لا تصالح على الدم حتى بدم

لا تصالح على الدم حتى بدم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

ينقل لنا التاريخ - أو التاريخ سطوري أي التاريخ المتلبس بالأساطير - أن من أشهر الحروب التي قامت في الجاهلية «حرب البسوس» التي تواصلت لأربعين عام 494 - 534م) بين قبيلتيٍ بكر وتغلب ابني وائل.)

وترجع أسباب الحرب إلي أن كليبًا الزعيم التغلبي قتل ناقة للبسوس خالة جساس بن مرة الزعيم البكري, فقتل كليبًا, فاشتعلت نيران الحرب بين القبيلتين, ونهض الزير سالم (المههل بن ربيعة) لقيادة الحرب ضد قبيلة بكر للأخذ بثأر أخيه كليب من جساس بن مرة.

وتحولت هذه الحرب إلي «ملحمة شعبية» بأسلوب مزيج من الفصيحة والعامية, وفيها أن «جساس» قتل «كليب» غيلة وغدرًا خارج العمار بطعنه برمح في ظهره, فغمس كليب إصبعه في دمه, وكتب علي صخرة كبيرة «لا تصالح...» موجهًا الوصية إلي أخيه وولي دمه " الزير سالم".

* * *

استغل الشاعر أمل دنقل (1940 - 1983) هذه الواقعة الجاهلية التاريخٍسطورية - وقد بدأت إرهاصات كامب ديفيد, والصلح مع الكيان الصهيوني في الظهور - فنظم قصيدته الملحمية (الوصايا العشر) منطلقًا من الوصية أو العبارة المحورية المكررة (لا تصالح), التي سجلها كليب علي الصخرة مرات متعددة مقدمًا - في كل مرة - حيثية للنهي عن الصلح تختلف عن الأخري. فهو يستهل القصيدة بقوله:
لا تصالح
ولو منحوك الذهبْ
أتري حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل تري?
هي أشياء لا تُـشترَى.
نعم فمال الدنيا لا يعوض عن الكرامة المهدرة, والشرف المنتهك, ولا يحول الغدر أمانة, ولا الخيانة وفاء.
ثم يذكّر كليب أخاه بسنوات الطفولة البريئة, ويسأل:
هل يصير دمي بين عينيك ماء?
إنها الحربُ
قد تثقل القلبَ
لكن خلفك عارَ العربْ
لا تصالـح
ولا تتوخَّ الهرب.
   ويخشي كليب أن يتأثر أخوه بدعاة السلام أو الاستسلام الذين يدعون إلي حقن الدماء, وحصر الثأر في القاتل, وخصوصًا أن  "بكر"  و«تغلب» أبناء عمومة, وهي صلة يجب أن يكون لها اعتبار, فتأتي وصية كليب لتدمر هذا الادعاء:
لا تصالح علي الدم حتي بدم
لا تصالح, ولو قيل: رأس برأسْ.
أكل الرءوس سواء?
.........
سيقولون
ها نحن أبناء عمْ
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلكْ
واغرس السيف في جبهة الصحراء
إلي أن يجيب العدم.
ثم يذكّره بأحزان صغيرته «اليمامة» التي حرمها جساس أباها بالغدر والخداع:
لا تصالح
فما ذنب تلك اليمامةْ
لتري العشّ محترقًا فجأة
وهي تجلس فوق الرماد??
ويحذر أخاه من الاستسلام لدعاة الاستسلام, ولو توجوه بتاج الإمارة:
كيف تخطو علي جثة ابن أبيك?
وكيف تصير المليك
علي أوجه البهجة المستعارة?
    وقد يسلك دعاة الصلح الاستسلامي مسلكًا آخر يعتمد علي ركيزتين: الأولي: تذكيرك بأحزان جليلة بنت مرة - زوجة كليب, ولو قتلتَ شقيقها جساس بن مرة لتضاعف حزنها. أما الركيزة الثانية فهي ضرورة استعمال الدهاء لأخذ ما يمكن أخذه في نطاق المستطاع, وخصوصًا أن الثأر ليس ملكك وحدك, ولكنه ملك لجيل ممتد مع الزمن:
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاء
وتبدي - لمن قصدوك - القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ - الآن - ما تستطيع
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك
لكنه ثأر جيل فجيل.
   وبعد أن يفصَّل جناية ابن عمه الغادر جساس, وكيف قتله - لا وجها لوجه - ولكن غيلة وخداعًا وغدرًا, يحدثه في كليمات مقطرة عن مفهوم الصلح الكريم الشريف:
فما الصلح إلا معاهدة بين ندين
في شرف القلب لا تُـنتقَص.
ويختم وصيته بقوله:
لا تصالح
ولو وقفتٍ ضد سيفك كل الشيوخْ
والرجال التي ملأتها الشروخْ
هؤلاء الذين تدلت عمائهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيتْ سنواتِ الشموخْ
لاتصالح
فليس سوي أن تريدْ
أنت فارس هذا الزمان الوحيد
وسواك المسوخْ
لا تصالح.. لا تصالح.

