سورة (مريم)

البنية الفنية في سورة (مريم)

محمد الحسناوي

[email protected]

لمعرفة البنية الفنية لسورة (مريم) يحسن إجراء مقارنة سريعة بينها وبين سورة ( طه ) ، وكلتاهما مكية ، لأن السورتين خطاب من الله تعالى إلى النبي محمد عليه السلام ، وهو خطاب معزّز بالقصص أو بالحوار القصصي ، لكن الخطاب في سورة (طه) مخصوص به أولاً شخص الرسول محمد ، لتثبيته في مواجهة الأعداء والخصوم ، ولإيناسه في الوقت نفسه ، فضلاً عن تلقينه ما يحتاج إليه من حجج ومعلومات ، وثانياً يقصد بالخطاب المعاندون من مشركي مكة . أما الخطاب في سورة (مريم ) فالمخصوص به أولاً هم المعاندون المشركون ، وثانياً شخص النبي محمد ، لذلك اختلف البناء في كلتا السورتين .

سورة (طه) تبدأ بخطاب الله للنبي محمد ، ثم يتضمن الخطاب بعد ذلك قصتي (  موسى) و(آدم) عليهما     السلام . أما في سورة ( مريم ) فتبدأ القصص من بداية السورة ، ثم يكون الخطاب الصريح أو المفصل  للنبي تالياً بعد ذلك من باب الختام أو التعليق على القصص ، ولذلك كان موضوع السورتين مختلفاً ، أو نشأ عن اختلاف الموضوعين هذا التناول المختلف في البناء و طرق العرض .

سورة ( طه ) موضوعها ( مهمة النبيّ محمد ووظيفته ) ، على حين كان موضوع سورة ( مريم ) هو ( الوحدانية أو عقيدة التوحيد ) . (1)

لما كان توجّه الخطاب يقصد به المعاند أولاً في سورة ( مريم ) ، انعكس ذلك على صيغة الضمير الذي يخاطب به النبي محمد ، فهو يرد بين حين وأخر على صيغة ضمير المخاطب (كاف) ( ذِكْرُ رحمةِ ربَّكَ) ( مريم ) (الآية:2) ، أو ضمير الفاعل ( اذكرْ . اذكرْ. اذكرْ ) (الآيات: 16 و41 و51 و54 و56) ، على حين تشيع صيغة ضمير الغائب للجمع (هم ) إشارة إلى المعاندين المشركين .

المساحات الفنية لمكونات السورة  :

تكاد تكون المساحة متقاربة نصفين بين القصص الحوارية والقسم غير القصصي ، أوالتعليق على شكل خطاب من مجموع عدد آيات السورة (98 ) آية . فعند الآية (58) ينتهي القصص ليبدأ التعليق و الخطاب . وهناك آيات قليلة  تخللت القسم القصصي ، تنحو منحى التعليق أو الخطاب ، مثل التعليق على ولادة المسيح وبنوته لمريم ( الآيات 34- 38) ، والآيتين اللتين تتوعدان المشركين بيوم القيامة والحساب ( 39 و40)  .

أما القسم القصصي ، فتوزيعه كان على الشكل التالي :

-   قصة النبي ( زكريا) الآيات من (1- 15 ) .

-   قصة الصديقة ( مريم ) الآيات من ( 16- 37) أي مقدار (21) آية .

-   قصة النبي ( إبراهيم ) الآيات من ( 41- 50) أي ( 11) آية .

-   قصة النبي ( موسى ) الآيات (51- 53) أي ( 3 ) آيات .

-   قصة النبي (إسماعيل ) الآيات ( 54- 55 ) أي ( 2 ) آيتان اثنتان .

-   قصة النبي ( إدريس ) ( 56 و57) أي ( 2 ) آيتان اثنتان .

أما القسم الثاني غير القصصي ، فيبدأ من حيث انتهى القسم القصصي انتقالاً سلساً . فالآية الأخيرة من القسم

القصصي لخصت حال الأنبياء والصالحين الهادين المهديين ، وما أنعم الله عليهم : ( أولئك الذين أنعمَ اللهُ عليهـــم من النبيّين من ذُرّيّةِ آدمَ وممّن حملنا مَعَ نوحٍ ومن ذريّةِ إبراهيمَ وإسرائبلَ وممّن هدينا واجتَبَيْنا ، إذا تُتلى عليــــهم آياتُ الرحمانِ خرّوا سُجّداً وبُكيّاً) ( الآية58) ، تتلوها أول آية من القسم غير القصصي لتلخص بالعكس حـــــــال القوم المعاندين مشركي مكة آنذاك : ( فَخَلَفَ من بعدِهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاةَ واتَبعوا الشهواتِ ، فسوف يلقــــــونَ  غيَاً ) (الآية59) .

        يتضمن القسم الثاني قضيتين يجادل فيهما المشركون ، هما قضية ( البعث) و(التوحيد) ، يعرضهما من خلال خطاب النبي محمد ، شاهداً عدلاً على أباطيلهم ، وعلى مصارعهم في الدنيا والآخرة ، ومن خلال تصوير البعــــث والعذاب في جهنم . فيكون القسم الثاني قسيما مطابقاً أو مكملاً للقسم الأول ، من حيث كان القســـم الأول عــــــــــن الصالحين والنعيم المقيم الذي يحظون به ، والقسم الثاني عن الطالحين والشقاء المقيم الذي ينزل بهم .

يتماسك بناء السورة الكلي من تقابل القسمين الأول والثاني ، ومن دوران كل منهمـــــــا حــــول مـوضــــوع (عقيدة التوحيد ) . فالقسم الأول قصصي ، والثاني غير قصصي ، الأول عن الصــالحيــن ، والثاني عــــــن الطالحين ، الأول في الماضي ، الثاني في الحاضر زمن بعثة النبي محمد عليه السلام .

بنية القسم القصصي :

تدور قصص الأنبياء الخمسة ( زكريا- إبراهيم- موسى - إسماعيل- إدريس) والصديقة ( مريم ) ، حول صلتهم الوثيقة بالله تعالى ، من حب وطاعة وولاء من جهة ، وحول صلتهم الأسرية (الاجتماعية) بذوي الرحم من أب أو ابن أو أخ من حبّ وبرّ من جهة ثانية . وليس هناك ذكر لمواجهة الأنبياء الصالحين لأقوامهم ، كما هو المعتاد في قصصهم الواردة في سور أخرى . ولعل القسم الثاني من هذه السورة الذي يعكس معاندة مشركي   مكة ، يغني عن تفصيل حال الأقوام السالفة ، الذين تمت الإشارة إليهم في ختام السورة أيضاَ : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هل تُحسُّ منهم من أحدٍ ، أو تَسمعُ لهم  رِكزاَ ) ( الآية 98) .

القصص الست للأنبياء والصالحين عرضت ثلاث منها بشيء من التفصيل ( 15آية - 21آية - 11 آية ) ، على حين عرضت القصص الثلاث بإيجاز واضح ( 3آيات  -2 آيتان - 2 آيتان ) .

في القصص الست يوصف الأنبياء والصدّيقة معهم بأوصاف متقاربة :

 فـ (زكريا) عبد صالح : (ذِكرُ رحمة ربّكَ عبده زكريا) (الآية:2)

و(مريم) امرأة  تقية  )قالت: إني أعوذ بالرحمن منكَ إن كنتَ تقيّاً) ( الآية18) ، ( يا أختَ هارونَ ..) (الآية:28).

و(إبراهيم) نبي صِدّيق ( واذكرْ في الكتابِ إبراهيمَ . إنه كان صدّيقاً نبيّاً ) (41) .

و( موسى ) نبي رسول مُخلَص ( واذكرْ في الكتابِ موسى . إنه كانَ مخلَصاً ، وكان رسولاً نبياً )( الآية 51)

و( إسماعيل ) نبيّ رسول صادق الوعد ( واذكرْ في الكتابِ إسماعيلَ . إنه كان صادقَ الوعدِ ، وكان رسولاً نبيّاً ) (الآية 54) .

و(إدريس) صِدّيق نبيّ ( واذكرْ في الكتابِ إدريس . إنه كان صِدّيقاً نبيّاً ) ( الآية 56) .

وهناك أيضاً صفة التكريم من الله تعالى لكلّ منهم متقاربة :

فـ( زكريا ) مستجاب الدعاء ( (يا زكريّا. إنّا نبشرُكَ بغلامٍ ..) (الآية 7) .

و (مريم) تحتها سريّ : نهر صغير كالجدول ( .. قد جَعَلَ ربُّكِ تحتَكِ سَرِيّاً ) ( الآية 24) .

و (إبراهيم) محتفى به من الله ( ..  سأستغفرُ لَكَ ربي . إنه كانَ بي حَفِيّاً ) ( الآية 47) .

و (إسماعيل) مرضيّ عند ربه ( .. وكان عند ربِه مرضيّاً ) ( الآية 55) .

