ملاحظات على ترجمة محمد أسد للقرآن الكريم

 د.إبراهيم عوض

[email protected]

صدرت ترجمة محمد أسد للقرآن الكريم كاملة إلى اللغة الإنجليزية عام 1980م (عن دار الأندلس بجبل طارق)، وكانت قد ظهرت طبعةٌ محدودةٌ لجزءٍ منها يضم السُّوَر التسع الأولى فقط قبل ذلك بستة عشر عاما. وهذه الترجمة الكاملة تقع فى ألف صفحة من الصفحات الكبار، ويشغل الجزءَ العلوىَّ من كل صفحةٍ فيها النصُّ القرآنىُّ العربىُّ فى الناحية اليمنى، وترجمتُه الإنجليزية على اليسار، أما الجزء السفلى فيضم الهوامش التفسيرية والتعليقات الفنية الخاصة بعملية الترجمة...إلخ. وفى بداية كل سورة يطالع القارئ تمهيدا يتحدث عن تاريخ نزولها والموضوعات التى تتعرض لها وما إلى ذلك.

ولاشك أن ترجمةً مثل هذه تحتاج إلى دراسة علمية مفصَّلة تليق بها وبصاحبها، ولست أعلم أحدا نهض بهذا العبء قبلا. وكنت قد رأيت نسخة من هذا الكتاب لأول مرة فى لندن عام 1982م فى إحدى المكتبات التى تبيع الكتب العربية والإسلامية، ثم وجدت نسخة أخرى فى مكتبة كلية التربية بالطائف عام 1991م واستعنت بها فى كتابى عن سورة "الرعد". ثم لما عدت إلى مصر شرعت أبحث عنها فعثرت على نسخة فى مكتبة جامعة القاهرة صوَّرْتُها وأنا فى ذروة الانشراح، وهذه الصورة كانت أحد مراجعى فى دراستى لسورة "المائدة" التى خالفتُ فيها أسد فى بعض ما قاله عن عقوبة الحرابة. وهأنذا أجد فى الدوحة نسخة رابعة سهل لى استعارتها الأستاذ أحمد الصِّدّيق الشاعر الإسلامى المعروف وخطيب المسجد المجاور  للدارة التى أسكنها فى منطقة الدحيل الجديد. وكان للدكتور حسن على دَبَا، وهو صديق مصرى يعمل فى الصحافة القطرية، دور كبير فى تسريع وصولها إلىَّ، فلكليهما أجزل الشكر على هذه اليد الكريمة.

وقد لاحظتُ أن أسد، على طول ترجمته كلها، لم يُسَمِّ قطّ ربَّ العزة باسم "الله" مُؤْثِرًا استعمال كلمة "God"، ولا أدرى السر فى ذلك[1]. إن كلمة "الله" اسمُ عَلَم، وأسماء الأعلام لا تتغير فى الترجمة، بل تبقى على حالها كما هو معروف. وإذا كان سافارى وجاك بيرك مثلا فى ترجمتيهما للقرآن إلى اللغة الفرنسية قد صنعا مثل هذا فمن السهل أن يفسَّر ذلك بأنه كراهية منهما لهذا الاسم الكريم الذى يُعْرَف به المولى فى دين محمد، لكن ماذا عن أسد، الذى ترك دينه وأسماء الإله فيه إلى الإسلام وإلهه؟ ترى لماذا تخلى بتلك البساطة عن هذه الخصوصية الإسلامية الجميلة؟

كذلك كنت أوثر لو استعمل أسد النطق العربى لأسماء الأنبياء اتباعا لطريقة القرآن، ولا يكتبها كما يكتبها الإنجليز (هكذا: Noah, David, Aaron, Moses, Ishmael, Abraham, Zachariah, Jonas, Elijah, Solomon, John, Jesus)، إذ المقصود بترجمة القرآن، فيما أفهم، هو نقل القارئ الأجنبى إلى جو القرآن بقدر الإمكان لا لَىّ القرآن ليتماشى مع الجو الثقافى، والدينى منه بالذات، لذلك القارئ. وفى الهامش أو بين قوسين، إن كان لابد من ذلك، مندوحة للمترجم بذكر الاسم الذى يألفه من تَرْجَم لهم، فنجمع بذلك بين الحسنيين. ولابد من القول مع ذلك إن ترجمة الأستاذ أسد لا تنفرد بهذا الذى أخذتُه عليها من بين الترجمات التى قام بها مسلمون، لكن أملى الكبير فيه هو الذى بعثنى على قول ما قلت[2].

وبالمثل نراه يترجم "الهجرة" فى الأغلبية الساحقة من المرات بـ "Exodus"، وهى الكلمة التى ارتبطت بتاريخ اليهود وخروجهم جميعا دفعة واحدة من مصر[3]. لقد تحولت اللفظة العربية إلى اسم علم تقريبا، بل لقد دخلت اللغات الأوربية كما هى دون تغيير مع كتابة حرفها الأول "H" بالحجم الكبير دلالة على أنها تعامَل فى تلك اللغات أيضًا معاملة الأعلام. وقد انسلخ كاتبنا، كما قلت، عن يهوديته، فلماذا يهجر الكلمة العربية المسلمة إلى تلك اللفظة الأجنبية ذات الإيحاءات اليهودية؟ وقد سبق أن انتقدتُ بيرك لنفس السبب فى كتابى الذى وقفتُه على دراسة ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم، وأحسب أن الأستاذ محمد أسد أولى بالعتب من بيرك لأنه مسلم، أما بيرك فلا. ومما ترجم به كاتبنا مصطلح "الهجرة" أيضا كلمة "Flight: الفرار"، وهى ترجمة خاطئة، بل لا أتجنى عليه إذا قلت إنها مسيئة فى حق الرسول عليه السلام. إن من المقبول أن يقول مترجمنا مثلا فى خروج موسى عليه السلام من مصر، بعد وَكْزه المصرىَّ وقضائه عليه، إنه "فرار"[4] لأن القرآن نفسه يقول على لسان ذلك الرسول فى حديثه إلى فرعون بعد أن عاد إلى أرض الكنانة محملا برسالة السماء: "ففَرَرْتُ منكم لمّا خِفْتُكم"[5]. وفوق ذلك فإن هذا الفرار إنما كان قبل بعثته، ولذلك لم يعقّب الله سبحانه على تصرفه هذا بشىء، على عكس الحال فى قصة يونس عليه السلام حين "أَبَقَ" من قومه ضِيقًا بعنادهم وتصلبهم فى الكفر، فركب سفينة ورست عليه القرعة فألقى بنفسه فى البحر ليبتلعه الحوت ويقاسى فى بطنه الأهوال إلى أن كتب الله له الفرج، أما تسمية الهجرة المحمدية "فرارا" فلا معنى لها، بل هى خطأٌ صراحٌ وإساءةٌ لا تصح. وإذا كان بعض المستشرقين غير المسلمين يستعملون هذه اللفظة لقد كان أقمن بأسد اختطاط سبيل أخرى. وعنده متسع عريض فى كلمة "Hegira"، التى دخلت قاموس اللغة الإنجليزية وأصبحت جزءا لا يتجزأ من تلك اللغة كما أوضحت. إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يهاجر من مكة إلا بإذن الله، فكيف تسمَّى هجرته "فرارا"؟ ثم إن أسد نفسه يقول إن لفظة "الهجرة" هى من الألفاظ ذات الإيحاءات الروحية، فكيف طاوعته نفسه إذن لترجمتها بـ"الفرار" منزلا إياها من السماء السابعة إلى الأرض؟