* * *

لقد نظم أمل دنقل هذه القصيدة في نوفمبر - تشرين الثاني 1976 بعد توقيع اتفاقية فصل القوات الثانية بين إسرائيل ومصر سنة 1975, وبدأت تظهر في الأفق الإرهاصات الأولية لاتفاقيتيه كامب ديفيد, ومعاهدة الصلح مع الكيان الصهيوني.
  ومن ثم جاءت هذه القصيدة ردًا, بل نقضًا سياسيًا وعقلانيًا علي منطق الصلح مع الكيان الصهيوني, بحيث جاء كل نهي (لا تصالح) في الوصايا العشر مصحوبًا, ومدعمًا بدليله وحيثيته, حتي إننا لو أعدنا صياغة الخطوط الرئيسية للقصيدة في صورة نثرية لجاءت «عريضة سياسية لرفض الصلح», وحيثيات هذا الرفض تتلخص فيما يأتي:
 1 -
الصلّح يتضمن تنازلاً عن قيم نفسية وقومية لا يمكن التعويض عنها, مهما كان المقابل.
2 -
 الصلح تفريط في حق الضحايا الذين سقطوا صرعي في حرب العدوان والبغي.
 3 -
الصلح لا قيمة له, ولا مكان, ولا احترام عند قوم لا يرعون الجوار والسلام.
 4 -
الصلح تفريط في حق الأحياء من الأرامل والثكالي واليتامي.
 5 -
لا يستقر حكم ولا ملك ولا شرف بالصلح مع أعداء جُبلوا علي الغدر.
 6 -
شعارات السلام والصلح والاستقرار التي يطلقها الأعداء وأذنابهم لا تمثل حقيقة نواياهم.
 7 -
الحلول الجزئية لا يمكن أن تكون طريقًا للحل الكلي الشامل, لأن القضية تخف الحماسة لها مع الأيام, " وتبْهت شعلتها في الضلوع إذا ما توالت عليها الفصول".
 8 -
نحن أمة الضحايا: الأرض والرجال والمال. واسترداد حقوقنا ممن غدروا أمر منطقي يتفق مع أصول الحق والعدالة.
 9 -
أعداؤنا ليسوا أقوي منا حتي نقبل الصلح معهم, وخصوصًا إذا لم يكن الصلح " معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص".
 10-
دعاة الصلح لا يمثلون المصلحة الحقيقية للوطن, إنما هم دعاة استكانة, ليتفيئوا - في هدوء - ظلال الرفاهية والمتعة والهناءة.

* * *

إن المعٍطَي التراثي الجاهلي يفرز هذه المعطيات السياسية المعاصرة دون افتعال. والتاريخ يعيد نفسه, وما أشبه الليلة بالبارحة.