الحج بين شوقي أمير الشعراء وإقبال شاعر الإسلام
د. نعيم محمد عبد الغني
رحلة الحج استثارت مشاعر المسلمين على مختلف ألوانهم وأعمارهم وأنواعهم، وقد عبر كل عن هذه الشعيرة بطريقته، ونختار أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر الإسلام محمد إقبال في هذه المناسبة العطرة؛ حيث إنهما لم يذهبا إلى البيت الحرام ورغم ذلك فقد قالا فيه صورا ومعاني أصبحت خالدة الذكر إلى الآن.
أما أحمد شوقي فقد قال قصيدة إلى "عرفات الله يا خير زائر" تهنئة للخديوي عباس حلمي الثاني بعد عودته من أداء فريضة الحج، وهي قصيدة تأتي اعتذاراً من شوقي للخديوي الذي دعاه لأداء فريضة الحج معه ولكنه لم يذهب، وقد قبل الخديوي اعتذاره لمكانة شوقي عنده.
يبدأ شوقي مخاطبا الخديوي خاصة ومخاطبا زائر البيت الحرام محييا إياهما وذاكرا سحائب الرحمة على هذه البقعة المطهرة فيقول:
إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ"
"عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ
وَيَومَ تُوَلّى وُجهَةَ البَيتِ ناضِرًا"
"وَسيمَ مَجالي البِشرِ وَالقَسَماتِ
عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ"
"تَزُفُّ تَحايا اللهِ وَالبَرَكاتِ
ثم يصف ما في المناسك وصفا مجملا؛ مستشفا منها معاني وأخيلة تجمع بين المادة والروح، فعين زمزم لا تفيض ماء بل تفيض رحمات وأجرا فيقول:
وَفي الكَعبَةِ الغَرّاءِ رُكنٌ مُرَحِّبٌ"
"بِكَعبَةِ قُصّادٍ وَرُكنِ عُفاةِ
وَما سَكَبَ الميزابُ ماءً وَإِنَّما"
"أَفاضَ عَلَيكَ الأَجرَ وَالرَحَماتِ
وَزَمزَمُ تَجري بَينَ عَينَيكَ أَعيُنًا"
"مِنَ الكَوثَرِ المَعسولِ مُنفَجِراتِ
وَيَرمونَ إِبليسَ الرَجيمَ فَيَصطَلي"
"وَشانيكَ نيرانًا مِنَ الجَمَراتِ
ويلفت نظر شوقي ما يرى من مظاهر المساواة بين الناس فقيرهم وغنيهم، فالكل يقف في صعيد واحد وبلباس واحد لا فرق لعربي على عجمي إلا بالتقوى فيقول:
لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُمْ"
"لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ
أَرى الناسَ أَصنافًا وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ"
"إِلَيكَ انتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ
تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ"
"لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ
ويتحدث عن زيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الأطهار الذين دفنوا معه أبو بكر وعمر فيقول:
يُحَيّيكَ طَهَ في مَضاجِعِ طُهرِهِ"
"وَيَعلَمُ ما عالَجتَ مِن عَقَباتِ
وَيُثني عَلَيكَ الراشِدونَ بِصالِحٍ"
"وَرُبَّ ثَناءٍ مِن لِسانِ رُفاتِ
ثم يقول للخديوي ولكل من يحج ويقصد قبر المصطفى بأن يبتهلوا إلى الله بالدعاء كي يقيل الأمة من عثراتها وترجع إلى ماضيها المجيد الذي كانت فيه عزيزة كريمة، وينطلق منها لكي يعقد مقارنة بين هذا الماضي المنير وهذا الحاضر المرير متعجبا من ذلة أمة بينهم كتاب الله وسنته وهما النوران اللذان ينوران الطريق فيقول:
إِذا زُرتَ يا مَولايَ قَبرَ مُحَمَّدٍ"
"وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِراتِ
وَفاضَت مَعَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَةً"
"لِأَحمَدَ بَينَ السِترِ وَالحُجُراتِ
وَأَشرَقَ نورٌ تَحتَ كُلِّ ثَنِيَّةٍ"
"وَضاعَ أَريجٌ تَحتَ كُلِّ حَصاةِ
فَقُل لِرَسولِ اللَهِ يا خَيرَ مُرسَلٍ"
"أَبُثُّكَ ما تَدري مِنَ الحَسَراتِ
شُعوبُكَ في شَرقِ البِلادِ وَغَربِها"
"كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ
