ملامح الفواصل في السور الأربع
ملامح الفواصل في السور الأربع
محمد الحسناوي
من المعلوم أن لكل من القرآن الكريم والشعر والنثر مصطلحاته الفنية الخاصة به ، فنظام التقفية يطلق عليه في القرآن (الفاصلة ) وفي الشعر ( القافية ) وفي النثر ( السجع ) ، ومن أوائل من ثبت هذه المصطلحات الجاحظ بقوله : ( سمّى الله تعالى كتابه مخالفاً لما سمّى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل ، سمّى جملته قرآناً ، كما سمّوا ديواناً ، وبعضه سورة كقصيدة ، وبعضه آية كالبيت ، وآخرها فاصلة كقافية ) (1) . وهذا لم يمنع الدارسين من إجراء المقارنات بين هذه المصطلحات ، أو نقل جزئيات منها إلى الأخرى ، أو التماس التقاطعات بينها ، وهو ما سنعمد إليه في هذه الدراسة .
ومن المعلوم أيضاً أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الفنية ، ومن مقتضيات هذه الشخصية أن تدرس فواصل كل منها على حدة ضمن سورتها أيضاً ، لإدراك شبكة العلاقات الموضعية والكلية فيما بينها . ومع ذلك نجدنا راغبين بدراسة الفواصل في هذه السور مجتمعة لأغراض بحثية ، تجمع بين سياقها في سورها ، وبين تقاطعاتها في السور الأربع ، ضمن ظواهر مشتركة ما أمكن ذلك .
امتحان المصطلحات :
حين وضعت مصطلحات النحو والصرف والعروض والبلاغة روعي في وضعها اطّرادها على ظواهر عامة ، لكن تطبيقها عملياً أو تفصيلياً ، يكشف عن شذوذات أو خلافات في القواعد ، كالخلافات التي عرفت بين مدرستي (البصرة ) و(الكوفة ) . وفي بحثنا الذي نحن بصدده سوف نصادف بعضاً من هذه الإشكالات ، مما يحملنا على اقتراح تعديلات في المصطلحات ، أو توسيع آفاق النظر في فهم المصطلحات وتطبيقاتها التفصيلية .
فمثلاً درج العروضيون على تمييز القافية المنتهية بألف مقصورة عن الأخرى المنتهية بحرف الألف الممدودة ، واشتهرت قصائد باسم ( المقصورات ) مثل مقصورة ابن دريد ، مع العلم أن الوزن العروضي في القافيتين واحد .
متى يكون الألف حرفَ رويّّ في التقفية :
يرى العروضيون أن (الألف) تصلح للرويّ والوصل إذا كانت أصلية ، أي من بنية الكلمة ، وكان ما قبلها حرفاً مفتوحاً ، إذا أورد الشاعر ، في قافيته ، مثل ( هُدَى – مُنى – ضَنَى – عفا ) ، ولم يلتزم الحرف الذي قبلها ، فإنه يكون قد عدَّ الألف رويّاً ، وتسمى القصيدة عندئذ مقصورة . أما إذا التزم الشاعر الحرف الذي قبل الألف ، سواء كانت الألف أصلية أم للإطلاق ، فإن الألف ، حينئذ تعدّ ألف وصل ، والحرف الملتزم به قبلها هو الرويّ (2) .
أما فواصل القرآن الكريم فقد سوّت بين الألف الأصلية وغير الأصلية حين جاء الحرف الذي قبلها حرفاً مفتوحاً ، ولم يلتزم الحرف الذي قبلها ، فسورة (الكهف ) ، لم ترد في فواصلها الألف المقصورة إلا مرة واحدة ( نحن نقصُّ عليكَ نبأهم بالحقِّ . إنهم فتيةٌ آمنوا بربِّهم ، وزِدناهم هُدى ) ( الكهف :الآية 13) وبقية الفواصل جاءت ألفاً ممدودة . أما سورة ( طه) ، فقد جمعت بين فواصل الألف المقصورة ( 85 خمساً وثمانين فاصلة ) ، وبين الألف الممدودة ( 28 ثماني وعشرين فاصلة ) على صعيد واحد .
الفواصل المطلقة الحركة :
لدى مراجعة فواصل القرآن نجد وفرة في الفواصل المقيدة ( الساكنة ) تزيد كثيراً على الفواصل المطلقة الحركة (المتحركة بحركة ما ) ، بل لا نكاد نصادف فواصل متحركة إلا بالفتح ، وثلاث فواصل متحركة بالضم ، وإليك تفصيل ذلك :
عدد فواصل الوقف على الرويّ الساكن : 5197 .
= = = = = المتحرك بالفتح : 916 .
= = = = = = بالضم : 3 .
= = = = ضمائر الإعراب : 113 .
= = = = هاء السكت : 7 . (3)
السور ذوات الفواصل المطلقة الحركة بالفتح :
عدد السور التي وردت فيها فواصل الفتح المتحولة إلى ألف مدّ أو كانت ألفها أصلية /21/ إحدى وعشرون سورة ، معظمها سور مكية ( 16 ست عشرة سورة هي : الإسراء – الكهف – مريم – طه – الفرقان – النجم – نوح – الجن – المزمل – المدثر – النبأ – النازعات – عبس – الأعلى – الليل – الضحى ) ، وأقلها سور مدنية ( 5 سور ، هي : النساء – الفتح – الطلاق – الإنسان ) .
وبالمناسبة نشير إلى غلبة القوافي المطلقة الحركة في الشعر العربي عامة ، والشعر القديم منه بخاصة ، فكان الوقف على الحرف الساكن في القرآن – ولاسيما المردوف بحرف مدّ كالياء أو الواو ( الرحيم – الغفور ) خاصة من خصائص الفواصل في القرآن .
حركة الفتح في السور الأربع :
لكل من السور الأربع ( الإسراء – الكهف – مريم – طه ) شخصيتها الفنية المستقلة ، ومع ذلك تتقاطع ، أو تتلاقى فيما بينها في عدد من الظواهر الفنية ، فهي كلها سور مكية ، ومن سور المئين ، يشيع فيها الحوار ، وتلتزم ، أو يغلب عليها الفواصل المطلقة الحركة بالفتح المتحول إلى ألف .
فسورة (الإسراء ) التي تعدُّ /111/ إحدى عشرة ومئة آية ، التزمت فواصلها كلها حركة الفتح ، ما عدا آية الافتتاح التي التزمت فاصلة ساكنة (مقيدة الحركة ) : ( سبحانَ الذي أسرى بعبدِهِ ليلاً من المسجدِ الأقصى إلى المسجدِ الحرامِ الذي باركنا حولَهُ ، لِنُرِيَهُ من آياتِنا . إنه هو السميعُ البَصِيرْ ) ( الإسراء : الآية 1 ) .