و(إدريس) مكرم عند ربه مرفوع مقامه ( ورفعناهُ مكاناً عَليّاً ) ( الآية 57) .

بعد هذه الصفات الجامعة لهم  ، ترد صفات تخص بعضاً منهم ، فأربعة منهم يهبهم الله تعالى هبة نفيسة كالابن أو الأخ :

 ( يا زكريّا إنَا نبشركَ بغلامٍ ، اسمُهُ يحيى ، لم نجعلْ له من قبلُ سميّاً ) ( الآية 7) .

( قالَ: إنما أنا رسولُ ربِكِ لأهَبَ لكِ غلاماً زكيّاَ ) ( الآية 19) .

( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دونِ اللهِ وهبنا له أسحقَ ويعقوبَ وكلاَ جعلنا نبيّاً ) ( الآية 49) .

( ووهبنا له من رحمتِنا أخاهُ هارونَ نبيّاً ) ( الآية 53 ) .

واثنان يصومان عن الكلام :

هما زكريا ( ... آيتُكَ ألا تُكلّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّاً ) ( الآية 10) .

ومريم ( .. . فقولي : إني نذرتُ للرحمنِ صوماً  فلن أكلّم اليومَ إنسيّاً ) ( الآية26) .

وهذان الاثنان يرزقان كل منهما ولداً نبياً ، هما ( عيسى) و(يحيى) ، يتشابه النبيان في عدد من الصفات الكريمة أيضاً :

كل منهما برّ بأبيه أو أمه ، ويؤتى الحكم صبياً ، لديهما التقوى وأداء الزكاة والصلاة ، فضلاً عن النبوة :

( يا يحيى . خذ الكتابَ بقوةٍ ، وآتيناهُ الحكمَ صبيَاً . وحناناً منّا وزكاةً وكان تقياً ، وبرّاً بوالديه ِ ، ولم يكن جباراً عصيَاً ) (الآيات12 - 14) .

( قال: إني عبدُ الله ، آتانيَ الكتابَ ، وجعلني نبيَاً . وجعلني مباركاً أينما كنتُ ، وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دمتُ حيَاً . وبرّاً بوالدتي ، ولم يجعلني جباراً شقياً ) ( الآيات 30 -32) .

وكل منهما يقال له أو يقول بلفظ واحد :

( وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ ، ويومَ يموتُ ، ويومَ يُبعثُ حيّاً ) ( الآية 15) .

( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ، ويومَ أموتُ ، ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآية 33) .

هذه الأوصاف الكريمة لأنبياء الله والصدّيقة مريم ، التي جزاهم الله عليها بمحبته وإكرامه لهم في الدنيا والآخرة ، سوف تقابل في النصف الثاني من السورة بصفات المعاندين المشركين بالله تعالى ، الذين زعموا له ولداً أو شريكاً ، أو كذبوا بيوم القيامة والبعث بعد الموت .

بنوة المسيح وبشريته :

قصة الصديقة مريم ، ليست إحدى القصص الثلاث الطويلة أو المفصلة ، بل هي القصة الأطول بينها ، وتزيد على القصة التي تليها بالطول - وهي قصة النبي يحيى -  بست آيات ، مع العلم أن قصة النبي زكريا  تتحدث عن ولادة النبي يحيى أيضاً ، لكن ليس بالتفصيل الذي تتحدث فيه  قصة مريم عن ولادة المسيح ، فلم نسمع النبي يحيى يتكلم كلمة واحدة ، ولم يُخاطب إلا بعبارتين ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ..) (الآية 12) ، على حين تكلم المسيح بخمس آيات ، وهذا وجه من وجوه تسمية السورة بأطول قصصها ( سورة مريم ) . وربما نكتشف أن من أغراض الحديث عن ولادة يحيى بعد كبر أبيه الشيخ زكريا ، وبلوغ أمه سنّ اليأس ( وكانت امرأتي عاقراً ) أي بمعجزة .. نوعاً من التمهيد لمعجزة ولادة المسيح من غير أب .

زد على ذلك أن المساحة المعطاة لقصة المسيح ثلاث عشرة آية ، ضمن قصة أمه التي لم تزد على ثماني آيات ، فكأن القصة هي قصة المسيح ، وليست قصة مريم عليهما السلام .

ومرة أخرى نكتشف الحكمة من تفصيل حمل مريم المعجز ،  وولادتها للمسيح ، وكلام المسيح نفسه أنه (عبدالله ) ، وأنه يدعو إلى عبادة الله أيضاً ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ، هذا صراطٌ مستقيم ) (الآية 36) ما ينسجم مع موضوع السورة ( عقيدة التوحيد) ، بنفي الشرك عن الله ، وادعاء المشركين أولاداً  له من إناث أو ذكور كالمسيح عليه السلام .

ولأهمية بنوة المسيح لمريم وطبيعته البشرية في موضوع (التوحيد ) ، لم يكتف السياق بقص حياة المسيح من الحمل إلى الولادة وحتى الموت والبعث يوم القيامة ، بل يخصص خمس آيات تعقيباً على قصة المسيح ، لمناقشة بشريته واختلاف الأحزاب من بعده على طبيعته ، على الرغم من تصريح المسيح بأنه (عبدالله) ، وأن الله هو الخالق والوارث للأرض ومن عليها ، وإليه يرجع البشر جميعاً طوعاً أو كرهاً ، بما فيهم المسيح أيضاً . 

هذا الموضوع المهم ، والتعليق الأهم حول طبيعة المسيح البشرية ، استوجب البروز، ولا سيما في تغيير حرف (الروي ) في فواصل الآيات الخمس ، من حرف الياء المفتوحة العميقة الممدودة الرخية في معظم السورة والقصص ، إلى حرف النون أو الميم الساكنة المستقرة ( يمترون -  فيكون -  مستقيم ..) . وهو ليس التغير الوحيد في السورة ، بل هو الأبرز ، لأن تحول حرف الروي في أواخر السورة من ياء مفتوحة إلى دال أو زاي مفتوحتين ، ليس بحجم البروز والاختلاف في روي النون أو الميم الساكنتين في الوقف ، ولأن حركة الفتح تقرب المسافة الموسيقية بين مخارج الياء والدال والزاي .

لفظ عبد :

ولما كان موضوع السورة ( عقيدة التوحيد ) ، كان من الطبيعي التمييز الدقيق بين ( العبد) المخلوق ، ولو كان نبياً صالحاً ، وبين( الرب) الخالق .  ومن صفات (العبد) أن يأكل ويشرب ويصوم ، ويتزوج ، ويولد ، ويموت ويبعث ، وهذا معنى من معاني تفصيل القصص الست في حياة الأنبياء الأسرية : ولادة ، موت ، بعث ، أكل ، شرب ، صوم .

يوضح ذلك تكرار لفظ ( العبد ) ومشتقاته ( يعبد - عبادة) في السورة (12) اثنتي عشرة مرة ، ولفظ ( الربّ) (17) سبع عشرة مرة ، غير ألفاظ الجلالة والأسماء الحسنى الأخرى .

ويستوقفنا لفظ (عبد) المشعّ في كلام النبيّ المسيح نفسه : ( قال: إني عبد الله أتانيَ الكتابَ ، وجعلني نبيَاً )             ( الآية 30) ، فعلى الرغم من تقريره حقيقة تاريخية ، يقع هذا القول في نفس بعض الناس موقعاً خاصاً ، لأن المسيح نفسه يقرَ ويعترف بأنه عبد ، وليس كما ادعى له آخرون صفات غير بشرية . .

قانون النظام والتكرار الجماليين :

ويستوقفنا عدد من الظواهر الأسلوبية والبنيوية في هذا القسم ، يغلب عليها قانونان من قوانين علم الجمال، هما( النظام ) الذي هو هنا التشابه , و( التكرار ) . ومن اجتماع (النظام) و( التكرار) ظهر كل من ( التساوي والتوازي والتوازن والتلازم ) أيضاً .

أما التشابه أو النظام فأظهر ما يظهر في روسم (الثيمة) القصصية التي رصدناها في بناء قصص لأنبياء والصدّيقة  ( مريم ) ، في حال التفصيل في قصص ثلاث ، أو الإيجاز في الثلاث الأخريات ، ما أسهم في قوة البناء لكل قصة على حدة ، ثم قوة تماسكها مع نظيراتها في المجموعة القصصية أيضاً ، ومما انعكس على التكرار في الأسلوب التعبيري الذي سوف نتحدث عنه ، ومما أتاح للقسم القصصي أن يقابل القسم غير القصصي بشريحة بشرية صالحة ، مؤمنة بالله تعالى ، موحدة مخلصة ، متراحمة بينها ، تتناسل في التقوى ، وتنعم ببركات الله  ورحمته في الدنيا والآخرة ، خلافاً للشريحة التي عاندت ، وغيرت وبدلت وأشركت بالله تعالى . وهو ما يصب في موضوع السورة ( عقيدة التوحيد) .

