مفارقات ما وراء الدخان
مفارقات ما وراء الدخان
وقلق الزجاج
ودهشة الأثر
قراءة شعرية في مجموعة الشاعر حسين الهاشمي من دون احتراس
د. صدام فهد الأسدي
يقينا ان قول سارتر كان صائبا حين قال(النقد هو الذي يوقظ النص من سباته)
واجد ان لوعة الصراع عند الشاعر الميساني الرائع حسين الهاشمي يدفعه الى الفن المتقن متماشيا مع الركب الحداثوي مبتعدا عن اللذة الحسية بعيدا عن شطحات البعض في الغرق داخل الدائرة السادية والماسوشية بعيدا عن المحرمات الرخيصة انه شاعر يحمل أيدلوجيا فكر عائم في وسط الغابة يصرخ لينجده من الهم ولا تنفصل ذاته عن الإبداع الحضاري فثمة علاقة بين الحلم والفن
سم الشاعر حالما فعلى حد تعبير فرويد (إن الإعراض العصبية أو الذاتية ماهي إلا تعبير عن رغبات وميول حال الكبت من تحقيقها وارى الشاعر الهاشمي يمر بأزمة اكشف ظلالها من خلال النص أو حادثة استقراها وحتى العاهة والمرض ماهي إلا إسقاطات لا تتعدى المحتوى الظاهر في الحلم وهنا يزرع الشاعر رموزه التلقائية دون أن يكشف عن سر تلك العذابات
وهل يخرج الانفعال عن تعميق العمل الإبداعي, وثمة حرائق تجربة مشتعلة تنصب من نبع الوعي الثقافي الذي يعيشه الشاعر صراعا بين ذاتيه أولا وبين مجايليه وأظن على حد علمي المتواضع أن ميسان تفجر طاقات شعرائها من المشرح والهور والقيم والعادات والذكريات فثمة بستان دافئ في هذه المدينة الجنوبية التي خرجت الشعراء الكبار حسب الشيخ جعفر وآخرين
ولا أقف مؤيدا للشاعر الذي يلغي ذاته بدرجة القسوة كما لقينا العديد من الشعراء الذين حرقوا أعمارهم بالموت مثل الحصيري ورشدي العامل كردة فعل من غياهب الزمن الرديء
على فم طفلل
يلمع الأحذية
ويأكل مع القطط
في الظلام
أنها لقطة واقعية كلنا نراها في ازدحام الشوارع وهي تدل على الرعب ولكن الشريحة التي يصورها الطفولة فهذه دالة الحرمان وإلا لقال على فم رجل انه يلح على إجبار المتلقي للانطواء تحت أقنعته الواقعية ومرة يبدل المواقف بغيرها مثل الغرفة المؤهلة للسكن إلى فكرة في قوله:
عند فكرة غير مأهولة بالسكن
عند مسمار اعلق اليوم على غده
عند أمس اطليه بالخوف مرارا
هذه إشكالية الهاشمي فيرصف الأفكار,وفي صورة أخرى يستل من الحقل صورة قائلا:
ارتدى سترته أمام النافذة
همس في عينيها
إنني راحل الغد
ولم نتفهم حواره ونمل بقية الحوار حين قال
وغدا افرك النافذة
من ثقل أنفاسها
كي اطيرغدا
ثمة زمان ومكان يلعب في الأسلوب وهو رصين جدا فلم يخرج من دالات الحلم
ولا أظن الشاعر مبتعدا عن رسوماته الشعرية خاصة وهو يلح بكثرة على دخانه وزجاجه,وقبلها يتحامل على المدن وهذا الانسلاخ القروي يؤثر على نصه وهو يعلن بعظمة لسانه:
إن المدن
ثرثرة زائدة
عن بلاغة الأفق
ثمة نزول غير طبيعي من مدن محترقة إلى أفق أعلى عكسي وقد بلغ به الحد أن يختار غرفته ولكن اللغة هي الغرفة الذهبية قائلا:
لا أجد في هذه الحجرة
التي اسمها اللغة
سوى تماثيل تسور عشبها
كثيرة الرؤى التي يكشفها النص الانغلاق للحجرة وهي اللغة خاصته والتماثيل المسورة الإعشاب وثمة رمز غائب حتما يدور في شكلانية النص والدليل قوله لا تعرف السقوف,يذكرنا الشاعر الهاشمي بالشاعر الكبير حسين مردان الذي يكره السقوف ولا أتذكر له موقفا داخل الغرف بل يعيش خارجها وكما روى لي احد الأدباء أن البكر عينه مديرا عاما ورفض لأنه لا يدخل القاعات المغلقة والسقوف المخيفة