وقد ترجم كاتبنا أيضا عبارة "من خِلاف" فى قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن فى الأرض فسادا أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ أو يُنْفَوْا من الأرض"[6]،وكذلك فى قوله على لسان فرعون يهدد سَحَرته بعد أن انقلبوا عليه وآمنوا بموسى: "فلأُقَطِّعَنَّ أيديَكم وأرجلَكم من خِلاف"[7] بـ"(because of your perversness) of perversness in result"، أى بسبب الخلاف والإفساد، مخالفا بذلك ما قاله علماء المسلمين من أن المقصود هو قطع اليد اليمنى والقدم اليسرى، أى من جهتين مختلفتين.

والحق أن من الصعب جدا موافقة الأستاذ أسد على هذه الترجمة، إذ من غير المعقول أن يفهم، وهو الأجنبى وبعد كل هاتيك القرون، تعبيرا عربيا قديما أفضل مما فهمه كل المفسرين والفقهاء المسلمين تقريبا. وأيضا من الصعب جدا أن تكون عبارة "من خِلاف" إشارة إلى علة تقطيع أيدى هؤلاء وأولئك وأرجلهم، لأن تلك العلة قد نُصَّ عليها قبل ذلك فى كل الآيات المذكورة: ففى آيات "المائدة" نقرأ فى أولها: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن فى الأرض فسادا..."، فالعلة إذن هى محاربة الله ورسوله والسعى فى الأرض فسادا، فلماذا يعاد النص على تلك العلة بعد ذلك، وعلى هذا النحو الغامض، بعبارة "من خلاف"؟ أما فى الآية الخاصة بفرعون فإننا نسمعه يقول للسحرة: "آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم؟ إن هذا لَمَكْرٌ مكرتموه فى المدينة لتُخْرِجوا منها أهلها". وواضح أنه يشير إلى العلة التى أوجبت فى نظره تقطيع أيديهم وأرجلهم وتصليبهم فى جذوع النخل. كذلك فلو كانت عبارة "من خلاف" تشير إلى سبب التعذيب فلماذا لم تُذْكَر إلا عقب الصنف الأول منه فقط ولم تؤخَّر إلى ما بعد الفراغ من ذكر كل ألوانه ما دامت هى علة هذه الضروب العقابية جميعا؟ ثم إننا لم نسمع باستخدام هذا التعبير فى المعنى المذكور، ولو كان هناك شاهد من النصوص القديمة عليه فلماذا لم يسقه الأستاذ أسد؟ الواقع أن الذوق العربى لا يرتاح إلى هذا الاستعمال، وأغلب الظن أن الأستاذ أسد قد اعتسف هذا التفسير أوّلاً فى سورة "المائدة" ليَخْلُص منه إلى إلغاء عقوبة الحرابة على ما سوف يأتى بيانه فى فصل لاحق، ثم اضْطُرّ أن يقول به فى آية فرعون والسَّحَرة حتى لا يناقض نفسه. هذا هو تفسيرى للمسألة، والله أعلم.

ومن الألفاظ القرآنية التى يتصرف أسد فى ترجمتها تصرفا واسعا يطمس مفهومها طمسا لفظ "الأعراف". وهذا اللفظ يشير إلى مفهوم قرآنى خاص، فكان ينبغى من ثَمَّ أن يبقى كما هو، ويشرحه أسد فى الهامش على النحو الذى يفهمه، فيجمع بذلك بين وفاء الترجمة للأصل وشرح هذا الأصل بما يعتقد أنه هو المعنى الصحيح. لقد ترجم كاتبنا لفظ "الأعراف" بما يعنى أنه "القدرة على معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما"، ومن ثم فقوله تعالى: "وعلى الأعراف رجال يعرفون كُلاًّ (أى كُلاًّ من أهل الجنة وأهل النار) بسيماهم" قد صار فى الترجمة الإنجليزية هكذا:  "… they who [in life] were endowed with the faculty of discernment [between right and wrong]: أولئك الذين كانوا فى الدنيا يتمتعون بالقدرة على التمييز بين الصواب والخطإ"، وهو ما يعنى أنه لا "أعراف" فى الآخرة كما يُفْهَم من النص القرآنى. فكيف كان ذلك؟