وسورة (الكهف ) التي تعدُّ /110/ عشر آيات ومئة ، التزمت فواصلها كلها حركة الفتح .
وسورة (مريم ) التي تعدُّ /98/ ثماني وتسعين آية ، غلبت عليها الفواصل المطلقة الحركة بالفتح ، فجاءت /91/ إحدى وتسعون فاصلة منها على حركة الفتح ، و/7/ سبع آيات ، وقفها على السكون المردوف بياء أو واو ( يمترونْ – مستقيمْ ) .
أما سورة ( طه ) التي تعدُّ /135/ خمساً وثلاثين ومئة آية ، فقد غلبت عليها الفواصل المطلقة بحركة الفتح ، فبلغت /133/ ثلاثاً ثلاثين ومئة آية ، منها /112/ اثنتى عشرة ومئة فاصلة مطلقة الحركة على الفتح ، و/20/ عشرون فاصلة مختومة بحرف الياء المكسور ما قبله ( عيني – ذكري - نفسي) ، على حين جاءت فاصلة واحدة متحركة بالضم ( قال : يا هارونُ ما مَنَعَكَ إذ رايتًهم ضلُّوا ) ( طه: الآية 92) ، وفاصلة ثانية جاءت مقفاة بضمير ، مع أن رويها ياء مفتوحة الحركة أيضاً ( فأتبعَهُم فرعونُ بجنودِهِ ، فغشيَهم من اليمِّ ما غَشِيَهم ) ( طه : الآية 78) .
هذا من حيث الإجمال ، أما من حيث التفصيل ، فلفواصل كل سورة شؤونها ومزاياها .
الفواصل المطلقة الحركة بالفتح في سورة الإسراء :
أول مزية لهذه الفواصل أنها مردوفة بحرف مدّ ياء أو واو ، مسبوقة بحركة كسر أو ضم تناسبها ، وذلك قبل حرف الروي : ( وكيلا- شَكورا) ، والمدّ في حرف الردف ، يعمل في زيادة التناسق والتجانس بين الفواصل ، كما يزيد في الطبقة الموسيقية من موسيقى الفاصلة ، بالإضافة إلى امتداد حركة الفتح بألف إطلاق ، ذات الإيقاع الصوتي الواضح المديد ، خلافاً للفواصل الساكنة . وهذان العاملان ( حرف الردف وحركة الفتح ) أسهما في استيعاب التنوع في حروف الروي التي اختلفت مخارجها الصوتية : ( ل – ر – م – ب – هـ – د – ن – ف – ع – ق ) ( وكيلا – شَكورا- أليما- حَسيبا – مكروها – جديدا – مُبينا – تَخويفا – تَبٍيعا – زَهوقا) .
ولم تخالف الفواصل في التزام الردف بالياء والواو إلا فاصلتان : إحداهما مردوفة بحرف مدّ ألف (خسارا) في قوله تعالى : ( ونُنزِّلُ من القرآنِ ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ، ولا يَزيدُ الظالمين إلا خساراً) ( الإسراء: الآية 82) ، لكن الذي يقرب الوقع الموسيقي لهذه الفاصلة من مجموع الفواصل ، اشتراكها معها بحرف الردف الممدود ولو كان ألفاً ، لأن الوزن في النتيجة واحد ( وكيلا- شكورا- خسارا= فعولنْ ) ، يضاف إلى ذلك الملاءمة الموضعية لسياق فاصلة ( خساراً ) أي ما يجاورها من أصوات موسيقية ، ففي الآية التي وردت فيها خمسة مدود بحرف الألف ، هي ( القرآن – ما - شفاء – لا – الظالمين ) ، وسوف نلحظ أن السياق الموضعي يقيم له القرآن وزناً واضحاً في التناسق الموسيقي .
الفاصلة الثانية التي لم تلتزم بحرف ردف هي (سجّداً ) : ( قلْ آمنوا بهِ أو لا تُؤمنوا . إن الذين أُوتوا العِلمَ من قبلِهِ إذا يُتلى عليهم يَخِرّون للأذقانِ سُجّداً ) ( الإسراء : الآية 107 ) مما ساعد هذه الفاصلة على انفرادها المحدود ، بعد التزامها حركة الفتح ، شدة ارتباطها بسياقها الموضعي ( يخرّون للأذقانِ ..) ، فلا بد من استكمال مناسب ألا هو ( سجدا) ، ثم الحاجة إلى تميز هذه الآية عما سواها وتميز فاصلتها ، أنها تضمنت حدثاً مهماً في وسائل إقناع المشركين المعاندين آنذاك ، ألا وهو (سجود أهل العلم الذين أوتوه قبل القرآن أي أهل الكتاب كأحبار اليهود ) وتصوير ذلك القبول حسياً بحركة السجود .
وبالمناسبة إن كلمة ( سجَّداً) ، ذات إشعاع يتجاوز سورتها ، ويرشحها لهذا البروز ، فقد وردت في القرآن /11/ إحدى عشرة مرة ، إحداهن في سورة (الإسراء ) ، وثلاث في أمر الله لبني إسرائيل أن يدخلوا باب القرية (سجَّداً ) أي شكراً لله عله على ما أنعم به عليهم ( البقرة : 58 – النساء: 154- الأعراف : 161) ، وواحدة في دخول النبي يعقوب وأولاده على النبي (يوسف) في مصر( ورفعَ أبَوَيْهِ على العرش ، وخرُّوا لهُ سجَّداً ...) ( يوسف : 100) ، والبقية في وصف الكائنات كلها والأنبياء و عباد الرحمان الصالحين حين يسجدون لله تعالى (مريم : 58 – طه: 70 – الفرقان 64 - السجدة 15 – الفتح 29) ، تستوقفنا منها آيتان : الأولى في وصف سجود السحرة لما بهرتهم الآيات التي أوتيها النبي موسى : ( فأُلقيَ السحرةُ سُجَّداً ، قالوا : آمنّا بربِّ هارونَ وموسى ) (طه: 70) ، وهي خاصة بشخصيات متميزة من بني إسرائيل ، تلتقي مع آية (الذين أوتوا العلمَ من قبلِهِ ) . والآية الأُخرى في وصف النبي محمد والذين معه : ( محمد رسولُ اللهِ والذين معهُ أشدّاءُ على الكفارِ ، رُحَماءُ بينهم ، تراهم رُكّعاً سجَّداً ، يَبتغون فضلاً من اللهِ ورِضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثرِ السجودِ ، ذلك مثلُهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيلِ ، كزرعٍ أخرجَ شَطْأَهُ ، فآزرَهُ ، فاستغلظَ ، فاستوى على سوقِهِ ، يُعجِبُ الزُّرَّاعَ ، ليَغيظَ بهم الكفّارَ . وعدَ اللهُ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ منهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) ( الفتح : 29) وهي تصبُّ في سياق الدعوة للمشركين للإيمان بنبوة محمد عليه السلام ، والتعريض بمن يُعرض منهم في الوقت نفسه.