والشاعر حسين الهاشمي مثله تماما لا يريد السقف ,وكما أشرت في بدء المقال أن القلق داعية كبرى للإلهام عند الشاعر وهو شاعر القلق يبحث عنه ضمن إسرار عجيبة قوله::
بقليل من الأسرار
بوسعي
أن تمتع بالقلق
استحم في نفسي
مثل رجل يبحث في أكوام دروب
ثمة انتقالات وصفية شائكة في قوله الأسرار ما يخفيه الصمت والاستحمام قضية ذائقة ذاتية والأكوام دالة على التشظي انه لا ينقب على الذهب ولا الدر بل ينقب عن الدهشة على حد قوله:
مثلما التنقيب عن الدهشة
حتى يصبح مترفا من القلق
قوله:
أنيقا من الألم
ومترفا من القلق
هذا الشغل الشعري الحديث لتصوير المعاناة فالفكرة ليس لديها أصابع مجازا ولكنها عند الشاعر لها موقع في قوله"
احضن باب الأسرار
حين يرتجف بين أصابع الفكرة
والذي يفاجئنا به أن حجرة الكون الضيق كبر حجرته لا فرق بينهما لأنه مسجون مشتت الأفكار محروم الإبداع لذا غدت فكرته غير مأهولة بالسكن
ولأول مرة أجد شاعرا عراقيا على حد علمي المتواضع يصف الفكرة بهذا الوصف الدقيق للحرمان
ولو عدنا إلى مهيمنة الشاعر الأولى(الزجاج)لتلمسنا تلك الشفافية الذائبة في أعماق الشاعر فهو شفاف واضح لا يتحمل سقطات الزمن بل تشعر بالشظايا قد مزقت طموحه وكان صاروخا سقط قريبا منه ومازالت رجة الصوت تعطي احتمالاتها بين الفينة والأخرى
وقد اتصلت بالشاعر قبل الكتابة وسألته عن إلحاحه العميق في تكسير الزجاج فضحك بوجع وألم وهو يقول هكذا الحياة
المجموعة تبدأ بإشارة معلنة هناك وترد الرعب كلمة قاتلة في دلالتها فقد ابتلى قوس أحلامه بهذا الرعب قائلا:
حين اركض للسناء
حين لااجد سوى رعبي
والمنفيات تتكرر بصورة ملفتة للنظر لاتعرف السقوف لم تكتمل بعد لاتعرف ثلاث مرات أي يؤكد بنهم ووجع شديدين منفيات الحصول على رغبته الجامحة فالاشياء امامه تتساقط والجدران لايستطيع ان يوقف هديرها قائلا:
في رطوبة الأمل
كيف بوسعي إيقاف هدير الجدران
اقولها بحق ان الشاعر قد انتقى خاصته في التصوير وتشريح التفاصيل اليومية فالباعة لهم حصة في متنه الشعري :
اه معاول الباعة
معاول الحروب
ولكن السؤال أي باعة يريد حتى ينزل الى النمل الصغيرفيعطيه معولا تهدم ثم يرجع متساءلا كيف له النوم بلا جدار فالحلم في قاع جدارهذه اللا مكانيات المتعددة تنتقل برؤى وصفية وقدرة حوار عميق تنتج عن شاعرية وكم يترك لنا التوقعات في اسئلة رائعة مثل:
أيتها القرية أين
فعانقه حطب مهجور
الحقيقة التي اود طرحها ان الشاعر لايعطيك نفسه بسهولة كما تكتب اصحاب الخواطر انه يبني بناءا, وتكراره يلعب لعبته فالرموز قوله"
في الممر الى الفضيلة
في الممر الى الافلاس
في الممر الى الحفيد
هذه التوصيفات الواقعية يستلها الشاعر من أبيه ماالذي تركه من ارث سحيق سوى الموت والمرض والفقر لذا باتت الممرات خائفة منه ومنا وهي لا تربطها صلة بالنوافذ فحتى السؤال عاد غريبا في هذا الزمن القحط والحديث المهيمن الزجاج نصل اليه بعد تعب في قوله"
في جوف الزجاج
ثم يأخذنا الى الميزان المرئي عين الزجاج قوله"
على رمال الستائر
وكل ما يتساقط من عين الزجاج
شظايا أمل