يوضح أسد الأمر فى الهامش بقوله إن "كلمة "الأعراف" (التى أعطت السورةَ اسمها) قد تكررت فى القرآن مرتين ليس إلا، وذلك فى الآيتين 46 و 48 من هذه السورة. وهى جمع "عُرْف"، التى تعنى فى الأصل "المعرفة" أو "الاستبصار"، كما تستعمل للدلالة على أعلى أو أسمى جزء فى الشىء (لأنه أسهل جزء يمكن رؤيته) مثل "عُرْف الديك" و"عُرْف الحصان"...إلخ. وعلى أساس من هذا الاستعمال الشائع فإن كثيرا من المفسرين قد حسبوا أن "الأعراف" هنا تشير إلى "الأماكن المرتفعة" مثل أعالى جدار أو سور، ومن ثم ربطوا بينه وبين "الحجاب" المذكور فى الجملة السابقة (جملة "وبينهما (أى بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب"). لكن هناك تفسيرا أصوب من ذلك يعتمد على المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" وجمعها، ألا وهو الاستبصار والتمييز أو القدرة عليهما. وقد أخذ بهذا التفسير بعض كبار المفسرين القدماء كالحسن البصرى والزَّجّاج، اللذين يوافقهما الرازى على ما قالاه موافقة صريحة، واللذين يؤكدان أن عبارة "على الأعراف" ترادف قولنا: "على معرفة"، أى أصحاب علم أو ذوو مقدرة على التمييز (بين الحق والباطل)، ومن ثم فالرجال الذين على الأعراف هم الذين كانوا فى دنياهم قادرين على إبصار الحق من الباطل (متعرفين على كل منهما بعلامته المميزة له)، لكنهم فى ذات الوقت لم يكونوا قادرين على اتخاذ موقف محدد منهما، أى كانوا باختصار أشخاصا غير مبالين. وهذا الموقف الفاتر قد حرمهم من عملِ الكثير من الخير أو الشر بحيث أدى ذلك فى النهاية إلى ما تقوله الآية التالية من أنهم لا يستحقون الجنة ولا النار (وهناك عدة أحاديث بهذا المعنى أوردها الطبرى وابن كثير فى تفسيرهما لهذه الآية). هذا، ويُقْصَد بكلمة "رجال" فى الآيتين المذكورتين "الأشخاص" من الجنسين: جنس الرجل وجنس المرأة على السواء"[8].

وواضح أن أسد ينطلق من أن المعنى الأصلى لكلمة "عُرْف" هو "المعرفة" وأن دلالتها على أعلى جزء فى الشىء هى دلالة فرعية، لكنه بهذه الطريقة يقلب رأسا على عقب ما نعرفه من أن المعنى المادى للكلمة هو الأساس الذى تتفرع منه المعانى المجردة. وإذن فهذا المعنى الأخير الذى ذكره أسد على أنه المعنى الفرعى هو فى الواقع المعنى الأصلى لا العكس. وثانيا هل يمكن فى العربية أن نقول إن فلانا "على الأعراف" ونحن نقصد أنه على معرفة واسعة وقدرة على التفرقة بين الصواب والخطإ؟ الذى أعرف أننا نقول مثلا: "فلان على معرفة بكذا"، لكن الذى لم أسمع به قط هو القول بأن فلانا "على عُرْف" (أى على معرفة)، بَلْهَ أن نقول" "فلان على أعراف"، فضلا عن "فلان على الأعراف" (بالألف واللام)! ترى هل يصح أن نقول "فلان على المعارف"؟ فما بالنا بـ"على الأعراف"؟ وثالثا فإن الزمن فى قوله تعالى: "وعلى الأعراف..." هو نفس الزمن الذى ينظر فيه هؤلاء الرجال إلى كل من أهل الجنة وأهل النار، أى فى الآخرة، أما الأستاذ أسد فيقول إنهم "كانوا" يتمتعون "فى الدنيا" بالمقدرة على التمييز بين الحق والباطل. وهذا غير ذلك كما هو واضح. ثم إن العرب إذا وصفوا شخصا بالتمييز بين الحق والباطل فإنهم يقصدون مدحه لا القول بأنه فاتر فى موقفه تجاههما مما يدخل فى باب الذم لا المدح. وهذه هى الملاحظة الرابعة، أما الخامسة فهى أن أصحاب الموقف الفاتر فى هذا الأمر هم عادةً الأشخاص الذين لا يتمتعون بمقدرة على المقاومة ولا يستطيعون، من ثَمَّ، الصمود أمام إغراءات الشهوات والأباطيل. أليس هذا هو ما نشاهده فى الحياة؟ وعلى ذلك كان ينبغى أن يكون مكان هؤلاء مع أهل النار. وسادسا لقد تحدث القرآن كثيرا عن الكافرين الذين يصرون على كفرهم رغم علمهم أنهم على الباطل، وأن النبى والقرآن على الحق، ومع ذلك لم يستعمل كلمة "الأعراف" فى أى موضع من هذه المواضع، بل يستعمل عادةً كلمة "يعرفون" أو "يعلمون". وعلى أية حال لقد كان ينبغى على محمد أسد أن يترجم هذه العبارة ترجمة مباشرة، ثم فليقل فى الهامش ما يشاء، وذلك احتراما للنص القرآنى وحفاظا عليه بدلا من تَحَيُّفه وطمسه قليلا قليلا، مع إسقاط تصوراتنا ومفاهيمنا عليه فى ذات الوقت. إن النص القرآنى شىء، وفهمه وتفسيره شىء آخر. وإن مكان التفسير فى مثل هذه القضية هو الهامش الذى سيُحْسَب حينئذ على المترجم لا على القرآن نفسه.

ومما ينبغى ذكره هنا فى سياق ترجمة الألفاظ والعبارات القرآنية ترجمة كاتبنا لـ"النَّسِىء" الوارد فى قوله تعالى: "إنما النسىء زيادة فى الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا. يُحِلّونه عامًا ويحرِّمونه عامًا ليواطئوا عِدَّة ما حرَّم الله فيُحِلّوا ما حرَّم الله" بـ"the intercalation of months"، بمعنى "إضافة بعض الشهور" ليظل عدد أيام السنة القمرية مساويا لعدد أيام نظيرتها الشمسية، إذ كانوا (كما يقول) يزيدون شهرا فى السنة الثالثة والسادسة والثامنة كل ثمانى سنوات. ويمضى أسد قائلا إن المسلمين لو كانوا جَرَوْا على هذه الطريقة الجاهلية لجاء الصوم والحج دائما فى نفس الموعد من السنة الشمسية كل عام، وفى هذه الحالة يكون أداؤهما إما بالغ السهولة أو شديد الصعوبة عليهم حسب الفصل الذى سيقعان فيه بهذه الطريقة.

