فتنة النص للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

كتاب «فتنة النص» حلقة من حلقات مشروع فكري للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف للتعامل مع نصوص اللغة العربية، فهو عبر كتبه كالنحو والدلالة والإبداع الموازي والجملة في الشعر العربي.. إلخ يعتبر اللغة مدخلا مهما لقراءة النصوص قراءة واعية، تجعل القارئ مفتوناً بالنص مدفوعاً إليه، لتنشأ علاقة الحب الطاغي بين النص والمتلقي، تلك العلاقة التي تجعل المتلقي يعتذر عن الوقوع في أسر النص بقول البارودي:

وما الحب إلا حاكم غير عادل                     إذا رام أمرا لم يجد من يصده

ولا يخرج الكاتب من أسر ذلك الحب إلا بالكتابة عن النص، وهذا يعني أن «الكاتب لا يكتب عن نص إلا إذا وقع في فتنته، والنص الجيد ينصب شراكا لقرائه ويدعوهم إلى الافتتان به».
لقد فتن الدكتور حماسة بالنص في مؤلفاته التي ذكرنا بعضا منها، وكان الشعر العربي بصفة عامة محور اهتمامه، فهو يعتقد أنه المدخل لفهم العربية ودراسة النص القرآني باعتباره أرقى نصوصها، ولا سبيل لفهمه دون الإلمام بالكثير من الشعر، فهو ديوان العرب، ويصرح بهذا في هذا الكتاب الجديد فيقول: «الذي يفهم الشعر ويتذوقه هو الذي يفهم العربية ويدرك شيئا من أسرارها» ثم يقول: «هناك علاقة حميمة بين القرآن الكريم واللغة والشعر. اللغة سدى الشعر ولحمته والشعر تتعلم منه اللغة، وبه يعرف القرآن الكريم».

في هذا الكتاب الذي ضم قراءات لنصوص شعرية وقرآنية ودراسات حول النص وطريقة التعامل معه ومناهج بعض كبار الدارسين الذين ولوا وجهم شطر النص فكان محور دراساتهم في حياتهم العلمية يضع الدكتور حماسة أمام شباب الأمة دستورا يسيرون عليه في تذوق النصوص، ومعرفة الغث من السمين، في زمن تأشب فيه الحق بالباطل، واختلطت فيه المصطلحات، وأصبح الكل يدعي وصلا بربة الشعر ويطلق على كلام ساقط مرذول بأنه شعر معسول مقبول.

لكن المؤلف يزيل الغشاوات عن أبصار هؤلاء، فينبههم إلى أن الشعر له قالبه الفني وغايته الأخلاقية التي تشكل العقل وتسمو بالمشاعر والأحاسيس، وتهذب السلوك، فإذا فقد الشعر شيئا من خصائصه الفنية وغايته الأخلاقية فإنه ليس بشعر، ويعرض لنموذج من ذلك فيقول في هذا الكتاب مهاجما النقاد الذين يسبحون بحمد «قصيدة النثر»: «أعبر هنا عن مقتي للكتابة عنها على أنها شعر، بل شعر جيد، وأتساءل: لمصلحة من يتم هذا التزوير الثقافي؟ ولمصلحة من يقوم هذا التضليل للشباب الذين يقرؤون هذا الكلام؟ وأية غاية يتغياها هؤلاء الذين يكتبون عن هذا الإفك؟ وأتحدى هؤلاء جميعا أن يبينوا الحدود التي تفصل بين الشعر وغير الشعر».