التشكيلات الفنية في فواصل سورة الإسراء :
إن مجموع التشكيلات الفنية التي اتخذتها الفواصل في هذه السورة يمكن أن تندرج تحت بند واحد هو ( التكرار الفني ) الذي هو أحد قوانين علم الجمال .
فهناك أولاً تكرار (كلمة ) الفاصلة ، داخل الآية الواحدة ، أو في مواضع متفرقة خارج الآية .
فمن تكرار كلمة الفاصلة داخل الآية ، مجانستها لفظياً مع فعل اشتقت منه ( تبَّروا ما علَوا تتبيراً ) ( فصَّلناهُ تفصيلاً ) ( و لا تبذِّرْ تبذيراً ) ( وفضّلنا .... تفضيلاً ) (نَزَّلناهُ تنزيلاً ) ( وكبِّرهُ تَكبيراً ( سورة الإسراء : الآيات 7 و 12و 26 و 70 و 106 و 111) .
ومن تكرار كلمة الفاصلة في مواضع متفرقة خارج الآية ، تكرار كلمات الفواصل كما يلي ( كلمة : كبيراً تكررت 6 ست مرات – وكيلاً و سبيلاً : 5 مرات – رسولاً : 4 أربع مرات – بصيراً و قليلاً و مسحوراً : 3 ثلاث مرات – تفضيلاً و غفوراً و مسؤولاً و نُفوراً و جديداً و تحويلاً و نصيراً و مفعولاً : 2 مرتين لكل منها . )
من المعلوم أن العروضيين عدّوا ( الإيطاء) عيباً من عيوب القافية ، وهو تكرر كلمة القافية بلفظها ومعناها من غير فاصل أقلُّهُ سبعة أبيات ، وكلما قلَّ الفاصل زاد الإيطاءُ قبحاً ، ثم اختلفوا بعد ذلك في حجم الفاصل أو تغير الغرض أو السياق الذي تكررت فيه كلمة القافية (4) . وليس الأمر كذلك في الفاصلة التي لم تَرَ مانعاً يمنع من تكررها مباشرة ، كقوله تعالى :
( أو يكونَ لكَ بيتٌ من زُخرُفٍ ، أو ترقى في السماءِ ، ولن نُؤمِنَ لِرُقيِّكَ حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً من السماءِ نَقرؤهُ . قلْ : سبحانَ ربي ، هل كنتُ إلا بشراً رسولاً .
وما منعَ الناسَ أن يُؤمنوا إذ جاءهم الهُدى ، إلا أن قالوا: أَبَعَثَ اللهُ بشراً رسولاً .
قلْ : لو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئنّينَ ، لَنَزَّلنا عليهم من السماءِ مَلَكاً رسولاً ) ( الإسراء : الآيات 93- 95 ) .
من الواضح في هذه الآيات الكريمة الحاجة الفنية والفكرية لتكرار كلمة الفاصلة ( رسول ) ، وهي محور النقاش أو الجدال فيها ، ومركز الثقل ، وحول طبيعة هذه الرسول البشرية أو غير البشرية . وهذا فضلاً عن التعريض أو السخرية بالمعاندين ، في إعادة عبارتهم أو كلماتهم حين الرد .
على الرغم من أننا سبق أن درسنا الدلالة الفنية لهذه الأنواع من التكرار في بحثنا ( البنية الفنية في سورة الإسراء ) ، نضيف أن المجانسة لكلمة الفاصلة يضاعف من أثرها الموسيقي في سياقها الموضعي وفي المجموع الكلي للفواصل ، ويزداد هذا الأثر مع تكرار المجانسة . أما تكرار كلمة الفاصلة خارج الآية ، فيسهم في تماسك أجزاء السورة ووحدتها ، وفي العلاقات الكلية لجزئيات السورة ، خذ مثلاً كلمة الفاصلة ( مفعولاً ) التي وردت في أواخر السورة ( ويقولون : سبحانَ ربّنا . إنْ كانَ وعدُ ربِّنا لَمفعولاً ) ( الإسراء : الآية 108) الذي جاء على لسان الذين أوتوا العلم من قبل القرآن ، أي أهل الكتاب من اليهود ، وهو قول يلتقي في الدلالة والتأكيد بكلمة الفاصلة التي وردت في صدر السورة ( فإذا جاءَ وعدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ ، فجاسوا خلالَ الديارِ ، وكانَ وعداً مفعولاً ) ( الإسراء : الآية 5) أي إنه وعد الله في المرتين ، وهو الوعد الذي لا يتخلف .
وهناك – ثانياً – من التشكيلات الفنية للتكرار : تكرار صيغ صرفية بعينها أو تكرار تراكيب .
من تكرار الصيغ الصرفية في كلمات الفاصلة :
- تكرار الصفة المشبهة / 51/ إحدى وخمسين فاصلة ( 39 منها على وزن فَعيل – 12 منها على وزن فًَعول – 1 واحدة على وزن فُعِيل).
- تكرار اسم المفعول الثلاثي أي وزن مفعول نفسه /23/ ثلاثاُ وعشرين فاصلة .
- تكرار المفعول المطلق /13/ ثلاث عشرة فاصلة .
- تكرار مصدر الفعل الثلاثي على وزن (فَعول ) /8/ ثماني مرات .
وقد سبق لنا أن درسنا دلالة هذه التكرارات في بحثنا ( البنية الفنية في سورة الإسراء ) .
أما تكرار التراكيب فقد وجدنا له نموذجين :
أحدهما تكرار جملة (كان واسمها وخبرها ) /25/ خمساً وعشرين مرة ( إنه كان عبداً شَكوراً ) ( الآية 3 ) ( وكانَ وعداً مفعولاً ) (الآية 5) ( وكان الإنسانُ عَجولاً ) ( ألآية 11) .
ثانيهما ( التعقيب ) ، و هو أسلوب بلاغي يرتبط بما قبله من السياق بقرينة يأتي لتوضيحهـــا
أو تأكيدها أو نفيها ، وغالباً ما يختم به السياق(5) . وقد أحصينا /50/ خمسين تعقيباً في هذه السورة ، ودرسنا دلالاتها الفكرية والموسيقية ، ومثل ذلك تكرار (جملة كان واسمها وخبرها ) في (البنية الفنية للسورة) من قبل ، ووجدناها تسهم في مضاعفة الدلالات المعنوية ، ورفع الطبقة الموسيقية للسياق والنص . ونضيف هنا أنها تنهض بدور خفي يشبه دور (اللازمة ) في النشيد أو النسق الموسيقي ، وأجمل المؤثرات الفنية ما كان عملها خفياً .