نعم لقد فهمنا دلالات الزجاج من شظاياه دالة واضحة فقد تكسر الحلم والرغبات والأمل وانتقل الشاعر برحلته من الجوف مركزا داخليا الى العين الباصرة وصور لنا الشظايا وفي نص آخر يسميه أراجيح وهذا عنوان مرداني أرجوحة هادئة الحبال تحول الموقع من الارض الى السماء قوله"
فراحوا يمسحون زجاج السماء
تلك التي خلفها الاباء في نزهة قصيرة
كلها مجهولات رمزية غائبة عن التفكير كيف خلف الاباء زجاجا وفي اية نزهة وفي الاعراس حيث تكثر الولائم ويستد وطيس الفرح ورائحة العرس يكون للدخان حضور في قوله:
الاسرار
حقائب دخان
تلك الكائنات اللامعة بالذعر
حقيقة هذا الوصف رائع لانه شبه الاسرار كأنها تحمل في حقائب كل من يريد الاضافة او النقص وهي كائنات تتمرد بالذعر تنقص وتقلل وهو يؤكد ذلك يردف قائلا:
الاسرار مخابيءربما
لاتزينها شرائط الاسيجة
وهكذا نرى الاسيجة تحاصر الشاعر وتخنق طموحه والاشارات الى الحرية واضحة ثم يجمع بين الأسرار وحقائب الدخان قائلا"
عنق الأحلام
سنحرق الأسرار قليلا
ومثل حقائب دخان تبتسم
لقد اولى الحقائب امرا وجسد لها حرية الابتسام مثل العرس او الحلم المقهور فثمة قطيعة في الرؤيا ليس إلا وعندما يزفر وجعه الى الراحل احمد ادم يكون قد وضع حجته بدقة قائلا:
منصة يوزع أدوارها
دخان طويل
يمشي خلف اسيجة الأمل
فالتعانق الدلالي واضح بين الاسيجة والدخان بحركة وتوقف ويؤكد قائلا:
كل هذا الدخان عرائي
يأخذ شكل الطريق
ولم يتوقف عند هذا الحد بل يتراجع مع تراجعات جداره قائلا:
إن اللوحة لم تكسر
فالجدار تراجع
أو اختفى
لا ادري
هذه الاحتمالات من حق الشاعران لا يؤكد دقة التصويب في كسر العمر أو اللوحة على جدار الأمنيات ويلقي العهدة للطبيعة أن تنظر ماذا سيكون وكم انتهى الإبداع في لوحته بتساؤل غريب حقا :
لو رسمنا قرية من زجاج
لا ادري
قد يزورنا احد الطغاة
كي يغمس دخانه بالهشيم
هنا اكتملت لوحته تنظيرا شعريا يجرنا من دخان واسيجة إلى زجاج قرية يزرها الطاغية ليرى هشيمها إنها الزلفى والازدواجية في محاكاة الشخوص فالإفراد الذين يعنيهم الشاعر يرقصون على جثث غيرهم والمهم ان يرضى السلطان او الطاغية وما أجمل السؤال الهذا خلقت الحقائب والمفارقة يعود للحل الوسط كما يقال بعد بلوغ الياس قائلا"
ان تبقى اللوحات ناقصة
كي نحافظ على الجدار من النزوح
هنا انتهى الموقف وعندما ينزل الى المناجم الأخرى وهو يبحث عن الزجاج واصفا الفرشاة هذه المرة خالطا بين الدخان والزجاج المحطم
كما الفرشاة تدفع غيم المجاهيل
لتسترد أجفان حقائبه
وتسيل ندى
لاجلك أيها الزجاج المحطم
ثمة تلاقح فكري دلالي يجمع بين الصورتين فلا الرسم بقادر على ان يدفع الأمر اذا قدر ولا أجفان الحقائب براجعة بعد تحطم الزجاج وهو العمر والأمل والشفافية التي تميز الشاعر ولا ادري ماالذي عناه بعشبه المراقب دائما وهو يصف ثقبا في الصدر:
لا معابر فائضة لزجاجه
وحدي على نقالة
تحمل الطقس بلا زجاج بلا أطفال
انه الشيء الثمين الذي يخاف عليه قل الشعر صندوقه الزجاجي والأغرب من هذا إصغاء الزجاج حيث يجعله مصغيا لحديثه:
يكفي ظل بمفرده
يخطف إصغاء الزجاج
ثم يعود للتأكيد واصفا :
هل كان في حقل محاكاة
يطلق راحتين للزجاج
أحيانا يكفي ظل بمفرده
يخطف جراحات زجاج
لقد سهرت ليلا طويلا كي ادع عنوانا لبحثي ولم أجد غير الزجاج سبيلا ولكن ماذا أراد الهاشمي بالزجاج العراق العمر الشعر الزمن البخت البيت البلد كل شيء محتمل فمن أين للزجاج جراحات ؟
