الحضور والغياب

د.محمد سالم سعد الله

الحضور والغياب

دراسة نقدية في قصص الفهادي القصيرة  

د.محمد سالم سعد الله

[email protected] 

يحمل النتاج الإبداعي بصمات فنيته من خلال إدراكه لجوانب عدة تتعلق بمسيرة الإبداع ، وطرائق تشكله ، وقد يجنح الناص إلى تشكلات رمزية مكثفة غرضها احتضان سلم من الدلالات النفسية الواقعية حيناً ، والاجتماعية أو السياسية حيناً آخر .

وقد منحت الأجناس الأدبية النثرية مساحة واسعة للتعبير عن تلك الدلالات ، وتظافرت العناصر القصصية في بنائها السردي ، لتقدم نتاجاً يُوسم بالإقناع والإمتاع ، ويحقق عنصري الدهشة والرغبة .

تكتنز قصص الفهادي القصيرة معطيات دلالية مهمة ، إنطلاقاً من إمكانياتها في معالجة مفارقات الواقع ، مروراً بتمثل الصراع بين الثنائيات الأزلية : ( الحق والباطل ، الحقيقة والزيف ، الخير والشر ، النور والظلام ، الأصيل والهجين ، ... ، الخ ) ، ووقوفا عند مشاكسة القارىء من خلال امتلاك النهايات لأبعاد فكرية ، لا تخضع لبدائل مناسبة للتغيير أو للإصلاح أو للتطوير ، وفي ذلك تحفيز للذهنية المُدرِكة بمشاركة العمل في إيجاد صيغ الانقلاب والتغيير للمَشَاهد التي تصطبغ بالسلبية في المعروض النصي ، بمعنى آخر : إنّ النهايات في نصوص الفهادي لا تمتلك مدلولها بوصفها ( نهاية ) ، بل هي ( بداية ) جديدة يمكن أن تنطلق لأبعاد أخرى قد تجيء وقد تتلاشى .

* حضور الأنثى وغياب الآخر :

يمثل العنوان مفتاحاً إجرائياً ومدخلاً إستراتيجياً لكشف ألاعيب النص من جهة ، وفتح إمكانيات التخييل الذي عمد إلى لفِّ النتاج كلّه من جهة أخرى ، فضلا عن إمكانيته ـ أي العنوان بوصفه علامة ـ في تقديم معطيات دلالية ينتفع منها في عملية مواجهة النص وتحليله ، وكشف جمالياته .

تصطبغ عنوانات قصص الفهادي القصيرة بمخاطبة الأنثى ، أو على الأقل الحديث بضمير الأنثى ، ثم محاولة تقديم موصوفات إيجابية تقترن بها ، لذلك يمكننا القول : أنّ الأنثى تشكل ثيمة مركزية ، ونسقاً مطرداً يلفّ دلالة النص كلّه .

وقد مثّل حضور الأنثى إمكانية رمزية في الإحالة إلى معطيات عدة ، تبدأ مع الوطن والبيئة والعروبة والأرض والحبيبة ، فـ ( سيدة الأبراج ، وسيدة النور ، والراية ، والطريدة ، والحورية ، والمعلمة ، .. ) كلها دوال تشير إلى المعنى الإيجابي المحمّل بها ، فضلا عن أنها توحي بمعاني الرفعة والمنزلة الكبيرة ، وإنها تكون على الدوام في معرض الطلب من الآخر ، وفي ميدان المنافسة ، واقتناص السبل اللازمة للحصول عليها .

إنّ الأنثى التي تكتسب كلّ تلك المعاني الإيجابية في الإجراء الأول للنص ، تُكسِب العمل وتلفّه بصبغة أنثوية ، وتشير إلى حنين النسق إلى تمثلاتها بشكل دائم ، فطبيعة الحرمان الذي يعيشه النسق الباني لتشكلات النص ، ألقت بظلالها على إمكانية حضور الأنثى وغياب الآخر بشكل مستمر ، وإذا عمد النسق بإبراز الآخر بوصفه الضمير المفارق والمجسّد ، فإنه يكون عن طريق الأنثى ، فثنائيات : ( سيدة النور والفرس الأصيل ، الجواد والراية ، البائس والطريدة ) جاءت أساسا لتعلي من شأن الأنثى ، حتى وإن بدت مقترنة بالآخر ، فلولا الأنثى لما كان الآخر .