الفواصل المطلقة الحركة بالفتح في سورة الكهف :
جاء الالتزام بحركة الفتح في فواصل هذه السورة شاملاً ، لم تستثنَ منه فاصلة واحدة ، كلها
تتحول إلى ألف مدّ غير أصلية إلا في فاصلة واحدة هي في قوله تعالى : ( نحن نقصّ عليكَ نبأهم بالحقّ . إنهم فتيةٌ أمنوا برِّبهم و زِدناهم هُدى ) ( سورة الكهف : الآية 13) ، وهذه الفواصل في الوقت نفسه لم تلتزم حرف رويّ موحد ، بل تناوبت على الروي مخارج صوتية متنوعة مثل : ( ج – ن – د – ف – ل – ز – ط – ق – ع – ر – وَ – ص – م ض ) ( عِوَجاً – حَسَناً – وَلَداً – كَذِباً – أَسَفاً – عَمَلاً – جُرُزاً – شَطَطاً – مُرْتَفَقاً – زَرْعاً – نَهَراً – هُزُواً – قَصَصاً – عِلْماً – عَرْضاً ) .
وقد كان توزيعها وتعدادها كما يلي : لم تقتصر على حروف الروي ذات المخارج المتقاربة ، بل ضمت حروف رويّ من ثلاثة مخارج ، معظمها من مخرج اللسان ، وهي ( ق : 6 فواصل – ج 1فاصلة واحدة – ض : 1 واحدة – ت : 13ثلاث عشرة – ن : 3 ثلاث – ر : 24 أربع وعشرون – د : 29 تسع وعشرون – ط : 2فاصلتان – ص : 1 واحدة – ز : 1 واحدة ) إلى جوارها (ع : 5 فواصل ) وهي من مخرج الحلق ، والشفويات ( ف : 2 فاصلتان – م : 3 فواصل – وَ : المتحركة بالفتح : 2 فاصلتان – ب : 17 سبع عشرة فاصلة ) .
التشكيلات الفنية في فواصل سورة الكهف :
تندرج هذه التشكيلات أيضاً في التكرار الفني : تكرار روي فواصل ، تكرار كلمة الفاصلة ، تكرار لازمة .
فمن تكرار حرف الروي تشكل مجموعات ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ، وحتى مجموعة من اثنتي عشرة فاصلة رويها واحد . فعلى روي ( الدال) نصادف أربع ثنائيات ، منهاها قوله تعالى : ( ماكثين فيهِ أَبَداً . ويُنذِرُ الظالمين الذينَ قالوا : اتخذَ الله وَلَداً ) ( سورة الكهف : الآيتان 3و4 ) ، وثلاثية في الآيات ( 47و 48 و 49 ) ، ورباعية في الآيات ( 10 و 11 و 12 و 13 ) وسداسية في الآيات ( 19 و 20 و 21 و 22 و 23 و 24 ) .
ومثل ذلك نعثر لحرف الراء على أكثر من مجموعة ، لعل أبرزها المؤلفة من /12/ اثنتي عشرة فاصلة ، الآيات ( 67 و 68 و 69 و 70 و 71 و 72 و 73 و 74 و 75 و 76 و 77 و 78 ) ( صبراً – خُبراً – أَمراً – ذِكراً – إمراً – صبراً – عُسراً – نُكراً – صبراً – عُذراً – أَجراً – صبراً ) ، وقد جاءت هذه المجموعة – كما بينا في بحث ( تأملات فنية ) – في وسط قصة موسى والرجل الصالح ، وبالضبط في أواخر الحلقة الأولى الممهدة للقصة ، وفي مجموع الحلقة الثانية منها ، حيث الانفعال والصراع القصصي بين الشخصيتين يبلغ أوجه ، فينعكس انسجاماً في تماثل حروف الروي على الراء ـ مما يرفع الطبقة الموسيقية الموازية للأحداث ولخلجات النفوس .
أما تكرار كلمة الفاصلة ، فقد تحدثنا في بحث (البنية الفنية) عن نموذجين معبرين ، تكرار كلمة (هُزُواً ) وكلمة ( أحداً ) ، مع العلم أن هذه الظاهرة وافرة جداً في هذه السورة .
أما تكرار اللازمة ، فنصادفه في لازمتين اثنتين في الأقل :
اللازمة الأولى في قصة النبي موسى والرجل الصالح ( إنك لن تستطيع معيَ صبراً ) حيث تكررت بتعديلات طفيفة لملاءمة السياق /5/خمس مرات في الآيات ( 67 و 72 و 75 و 78 و 82 ) .
اللازمة الثانية في قصة ذي القرنين ( فأتبعَ سبباً ) ثلاث مرات في الآيات ( 85 و 89 و 92 ) ، ومن المعلوم أن اللازمة ذات أثر موسيقي ، بقدر ما هي ذات دلالة معنوية ، تسهم في تقسيم المراحل أو التعليق على الأحداث ، كما تعمل على ترابط النص وتماسكه في الوقت نفسه .
كما أوضحنا أن تعدد مخارج حروف الروي في فواصل هذه السورة يدرجها في نوع من أنواع الفاصلة الذي هو الفاصلة (المتقاربة ) ، وهي غير (المتماثلة) الروي وغيرالفاصلة (المنفردة) ، لها جمالياتها أيضاً ..
بقي أن نشير إلى أن تعدد القصص في هذه السورة (أربع قصص) يناسبه تعدد حروف الروي أو الفاصلة (المتقاربة ) للتلوين ، أما الذي يوحد السورة كلها بقصصها وحواراتها وسردها ، فهو حرف الألف ، المنقلب عن حركة فتح مضطردة في الفواصل كلها مضافاً إليها وزن(فعَلن وفعْلن) ، فما بالك في تكرار ألفاظ الفاصلة أحياناً أو تشكيلات اللازمة أحياناً أخرى ؟
الفواصل المطلقة الحركة بالفتح في سورة مريم :
ما عدا سبع آيات فواصلها مقيدة (بحرف ساكن ) في الوقف .. تضطرد بقية فواصل السورة على حركة الفتح ، قسمها الأكبر /66/ ست وستون فاصلة مقفاة بالياء ( زكريّا – خفيّاً – شقيّاً ) ، و/24/ أربع وعشرون منها مقفاة بحرف الدال ( جُنداً – مردّاً – وَلَداً ) ، أي تباين المخرج الصوتي قليلاً بين حرف الياء والدال ، ولكن جمعت بينهما حركة الفتح المتحولة إلى ألف ، ووحدت الانطباع الموسيقي العام للسورة والفواصل.