وفي قصيدة فاصل للدفء يقول:
امسكي هذا الدخان
امسكي الوهم الذي لا يشتكي
ذلك حتفي
أن أكون مرميا على طاولة
فالطاولة تنذر بالموت وهو الذات المعنية بالأمر وأية طاولة لم يدخل الحرب وهذا من صنيع الزمن الحاضر فالموت بالمجان لا تعرف متى تموت ويطول الحديث عن الدخان والزجاج مهيمنتين شعريتين عند الهاشمي ولكن ثمة صور من الإشارات المكانية وأهمها العمارة مدينة الأصل والشعر والإلهام قائلا:
وحدك الحارس الآن
والعمارة لم تطفيء تبغها بعد
بلا ساق
نعم إنها إشارة جادة في وصف التبغ دلالة القهر والسجاير والميراث الحزين المصحوب بألم والشكوى والقحط والجنوبي الشروقي المباع على امتداد الأزمنة
وكم أدهشني بوصف أبيه في مباهجه الرائعة قائلا:
منذ بزوغه
كلما تبعثر المرتفعات مباهجي
لا ارغب في تسلق شيء
لا سوى مرتفعات دعائه
في صباح مبعثر
تلك الآثار والأفق التي ينطلق منها الشاعر
ولم ينس الحرية المبتورة في زمن القحط والتهميش قائلا؟
نحن من لا نملك اليد حين تحاور
حين تمسد فوق الممتلكات خوفها
مشطورة الإسرار
هذه تداعيات الهاشمي بين أسرار مباحة شعرا وممنوعة واقعا لذا باتت الأعاصير
أعاصير من الغبار
ولاشي يجدي لألسنتها
سوى بائع
يرفض
أن يسوق العقل للمهرجين
والدموع للنفايات
هذه حصة المفكرين يا أبا علي الهاشمي كل يوم يتكرر المشهد فاللون شراسة والزناد غراب كل يوم يتكرر المشهد وكم أضحكني في صورة رائعة تستحق التوقف عندها جدا قوله"
رأس يحرث السماء
وانا أهرول في القناني
في الشرفة التي سكبت جدولا من حرائق
ثمة شيء حدث للشاعر وقع قصف أو حريق وانفجار كلها حلاوات العصر المهم انه يهرول في القناني سخرية واضحة وردة فعل من الزمن انه يبحث عن صمت بريكاني جديد يبحث عن عقيل علي الغائب :
كنت دائما تصل الباب
الذي تصدع هواؤه
لتصرخ
من يجلسني اكثر في وجه الخفاء
هذه حقائق الهاشمي لا غبار عليها انه ينقل صوره من معاناته
اذن الفراغ يأخذ مساحة في شعريته الطافحة بالأسى والحرمان ولكنه تعلم من الفراغ شيئا :
لايعود الا بقبضة سر او حقل في الغام
وكما مسك رشدي العامل عكازه في اخريات ايامه أجد الهاشمي يميز شخصنة ذاته بها قائلا:
وحدي هناك
اقف بلا منازع
انظم سير الموتى
وإصبعي على زناد العكاز
حقيقة إنها صورة رائعة في إباحية الموت والصبر على الضيم الى انقطاع النفس فالعكاز دلالة العجز والتعب والاستسلام لكنه لا يستسلم فماذا يفعل شاعر بإقدام ورقية سوى الركوع للعاصفة لكنه يراهن على الطيران
لقد وجدت ناره لاتنطفيءوجمره لا يبرد ورحيق سنابله الشعرية لايميل مع الريح لقد وجدته شاعرا مفكرا يعرف من أين تؤكل الكتف
يعرف قضية الشعر ودرابين حلمه وإسرار ضياعه يعرف كيف يجر المتلقي الى بساتين شاعريته
وأظنه في مجموعته القادمة سيقول شيئا جديدا فعهدي به هضم الشعر وببديهة عجلى سيرفد الزمن بلوعة جديدة
وهذه الزجاجات الشعرية مشحونة بإسقاطات ذاتية محضة لا علاقة لها بزجاج مرئي وانا متأكد أن الشاعر لا يريد أن يقول من كان بيته من زجاج لايرمي الناس بحجر بل يرغب في التماهي مع مصدر المأساة التي اجتاحت المدينة فافرغ شحنات قلبه وشعره المدفونتين في الأعماق ليقول لنا انا معكم وعيني لاتنام على صوت الهزيمة