إن غاية المؤلف من جعل الشباب يتذوقون الشعر ويفهمونه ربما جعلته يبدأ كتابه بالحديث عن اللغة وشعر الأطفال، فيبين كيفية اكتساب الطفل للغة، وكيف تتشكل في بيئته المحيطة به، حتى يجلي الخصائص التي قد تكون مدخلا لجعل هذا الطفل راضعا التذوق والإحساس بالجمال، كما يرضع اللبن ليقوى جسده، ويشتد عوده فيبين أن الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة يستجيبون للإيقاع المنظم، «ومن هنا تلجأ الأمهات بالفطرة إلى الهدهدة والأصوات المنغمة التي يستجيب لها الأطفال فيهدؤون، وتسكن نفوسهم، وقد يخلدون للنوم بعد بكاء أو يناغون بعد اضطراب وصراخ وكثيرا ما تلجأ الأمهات إلى الغناء الذي يردد كلمات وأغنيات محفوظة متوارثة تخاطب الطفل وتعده بأشياء جميلة هو لا يعنيه منها إلا النغم الجميل الذي يأنس به ويسكن إليه».
ويدلل الدكتور حماسة على أن فتنة القارئ بالنص تبدأ منذ الطفولة بسوق بعض الأشعار التي كان الأطفال يرقصون بها منذ القدم ليبين أن النفس البشرية بفطرتها تميل إلى الإيقاع والنغم وأن ذلك ينبغي أن يستغل في تربية الأبناء على تذوق النصوص فيذكر مثلا أن السيدة حليمة السعدية كانت تقول في ترقيص النبي -صلى الله عليه وسلم-