وتغير حرف الروي بين الياء والدال منسجم مع تغير الموضوع في كل من القسمين ، فالقسم الأول الذي على حرف الياء يغلب عليه الجانب القصصي ( قصة زكريا ومريم وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ) . وفي هذه القصص من العواطف النبيلة ، والانفعالات الشريفة ، والنداءات الندية اللطيفة ، ما يلائمها هذه الفواصل الرخيّة الممتدة الصوت : ( كهيعص . ذِكرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريَّا ، إذ نادى ربَّهُ نِداءً خفيّاً . قال: ربِّ إني وهنَ العظمُ مني ، واشتعلَ الرأسُ شيباً ، ولم أكنْ بِدُعائكَ ربِّ شقيَاً . وإني خِفتُ المواليَ من ورائي ، وكانتِ امرأتي عاقراً ، فهب لي من لَدُنكَ وليّاً ، يرثني ، ويرثُ من آلِ يعقوبَ ، واجعله ربِّ رَضِيّاً )(الآيات 1 – 6) .
على حين كان القسم الثاني يغلب عليه الحجاج أو الجدال العقلي من جهة ، وأسلوب الترهيب للمعاندين من جهة ثانية ، ما يناسبه موسيقى الدال ، والحروف المضعفة بالتشديد في بعضها أيضاً ( مردّاً – ضدّاً – عَدّا - إدّاً - هدّاً - عدّاً – وُدّاً - لُدّاً ) ( مريم : الآيات 76- 82 – 84 – 89 – 90 – 94 – 96 – 97) .
أما المقطع الذي جاءت فواصله مقيدة بحرف السكون ، المردوفة بالياء أو الواو (يَمترونْ- مستقيمْ ) المؤلف من سبع آيات ، تعترض القسم الأخير من القسم القصصي ، الذي على الياء المفتوحة ، فقد فطن الدارسون لحكمة تغير الفاصلة (أي حرف الروي) من حركة فتح إلى سكون مسبوق ، بردف ياء أو واو ، فقد قال صاحب الظلال : ( .. إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى بن مريم ، والفصل في قضية بنوته . فيختلف نظام الفواصل والقوافي .. تطول الفاصلة ، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية ، على النحو التالي : ( ذلك عيسى بنُ مريمَ قولَ الحقِّ الذي هم فيه يَمترون . ما كانَ للهِ أن يتخذَ ولداً ، سبحانَهُ ، إذا قضى أمراً ، فإنما يقولُ لهُ : كنْ فيَكون..) حتى إذا انتهى التقرير والتفصيل ، وعاد السياق عادت القافية الرخية المديدة ( واذكرْ في الكتابِ إبراهيمَ إنه كانَ صِدّيقاً نَبيّاً . إذ قال لأبيهِ : يا أبَتِ لِمَ تعبدُ ما لا يسمعُ ، ولا يُبصِرُ ، ولا يُغني عنكَ شيئاً ...) .(6)
بقي أن نشير إلى فواصل قليلة ذات انفراد محدود ، لا يغير الصورة الكلية لمجموع الفواصل في هذه السورة ، بل يغنيها ويثريها ، بمدلول الحرية النسبية التي تمتعت بها الفواصل ، ثم بانسجامها في سياقها الموضعي والكلي على حدٍّ سواء .
في القسم الأول من السورة ، وهو القسم القصصي ، الذي جاءت فواصله على الياء المفتوحة انفردت أربع فواصل بكلمة (شيئاً ) :
( قال : كذلكَ قالَ ربُّكَ ، هو عليَّ هيِّنٌ ، وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئاً )
( إذ قال لأبيهِ : يا أبتِ لِمَ تعبدُ ما لا يسمعُ ، ولايُبصرُ ، ولا يُغني عنكَ شيئاً )
( إلا من تابَ ، وآمنَ وعملَ صالحاً ، فأُلئكَ يدخلون الجنّةَ ، ولا يُظلمونَ شيئاً )
( أو لا يَذكرُ الإنسانُ أنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يَكُ شيئاً ) (الآيات 9 و 42 و 60 و 67) .
فهذه الفواصل المطلقة بحرف الفتح كمعظم فواصل السورة ، تتمتع بمناسبة قوية مع السياق الموضعي لكل منها أولاً ، وثانياً تكرارها في مواضع متفرقة أربع مرات يزيد في توكيد موسيقاها بين الفواصل الأخرى ، فضلاً عن دلالاتها المعنوية ، وثالثاً هناك قراءة لـ (حمزة) ، تسهل الهمزة في الوقف عليها ، فتتحول إلى ياء ( شيّاً ) ، ورابعاً سبقت كل من الهمزة والياء المحركة بالفتح .. بياء ساكنة ، تجمع بينهما ، وتقرب المخرج الصوتي لهما ، وهو مخرج (النطع) أيضاً .
وفي القسم الثاني من السورة ثلاث فواصل ذات انفراد محدود على حرف الزاي :
(واتخذوا من دونِ اللهِ آلهةً ليكونوا لهم عِزّاً )
(ألم تَرَ أنّا أرسلنا الشياطينَ على الكافرينَ تَؤُزّهم أزّاً )
( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هل تُحسُ منهم من أحدٍ ، أو تَسمعُ لهم رِكزاً ) (الآيات : 81 و 83 و 98) .
جاءت هذه الفواصل في سياق الفواصل التي على الدال التي مخرجها (النطعي ) مجاور لمخرج الزاي (الأسلي ) ، يضاف إلى ذلك تشديد الزاي في فاصلتين منها ، فضلاً عن حركة الفتح الجامعة وملاءمة كل منها لسياقها الموضعي .
التشكيلات الفنية في فواصل سورة مريم :
أول ما يلفت النظر اجتماع فواصل هذه السورة في ثلاث مجوعات أو مقاطع :
المقطع الأول ، ويضم /67/ سبعاً وستين فاصلة ، كلها مختومة بحرف الياء المشدد المفتوح الحركة ( زكريّا – خفيّاً – شقيّاً ) .
المقطع الثاني ، ويضم /24/ أربعاً وعشرين فاصلة ، مختومة بحرف الدال المفتوح الحركة (جُنداً – مردّاً – وَلَداً ) .
المقطع الثالث، ويضم /7/ فواصل ، مختومة بميم أو نون ساكنة ، ومردوفة بحرف صوتي ياء أو واو (يمترون – مستقيم ) .
سبق أن تحدثنا عن مباينة فواصل المقطع الثالث لفواصل السورة الأخرى ، ولاسيما فواصل المقطع الأول الذي وردت في أخرياته .
وننبه إلى أن حركة الفتح التي جمعت بين المقطعين الأول والثاني لم تصل إلى دمج فواصل المقطعين ، كما دمجت فواصل سورة (الإسراء) وفواصل سورة (الكهف) برغم تباين المخارج الصوتية لحروف الروي في السورتين المذكورتين .
لقد حقق اجتماع رويّ الياء في المقطع الأول ، وروي الدال في المقطع الثاني نوعاً من الانسجام الداخلي لكل منهما يناسب المعاني والعواطف والأفكار أشرنا إليها في حينها .