أما التكرار فنلحظه أولاً في وحدة ( الفاصلة ) ( وإنك لتحسّ لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال. ...كذلك تحسّ أن للسورة إيقاعاً موسيقيَاً خاصاً . فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق : رضيَاً . حفيَاً . نجيَاَ ) . (2)

وثانياً نلحظه في افتتاح القصص الست ، حيث تكرر عبارة ( واذكرْ في الكتاب) خمس مرات ، مما يفيد التقسيم ، والربط والتناظر بين القصص في الوقت نفسه .

وثالثاً نلحظه في ألفاظ ( الرحمة) ، يقول صاحب(الظلال) : ( والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال . فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا (ذكرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريا ) وهو يناجي ربه نجاء : (إذ نادى ربه نداء خفيّاً ) .. ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيراً . ويكثر فيها اسم (الرحمن) . ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ودّ ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً ) ، ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حناناً ( وحناناً من لدنّا وزكاةً وكان تقيّاً ). ومن نعمة الله على عيسى أن جعله برّاً بوالدته وديعاً لطيفاً ( وبرّاَ بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيّاً ) . ) . (3)

 ورابعاً نلحظ التكرار في مواصفات الأنبياء ، ولاسيما القول : ( والسلام عليّ يوم ولدتُ ويومَ أموتُ ، ويومَ أُبعثُ حيَاً ) (الآية 33) ومثلها الآية (15) ( وسلامٌ عليه يومَ يولدُ ، ويومَ يموتُ و، ويومَ يُبعثُ حيّاً ) ، فهو تكرار أشبه باللازمة ، فضلاً عن تساوي العبارات والجمل وتوازيها في الوقت نفسه ، ما يضفي على الأسلوب والجو إيقاعاً موسيقيَاً خاصاً ‘ فيه السلاسة ، والامتداد واللطف .

وخامساً في خطاب النبي إبراهيم البارّ ، بأبيه العاصي ، أربع مرات :

( يا أبتِ لِمَ تعبدُ ما لا يسمعُ ..)

( يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتِكَ ..)

( يا أبتِ لا تعبدِ الشيطانَ ..)

( يا أبتِ إني أخافُ أن يمسّكَ عذابٌ ..) ( الآيات 42- 45) .

وفي هذا التكرار ما فيه من انفعال صادق بالبر والحنان والرحمة ، يلائم جوّ السورة ، وقسمها الأول بشكل خاص .

وهذا لم يمنع من أن يكون لقانون ( التغير) الجمالي دوره إلى جوار التكرار والتشابه ، ونكتفي بالإشارة إلى ثلاثة مواضع منه :

في البناء كان التفصيل في ثلاث قصص ، فتغير إلى إيجاز في قصص ثلاث أخريات .

وفي الشخصيات ، كان الآباء صالحين أو أنبياء هداة مهديين إلا والد النبيّ (إبراهيم ) فكان( للشيطانِ وليَاً ) .

وفي الأسلوب افتتحت قصة النبيّ ( زكريا) بتعديل مغاير لما افتتحت به القصص الخمس الأخرى ، وهو     ( ذكرُ رحمة ربّكَ عبدَهُ زكريا) (الآية2 ) ، وفي الانتقال من الجملة الفعلية( واذكرْ في الكتابٍ ) إلى ( الجملة الاسمية من جهة ، وإضافة (الرحمة ) إليها من جهة ثانية ، ما يضفي على الذكر في المرات الخمس الأخرى أنه ذكر من باب الرحمة أيضاً ، ومثل ذلك صفة العبودية في زكريا أولاً ، وبقية الأنبياء بالتالي .

ومن جماليات هذا (التغير) الأسلوبي في آية الافتتاح (ذكر رحمة ربك عبده زكريَا) أنه يأتلف مع التكرار والتناظر في الوقت نفسه ، مثل قول المسيح ( إني عبد الله..) (الآية 30) ، فوصف زكريا بالعبد ، وبقية الأنبياء من أغراض السورة , قد أشرنا إلى ذلك في حينه ، للتمييز بين( العبد ) و( الرب) ، لأن قول المسيح نفسه عن نفسه ، له خصوصيته ، لتأكيد بشريته وعبوديته ، في وجه الذين يضفون عليه صفات غير بشرية .

القسم غير القصصي :

سبق أن اشرنا إلى أن سورة ( مريم) مثل سورة ( طه) خطاب للنبي محمد عليه السلام ، لكن بتناول    مختلف ، وطريقة للعرض مختلفة . ففي القسم القصصي ترد إشارات لخطاب النبي محمد بضمير(الكاف) : (رحمة ِربّكَ) (الآية2) ، وضمير الفاعل في(اذكرْ) ( اذكرْ في الكتاب مريم – واذكرْ في الكتابِ إبراهيم َ – واذكر في الكتابِ موسى - واذكرْ في الكتابِ إسماعيلَ – واذكرْ في الكتابِ إدريسَ ) خمس مرات ( الآيات: 16و41 و51 و 54 و 56) . وهو ذكر لطيف ، شغلنا القصص عن الانتباه إليه .

أما في القسم الثاني غير القصصي فيرد الخطاب للنبي محمد عشر مرات وبتفصيل أوضح :

( وما نتنزَّلُ إلا بأمرِ ربّكَ ، له ما بينَ أيدينا وما خلفنا ، وما بينَ ذلكَ ، وما كانَ ربُّكَ نسيّاً ) ( الآية 64) على لسان جبريلَ ، عليه السلام  .

( ... فاعبدهُ ، واصطبِرْ لعبادتِهِ. هل تعلمُ لهُ سميَاً ) ( الآية 65) .

( فوربِّكَ لَنحشُرَنَّهم والشياطينَ ، ثمَّ لَنُحضِرَنَّهم حولَ جهنَّمَ جِثيّاً ) (الآية 68) .

( قلْ منْ كانَ في الضَّلالةِ ، فَلْيَمْدُدْ لهُ الرحمنُ مَدّاً ... ) ( 75) .

( ويَزيدَ اللهُ الذينَ اهتدَوا هدىً ، والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ ربِّكَ ثواباً ، وخيرٌ مَرَدّاً ) ( 76) .

( أفرأيتَ الذي كَفَرَ بآياتِنا ، وقالَ لأَوتَيَنَّ مالاً وولداً ) ( الآية 77) .

(أَ لم تَرَ أَنّا أرسلنا الشياطينَ على الكافرينَ تُؤُزُّهم أَزّاً ) (83) .

( فلا تََعجَلْ  عليهم ، إنّما نَعُدُّ لهم عدّاً ) ( 84) .

( فإنّما يَسَّرناهُ بِلسانِكَ ، لِتُبَشِّرَ بِهِ المتَّقينَ ، وتُنذِرَ بِهِ قوماً لُدّاً ) ( 97) .

( وكم أهلكنا قبلَهم من قرنٍ ، هل تُحِسُّ منهم من أحدٍ ، أو تَسمعُ لهم رِكزاً ) ( 98) .

هذه الوفرة والوضوح في صيغ الخطاب للنبي محمد ، هي التي أتاحت لنا تسمية القسم الثاني من باب التغليب ( قسم الخطاب ) أو ( الخطاب والتعليق ) .

ومع ذلك نلاحظ أن خطاب النبيّ محمد في هذا القسم مقصود به أن يكون الرسول شاهدَ عدلٍ على تخرصات المعاندين في الدنيا من جهة ، وعلى مصارعهم التي يستحقونها في الدنيا والآخرة من جهة ثانية ، لأنه (يضيق صدراً بما يقولون) ويعاني في دعوتهم الأمرين . وهل هناك أكبر من أن ينكروا يوم البعث والحساب أو أن يزعموا لله ولداً أو شريكاً .

الملمح الأسلوبي الآخر في هذا القسم هو تغير حرف (الرويّ) في الفاصلة من (ياء ) مفتوحة عند الآية  (74) ، إلى (دال) مفتوحة أيضاً بدءاً من الآية (75) .