* حضور الوصف وغياب السرد :

تمتاز قصص الفهادي القصيرة بطغيان الوصف وغياب السرد ، بمعنى التركيز على معطيات دلالة الوصف في مقابل الحدّ من بروز العناصر القصصية الأخرى ، كالشخصية والحدث والزمان والمكان ، وفي هذا مثلّت الكتابة القصصية هنا نموذج السرد المتوقف ، انطلاقا من قدرة الناص على عرض جملته الخيالية في تقديم الأشياء ، وممّا ذكر يمكن القول : أنّ قصص الفهادي القصيرة ما هي إلا قصص الوصف القصيرة .

وبما أن النصوص قد بدت ذات نسق واحد في التأليف والتركيب ، لذلك فإننا سنتخذ من نص واحد نموذج للاشتغال ، وسيكون نص الجواد والراية ميدانا للقراءة النقدية ، منطلقين من إمكانية دلالية تحيل بشكل مستمر إلى تمثل الصراع الأزلي بين الشجاع والغادر ، وبين المتميز والمتربص ، وبين من يحسن الرمية ومن يتقن الكلام ، وبين الصالح والطالح ، وبين العامل والقاعد .

لقد ألقت الثنائيات السابقة حيوية درامية في النص القصصي ، ونقلته من حالة تقديم الأحداث إلى حالة صراع أزلي ، وهنا ينهض الوصف بتقديم ممكنات دلالية ، تمتزج فيها الفنون البلاغية بالوقائع الذهنية .

ومن جهة أخرى حاول النص تقديم الوصف التعبيري ، والتزويق الفني أحيانا ، لينهض بالجملة السردية التي عانت من غياب الحوار ، وبروز الشخصية الواحدة المنفردة في العمل كلّه تلك الشخصية التي لا ترى إلا نفسها ، ولا تقدم الوقائع إلا من خلالها ، فهي العارفة بكلّ شيء ،  والمسيطرة على كلّ الأفعال ، والمتقنة لفن الكلام .

أُستُهِل نص : ( الجواد والراية ) ، بعبارة : ( إلى وفاء إدريس وامرأة لم تطلع على مثلها الشمس ) ، وتوحي بتصورات رمزية تتجه من المفرد إلى المجموع ، ومن الشخص إلى المجتمع ، ومن الأنا إلى النحن ، فوفاء إدريس ليست إلا نموذجا للمرأة العربية المربية والمضحية والداعية التي تقدم بلا ثمن ، وتعطي بلا مقابل ، إنها الكائن الذي يروي الأرض بالأبطال ، وهي التي تمنح الوطن الرجال ، إنها المرأة العربية المسلمة ، نموذج فريد للبذل والعطاء .

ومع إمكانية طغيان الوصف واحتكاره لنهج النسق هنا ، فقد مثّل عامل سكون دلالي ، لأنّ وحدات اللغة جاءت ـ وبشكل مطرد ـ بصيغ الجمل الاسمية التي تحتفظ بدلالتهـا ، وترفض اللجوء ، إلى التحول والتغيير ، وقد منح هذا البيان حضور الوصـف ـ المتجه دوما نحو السكـون وغياب الحوار ـ إلى دعم الحدث ، والعمل على تصاعده ، ويمكن القول : أنّ طبيعة الدلالة التي أرادت القصة إيصالها لا تحتاج إلى الانقلاب على سكونية الإيقاع ، أو إبطاء سير الأحداث ، إنما كانت متقنة لفن إبلاغ المعطى بأقل جهد من القراءة ، بوساطة جمل اسمية منسابة ،  وأنساق أفقية غير ملتوية إنزياحا .

إن الكتابة القصصية التي تنحو منحى الوصف ، وتعمد إلى تغييب الحدث ، وتقزيم الشخصية ، هي كتابة لا تمجد إلا مبدعها ، ولا تقدم إلا الشخصية التي خيمت على مجريات العمـل ، وأمسكت ببدايته ، ولم تتح فرصة لتشكيل نهايته .