والواقع أن هذا أحد معنيى "النَّسِىء" كما ورد فى المعاجم العربية مثل "لسان العرب" و "تاج العروس"، أما معناه الآخر فنَقْل حرمة أحد الشهور الحُرُم (وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم) إلى شهر آخر. ذلك أن العرب كانوا، إذا تقاتلوا وأتى عليهم شهرٌ من تلك الأشهر الحُرُم وأرادوا أن يستمروا فى القتال ولا يتوقفوا طبقا لما تقضى به حرمة تلك الأشهر، ينقلون تلك الحرمة إلى شهر آخر غير محرَّم بعد انتهاء الحرب. فالأستاذ أسد، كما نرى، قد ذكر أحد معنيى "النسىء" وترك المعنى الآخر، وهو المعنى الذى أرى أنه هو الأنسب للسياق. فالآية تتحدث عن "الأشهر الحُرُم" لا عن الحج ولا عن الصيام، وتذكر تحليل النسىء عاما وتحريمه عاما، ولا تشير إلى زيادة أيامٍ كل عام حتى تتوافق السنة القمرية والسنة الشمسية، وتقول إن غاية العرب من ذلك هو مواطأة عِدّة ما حرَّم الله، أى جَعْل الفترة التى يمتنعون فيها عن القتال أربعة أشهر دون أن تكون بالضرورة هى رجب وذا القعدة وذا الحجة والمحرم. وليكن المعنى الذى أدار محمد أسد ترجمته عليه بعد ذلك هو المعنى الصحيح، أفلم يكن ينبغى أن يتعرض للمعنى الآخر فى الهامش حتى يعطى القارئ فرصة للاختيار؟ ذلك أنه لا يفسر بل يترجم، وما دامت الآية تحتمل معنيين لقد كان عليه أن يذكر المعنى الثانى فى الهامش ويخرج بذلك من العهدة. أيًّا ما يكن الأمر فقد رأيتُ عددا من المترجمين يترجمون "النسىء" كما ترجمه أسد، ويبدو لى أنه قد تأثر بهم. وقد رددتُ على بعضهم فى كتابى "المستشرقون والقرآن".

ويُبْعِد الأستاذ محمد أسد النُّجْعة فى بَيْداء الظنون والتخمينات فى ترجمته لـ"كذلك" فى قوله سبحانه وتعالى عن رحلة ذى القرنين تجاه المشرق: "حتى إذا بلغ مَطْلِع الشمس وجدها تَطْلُع على قوم لم نجعل لهم من دونها سِتْرا* كذلك، وقد أحطنا بما لديه خُبْرا"[9] بـ"thus [we had made them and thus he left them]"، ومعناه بالعربية: "كذلك جعلناهم، وكذلك تركهم ذو القرنين"، ويقصد (كما قال فى الهامش) أن ذا القرنين لم يشأ أن يتدخل فى أسلوب حياتهم البدائية الطبيعية فى العيش عراةً حتى لا يسبب لهم الشقاء، إذ هم لا يحتاجون إلى أى نوع من الملابس.

إن ثمة عددا من الأسئلة لا بد من الجواب عليها قبل أن يُقْدِم أىٌّ منا على ترجمة الآية الكريمة: السؤال الأول: هل هناك دليل (أىّ دليل) على أن المقصود بعدم وجود ستر بين أولئك القوم  وبين الشمس أنهم كانوا عُرَاة؟ ألا يمكن أن يكون المقصود مثلا أن الجو عندهم ضاحٍ طَوال النهار؟ أو أنهم من أهل الصحراء المنبسطة حيث لا شجر ولا واقٍٍ طبيعى من حرارة الشمس؟ والسؤال الثانى هو: حتى لو كان الأمر فى "الستر" هو ما قاله أسد، فما الدليل على أن كلمة "كذلك" تعنى ما جاء فى ترجمته؟ وثالثا: كيف لا يهتم ذو القرنين، وهو (كما يلُوح بوضوح من الآيات المجيدة) من الحكام الصالحين المؤمنين بالله سبحانه، بأن يخرجهم من حالة العُرْى ويعلِّمهم كرامة الاستتار؟ إن الله سبحانه قد منَّ على عباده بأنه أنزل عليهم لباسا يوارى سوءاتهم وريشا، وهو ما يدل على أن ستر العورات وارتداء الملابس امتثالٌ لمشيئة الله وتقبّلٌ لنعمته الكريمة، فكيف يقول أسد إن ذا القرنين قد آثر تركهم على ما هم عليه من عُرْىٍ وبدائية؟ بل إن آدم وحواء ما إن أكلا من الشجرة المحرمة وبدت لهما سوءاتهما حتى طفِقا يَخْصِفان على عوراتهما من ورق الجنة رغم أنه لم يكن هناك أحد غيرهما، فما بالنا بعُرْى الدنيا الذى يكون عُرْضَة لأنظار الآخرين؟ وفوق ذلك فإنه سبحانه قد نسب نَزْع الملابس عن أبوينا الأولين إلى الشيطان نفسه بما يبرهن أقوى برهان على قبح ذلك وشنعه عند رب العالمين. إن هذا الموقف الذى ينسبه أسد إلى ذى القرنين لهو أشبه بما كان يفعله المستعمرون الأوربيون مع همج القارة الأفريقية، إذ كانوا يجهدون فى إبقائهم فيما هم فيه من جهل وبدائية وتخلف كى يستطيعوا نزح ثروات القارة السوداء دون حسيب أو رقيب.

وثمة أيضا لفظةٌ قد ترجمها الأستاذ أسد بطريقة لا يمكننى هضمها أو إقراره عليها، وهى تأديته الحرفين الأولين (ط. هـ) فى مفتتح سورة "طه" بـ "O man: يا رجل" رغم أنه أحد المعانى التى يذكرها مفسرو القرآن قائلين إن هذا هو معنى "طه" فى النبطية والسريانية وغيرهما. بل إنه قد ترجم اسم السورة بنفس الطريقة أيضا، فأصبحت تعرف عنده بـ "سورة يا رجل"[10].