الآيات الخمس عشرة الأولى من هذا القسم استمرت على فاصلة الياء التي كانت في فاصلة آيات القسم   الأول ، وقد تضمنت هذه الآيات الخمس عشرة ، الآية الانتقالية من القسم الأول القصصي إلى القسم الثاني ، كما تضمنت كلام( جبريل ) ردّاً على طلب المعاندين ، بأنه لا ينزل إلا بحكمة وأمر من الله ، لا على هوى   المعاندين ، ثم تضمنت مجادلة الذي يتساءل معانداً أو مكذباً يوم القيامة ( ويقول الإنسانُ : أإذا ما متُّ لسوفً أُبعثُ حيَاً ) ( الآية 66)  ، وفي الرد على تساؤله الإنكاري يبدأُ السياق بالترهيب مع الحجج المقنعة . فمن الحجج ( أولا يذكرُ الإنسانُ أنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) (الآية 67) ، ثم تتوالى آيات التهديد والوعيد ( فوربِّكَ لنحشرنَّهم والشياطينَ، ثم لَنُحضِرنَّهم حولَ جهنَّمَ جِثيَاً . ثم لَنَنْزَعَنَّ من كلِّ شيعةٍ أيُّهم أشدُّ على الرحمنِ عِتِيّاً . ثم لنحنُ أعلمُ بالذينَ هم أولى بها صِليّاً ) ( الآيات  68-70) . فارتفاع لهجة التهديد بالوعيد من خلال الألفاظ ( نحشر- عتيَا- جهنم ) والصور( لم يكُ شيئاً – نحضرنهم حول جهنم جثيَا- ننزعن من كل شيعة أيهم أشدّ عتيَاً ) سوف يضاف إليه في الآيات الباقية ، وهي اثنان وعشرون آية ، قوة وتشديد في حرف ( الدال) في الفاصلة ( مدّاً – جنداً – مردّاً ..) لأن هنا قالة فظيعة ( ( تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه وتنشقُّ الأرضُ ، وتخِرُّ الجبالُ هدّاً ) ( الآية 90) . وهي ( أن دَعَوا للرحمنِ ولداً . وما ينبغي للرحمنِ أن يتَّخِذَ ولداً )  ( الآيتان 91 و92) .

يقول صاحب الظلال : ( وتنوع الإيقاع الموسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جلياً في هذه السورة ، فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا : ( ذكر رحمة ربّك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداءً خفيًاً ..إلخ ) ، وتليها قصة مريم وعيسى ، فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه : ( واذكرْ في الكتابِ مريم إذ انتبذتْ من أهلِها مكاناً شرقيَاً . فاتخذتْ من دونِهم حجاباً فأرسلنا إليها روحَنا ، فتمثّلَ لها بشراً سويَّاً ..  إلخ ) ، إلى أن ينتهي القصص، ويجيء التعقيب، لتقرير حقيقة عيسى ابنِ مريم ، وللفصل في قضية بنوته. فيختلف نظام الفواصل والقوافي .. تطول الفاصلة ، وتنتهي القافية بحرف الميم ، أو النون المستقرَ الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية ، على النحو التالي : ( ذلك عيسى ابن مريمَ قولَ الحقِّ الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذَ من ولد ، سبحانه، إذا قضى أمراً ، فإنما يقول له كنْ فيكون ..إلخ ) ، حتى إذا انتهى التقرير والفصل ، وعاد السياق عادت القافية الرخية المديدة : ( واذكرْ في الكتابِ إبراهيمَ إنه كان صدّيقاً نبيَاً . إذ قال: يا أبتِ لمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يُبصِرُ ولا يُغني عنكَ شيئاً ..إلخ ) ، حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ، تغير الإيقاع الموسيقيّ وجرس القافية : ( قل : من كان في الضلالةِ فليمددْ له الرحمنُ مدّاً ، حتى إذا رأوا ما يوعَدونَ إما العذابَ ، وإما الساعةَ فسيعلمون من هو شرٌّ مكاناً وأضعفُ جنداً ..إلخ )، وفي موضع الاستنكار يشتدّ الجرس والنغم بتشديد الدال : ( وقالوا : اتخذَ الرحمنُ ولداً . لقد جئتم شيئاً إدّاً ، تكادُ السمواتُ يتفطّرنَ منه وتنشقُّ الأرضُ وتخرُّ الجبال هدّاً ) . وهكذا يسير الإيقاع الموسيقيّ في السورة وفق المعنى والجو ، ويشارك في إلقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة ، وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى ) ( 4) .

الملاحظ أن الانتقال في فواصل القسم القصصي من ( رويّ ) الياء إلى رويّ الميم أو النون ، سوغته الصيغة التقريرية لإثبات بنوة المسيح عليه السلام ، أما الانتقال من رويّ الياء إلى روي الدال أو الزاي في فواصل القسم الثاني ، فقد حافظ عل حركة الفتح في حركات الرويّ كلها ، مما قرب في وقعها الموسيقيَ ، وأسهم في توحيد الجو نسبياً . وسوف نخصص بحثاً مستقلاً لدور حركة الفتح في الفواصل عامة ، وفي فواصل أربع سور هي ( الإسراء – الكهف –مريم – طه ) إن شاء الله .

لفظ ولد :

يستوقفنا في هذا القسم لفظ ( ولد) على لسان الذي كفر وقال : (  لأوتينَّ مالاً و ولداً ) ، أو على لسان الذين افتروا على الله تعالى ( أن دعوا للرحمنِ ولداً ) ، مثلما استوقفنا لفظ ( عبد ) في قول المسيح عليه السلام ( قال: إني عبد الله ) ، لأنها من الألفاظ المشعة .

فادعاء الكافر المعاند بأنه سوف يؤتى المال والولد بغير تقوى الله وطاعته ، يذكرنا بالمقابل بالنقيض في رزق زكريا ومريم وإبراهيم وإسماعيل بالأولاد الذين رزقوهم نعمة من الله وبركة . ومثلما دعا زكريا ربه أن يرث ولده من بعده ميراثه ، كذلك يورث الكافر المعاند ميراثاً أيضاً ( ونرثه ما يقول ، ويأتينا فرداً ) الآية (80) ، وهي تقابلات تحمل فيما تحمل غير التماسك الفني ، تحمل النكاية والسخرية والوعيد الشديد.

ومثل ذلك لفظ ( ولد) من كلام المفترين على الله ( أن دعَوا للرحمنِ ولداً . وما ينبغي للرحمن أن يتّخذَ ولداً )  ( الآيتان 91و92) ، فالولد من خصائص الإنسان العبد المخلوق ، كما بينا الحكمة من تكرار ألفاظ العبد والرب من قبل ، العبد الذي يولد ويتزوج وينجب ويموت ويبعث ، أما الله ( الرب) الخالق فتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً . فهنا تقابل آخر ، وهنا أيضاً تكرار يزيد في النكارة والاستهجان والتهديد في الوقت نفسه .

ومثل ذلك تكرار حجة الخلق ، أو برهان أعادة الخلق ، وتكرار ألفاظه في موضعين في الأقل :

في إقناع النبي زكريا على قدرة الله تعالى : ( كذلك قال ربُّكَ : هو عليَّ هيّنٌ ، وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ   شيئاً ) (الآية 9) ،

وفي ردّ الله تعالى على الكافر المعاند : ( أولا يذكرُ الإنسان أنّا خلقناه من قبلُ ، ولم يكُ شيئاً ) ( لآية 67) .

وهكذا ينهض التكرار بدور مؤثر ، سواء في تكرار الألفاظ أو الفواصل ،  أو التراكيب في بدايات الآيات أو في تضاعيفها أو في أواخرها ، أوتكرار الآيات ما يشبه اللازمة ، و الروسم ( الثيمة ) القصصية .

واصطبر لعبادته :

بعض ألفاظ القرآ ن يتجاوز إشعاعه أو ظلاله السورة التي ورد فيها إلى ساحة القرآن كله ، مثل لفظ ( اصطبر) التي وردت في ثلاث سور، اثنتان منها في خطاب الله للنبي محمد في سورتي (مريم) و(طه) ، والثالثة في سورة (القمر) في خطاب الله لنبيه (هود) عليهما السلام . وقد ورد لفظ ( اصبر) في القرآن على صيغة فعل أمر ثماني عشرة مرة ، وكلها من خطاب الله للنبي محمد يدعوه فيها إلى الصبر على ما يعاني من صدود قومه  وأذاهم ، لكن لفظ (اصطبر) فيه زيادة حرف (التاء) المنقلبة إلى ( طاء) ، وكل زيادة في المبنى هي زيادة في المعنى ، أي إن الصبر المطلوب في عبادة الله تعالى أشد وأقوى منه في الصبر على عداوة مشركي   مكة ، هو صبر ( على إقامتها كاملة ، وعلى تحقيق آثارها . إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وهذه هي آثارها الصحيحة . وهي في حاجة إلى اصطبار على البلوغ بالصلاة إلى الحدّ الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك . و إلا فما هي صلاة . إنما هي حركات وكلمات ) (5) والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر . إنما هي كل نشاط : كل حركة . كل خالجة . كل نية .  كل اتجاه . وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه . (6) ، وهذه العبادة الراقية ركن من أركان (العقيدة ) الذي كان موضوع السورة التي نحن بصددها ، فتصحيح العقيدة عند المسلم وغير المسلم مطلوب ، وهو أنواع ودرجات ، بعضها أرقى من بعض في المجاهدة والمكابدة ، والأنبياء هم القدوة والرواد فيها . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه ، فقلت له : لِمَ تصنعُ هذا يا رسول الله ؟ وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ (7) .

