السّحر و iiشاعا
و رمى عن سرّها الخافي القناعا
لـنـا عـبقريّا لبق الفنّ iiصناعا
و هـفـا النّجم خفوقا و iiالتماعا
حـرّك الـعشب حنانا و iiاليراعا
كـسـرايـا الطّير نفّرن iiارتياعا
بـنـشـيد الحبّ يهتفن iiابتداعا
وأذبـت الـقلب صدّا و iiامتناعا
قـبـل أن يـقتله الموج صراعا
عنه ضاقت رقعة الأرض iiاتّساعا
لا يـرى فـي أفـق منه iiشعاعا
و عـذاب يـشعل الرّوح iiالتياعا
و الـهوى الثّائر في قلب تداعى
و امـلأ الـسّهل سلاما و iiاليفاعا
بـيـد الرّفق التي تمحو iiالدّماعا
و انشر الحبّ على الفلك iiشراعا