أما في سورة (الإسراء) فقد كان لحروف الردف من ياء أو واو ( وكيلاً – شكوراً ) دور مساعد في إضفاء الوحدة الصوتية على فواصلها ، فضلاً عن حركة الفتح المتحولة إلى ألف .
أما في سورة ( الكهف) فإن الوزن فعْلن وفَعَلن ، فهو الذي قام بالدور التوحيدي أيضاً بين فواصلها بالإضافة إلى حركة الفتح .
ومما يسترعي الانتباه أيضاً وفرة أنواع التكرار الفني في فواصل هذه السورة ، من تكرار كلمة الفاصلة ، إلى تكرا عبارة ، وصولاً إلى تكرار لازمات ، وقد سبق أن درسنا نماذج لها .
الفواصل المطلقة الحركة بالفتح في سورة طه :
معظم فواصل هذه السورة أي /113/ ثلاث عشرة ومئة فاصلة جاءت بروي متحرك بالفتح ، وأقلها أي/20/ عشرون بروي متحرك بالكسر ، و/2/ فاصلتان منفردتان ، إحداهما بالضم ( ضلّوا) ، وأخرى مختومة بضمير (غشيَهم ) .
أما الفواصل التي على الفتح فثلاثة نماذج :
النموذج الأول : المختوم بألف أصلية أو المقصورة ، تعدادها /87/ سبع وثمانون فاصلة .
النموذج الثاني : المختوم بألف غير أصلية ، أي متحولة عن حركة الفتح ، تعدادها /22/ اثنتان وعشرون فاصلة .
النموذج الثالث : المختوم بألف غير أصلية أي متحولة عن حركة الفتح ، لكنه مسبوق رويه بحرف ردف (ياء) (بصيراً ) ، تعدادها /4/ أربع فواصل .
بلا شك إن حركة الفتح جمعت ووحدت بين هذه النماذج الثلاثة في سورة واحدة ، وربما جاورت فيما بينها أحياناً ، ولكن الأمانة تقتضينا التنبيه إلى التشكيلات التي وردت ضمنها هذه الفواصل ، مما يكشف عن الفروق الصوتية الطفيفة في كل منها ، وعن الأسرار الموسيقية في توزيعها وطرق توظيفها . فالفاصلة المقصورة التي هي أكثرها ترداداً نجدها موزعة في نواحي السورة كلها بدءاً ووسطاً وختاماً ، كأنها الإطار أو المادة الأولى للفواصل ، تتخللها مجموعات أو مقاطع أخرى مثل الفواصل ذات الألف غير الأصلية وذات الياء المتحولة عن حركة كسر وغيرها.
بل إن الفاصلة المختومة بألف غير أصلية متوضعة في أربعة مواضع : اثنتان منهما مفردتان ( نفعاً ) (الآية 89) و (بصيراً ) (الآية 125) ، وموضعان آخران يشكل كل منهما مقطعاً ، الأول بحرف ردف على الياء ( كثيراً – كثيراُ – بصيراً ) ( الآيات 33 و 34 و 35 ) ، الثاني بغير ردف ( نسفاً – عِلماً – ذِكراً ) يضم /19/ تسع عشرة فاصلة ، الآيات ( 97 – 115) .
أما الفاصلة التي على حركة الكسر المتحولة إلى ياء ، فقد توضعت في /6/ ستة مواضع ، ثلاث منها منفردات ( ذكري – عيني – أمري ) ( الآيات 14 – 39 – 90) ، وثلاث منها مجموعات : الأولى /8/ ثماني فواصل ( الآيات 25- 32) ، الثانية /2/ فاصلتان : (الآيات 41و 42) ، الثالثة /4/ أربع فواصل ( الآيات 93-96) .
والتعليل لهذه التلوينات الطفيفة وغير الطفيفة هو احتفال الأسلوب القرآني بالسياق الموضعي لكل فاصلة ، نضرب على ذلك مثلاً الانتقال من الفواصل المقصورة ( طغى ...) إلى فواصل الياء ( صدري – أمري لساني – لساني ) هو مقابل وموازن لانتقال الخطاب من الله تعالى للنبي موسى إلى جواب موسى نفسه على الله تعالى ، الذي يناسبه أن يتكلم موسى بضمير المتكلم أي الياء ، فقانون (التغير) الجمالي هو قانون آخر إذا تحققت صدمة فنية في التغيير ، كالصدمة الفنية في قول النابغة الذبياني :
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم بهنَّ فلولٌ من قِراعِ الكتائبِ
إذا تأملت قليلاً في هذا العيب المنسوب إلى سيوف القوم تكتشف أنه مزية ممدوحة وليس عيباً ، لأنه يدل على كثرة خوضهم للحروب أي على شجاعتهم .
لقد آن الأوان للوقوف عند فاصلتين منفردتين انفراداً واضحاً ، لأن الانفراد بحد ذاته يكسر السياق العام ، ويستدعي مسوغاً فنياً له إن كان صدمة سعيدة .
الفاصلة الأولى ( غشيَهم ) في قوله تعالى :
( ولقدْ أوحينا إلى موسى أن أسرِ بِعبادي ، فاضرِبْ لهم طريقاً في البحرِ يَبَساً ، لا تخافُ دَرَكاً ، ولا تخشى .
فـأتَبَعَهم فرعونُ بِجنودِهِ ، فغشيَهم من اليمِّ ما غشيَهم .
وأضلَّ فرعونُ قومَهُ ، وما هدى ) ( الآيات 77-79 ) .
العلاقة الموضعية بين كلمة الفاصلة (غشيهم) وبين السياق الذي وردت فيه .. علاقة واضحة ( غشيهم.. ما غشيهم ) من جهة ، والحاجة إلى إبراز الحادثة مع التهويل في غموض ما حصل للترهيب (ما غشيهم ) بجعل (الغشيان ) نفسه كلمة الفاصلة ، لأنها آخر ما في الآية والوقع في النفس والسمع من جهة ثانية ، كل ذلك يستدعي المباينة للتنبيه والتأثير النفسيين .
الفاصلة الثانية (ضلّوا) :
( ولقد قال لهم هارونُ من قبلُ : يا قومِ إنما فُتنتم بهِ ، وإنَّ ربَّكُمُ الرحمنُ ، فاتَّبِعوني ، وأطيعوا أمري .
قالوا : لن نَبرَحَ عليهِ عاكفينَ ، حتى يَرجِعَ إلينا موسى .
قال : يا هارونُ ما منعَكَ إذ رأيتَهم ضلُّوا .
ألا تتّبعَني ، أفعصيتَ أمري .
قال: يا ابنَ أمَّ ، لا تأخذْ بِلحيتي ، ولا برأسي ، إني خشيتُ أن تقولَ فرَّقتَ بين بني إسرائيلَ ، ولم ترقبْ قولي ) ( الآيات 91- 94 ).