دلالة خطاب الله لنبيه :

خطاب الله تعالى لنبيه محمد ليس أمراً عابراً في سورة أو سورتين من سور القرآن ، بل هو ظاهرة في معظم السور ، وهي ذات دلالات متعددة منها الحكم على صدق نبوة محمد ، وأن هذا القرآن موحى به من عند الله  تعالى ، وهذا غير ما في الخطاب من تعليم أو توجيه أو حتى عتاب ، فضلاً عن التثبيت والمؤانسة والحب . وقد يكون من المناسب تخصيص دراسة شاملة لهذا الخطاب بمستوياته وأنواعه وأغراضه ، ونكتفي هنا بالإشارة إلى الدلالة على صدق الوحي ، لأنه ليس من مألوف البشر أو الأدب العربي أن يخاطب المتكلم نفسه ذاتاًَ أخرى مباينة كل المباينة ، وليست هي المرة الواحدة بل هي ظاهرة ، فيها الأمر والحزم ، وليس الاضطراب أو   الجفول (8) .

الخطاب في سورة مريم :

الحوار في هذه السورة حافل ، ولا سيما ما ورد في القسم القصصي ، وهو خطاب من الله تعالى للنبي محمد ولمعظم الأنبياء المذكورين في القصص الحوارية ، وحتى في الرد على قالة الكافرين ( اتخذ الرحمن ولداً . لقد جئتم شيئاً إدّاً ) ( الآيتان 88 و89) . وهو أيضاً خطاب من الأنبياء لله تعالى ، أو بين البشر أنفسهم ، مما يستدعي دراسة مستقلة . لكن يهمنا هنا خطاب الله لنبيه محمد ، ذلك الخطاب الذي كان شفيفاً في القسم القصصي ، وواضحاً بارزاً في القسم الثاني .  وهو على كل حال يشمل السورة بأسرها ، وأما الأساليب القصصية والمحاجة العقلية ، فهي أجزاء تندرج في إطار هذا الخطاب . وهو خطاب يوحّد أقسام السورة في الوقت نفسه .

أما أغراض هذا الخطاب من الله إلى النبي ، فتستنبط من سياق القسمين القصصي وغير القصصي بشكل  عام ، فالقصص عن الأنبياء والصالحين فيها التسلية للرسول والتثبيت في مواجهة مشركي مكة ، وهي في الوقت نفسه ترسم صورة مشرقة للصالحين في علاقتهم فيما بينهم أو في علاقتهم السامية مع الله تعالى ، أما خطاب النبي في القسم الثاني ، حيث مجادلة المعاندين وتصوير مصارعهم في الدنيا والآخرة ، فهو نوع آخر من التثبيت للنبي ، والذود عنه في المواجهة المباشرة مع المعاندين من كفار ومشركين ، بمسمعٍ منه ومشهد . وكل هذه الأغراض لم ينص عليها صراحة في تضاعيف السورة ، لكنها مستنبطة استنباطاً من الدلالات ومعنى المعنى كما يقال .   

فاتحة السورة وخاتمتها:

العلاقة بين فاتحة السورة وخاتمتها علاقة تكامل ، لا علاقة تشابه ، فالرحمة لعبد من عباد الله الصالحين زكريا( ذكرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريا) (الآية 2) يقابلها ويناظرها ويوازيها ويكملها النقمة للكفار المعاندين ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ هل تُحسُّ منهم من أحدٍ ، أو تَسمعُ لهم رِكزاً ) ( الآية 98) . 