ولقد سبق فى كتابى: "سورة طه- دراسة لغوية أسلوبية مقارنة"، فى فصل "ملاحظات فى تفسير السورة"، أن رفضتُ رفضا قاطعا أى تفسير لهذه الكلمة لا يقول إنها حرفان من الحروف المقطَّعة مثل "ألم" و"ألمص" و"طس" و"حم" و"ق". ويجد القارئ هناك بسطا لرأيى وللآراء التى رددتُ عليها. والذى يهمنا هنا هو القول بأن تفسيرها بـ "يا رجل" هو قول غريب عجيب فيه إساءة للنبى عليه السلام، إذ لم يحدث أن ناداه ربه سبحانه بغير النبوة والرسالة: "يا أيها النبى"، "يا أيها الرسول" أو بصفةٍ تدل على حالة خاصة به: "يا أيها المُزَّمِّل"، "يا أيها المُدَّثِّر". فالقول إذن إنه سبحانه قد ناداه هنا بكلمةٍ عامةٍ تصدق على كل البشر هو قول لا يتسق مع الطريقة التى ينادى بها المولى فى القرآن عبده محمدا. ولنلاحظ أيضا أن أسلوب النداء: "يا أيها الـ..." المستعمل فى جميع المرات التى نودى فيها الرسول عليه الصلاة والسلام لا وجود له فى "طه"، فلماذا يشذ القرآن الكريم هنا عن أسلوبه فى مناداة الرسول؟ بل لماذا يا ترى يلجأ إلى النبطية والسريانية فى نداء محمد العربى القرشى؟ أهو ضيق فى اللغة استلزم استعارة هذا اللفظ؟ أم هل هو نوع من استعراض المعرفة باللغات الأخرى؟ حاشا لله! أم ترى من المعقول أن ينادى رب العالمين رسوله الأثير بما يضيق صدر الواحد منا، نحن الذين لا نرتفع إلى عشر معشار مقامه عليه السلام، لو نُودِىَ به لما يراه فيه بحقٍّ من تجهيل واحتقار؟ إن بعضهم يظن أن ورود "كاف الخطاب" فى كلمة "عليك" فى الآية التالية: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" معناه أنه لابد أن تكون "طه" نداء للرسول. لكن ما وجه اللزوم فى ذلك؟ إن هذه الكاف موجودة أيضا فى قوله سبحانه: "ألمص* كتابٌ أُنْزِل إليك ..."، و "كهيعص* ذِكْرُ رحمة ربك عبدَه زكريا"، و "حم* عسق* كذلك يُوحِى إليك وإلى الذين من قبلك اللهُ العزيزُ الحكيم" وغيرها، فلماذا لم يقل هؤلاء إن الحروف فى هذه المواضع هى أيضا نداء للرسول؟ لكل هذا أرفض بكل قوة أن يكون معنى "طه" هو "يا رجل"!

ومن الألفاظ التى لا أوافق الآستاذ أسد أيضا على ترجمتها كلمة "زُرْقًا" فى قوله عَزَّ مِنْ قائل عن يوم القيامة: "ونَحْشُر المجرمين يؤمئذ زُرْقًا"، إذ يؤديها بالإنجليزية على النحو التالى: "their eyes dimmed [by terror]"، ثم يوضح فى الهامش قائلا إن المعنى الحرفى هو: "[of eye] bleu"، وإن المقصود هو أن أعينهم ستبدو كما لو كانت مغطاة بغشاوة معتمة زرقاء. وواضح أنه يصر على أن الزرقة هنا هى زرقة العيون، مع أنه ليس فى الآية ولا فى السياق ما يدل على هذا أو يُلْمِح إليه مجرد إلماح. وأَرْجَح الرأى أن تكون الزرقة هنا هى زرقة الاختناق والمعاناة الرهيبة التى سيقاسيها المجرمون يوم يُنْفَخ فى الصور. وقريب من ذلك ما جاء فى الآية 106 من "آل عمران": "يوم تبيضُّ وجوهٌ، وتسودُّ وجوه"، وكذلك الآيات 38-42من سورة "عبس": "وجوهٌ يومئذ مُسْفِرة * ضاحكة مستبشرة* ووجوهٌ يومئذ عليها غَبَرَة* ترهقها قَتَرَة* أولئك هم الكَفَرة الفَجَرة". ولقد شاهدتُ منذ أكثر من عشرين عاما فى أوكسفورد طفلا أصابته حالة اختناق وهو يبكى من الغضب فارتمى على الأرض يرفس الهواء من شدة بُرَحاء الألم وقد ارْبَدَّ وجهه وازْرَقّ، ووقفنا حياله عاجزين لا نستطيع شيئا، وتصورنا أنه سيموت، لكن سرعان ما انجابت الغاشية وعاد إلى حالته الطبيعية فتنفسنا الصُّعَداء ورُدَّتْ لنا أرواحنا. فهذا، فيما أفهم، هو الازرقاق المذكور فى الآية الكريمة، والله أعلم!

وبالمناسبة فقد جاء فى الترجمة الإنجليزية القاديانية التى حررها غلام ملك فريد أن زرقة العيـون هنا إنما تشـير إلى أن هـؤلاء المجرمين هم أمم الغرب النصرانية، وكأن المجرمين يوم القيامة سيكونون كلهم من الأوربيين والأستراليين والأمريكان فقط، فلا مجرمين أفارقة أو آسيويين أو من أمريكا الجنوبية، وكأن الغربيين كلهم أيضا سيدخلون النار، وكأن الغربيين كلهم كذلك أصحاب عيون زرقاء، فليس منهم من هو أخضر العينين أو أسودهما مثلا. أما لماذا انصرف ذهن هذين المترجمين إلى زرقة العيون فسببه أن ذلك هو المذكور فى كتب التفسير، التى تقول إن العرب تتشاءم بصاحب العيون الزرقاء. لكن ينبغى أن نعرف أن أذواق العرب وأوهامهم شىء، وحقائق الدار الآخرة شىء آخر.

أما ترجمة كلمة "أيام" فى "خَلَق السماوات والأرض فى ستة أيام" فتحتاج إلى وقفة خاصة. إن أسد يترجمها بـ "aeons"، أى حِقَب، وهى فى حدود علمى ترجمة جديدة. لكن الإنسان يتساءل: ما السبب يا ترى فى أنه لم يَجْرِ على هذه الخُطّة فى ترجمة كلمة "يوم" فى قوله تعالى: "فى يومٍ كان مقداره ألف سنة مما تَعُدّون" أو "فى يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة"[11]، التى يستخدم إزاءها كلمة "day" رغم أن اليوم هنا أيضا ليس هو اليوم العادى الذى نعرفه على سطح الكرة الأرضية، بل حقبة متطاولة كما هو واضح، وهى الحجة التى استند إليها فى ترجمة لفظة "يوم" فى عبارة "ستة أيام"؟ وبالمثل نراه يترجمها فى عبارة "يوم الحساب" و "يوم الدين"    بـ"day"، فلماذا هذه التفرقة غير المفهومة؟ إن هذه نقطة منهجية كان ينبغى أن تحظى من محمد أسد باهتمام أكبر.