في انفراد كلمة الفاصلة ( ضلُّوا ) مسألتان في الأقل : إحداهما صوتية ، وهي موقعها في مكان الانتقال من فواصل مقصورة على الفتح إلى فواصل على الكسر ، وهي نفسها على الضم ، ومخرج الواو والياء ، أو الضم والكسر متقاربان .
المسألة الثانية دلالية معنوية : أي إن حال الضلال أمر مهول استفظعه النبي موسى من قومه ، وهو يناسبه الإبراز في الفاصلة أو الوقوف عليه ، مما يستدعي كسر السياق والانتقال من فاصلة مطلقة بحركة فتح إلى فاصلة بحركة ضمّ .
ثم إن السياق الذي وردت فيه فواصل الفتح والضم والكسر .. سياق حواري ، وما أحوج الحوار بين شخصيات متباينة أن يتناسق معه الكلام أو فواصل الكلام لأهميتها .
التشكيلات الفنية في فواصل سورة طه :
بالإضافة إلى المجموعات أو المقاطع التي تحدثنا عنها ( فاصلة الألف المقصورة تشكل إطاراً أو مهاداً ، وفواصل الألف غير الأصلية وفواصل الياء والفاصلتان المنفردتان .. تشكل تنويعات على ذلك المهاد أو الإطار ) .. نصادف تكرار كلمة الفاصلة تكراراً يقتضيه الموضوع العام للسورة أو السياق مثل كلمة (موسى) ، وهي اسم النبي الذي تحدثت عنه السورة مطولاً ، ومثل ألفاظ ( هُدى- اهتدى ) ( طغى – يطغى ) من الألفاظ التي ترتبط بموضوعات السورة وأفكارها الرئيسة .
في كل من سورة (الكهف) وسورة (مريم ) اللتين تعددت فيهما القصص ، فنشأ عن ذلك ظهور اللازمات الموسيقية من آيات أو بعض آيات ، تكرر معها الفواصل والعبارات ، نجد قصة النبي موسى وحدها استغرقت معظم المساحة في سورة (طه) ، على حين جاءت بعدها قصة النبي (آدم ) مع إبليس قصيرة وفي خواتيم السورة ، وهذا لم يمنع من ظهور شكل تعبيري يقارب اللازمة في ثلاث آيات في خواتيم السورة ، تقع الأولى منها على رأس مقطع مؤلف من /14/أربع عشرة آية ( الآيات 99-112) ، والثانية تقع على رأس مقطع مؤلف من /13/ثلاث عشرة آية ( الآيات 113- 126) ، والثالثة تقع على رأس مقطع مؤلف من /9 / تسع آيات .
أول ما يسترعي الانتباه في حجم هذه المقاطع الثلاثة : أنها تتسلسل من حيث تقليل عدد الآيات أو الفواصل ، بما يوحي بخفوت الصوت أو الموسيقى في نهاية الكلام ، كما هو معلوم :
( كذلك نقّصُ عليكَ من أنباء ما قد سبقَ ، وقد أتيناكَ من لًَدُنّا ذِكْراً )
( وكذلك أنزلناهُ قرآناً عربياً ، وصرَّفنا فيهِ من الوعيدِ ، لعلهم يتقون ، أو يُحدِثُ لهم ذِكْراً )
( كذلكَ نَجزي منْ أسرفَ ، ولم يؤمنْ بآياتِ ربِّهِ . ولَعذابُ الآخِرةِ أشدُّ وأبقى )
ويسترعي انتباهنا أيضاً تشابه البدايات في الآيات الثلاث ( كذلك – كذلك – كذلك ) ، مع تشابه صيغ الجمل في كل آية ، والمدلول العام لكل منها . وهذا له دوره في إبراز معان معينة ، وفي تماسك أجزاء السورة ، والقسم الختامي منها بشكل خاص ، لأن صيغ هذه اللازمات ومدلولاتها ، مع مقاطعها ، أقرب لأغراض التعليق أو الختام للقصتين (قصة موسى وآدم ) وللأفكار والموضوعات التي كانت مدار السورة .
فواتح السور :
مما يتصل بالفواصل فاتحتا سورتي (مريم ) و( طه) ، لأن كلاً منهما وردت حروفاً ، تعد كل منهما فاصلة ( كهيعص ) ( طه) .
فاتحة سورة (مريم ) تقرأ كما يلي :
( كافْ ها يا عينْ صادْ .
ذِكْرُ رحمةِ ربّكَ عبدَهُ زكريّا.
إذْ نادى ربَّهُ نداءً خفيّاً ) ( الآيات 1 – 3)
نلحظ في كلمة الفاصلة الأولى ، أي حروف الافتتاح أنها تبدي تناغماً موسيقياً مع الفواصل التي تليها ، وهي على الألف المقصورة ، التي هي معظم فواصل السورة ، فضلاً عن كون حركة الفتح هي الصوت العام للفواصل .. وذلك من خلال توالي حرف المد الألف : ( كاف- ها – يا - صادْ ) من جهة ، ووقوع المدّ في آخر حرف منها ( صادْ) من جهة ثانية ، والسكون بعدها للدال يكاد يخفي صوت الدال ويُبقي على صوت المدّ (الألف) .
أما افتتاح سورة(طه) فيقرأ ، كما يلي :
( طا ها .
ما أنزلنا عليكَ القرآنَ ، لِتَشقى .
إلا تَذكِرةً لِمَنْ يَخشى . ) ( الآيات : 1-3 ) .
فحرف الألف في الـ ( ها ) واضح التلاقي مع الألف المقصورة في الفواصل التالية ، كما أن مد الألف لـ ( طا ) يصب في المجرى نفسه ، ويمهد مع ما بعده في استقبال حروف الألف التي سوف تتتابع في فواصل السورة . وبالمناسبة إن قراءة لحروف الفواتح الأخرى من هذه الزاوية قد تضيء جوانب لم يفطن لها الذين تحيروا في تفسيرها .
دلالة الفتح في فواصل القرآن :
ذكرنا سابقاً أن الفواصل المقيدة بسكون هي النموذج الغالب على الفواصل (مؤمنونْ – مستقيمْ ) ، فقد بلغ تعدادها / 5197/ فاصلة ، على حين قلت الفواصل المطلقة الحركة ، وانحصرت أو كادت بفواصل مطلقة بحركة الفتح ، ولم تزد على /916/ فاصلة .
مع ذلك نتساءل : ما تفسير هذا الحجم من فواصل الفتح ، وعلام يدل ؟
ذكرنا من قبل أن معظم السور التي جاءت فواصلها على حركة الفتح أو غلبت عليها أو وردت فيها إنما هي سور مكية ، أي بمقدار / 16/ سورة مقابل/5/ سور مدنية .