بِأَيمانِهِمْ نورانِ ذِكرٌ وَسُنَّةٌ"
"فَما بالُهُمْ في حالِكِ الظُلُماتِ
وَذَلِكَ ماضي مَجدِهِمْ وَفَخارِهِمْ"
"فَما ضَرَّهُمْ لَو يَعمَلونَ لِآتي
وَهَذا زَمانٌ أَرضُهُ وَسَماؤُهُ"
"مَجالٌ لِمِقدامٍ كَبيرِ حَياةِ
مَشى فيهِ قَومٌ في السَماءِ وَأَنشَؤوا"
"بَوارِجَ في الأَبراجِ مُمتَنِعاتِ
فَقُل رَبِّ وَفِّق لِلعَظائِمِ أُمَّتي"
"وَزَيِّن لَها الأَفعالَ وَالعَزَماتِ
وبعد هذا العرض من شوقي يتضرع إلى الله معترفا بذنبه متذكرا حديث (من حج ولم يرفث رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) فيتساءل قائلا:
وَيا رَبِّ هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ"
"وَفي العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ
لكنه بلسان المؤمن لا ييأس من رحمة الله ويطلب منه العفو والصفح فيقول:
وَأَنتَ وَلِيُّ العَفوِ فَامحُ بِناصِعٍ"
"مِنَ الصَفحِ ما سَوَّدتُ مِن صَفَحاتي"
وشوقي أراه في كثير من الأحيان كالمتنبي يسوق الحكمة في شعره جامعا بين أشتات متباعدات فيجعلها مؤتلفات في نسيج عجيب فيقول:
وَمَن تَضحَكِ الدُنيا إِلَيهِ فَيَغتَرِر"
"يَمُت كَقَتيلِ الغيدِ بِالبَسَماتِ
فهذا البيت الذي فيه موعظة وتذكرة، وهو أمر يعد عيبا من عيوب الشعر إلا أن شوقي جعله في صورة جميلة فشبه الدنيا بالحسناء التي تقتل بطرف عينها العاشق حبا، وترهقه من أمر وصالها عسرا
أما شاعر الإسلام محمد إقبال فلم يعرض عليه أن يذهب إلى مناسك الحج كما عرض على شوقي بل إنه لم يتمكن من زيارة البيت الحرام، ولكن هذه الشعيرة عاشت في فكره ووجدانه، ليعرف نفسه بقوله: "إن جسدي زهرة في حبة كشمير وقلبي من حرم الحجاز وأنشودتي من شيراز".
ولينطلق بعد إلى الحديث عن مقاصد الحج الكبرى التي منها وحدة المسلمين، فأراد أن تكون فريضة الحج نقطة تحول في حياة المسلم بصفة خاصة وحياة المسلمين بصفة عامة، وله قصيدتان شعريتان من روائع شعره، وقد تركتا أثراً بالغاً للغاية، ليس في الآداب الأردية فحسب بل في الآداب العالمية على أوسع نطاق، وقد شغلت الناس في الهند وغيرها من بلاد العالم الإسلامي، وقد سمى الشاعر إحداهما «الشكوى» والثانية «جواب الشكوى» وقد ترجمهما إلى العربية شعراً الشيخ الصاوي شعلان المصري ـ رحمه الله ـ وسمى ترجمته "حديث الروح" وهي ترجمة رائعة تعبر عن الأصل الأردي تعبيراً صادقاً وجميلاً، ومطلعها:
حديث الروح للأرواح يسري
فتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح
وشق أنينه صدر الفضاء
ثم يقول إقبال عاقدا مقارنة بين ماضي المسلمين المشرق، وبين واقعهم الأليم، كما فعل شوقي فيقول مثلا بعد تصويره ساعة الصفاء التي يدعو فيها الله سبحانه:
شكواي أم نجواي في هذا الدجى
ونجوم ليلى حسدي أم عودي
قد صرت في الماضي أعيش كأنما
قطع الزمان طريق أمسى عن غدي
ويختمها بالتمسك بالإيمان بالله فهو سر النجاة فيقول في أبيات شهيرة:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين
فقد جعل الفناء لها قرينا
وفي قصيدة أخرى يؤكد على وحدة المسلمين من خلال وحدة المسلمين في البيت الحرام فيقول في قصيدة الشكوى:
الصــين لنا
والعُــرب لنا
والهند لنا، والكل لنا
أضحى الإسلام لنا دينا
وجميع الكون لنا وطنا
توحيد اللـه لنا نورٌ ..
أعددنا الروح له سكنا
الكون يزول ولا تُمحى ....
في الكون صحائف سؤددنا
بُنيت في الأرض معابدنا ....
والبيت الأول كعبتنا
هو أول بيتٍ نحفظهُ ....
بحياة الروح ويحفظنا
وبعد فهذا غيض من فيض الشاعرين الكبيرين إقبال وشوقي يجعلنا في عجب من أمر هذه الشعيرة العجيبة التي يبذل الناس فيها النفس والنفيس وهم في فرحة غامرة.