كذلك لاحظت أنه أحيانا ما يضيف إلى الترجمة كلمة أو أكثر بين معقوفتين لتوضيح النص. وفى بعض المواضع قد تستدعى الحاجة فعلا هذه الإضافة، لكن فى بعض المواضع الأخرى لا يستطيع الإنسان أن يبصر مثل تلك الحاجة، بل قد تكون الإضافة ذات خطورة على النص كما فى ترجمته لقوله تعالى من سورة "الأحزاب": "النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم"، الذى أضاف إليه فى الترجمة عبارة "فهو أبوهم" قبل جملة "وأزواجه أمهاتهم". وهو يسوّغ هذا الصنيع العجيب فى الهامش قائلا إنه اعتمد فى ذلك على ما يُرْوَى من أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون هذا أثناء قراءتهم على سبيل شرح الآية. لكنى، رغم ذلك، أرى أن هذا خطأ صراح لا سبيل إلى التهوين منه، إذ إن علاقة زوجاته صلى الله عليه وسلم بأتباعه غير علاقته هو بهم، فقد حرم القرآن أن ينكحوا أزواجه من بعده، أما هو فكان يحل له أن يتزوج من نسائهم كما هو مبين فى نفس السورة. ثم إن الله سبحانه يقول فى السورة ذاتها: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم"، فكيف نأتى نحن ونقول إن محمدا لم يكن أبًا لواحد فقط من المسلمين بل أباهم كلهم أجمعين؟ أوَبَعْدَ قول الله قول؟

أما فى عبارة "رب المشارق" فى سورة "الصافات" فإنه يذهب خطوة أبعد، إذ لا يضع ما أضافه من كلمات بين معقوفتين، وهو ما يوهم القارئ الذى لا علم له بالنص القرآنى أن هذا هو ما يقوله القرآن فعلا وليس تفسيرا له من لدن المترجم. وهذا هو ما قاله مترجمنا:"The sustainer of all the points of sunrise"، أى رب مشارق الشمس كلها. لكن من ذا الذى يستطيع أن يقول إن "المشارق" هنا مقصورة على مشارق الشمس وحدها؟ إن نجوم السماء لا أول لها ولا آخر، حتى ليُضْرَب بها المثل فيما يستحيل عَدُّه، ولكل نجم مشرقه ومغربه، وهذا هو الأحجى أن يكون تفسير العبارة القرآنية بدلا من حصرها فى الشمس وحدها دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك. وبمثل هذا أرى أنه ينبغى تفسير عبارة "رب المشرقين ورب المغربين" أى رب مشرقى الشمس والقمر ومغربيهما، بدلا من "رب أبعد مشرقين ومغربين للشمس" حسبما جاء فى ترجمة أسد[12].

أما فى ترجمة جملة "وهو فى الخصام غير مبين" من قوله تعالى عن بعض الآباء فى الجاهلية ممن كانوا يئدون بناتهم الرضيعات: "وإذا بُشِّر أحدهم بما ضَرَب للرحمن مَثَلاً ظلَّ وجهه مسودًّا وهو كظيم* أَوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْيَة وهو فى الخصام غير مُبِين؟" يخطىء أسد خطأ من نوع آخر، إذ يظن أن الكلام فى جملة "وهو فى الخصام غير مبين" مقصود به الأب الذى بُشِّر بالبنت. وأغلب الظن أنه لما رأى أن الضمير المستعمل فى الآية هو ضمير المذكَّر انصرف ذهنه إلى الأب لا إلى البنت، التى وُصِفَتْ فى الجملة التى قبل ذلك بـ"من يُنَشَّأ فى الحلية". وإذا صح تفسيرى لقد كان ينبغى أن يتنبه الأستاذ أسد إلى أن الضمير هنا أيضا هو ضمير مذكر رغم استعماله للبنت. ووجه تذكيره أنه يعود على الاسم الموصول المبهم "مَنْ"، الذى أنت معه بالخيار: فإما أن تذكِّر الضميرَ العائد عليه دائما، وإما أن تطابق بينه وبين ما يدل عليه. فأنت تستطيع أن تقول: "رأيت، من النساء، من أُحِبّه" أو "رأيت،من النساء، من أُحِبّها". أما لو استخدمت كلمة "التى" فلابد من المطابقة فتقول: "رأيت، من النساء، التى أُحِبّها".

إذن فقوله تعالى: "أوَمَنْ يُنَشَّأ فى الحِلْية وهو فى الخصام غير مُبِين؟" هو كله جملة استفهامية واحدة لا جملتان: إحداهما استفهامية على لسان الأب الساخط، والثانية خبرية داخلة فى السَّرْد كما حسب الأستاذ أسد، الذى فهم هذه الجملة الأخيرة على أن المقصود بها الإشارة إلى الصراع المحتدم فى نفس الأب: أيُبْقِى على حياة ابنته أم يئدها؟ فهذا الصراع، فى ظن المترجم، هو الخصام المذكور فى الآية، أما "غير مبين" فمعناها أنه صراع داخلى لا ينطق به لسان، ومن ثَمَّ فقد ترجم هذه الجملة على النحو التالى: "ومن هنا يجد نفسه وقد مزقه صراع داخلى خفى". والواقع أنها ترجمةٌ جِدُّ غريبة لا يقبلها الذوق العربى ولا الأسلوب القرآنى، الذى استعمل مادة "خ ص م" سبع عشرة مرة لم تأت قط فى أى منها بالمعنى الذى فهمه الأستاذ أسد، بل كلها فى الخصام بين شخصين أو جماعتين لا فى الصراع الباطنى بين رغبات الشخص المتعارضة. وحتى لو أردنا، رغم ذلك كله، أن نستخدم كلمة "خصام" فى هذا المعنى لكان علينا أن نقول: "فلان فى خصام مع نفسه" مثلا بزيادة عبارة "مع نفسه".