ومن العلوم أن من سمات القرآن المكي – ولاسيما الجزء الثلاثين ، أو سور المفصل – أنه يحتشد بألوان من الصيغ الموسيقية العالية النبرة أو الطبقة : من قصر الآيات والعبارات ، وتماثل الفواصل أو التشديد في حروفها ( الحاقَةْ – الصاخَةْ – الطامَّةْ ) ، والتكرار الفني من تجانس ولازمات ، كلها تتآزر في مساوقة وسائل الإقناع العقلية والوجدانية على حدّ سواء ، وهو أسلوب بياني يختلف عن أسلوب آيات التشريع المدنية الطويلة الهادئة ، ذات الفواصل الساكنة الروي ، المردوف بياء أو واو .
والفواصل المطلقة الحركة بالفتح هي جزء مهم من القرآن المكي ، ينسجم مع خصائصه الأسلوبية ، ومضموناته الفكرية ، ومع المعركة الفكرية السياسية الاجتماعية التي كان يخوضها النبي محمد عليه السلام و من معه من الصحابة ، في بيئة عربية تحتفي بالشعر أيما احتفاء ، ذلك الشعر الضاج الصاخب بقوافٍ رنانة مطلقة الحركة بالفتح وغير الفتح . فقوافي المعلقات السبع – وهي رمز الشعر العربي – كلها مطلقة الحركة : أربع منها بحركة الكسر ( حومَلِ – اليَدِ – المتثلَّمِ – توهُّمِ ) ، واثنتان بالضمّ ( رِجامُها- الثواءُ ) ، وواحدة بالفتح المتحولة إلى ألف غير أصلية ( الأنْدَرِينا)(7) ، يضاف إلى ذلك أن ثلاثاُ منها مردوفة بحرف مدٍّ من ألف أو ياء ( رِجامها – الأندرينا – الثواءُ ) ، والردف يزيد في الوقع الموسيقي أو الطبقة الموسيقية .
فهناك ثلاثة عوامل اقتضت بروز الفواصل المطلقة الحركة بالفتح للتأثير فالمنافسة والإعجاز :
1 – مضمونات القرآن المكي العقدية ( الاعتقادية ) من إيمان بالله وحده وباليوم الآخر والملائكة والنبوة والقدر والجنة والنار ، وخلع ما سوى ذلك من وثنيات وخرافات وضلالات .
2 – المعركة الجدالية بين الصف المؤمن والصف المشرك المعاند .
3 – مألوف الشعر العربي الذي هو ذروة بيانهم ومحطّ أنظارهم .
الخلاصة :
إن الفواصل المطلقة بحركة الفتح ذات شأن في فواصل القرآن عامة والقرآن المكي خاصة .
الفواصل المطلقة بالفتح لم تميز بين الألف المقصورة أو الألف الممدودة المتحولة عن حركة الفتح ، فقد جمعت بينها في سورة واحدة ، وأحياناً جاورت بينهما في فاصلتين متتابعتين .
لم يكن دمج الألف المقصورة والممدودة مطلقاً أو سائباً ، فقد ظهر من خلال مجموعات أو مقاطع مستقلة لكل منهما ، أو مراعياً للعلاقة الموضعية في السياق لكل فاصلة .
وهناك عاملان آخران ساعد كل منهما على اندماج الألفات أيضاً ، الأول : هو حرف الردف قبل الروي بالياء أو الواو . الثاني وزن فعْلن أو فعَلن.
ومما زاد في جمال الفواصل المطلقة الحركة تشكيلات فنية ، تندرج في قانوني (التكرار أو التشابه ) الفني و( التغير) المعبر عنه بالصدمة الفنية السعيدة .
أما التكرار فقد صادفنا أنواعاً منه في تكرار كلمة الفاصلة ، أو تكرار عبارة أو صيغة معينة ، أو في تكرار جملة أو تعقيب ، وأخيراً في تكرار لازمة ، تشغل بعض آية أو آية كاملة . واللازمة قد تكون في ختام المقطع (مجموعة آيات) ، أو في رأس المقطع أحياناً .
ومن حيث الاصطلاح يمكن أن ندرج الفواصل المطلقة الحركة بالفتح ضمن الفواصل (المتقاربة) ، على الرغم من أهمية حركة الفتح – في رأينا - واقترابها من صيرورتها رويّاً حقيقياً .
أما قانون (التغير ) الجمالي ، فقد رأيناه في الفواصل ( المنفردة ) أي غير (المتماثلة) وغير ( المتقاربة ) ، وفي التنويعات التي طرأت على فواصل الفتح (المتقاربة ) نفسها أيضاً.
الهوامش:
(1)– الإتقان في علوم القرآن – السيوطي – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – مطبعة المشهد الحسيني بالقاهرة – 1961م – 1/143.
(2) – المعجم المفصل (في علم العروض والقافية وفنون الشعر ) – د. إميل بديع يعقوب – دار الكتب العلمية – بيروت – ط1 : 1411هـ = 1991 م – ص : 355 .
(3) – الفاصلة في القرآن – محمد الحسناوي – دار الأصيل – حلب – ط1 : 1397هـ = 1977م – ص : 350 .
(4) – المعجم المفصل ( في علم العروض..) – ص : 368- 369 .
(5) – التعقيب وأثره في إعجاز القرآن – عكاب طرموز علي الحياني – رسالة جامعية غير منشورة – جامعة الأنبار في العراق – ص : 16.
(6) – في ظلال القرآن –سيد قطب – دار الشروق – القاهرة وبيروت – ط17 – 1412هـ = 1992م – ج16/2300 - 2301.
(7) – مطالع المعلقات السبع هي :
مطلع امريء القيس : قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ بسِقْطِ اللِوى بينَ الدَخولِ وحَوملِ
مطلع طرفة ابن العبد : لِخولةَ أطلالٌ ببرقةِ ثهمــــــــدِ تَلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ
مطلع زهير بن أبي سلمى : أمن أ ُمِّ أوفى دارةٌ لم تُكلَّــمِ بِحَومــــانةِ الدَّرّاجِ فالمُتثلَّـــــــمِ
مطلع لبيد : عفتِ الدّيـــــــــــــارُ محلٌُّها فمُقامُهــــــــــــا بِمِنىً تأبَّـــد غَولُها فرِجامُهـــــا
مطلع عمرو بن كلثوم : ألا هُبّي بِصحنِكِ فاصبَحينـــــــا ولا تُبقيي خمورَ الأندَرينــــــــا
مطلع عنترة : هل غــــــــــــادرَ الشعــــراءُ من متردَّمِ أم هل عرفتً الدّارَ بعدَ تَوهُّـــمِ
مطلع الحارث بن حلّزة : آذنتْنــــــــــــا ببينِــها أسمــاءُ رُبَّ ثــاوٍ يُمــلُّ منـــــــه الثَّواءُ
شرح المعلقات السبع – للزوزني – دار الجيل بيروت – ص : 7 و 61 و99 و 125و165 و 191 و 216 .