الحوار في سورة مريم

بســــــم اللـــــــه الرحمــــن الرحيـــــــــم

كـهـيـعـص (1) ذِكرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريَـا (2) إذ نادى ربَّهُ نِداءً خفيّاً (3) قــــال : ربِ إني وهنَ العظمُ منّي واشتعلَ الرأسُ شيباً ولم أكن بدعائِكَ ربِّ شقيًّاً ( 4) وإني خِفتُ المواليَ من ورائي وكانتِ امرأتي عاقراً فهبْ لي من لدُنْكَ وليّاً ( 5) يرثُني ويرثُ من آلِ يعقوبَ واجعلْهُ ربِّ رَضِيّاً (5) : يا زكريّا . إنَا نُبشِّرُكَ بغلامٍ اسمُهُ يحيى لم نجعلْ لهُ من قبلُ سَمِيّاً (7) قـــالَ  : ربِّ أنَى يكونُ لي غلامٌ وكانتِ امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكِبَرِ عِتِيّاً (8) قـــالَ  : كذلكَ قالَ ربُُّكَ هو عليَّ هيِّنٌ وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئاً (9) قـــالَ  : ربِّ اجعلْ لي آيةًً . قـــالَ : آيتُكَ ألا تُكلِّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سَوِيّاً ( 10) ( فخرجَ على قومِهِ من المحرابِ فأوحى إليهم أن سبِّحوا بُكرةً وعَشِيّاً ) (11) : يا يحيى . خُذِ الكتابَ بقوّةٍ . ( وآتيناهُ الحُكمَ صَبِيّاً  (12)  وحناناً منّا وزكاةً وكان تقيًّاً (13) وبَرّاً بوالِدَيهِ ولم يكن جبّاراً عَصًَِّاً (14) وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً (15) : واذكرْ في الكتابِ مريمَ إذ انتبذَتْ من أهلِها مكاناً شرقِيّاً (16) فاتخذتْ من دونِهم حجاباً ، فأرسلنا إليها  روحَنا فتمثَّلَ لها بشراً سَوِيًّاً (17) قالتْ : إني أعوذُ بالرحمانِ منكَ إن كنتَ تقيّاً (18) قـــالَ : إنما أنا رسولُ ربِّكِ لأهبَ لكِ غلاماً زكيّاً (19) قالت : أنَى يكونُ لي غلامٌ ولم يَمسَسني بشرٌ ولم أكُ بغيًّاً (20) قـــالَ : كذلِكِ قالَ ربُُّكِ : هو عليَّ هيّنٌ . ولِنجعلَهُ آيةً للناسِ ورحمةً منّا . وكانَ أمراً مقضِيًّاً (21) ( فحملتْهُ فانتبذتْ بهِ مكاناً قصِيًّاً (22) فأجاءها المخاضُ إلى جِذعِ النخلةِ )قالت : يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا ، وكنتُ نَسياً منسِيًّاً (23) فناداها من تحتِها : ألا تحزَني قد جعلَ ربُُّكِ تحتَكِ سَرِيًّاً (24) وهُزّي إليكِ بِجِذْعِ النخلةِ تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلي واشربي وقَرّي عيناً ، فإمّا تََريِنَّ من البشرِ أحداً ، فقولي: إني نذرتُ للرحمنِ صوماً فلن أكلّمَ اليومَ إنسِيًّاً (26) ( فأتتْ بهِ قومَها تحملهُ ) قـالوا : يا مريمُ لقد جئتِ شيئاً فرِيِّاً (27) يا أُختَ هارونَ ، ما كانَ أبوكِ امرَأََ سَوْءٍ وما كانتْ أُمُّــــكِ   بَغِيًَاً (28) ( فأشارتْ إليهِ ) قـالوا : كيف نُكلّمُ من كانَ في المَهدِ صَبيًّاً (29) قـــالَ : إني عبدُ اللهِ آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيًّاً (30) وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دُمتُ حيًّاً (31)   وبَرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيًَّاً (32) والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيًّاً (33) ( ذلكَ عيسى ابنُ مريمَ قولَ الحقِّ الذي فيهِ يَمترونَ (34) ما كانَ للهِ أن يتَّخِذَ من ولدٍ سبحانَهُ . إذا قضى أمراً فإنما يقولُ له: كنْ فيكون (35) : وإنّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبدوهُ . هذا صِراطٌ مُستقيمٌ (36) ( فاختلفَ الأحزابُ من بينِهم . فويلٌ للذينَ كفروا من مشهدِ يومٍ عظيم (37) أسمِعْ بهم وأبْصِرْ يومَ يأتوننا . لكنِ الظالمون اليومَ في ضلالٍ مُبين(38) وأنذِرْهم يوم َ الحسرةِ إذ قُضيَ الأمــرُ وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون(39) إنّا نحن نرثُ الأرضَ ومنْ عليها وإلينا يُرجَعــون(40) واذكرْ في الكتابِ إبراهيمَ . إنه كان صِدّيقاً نبيًّاً (41) إذ قالَ لأبيهِ : يا أبتِ لِمَ تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يُبصِرُ ولا يُغني عنكَ شيئاً ( 42) يا أبتِ إني قد جاءني من العلمِ ما لم يأتِكَ فاتَّبِعني أهدِكَ صِراطاً سَوِيًّاً (43) يا أبتِ لا تعبدِ الشيطانَ إن الشيطانَ كان للرحمانِ عصِيًّاً (44) يا أبتِ إني أخافُ أن يَمَسَّكَ عذابٌ من الرحمانِ فتكونَ للشيطانِ وَلِيًّاً (45) قـــالَ  : أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيمُ . لئن لم تنتَهِ لأرجُمَنَّكَ ، واهجُرني مَلِيًّاً (46) قـــالَ : سلامٌ عليكَ . سأستغفِرُ لكَ ربي . إنهَ كانَ بي حَفيًّاً (47) وأعتزلُكُم وما تدعون من دونِ اللهِ ، وأدعو ربّي ، عسى ألا أكونَ بدعاءِ ربي شقيًّـــاً (48) ( فلما اعتزلَهم وما يعبدون من دون ِ الله وهبنا لهُ إسحاقَ ويعقوبَ وكلاً جعلنا نبيًّاً (49) ووهبنا لهم من رحمتِنا وجعلنا لهم لِسانَ صِدقٍ عَلِبًّاً (50) : واذكرْ في الكتابِ موسى . إنه كانَ مُخلَصاً وكانَ رسولاً نبيًّاً (51) وناديناهُ من جانبِ الطُّــورِ الأيمنِِ ، وقرّبناهُ نجيّاً (52) ووهبنا لهُ من رحمتِنا أخاهُ هارونَ نبيّاً (53) : واذكرْ في الكتابِ إسماعيلَ . إنه كانَ صادقَ الوعدِ وكانَ رسولاً نبيّاً (54) وكانَ يأمرُ أهلًـــهُ   بالصلاةِ والزكاةِ ، وكانَ عندَ ربِّهِ مرضِيّاً (55) : واذكرْ في الكتابِ إدريسَ . إنه كان صِدّيقاً نبيّاً (56) ورفعناهُ مكاناً عليّاً (57) أولئك الذينَ أنعمَ اللهُ عليهم من النبيّينَ من ذُرّيةِ آدمَ ، وممن حملنا معَ نوحٍ ، ومن ذريةِ إبراهيــمَ وإسرائيلَ ، وممن هدَينا واجتبَينا . إذا تُتلى عليهم آياتُ الرحمانِِ خرّوا سُجَّداً وبُكِيّـــــــــــاً (58)   فَخَلَفَ من بعدِهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاةَ ، واتَّبعوا الشهواتِ ، فسوف يلقَونَ غَيّاً (59) إلا مــــــن تابَ وأمنَ وعملَ صالحاً، فأولئكَ يدخلون الجنّةَ ، ولا يُظلمونَ شيئاً (60) جنَاتِ عدنٍ التي وعدَ الرحمانُ عبادَهُ بالغيبِ . إنه كانَ وعدُهُ مأتيّاً (61) لا يسمعونَ فيها لغواً ، ولهم رِزقُهم فيها بُكرةً وعشيّاً (62) تلكَ الجنَّةُ نورِثُ من عبادِنا من كانَ تقَيّاً (63)  : وما نَتَنَزَّلُ إلا بأمرِ ربّكَ ، لهُ ما بينَ أيدينا وما خلفَنا وما بينَ ذلكَ ، وما كانَ ربُّكَ نَسِيّاً (64) ربُُّ السماواتِ والأرضِِ وما بينهما . فاعبدْهُ ، واصطَبِرْ لِعبادَتِهِ . هل تعلمُ لهُ سميّـــــــاً (65) ويقولُ الإنسانُ : أإذا ما مِتُّ ، لَسوف َ أ ُخرجُ حَيّاً (66)أولا يذكرُ الإنسانُ أنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً (67) : فوربِّكَ لَنحشُرَنَّهم والشياطينَ ، ثم لنُحضِرَتَّهم حولَ جهنَّمَ جِثِيّاً (68) ثم لننزعنَّ من كلِّ شيعةٍ أيُّهم أَشَدُّ على الرحمانِ عِتيّاً (69) ثم لنحنُ أعلمُ بالذينَ هم أولى بها صِلِيّاً (70) : وإنْ منكم إلا وارِدُها . كانَ على الرحمانِ حتماً مَقضِيّاً (71) ثم ننجّي الذينَ اتقَوا ، ونــــــــذرُ  الظالمينَ فيها جِثِيّاً (72) وإذا تُتلى عليهم آياتُنا بيِّناتٍ  ،قــالَ الذين كفروا للذينَ آمنوا : أيُّ الفرقينِ خيرٌ مُقاماٌ وأحسنُ ندِيّاً (73) وكم أهلكنا قبلَهم من قرنٍ ، هم أحسنُ أثاثاً و رِئيا (74) قـــلْ :  من كانَ في الضلالةِ فلْيمدُدْ لهُ الرحمانُ مَدّاً . حتى إذا رَأََوا ما يُوعَدونَ ، إمّأ العذابَ ، وإمّا الساعةَ فسيعلمونَ من هو شرٌّ مكاناً وأضعفُ جُنداً (75) ويَزيدُ اللهُ الذينَ اهتدَوا هُدىً ، والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ ربِّكَ ثواباً وخيرٌ مَردّاً (76) أفرأيتَ الذي كفرَ بآياتِنا، وقــالَ : لأوتَيَنَّ مالاً وولداً (77) أطَّلَعَ الغيبَ ، أم اتَّخذَ عندَ الرحمانِ عهداً (78) كلا سنكتبُ ما يقولُ ، ونمُدُّ لهُ من العذابِ مَدّاً (79) ونَرِثُهُ ما يقولُ ، ويأتينا فـــرداً (80) : واتخذوا من دونِ اللهِ آلهةً ، ليكونوا لهم عِزّاً (81) كلا سيكفرونَ بعبادتِهم ، ويكونـــونَ عليهم ضِدّا (82)  : ألم تَرَ أنّا أرسلنا الشياطينَ على الكافرينَ تؤزُّهم أزّاً (83) فلا تَعجَلْ عليهم ، إنما نَعُـــــدّ لهم عدّاً (84) يومَ نحشُرُ المتقينَ إلى الرحمانِ وفداً (85) ونسوقُ المُجرِمينَ إلى جهنَّنـــَمَ  وِرداً (86) لا يَملكونَ الشفاعةَ إلا من اتَّخذَ عند الرحمنِ عهداً (87) وقـــالوا : اتّخذَ الرحمنُ ولداً (88)  : لقد جئتم شيئاً إدّاً (89) تَكادُ السماواتُ يتفطَّرنَ منهُ ، وتَنشقُّ الأرضُ ، وتَخِرُّ الجبالُ هَدّاً (90) أن دَعوَا للرحمانِ ولداً (91) وما يَنبغي للرحمانِ أن يتَّخِذَ ولداً (92) إنْ كلُّ من في السماواتِ والأرضِ إلا آتي الرحمانِ عبداً (93) لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً (94) وكلُّهم آتيهِ يومَ القيامةِ فرداً (95) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ سيجعلُ لهم الرحمـــانُ وُدّاً (96)  فإنما يَسّرناهُ بِلِسانِكَ لِتُبِشِّرَ به المتَّقينَ ، وتُنذِرَ بهِ قوماً لُدّاً (97) وكم أهلكنا قبلَهم من قرنٍ هل تُحِسُّ منهم من أحدٍ ، أو تِسمعُ لهم رِكْزاً (98) . 

*                            *                            *

سورةُ (مريم) إحدى سور(المئين) ، لأن عدد آياتها قارب المئة (98 آية ) ، وهي إحدى السور التي غلب عليها الحوار أو القصص الحوارية ، مثل سور المئين الأخرى ( يونس – هود – يوسف ) ، كما غلب عليها في الوقت نفسه تحريكُ حرف الروي في الفاصلة بالفتح أو ألف الإطلاق مدّاً أو ألفاً مقصورة ، مثل سور( الإسراء- الكهف – طه) .

من أجل ذلك نخصّ الحوار في هذه السورة بدراسة مستقلة .

ملامح الحوار في هذه السورة:

هناك ما لا يقل عن ستة ملامح :

     1 – اتساع مساحة الحوار .

     2 – الواقعية النفسية .

     3 – تنوع الحوار .

     4 – تعدد مستويات الحوار .

     5 - الالتفات في الحوار .

     6 – ظاهرة التكرار في الحوار .

اتساع مساحة الحوار :

يشغل الحوار في هذه السورة أكثر من ثلثيها  أي  /72/ آية حوارية من مجموع آياتها التي تعدّ /98/ آية . في القسم الأول أي القسم القصصي /54/ أربع وخمسون ، وفي القسم الثاني أي  غير القصصي نعدّ /18 / ثماني عشرة آية حوارية ، عشر منها خطاب من الله تعالى للنبي محمد عليه السلام ، واثنتان من جبريل للنبي محمد أيضاً ، أما الباقيات أي/ 6/ ست آيات فهي على لسان المعاندين المشركين فرداً أو جماعة. وهي نسبة عالية تسترعي الانتباه .