وفى قوله جل شأنه عن قوم لوط: "لِنُرْسِلَ عليهم حجارةً من طين* مسوَّمةً عند ربك للمسرفين" يترجم كاتبنا عبارة "حجارة من طين" إلى ما معناه: "ضرباتُ عقابٍ شديدةٌ كالحجارة". ولست أستطيع أن أجد مسوغا لهذا الذى فعله الأستاذ أسد! لقد لاحظت، كما سأوضح فى فصل لاحق، أنه دائما ما يؤوّل عذاب الآخرة ونعيمها، وهذا أمر قد يحتمل الخلاف، أما تأويل مثل هذا العذاب الدنيوى فما وجهه؟ إن حجة القائلين بتأويل الأخرويات هى أنها، بنص القرآن والحديث، شىء مختلف عما نعرفه فى الدنيا، لكن ماذا عن الأحداث الدنيوية؟ إنها وقائع تاريخية لا تقبل التأويل. ومثل هذا التصرف من شأنه أن يزعزع النص القرآنى. فالمرجوّ أن نحترمه، وفى الهوامش متسع لما نريد أن نقول، وذلك بدلا من تثبيت النص المقدس إلى الأبد على فهمنا الذى من المحتمل جدا أن يكون خاطئا، بل هو هنا خطأ بيقين. ثم فلنفترض أن ترجمة الأستاذ أسد صحيحة، فأى عقاب يا ترى ذلك الذى يشبه فى شدته الحجارة والذى أرسله الله على قوم لوط؟ ترى أيصح أن نترك مثل هذا التعبير القرآنى المشمس ونذهب فنضرب فى ظلمات الأوهام الغامضة؟ لقد ذكر أسد فى موضع آخر من ترجمته أن هذه الحجارة الطينية تشير إلى وقوع انفجار بركانى، لكنه للأسف ترك هذا التفسير وجرى وراء الربط بين كلمة "سِجِّيل" (فى قوله تعالى عن نفس الواقعة: "حجارة مِنْ سِجِّيل منضود") وكلمة "سِجِلّ"، وانتهى إلى تلك الترجمة الغربية هنا وفى الآية 82 من سورة "هود". فهو عقاب، لكنه ليس عقابا بالحجارة بل عقابا فى شدة الحجارة، أما "من سجِّيل" فمعناها "مسجلة فى لوح القدر: Pre-ordained"، وتبقى كلمة "منضود" التى جعلها صفة لضربات العقاب، ولا أدرى كيف، فهى مذكر، والضربات (أو فلنقل: "الحجارة") مؤنثة. وهذه هى عبارته فى نصها الإنجليزى: "and rained down upon them stone-hard blows of chastisement pre- ordained, one upon another". وهكذا تمزقت أوصال الآية بلا رحمة أو داع.

ومن ترجمات أسد الغربية التى يصعب جدا إقراره عليها أيضا ترجمته لكلمة "النجم" فى قوله سبحانه: "والنجم إذا هَوَى* ما ضَلَّ صاحبُكم وما غَوَى" بـ"قطعة الوحى الإلهى" على أساس أن القرآن نزل منجَّما، أى على دفعاتٍ، لا جملةً واحدة. ولكن فاته أن القرآن لا يستخدم أيا من "النجم" أو "هَوَى" فى الحديث عن نفسه: فكلمة "النجم" فيه إنما تدل على نجم السماء، اللهم إلا فى موضع واحد يحتمل أن يكون المقصود بها نجم النبات. أما بالنسبة لمجىء الوحى من السماء فيستعمل له فعل من مادة "ن ز ل" لا الفعل "هَوَى".

وأشد غرابة من الترجمة السابقة تأديته لقوله تعالى فى وصف سَقَر: "لوّاحةٌ للبشر" بما معناه أنها "تُلِيح للبشر (أى تُرِيهم) الحقيقة كلها". يقصد (كما وضَّح فى الهامش) أنها تجعلهم يبصرون أخيرا الحقيقة التى لم يكونوا يقرّون بها فى الدنيا وتريهم خطاياهم وشرورهم ومسؤولياتهم عن معاناتهم وآلامهم فى الحجيم، مخالفا بذلك المفسرين كلهم تقريبا، الذين يقولون إن المقصود هو أنها تسفع وجوه الكافرين وتغير شكلهم. وتعليقنا على ذلك أن من معانى الفعل "لاح": "غيَّر وأضمر" كما فى قولنا: "لاح العطشُ أو السفرُ أو الحزنُ فلانا"، ومن ثم فكلمة "لوّاحة" هى صيغة مبالغة من هذا الفعل، الذى ليس من معانيه "أرى فلانٌ فلانًا كذا أو كذا". وحتى لو قلنا إن هذا أحد معانيه، فأين المفعول الثانى لكلمة "لوَّاحة" فى الآية؟

ومما يخطىء فيه أسد كذلك، بل وينفرد بالخطإ فيه، حرف "الواو" فى قوله عز شأنه: "كلا والقمر* والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر"، "والصافّات صَفًّا"، "والذاريات ذَرْوا"، "والطُّور* وكتابٍ مسطور"، "والمرسَلات عُرْفا"...إلخ، إذ يترجمه بمعنى "تأمَّلْ واعتبِرْ". ولا أدرى على أى أساس فعل ذلك، إذ لم يقل بهذا أحد من المفسرين أو علماء النحو أو أصحاب المعاجم. إنه يسويها بقولهم فى الإنجليزية على سبيل التعجب: "by God"، مع أن الأمرين مختلفان. فمن الواضح أن "الواو" فى هذه المواضع وأشباهها للقسم لا للتعجب، والمُقْسَم به موجود بعد "إنّ". ونجتزئ هنا بشاهدين على ما نقول: "والذاريات ذَرْوا* فالحاملات وِقْرا* فالجاريات يُسْرا* فالمقسِّمات أمرا* إنّ ما توعَدون لصادق* وإنّ الدين لواقع"، "كلا والقمر* والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر* إنها لإحدى الكُبَر* نذيرا للبشر". بل إن القرآن نفسه يصرح بأن هذا قَسَم، إذ جاء فى سورة "الفجر": "والفجر* وليالٍٍ عَشْر* والشفع والوَتْر* والليل إذا يَسْر* هل فى ذلك قَسَمٌ لِذِى حِجْر؟"، ولقد تكرر قسم القرآن بالظواهر الكونية وعناصر الطبيعة بلفظ القسم الصريح أكثر من مرة، مثل: "فلا أُقْسِم بالخُنَّس* الجَوَارِ الكُنَّس* والليل إذا عَسْعَس* والصبح إذا تنفس* إنه لقول رسول كريم"، "فلا أُقْسِم بالشفَق* والليل وما وسَق* والقمر إذا اتسق* لتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عن طبق"، فماذا يبغى الأستاذ أسد أكثر من هذا؟

وهذه النزعة إلى الانفراد بالآراء الغريبة لدى محمد أسد هى المسؤولة أيضا عن تنكُّبه لترجمة "الكواعب الأتراب" فى سورة "النبأ" بالناهدات الصدور المناظرات لأزواجهن فى السن كما تقول كتب التفسير وكما يقول الأسلوب العربى، وتَرْجَمَتها بدلا من ذلك بـ"splendid compagnons well matched: أصحابًا رائعين متوافقين". وهو يوضح السر فى هذه الترجمة العجيبة قائلا إن متع الجنة التى يمثل الكواعبُ الأترابُ لونا من ألوانها ليست حقيقية، إذ لا نساء فى الفردوس، ومن ثَمَّ فـ"الكواعب" هنا هم الأقران البارزون (لأن الفعل "كَعَبَ" يدل على البروز بإطلاق لا بروز النهدين فحسب)، و"الأتراب" هم الذين يكون بينهم وبين أصحابهم توافق وانسجام"[13].