يا رب إذ أعطيته فأبقه
وأعله إلى العلا ورقِّه
وادحض أباطيل العدا بحقه

ويذكر أيضا أن السيدة فاطمة كانت ترقِّص سيدنا عليا فتقول له
إن بني شبه النبي
ليس شبيها بعلي
ثم يفرق بين الشعر الذي يكتب عن الأطفال والشعر الذي يكتب للأطفال فالأول لا يخاطب به الأطفال بل يكون نجوى خاصة بالنفس وقد يكون للشكوى أو الحنين أو الخوف.. إلخ، أما الشعر الذي يكتب للأطفال فله موصفاته الخاصة تتعلق بشكله اللغوي وفكرته التي تكون لها غاية، والمستوى العمري الذي يخاطب به هؤلاء الأطفال.
ويبين أن الشاعر يصوغ في ضوء هذه الموصفات شعره إما على لسان الشاعر مخاطبا الطفل أو تأتي الأبيات على لسان الطفل أو على لسان الشيء الذي يحبه الطفل كحيوان أليف أو لعبة محببة مثلا، أو على لسان الشيء الذي نود أن يحبه الطفل كالمدرسة مثلا أو الوطن أو يصاغ الشعر بضمير الجمع، ويكون الجمع المقصود الأطفال.
ثم يتتبع المؤلف محاولات الكتابة الشعرية للأطفال فيبين بأن التجارب الشعرية التي قدمها الشعراء حتى الآن تخضع للاجتهاد، ولا تعتمد على أسس علمية مدروسة، ثم يبين أن القدامى لما أيقنوا أثر الإيقاع في النفوس صاغوا العلم في منظومات ليسهل حفظها، ليقرر أن البداية الحقيقية في الكتابة الشعرية للأطفال كانت على يد أحمد شوقي الذي أفرد جزءا كاملا من الشوقيات سماه «ديوان الأطفال»، قال شوقي عنها: «مجموعة من الشعر السهل لتكون للأطفال أدباً وثقافة».
وبعد أن يذكر صاحب «فتنة النص» قدرة شوقي وبرعته، وتفوقه وريادته يأخذ في النقد الموضوعي لنتاجه في أدب الأطفال، فيحمد له استخدامه الموسيقى الشعرية السهلة الإيقاع، ويأخذ عليه عدم مراعاته للتفاوت في عمر الأطفال وبيئتهم الاجتماعية، مما جعل بعض قصائد شوقي غير واضحة للأطفال، إلا أنه بعد هذا النقد الموضوعي يحمد لشوقي فتح هذا الباب، (فالفضل للمتقدم)، ليخلف من بعده خلف ورثوا هذا التوجه المحمود إلا أنهم عاشوا في جلباب شوقي، ولم يخرجوا من إيهابه باستثناء الشاعر فاروق شوشة الذي قدم أربعة أعمال مستقلة خرج فيها عن صياغة شوقي وإن تأثر به في بعض الموضوعات.
وإثر افتتاح المؤلف كتابه بالحديث عن المدخل إلى فتنة الإنسان بالنص في مرحلة طفولته يشرع في شرح نصوص فتن بها وأعجبته لشعراء معاصرين كفاروق شوشة ومحمود غنيم وغيرهم، لينتقل بعد ذلك إلى ذكر النقاد الذين افتتنوا بالنص فأبدعوا معه نقدا مثّل منهجا واضح المعالم بين القسمات، كالدكتور محمود الربيعي والدكتور إبراهيم أنيس والدكتور أحمد مختار عمر والدكتور محمود الطناحي.
وهو في ثنايا حديثه يؤصل ويفصل في معايير النص الجيد الذي يفتن صاحبه، بل يفرد له حديثا خاصا في أحد فصول الكتاب بعنوان: كيف نقرأ النص القديم؟
ويعطي القارئ معايير واضحة للإجابة على هذا السؤال، فيوضح له بأن القارئ ينبغي أن يوثق النص ويضعه في سياقه العام والخاص، ثم ينظر في بنيته الداخلية ومدى موافقتها للسياق العام والخاص مع الأخذ في الاعتبار موقف المعاصرين من هذا النص.
ولم ينس الدكتور حماسة ما نبه عليه في بداية كتابه من أن فهم الشعر سبيل لفهم اللغة وفهم معاني القرآن، فيأتي بدراسة نصية لبعض آيات القرآن الكريم مبينا كيف فتن المفسرون والنحويون بها؛ فكانت لهم أفهامهم في تعدد الأوجه الإعرابية في الجملة الواحدة ليقدم في هذا المبحث تفسيرات جديدة لهذه الآيات القرآنية، فيقول: «والذي أود أن أعرض له هنا مسألة لم يعرض لها أحد من قبل -في مبلغ علمي- على أنها وجه من وجوه إعجاز القرآن، وهي تعدد أوجه الإعراب في الجملة الواحدة، ويكون لكل وجه منها -من غير شك- معنى يراد وغاية تقصد»، فمثلا في قوله تعالى (
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فجملة (تبتغي مرضاة أزواجك) من الممكن أن تكون حالا ليكون المعنى «يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك مبتغيا مرضاة أزواجك»، ومن الممكن أن تكون جملة مستأنفة في صيغة الاستفهام ليكون المعنى «يا محمد لِمَ تحرم ما أحلَّ الله لك؟ هل تبغي مرضاة أزواجك؟».
وهكذا فإنك -عزيزي القارئ- عندما تقرأ في فتنة النص ستسأل الله أن يرزقك فهم ما ظهر وما بطن من هذه الفتن التي تجعلك في جنة تتفيأ ظلال أشجارها المثمرة من شعر ونثر، مستلذا تلك الفتنة قائلا: (الله).
وهذا الكتاب يضع فيه صاحبه خبرة طويلة لمعاناته مع النص، فلا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها، وقد قال فاروق شوشة عن مؤلف هذا الكتاب عندما استقبله عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة في كلمة نشرت بمجلة المجمع: «إن صاحبنا من القلة القليلة التي لم تجفف الأكاديمية والعمل الدراسي والبحثي ماء شاعريتها، ولم تطفئ كيمياء توهجها. البحث الأكاديمي وعي وانكشاف ووضوح، والإبداع غيبوبة ولغة ما بين الظلال وبحث دائب لا واع في محاولة للفهم والتفسير، لكن محمد حماسة عبد اللطيف استطاع أن يقبض على هذه الجمرة المقدسة جمرة الشعر، وأن يحتفظ بها حرارة متوهجة حتى اليوم».
وقد أكد الأستاذ فاروق شوشة هذا القول في جريدة الأهرام في عدد الأحد 30 مارس 2008 فور صدور هذا الكتاب من دار غريب بالقاهرة في طبعته الأولى بقوله: «يواصل الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف ـ الأستاذ بكلية دار العلوم وعضو مجمع اللغة العربية ـ تأصيل منهجه النقدي اللغوي في التعامل مع النصوص الإبداعية الجميلة‏، كاشفا عن أسرارها الفنية‏، ومكوناتها اللغوية‏، مستفيدا من تخصصه الدقيق في علوم النحو‏، عالما وأستاذا‏، ومن خبرته الإبداعية الطويلة في مجال الشعر‏، في توظيف المعطيات النحوية في النص‏، توظيفا يخدم تفسير النص وإضاءاته‏، بوصفها من تراكيب النص نفسه‏، وليست خارجة عنه‏.‏ وهو في كتابه الجديد فتنة النص يأخذ بيد قارئه إلى فضاءات أرحب من هذه التطبيقات التي يمتزج فيها العلم بالفن‏، والدراسة بالإبداع‏».