الواقعية النفسية لا اللغوية :

المتكلمون في قصص السورة أو في تضاعيفها ليسوا عرباً حتى يكون حوارهم كلهم باللغة العربية ، كما ( أن القرآن يصوغ جملاً تتناسب مع الشخصيات المتحاورة ، وتصدر عنها صدوراً قد يكون كاشفاً لهويتها في التقرير والمباشرة ، والقرآن لا يسف في لغته إذا كانت الشخصية ضحلة ، بل يأخذ بالواقعية النفسية ، وليس بالواقعية اللغوية ) (9)

زد على ذلك أن الروسم (الثيمة) القصصية اقتضت فنياً ودينياً التماثل في عدد من صيغ التعبير المتكررة في الحوار، لعل أبرزها ما جاء على لسان عيسى وما نسب إلى النبي يحيى عليهما السلام :

يقول الله تعالى في يحيى : ( وسلامٌ عليِهِ يوم ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً ) (الآية 15)

ويقول عيســـــــــــــــى  : ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) (الآية 33)

مثل ذلك قول النبي زكريا: ( ولم أكن بدعائكَ ربِّ شقيّاً ) (الآية 4)

وقول النبي إبراهيــــــــم : (..عسى ألا أكون َ بدعاء ربي شقيّاً ) ( الآية 48)

ثم قول مريم عليها السلام : ( ...ولم يمسسني بشر ، ولم أكُ بغيّاً ) (الآية 20)

وقول قومها لهـــــــــــــــا:  (.. ما كانَ أبوكِ امرأََ سَوءٍ وما كانت أُمُّكِ بغيّا ) (الآية 28) 

فهذه التوافقات ـ بل التكرار الفني في الألفاظ والمعاني والصيغ والتراكيب ليست توافقات مسبقة بين قائليها ، برغم قرابة الرحم ، زد على ذلك البعد الزماني والمكاني بين القائلين ، والفروق الشخصية بين كل منهم ، لكن الغرض الفني ثم الديني في إظهار الشبه بين هذه الشخصيات من خلال التوافق في حواراتها ، هو العامل الموحد لها ، أي البعد النفسي : من إيمان بالله وحبّ له وطاعة وتواصل في الرحم ، وهي القواسم المشتركة بين هذه الشخصيات الكريمة ، تعكسها صيغ الحوار التي نطقوا بها ، أو تحدثت عنهم ، وليس من الضروري أن يكونوا كلهم نطقوها حرفياً على هذا الشكل .

وهذا لم يمنع من ورود ألفاظ متفرقة ، يمكن أن تكون منقولة عن اللغة الأصلية    للمتحاورين ، ( فلفظة <سرِيّاً > معناها في السريانية : النهر الصغير ، وفي الموطن الذي ولد فيه المسيح تكثر الجداول التي تنبثق من عيون الماء التي تنبجس في أشهر الشتاء ، وتجف في الصيف ، إلا إذا امتلأ مخزون المياه الجوفية ... لفظة<سريّ> فيها إيجاز واستئناس بالبيئة ، فلغة البيئة كانت سريانية ..  وجرس  لفظة <سريّ >  تناسب السرية التي كانت فيها مريم ) (10) .

تنوع الحوار :

من حيث الأطراف المتحاورة هناك أربعة أنواع من الحوار :

     أ – الحوار السردي أو الأحادي .

     ب – الحوار الجدلي أو الثنائي .

     ج – الحوار الذاتي أو النجوى .

     د – الحوار غير المباشر .

 ومن حيث الأسلوب التعبيري هناك نوعان :

     أ – الحوار التصويري، لنفوس الشخصيات وعواطفها ومواقفها .

     ب – الحوار الحجاجي أو العقلي ، المتضمن قضايا عقلية وبراهين وحججاً متقابلة .

أما الحوار السردي حيث يخاطب أحد الطرفين الطرفَ الآخر ، فيستمع الثاني ولا يجيب ، أدباً أو خشوعاً أو طاعة أو انقطاعاً أو غير ذلك ، فأكثره ورد في خطاب الله تعالى للنبي محمد .. خطاباً شفيفاً في القسم الأول القصصي :

     ( ذِكرُ رحمة ربِّكَ عبدَهُ زكريَا) ( الآية 2)

     ( واذكرْ في الكتابِ مريمَ ...) ( الآية 16)

     ( واذكرْ في الكتابِ إبراهيمً ...) ( الآية 41)

     ( واذكرْ في الكتابِ موسى ...) ( الآية 51)

     ( واذكرْ في الكتابِ إسماعيلَ ...) ( الآية 54)  

     ( واذكرْ في الكتابِ إدريسَ ...) (الآية 56)

     ست مرات في بداية ست فقرات أو قصص ، لدرجة تظن أن المقصود هو القص نفسه ، لا شخص النبي محمد ، لكن المآل نفسه ، ألا وهو سوق القصص للنبي محمد ، فيما يساق وأول ما يساق ، لتسليته وتثبيته فضلاً عن تعليمه ، وفي الوقت نفسه للتعريض بنقيضهم من المعاندين المشركين والكافرين .

     كما خوطب النبي محمد في القسم الثاني من السورة ثماني مرات في الآيات (68 و75 و 76 و 77 و83 و 84 و 97 و 98 ) بشكل وافر واضح ، لا يقصد منه شخص الرسول ، بقدر ما يُقصد منه إشهادُه على تخرصات المعاندين في الدنيا ، أي أن الله تعالى يعلم ذلك منهم حق العلم ، كما يُقصد منه الرد عليهم بالحجج الدامغة ، وبالعقوبات الزاجرة ، في الدنيا والآخرة ، لعلهم ينتهون أو يهتدون .

     ( فوربِّكَ لنحشُرَنَّهم والشياطينَ ، ولنُحضِرَنَّهم حولَ جهنّمَ جِثيَاً )

     ( قل من كان في الضلالة ، فليَمدُدْ لهُ الرحمانُ مدّاً )

     ( ... والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندّ ربِّكَ ثواباً ، وخيرٌ مَرَدّاً )

     ( أفرأيتَ الذي كفرَ بآياتِنا ، وقالَ : لأوتِيَنَّ مالاً وولداً )

     ( ألم تَرَ أنَا أرسلنا الشياطينَ على الكافرينَ تؤزُّهم أزّاً )

     ( فلا تَعجَلْ عليهم ، إنما نعَُدُّ لهم عدّاً )

     ( فإنما يسرناهُ بِلِسانِكَ ، لِتُبشِّرَ بهِ المتقينَ ، وتُنذِرَ بهِ قوماُ لُدّاً )

     ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هل تُحسُّ لهم من أحدٍ ، أو تَسمعُ لهم رِكزاً )

     خطاب الله لنبيه في نوعيه : الشفيف في القسم الأول القصصي ، والخطاب الصريح الواضح في القسم الثاني .. هو الإطار العام للسورة ، لأن شخص النبي محمد في معركة الإيمان في العهد المكي .. بالغ الأهمية ، من أجل تسليته ومؤانسته ودعمه وتعليمه وتلقينه ، وطمأنته في الوقت نفسه إلى انتصاره ، وإلى هزيمة المعاندين المشركين في النتيجة ، كمن سبقهم من معاندي الأمم الماضية .

    يضاف إلى ذلك في القسم الثاني ما جاء على لسان جبريل عليه السلام ، خطاباً للنبي محمد أو رداً على المشركين في الوقت نفسه :

     يقول جبريل : ( وما نَتَنَزّلُ إلا بأمرِ ربِّكَ . لهُ ما بين أيدينا وما خلفنا وما بينّ ذلكَ . وما كانَ ربُّكَ نسيّاً . ربُّ السماواتِ والأرضِ ، فاعبدْهُ ، واصطبِرْ لِعبادتِهِ . هل تعلمُ لهُ سَمِيّاً )( الآيتان64 و65).

     والواضح من أغراض هذا الخطاب هو الردُّ على المعاندين الذين يطلبون من النبي آيات ، كما طلب منْ قبلهم من معاندي الأمم السابقة ، منها أن ينزل الله تعالى ملائكة من السماء لتشهد على صدق نبوة أنبيائه، فيقول جبريل للنبي محمد تعليماً وتلقيناً في الرد على معاندي مكة : إن تنزيل الملائكة ليس بهوى المعاندين ، إنما بقرار من الله تعالى ولحكمة منه ، كما أن الإيمان بالله رب السماوات والأرض ومن فيهن لا يحتاج لإنزال الملائكة على المعاندين ، وبالشكل الذي يشتهون ، بل إن الإيمان يجد براهينه في السماوات والأرض ، وفي أسماء الله الحسنى ، التي لا يشاركه فيها ولا في مدلولها أحد من خلقه . في آية أخرى يوضح القرآن شدة المعاندة والتعلل بطلبات مفتعلة لا يريدون منها غير اللجاج)  ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكةَ ، وكلّمهم الموتى، وحشرنا عليهم كلَّ شيءٍ  قُبُلاً ، ما كانوا ليؤمنوا ، إلا أن يشاءَ الله . ولكنَّ أكثرَهم يجهلونَ ) ( الأنعام : 111) .

أما الحوار الجدلي/الثنائي أي الحوار الذي يدور بين متحاورين اثنين ، فنجده في ثلاثة مواضع ، أحدها ما جاء نداءً من النبي زكريا  لربه ، وما أجاب به الله تعالى ، وسوف نتناوله بالتفصيل في الحوار التصويري .