ورأيى أن هذه كلها حجج داحضة: فأولا لو افترضنا أنه ليس هناك نساء فى الفردوس فعلا كما يقول المترجم، فإن هذا لا يسوِّغ ترجمة الآية بالطريقة التى فسرها بها، بل كان ينبغى أن يترجمها كما جاءت، وليقل فى الهامش إن هذا مجاز، وإن المقصود بالإشارة إلى النساء فى الآية هو كذا وكذا. فإن نساء الجنة فى هذه النقطة لا يختلفن فى شىء عن لبنها وعسلها وخمرها وشجرها وأنهارها...إلخ، فسواء قلنا إن فى الجنة عسلا ولبنا مثلا كعسلنا ولبننا، أو عسلا ولبنا من نوع آخر يليق بالآخرة وخلودها، أو قلنا إنهما رمزان لمتع أخرى لا يمكن التعبير عن حقيقتها بلغتنا البشرية، فالواجب فى كل هذه الحالات الإبقاء على ذِكْر اللبن والعسل، ثم إن فى الهامش مندوحة نستغلها فى توضيح رأينا كما نشاء. وقد فعل الكاتب نفسه ذلك مع "الحدائق والأعناب والكأس الدِّهَاق" فى هذه السورة نفسها، فلم لم يتبع هذه الخطة مع "الكواعب الأتراب"؟ وثانيا فإن كلمة "أتراب" فى كل من المرتين الأُخْرَيَيْن اللتين وردتا فى القرآن كانت وصفا لنساء الجنة، فلم تشذ عن ذلك هنا؟ وهاتان هما الآيتان المذكورتان: "وعندهم (أى عند المتقين فى جنات عدن) قاصرات الطرف أتراب" (ص/ 52)، "فجعلناهن (أى نساء الجنة) أبكارا* عُرُبًا أترابا* لأصحاب اليمين" (الواقعة/ 36- 38). وبالمناسبة فقد عمل محمد أسد هنا فى ترجمة "قاصرات الطرف الأتراب" و"الأبكار العُرُب الأتراب" ما اقترحته قبل قليل فى ترجمة صفات نساء الجنة، فلم هذه التفرقة التى لا مسوغ لها؟

يبدو، والله أعلم، أن صيغة جمع المؤنث السالم فى النص الأول من هذين النصين، وضمير جماعة النسوة فى النص الثانى هما اللذان منعاه من التمحل كما فعل مع "الكواعب الأتراب". فما رأيه إذا قلنا له إن كلمة "كواعب" من حيث صيغتها لا تحتمل أيضا إلا أن تكون للنساء، ومن ثم لا تصلح أن يكون معناها "الأصحاب أو الأقران" كما يريد منا الأستاذ أسد أن نفهمها؟ ذلك أن صيغة جمع التكسير "فواعل" لا تستعمل للعقلاء الذكور (إلا فى "فوارس" و "سوابق"، اللتين شذتا عن القاعدة). ثم إن "التِّرْب" هو المساوى فى السن لا المتوافق المنسجم مع رفيقه كما جاء فى ترجمة أسد.

              

الهوامش:

[1]  وهو نفسه ما فعله قبلا فى ترجمته "صحيح البخارى" إلى اللغة الإنجليزية.

[2]  بعد كتابة هذا الكلام وقعتْ فى يدى ترجمة القرآن الإنجليزية التى قام بها م. شاكر فوجدته قد صنع ما اقترحتُه هنا من كتابة أسماء الأنبياء حسب النطق القرآنى لها، فرأيت أن أنوه بذلك إعجابا وابتهاجا، كما وجدت الترجمة الإنجليزية لـ"تفسير ماجدى"، الذى وضعه  مولانا عبد الماجد دريابادى، تفعل نفس الشىء . أما محمد محسن خان ومحمد تقى الدين الهلالى فلم يكتفيا فى ترجمتهما بكتابة أسماء الأنبياء حسب النطق العربى، بل شفعا كل واحد منها  بكتابته حسب النطق الإنجليزى بين قوسين.

[3] وفى بعض المرات القليلة جدا استخدم كلمة "هجرة"، وأقل منها استخدامه كلمة "Emigration". أما فى ترجمته لـ"صحيح البخارى"، التى صدرت فى كتابٍ سنة 1938م، فقد استخدم الكلمة الأولى وكلمة "Migration"، كما استخدم لاسم الفاعل كلمة "Muhajir" (The Early Years of Islam, Dar al- Andalus,  -  Sahih al- Bukhari   (Gibraltar, 1981, PP. 4, 19, 104, 105, 112, 113, 144, 184, 230, 231, 237...etc.

[4]  ص 471/ هـ7، وص 561/ هـ10.

[5]انظر الآيات139- 148من سورة "الصافات".ويجد القارئ كلمة "أَبَقَ" فى الآية 140 منها.

[6]  المائدة / 23.

[7]  الأعراف/ 124، وطه/ 71، والشعراء/49.

[8]  ص 210/ هـ 37.

[9]  الكهف / 90-91 .

[10]  انظر ص 470 فى عنوان السورة، ومقدمة ترجمتها، و هـ1.

[11]  ص 633 فى ترجمة الآية 5 من سورة "السجدة"، وص 892 فى ترجمة الآية 3  من سورة "المعارج".

[12]  ص 825 فى ترجمة الآية 17 من سورة "المزمل".

[13] ص 924 فى ترجمة الآية 33 من "الواقعة"، وهـ 16. وللأسف فهذا هو التصور النصرانى، وهو تصور قائم على ظاهر ما ورد فى إنجيل متى منسوبا إلى السيد المسيح من أنهم فى القيامة "لا يزوّجون ولا يتزوجون" (إنجيل متى/ 22/30).