     ثانيها ما دار من حوار بين الصدّيقة مريم وبين الملك جبريل .

     ثالثها ما دار من حوار بين النبي إبراهيم وبين أبيه .

     في حوار الصديقة مريم يسترعي انتباهنا خفر العذراء وحياؤها ، حين تفاجأ بدخول بشر غريب عليها، وقوله لها: ( ... لأهبَ لكِ غلاماً زكيًّاً ) (الآية 19) ، فأجفلت واستغربت فقالت : ( أنّى يكون لي غلام ، ولم يمسسني بشر ، ولم أكُ بغيّاً ) (الآية 20) . ثم في حوار الملك جبريل دقته في التعبير وفي نقله رسالة ربه المتضمن قراراً حاسماً : ( قال : كذلكِ قالَ ربُّكِ : هو عليَّ هيِّنٌ ، ولنجعلَه آيةً للناس ورحمة منّا ، وكانَ أمراً مقضيّاً ) (الآية 21) . وحين تمنّت الموت تخلصاً من وطأة هذا القرار الذي لا مردّ له ، لصعوبته على الأنثى العذراء ، المشهود لها ولأهلها بالعفة والصلاح ، يطمئنها ويواسيها : ( فناداها من تحتِها : ألا تحزَني . قد جعلَ ربُّكِ تحتكِ سَرِيّاً . وهُزّي إليكِ بجِزعِ النخلة تُساقطْ عليكِ رُطَباً جنِيّاً . فكُلي واشربي وقَرِّي عَيناً ) ( الآيتان 24 و25 ) ، وهي براهين ربانية وشهادة طهارة من الله تعالى ، وحماية وكرامة في الوقت نفسه . فإذا كانت الأنثى العذراء تُكلَّف هذا الحمل الثقيل استجابة لقضاء الله  ، فلتتحمل أيضاً يا محمد عبء الرسالة التي ندبك إليها ربُّك أيضاً .

     وفي تتمة الحوار بين مريم وجبريل تلقينها كيف تتصرف مع قومها ، حيث المواجهة الرهيبة لأنثى عذراء ، تحمل طفلاً من غير أب : ( فإمّا تَرِيِنَّ من البشرِ أحداً ، فقولي : إني نذرتُ للرحمانِ صوماً ، فلن أُكلِّمَ اليومَ إنسيّاً )( الآية 26) . الصوم عن الكلام يوفّر لها الجدال واللجاج ، وهي الأنثى الحيية الضعيفة بين الرجال ، كما يؤكد طهارتها وتقواها وصلتها بالله تعالى المعروفة من قبل .

     في حوار النبي إبراهيم مع أبيه يسترعي انتباهنا اللهجة الحانية البارة التي يبديها الابن النبي لأبيه المعاند وغلظة الأب في جوابه ، يضاف إلى ذلك نداءات الابن الشفوق للأب أربع مرات ، مشفوعة بالحجج من جهة ، وبالترغيب والترهيب ليحرك وجدانه من جهة ثانية ، وبالتحبب في الوقت نفسه ، على حين كان جواب الأب مرة واحدة ، يحمل التهديد والنبذ الشديدين :

     ( قال : أراغِبٌ أنت َ عن آلهتي يا إبراهيم . لئن لم تنتهِ لأرجُمَنَّكَ . واهجرني مَلِيّاً ) ( الآية 46)

     مع ذلك يقابله إبراهيم بالمسامحة وبالمسالمة ، ويعده بالدعاء له بالغفران :

     ( سلامٌ عليكَ . سأستغفرُ لكَ ربي . إنه كانَ بي حَفِيّاً ) ( الآية 47) .

     ما أجمل قوله: (سلامٌ عليك ) وما ألطفه وما أحلاه ! مقابل قول الأب : ( لأرجمنّكَ ) !!

أما حوار النجوى أي مخاطبة النفس أو الذات ، فهو ما جاء مرة واحدة على لسان الصدّيقة مريم لما تحقق قضاء الله بالحمل ، وأجاءها المخاض حقيقة إلى جذع النخلة :

     (  قالت : يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا ، وكنتُ نسياً منسيّاً ) ( الآية 23)

     وفي هذا القول الموجز المكثف ما فيه من جمال التعبير وصدق التصوير ، فالأنثى العذراء تستفظع حالها ، والصدمة التي نزلت بها ، فتدعو على نفسها بتمني الموت ، وهو أقسى ما يتمناه الإنسان لنفسه ، ولاسيما الإنسان المؤمن ، وفوق ذلك تتمنى النسيان من تاريخ الوجود ، تعبيراً عن هول الحال التي صارت إليها ، وهذا كافٍ للتعبير عن وطأة المحنة أو الابتلاء الذي مرت به فتاة ضعيفة عذراء تقية ، وهو المسوّغ لكي تكلم نفسها في أوج الأزمة .

     أما التعبير الأشد تكثيفاً وبراءة ، ومحاولة التكتم اليائسة على الحقيقة الباهرة ، فهي لفظة (هذا) النائبة عن التصريح بالحدث الجلل ، أي الحمل من غير أب . وفي هذه اللفظة الواحدة تُكتب سطور بل صفحات ، في اختزانها المعاني والمشاعر والأدب والخوف والبراءة والتهرب المسوغ ، ولا تقاربها في الإشعاع والثراء الفني إلا لفظة ( ولد ) في قول المشركين : ( اتخذَ الرحمنُ ولداً ) ( الآية 88) فكان جواب الله تعالى سريعاً ومباشراً ومهولاً في الوقت نفسه : ( لقد جئتم شيئاً إدّاً . تكاد السماواتُ يتفطَّرنَ منه وتنشقُّ الأرضُ وتَخِرُّ الجبالُ هَدّاً . أن دَعَوا للرحمانِ ولداً . وما ينبغي للرحمانِ أن يتخذ ولداً ) ( الآيات89 - 92) ، مما اقتضى تكرار لفظة ( ولداً ) تفظيعاً واستنكاراً وتهديداً ووعيداً ، على حين لم تكرر لفظة (هذا ) . ولكل من الإجمال والتفصيل مسوغاتهما الفنية والدينية على حدّ سواء .

أما الحوار غير المباشر فهو الحوار المعدول عن الجواب المواجه إلى صيغة غير مواجهة ، كالأجوبة التي ساقها القرآن جواباً من الله تعالى للمعاندين ، بحجة أو بتهديد أو ما شاكل ، من غير طريق الحوار المباشر المعروف . ونجده في ثلاثة مواضع :

     الموضع الأول : ( ويقول الإنسانُ : أإذا ما مِتُّ لسوف أُخرجُ حيّاً ) ( الآية 66)

     فيكون الجواب عليه غير المباشر : ( أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناهُ من قبلُ ، ولم يَكُ شيئاً )         ( الآية 67) .

     الموضع الثاني : ( ... قال الذين كفروا للذين آمنوا : أيُّ الفرقين خيرٌ مُقاماً وأحسنُ ندِياّ ) (الآية 73) .

     فكان الجواب غير المباشر عليه : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هم أحسنُ أثاثاً ورِئياً )             ( الآية 74 ) .

    الموضع الثالث : ( .. الذي كفر بآياتِنا ، وقالَ : لأوتَيَنَّ مالاُ وولداً ) ( الآية 77)

     فكان جوابه : ( أطلعَ الغيبَ ، أم اتخذ عندَ الرحمانِ عهداً ) ( الآية 78) وهي أسئلة استنكارية ، تنفي أن يكون اطلع على الغيب ، أو اتخذ عند الرحمان عهداً ، فهو كاذب ، وهو في الوقت نفسه يغش نفسه وغيره .

من أغراضه في هذه السورة الاستخفاف بالمتكلمين المعاندين من مشركين وكافرين ، مضافاً إلى ذلك الاحتقار لهم ، في إغفال أسمائهم بإضمار أو تعميم ، فلفظة(إنسان) لا تضيف (ال) التعريف لها تبياناً ، بل تعمم المعنى على الجنس ، وضمائر الفاعل في أفعال ( قال : لأوتَينَّ- من كان في الضلالة – قالوا  – أن دعوا ) لا تعود على أسماء أو مسميات محددة أيضاً. وهذا خلاف لتكريم الأنبياء والصالحين الذين ذكروا صراحة بأسمائهم في القسم الأول القصصي : ( زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ) ، مما يوضح المراد من قوله تعالى خطاباً للنبي محمد ست مرات ( واذكرْ في الكتابِ ..) ثم يعدد أسماء الأنبياء بعد ذلك .

والطريف المعبر اختصار قصص أنبياء ، مثل موسى وإسماعيل وإدريس ، حتى يكاد ما سيق من خبر عنهم أن يقتصر على ذكر أسمائهم تقريبا .  

من الحوار غير المباشر الإجابة بالإشارة بدلاً من الكلام الصريح ، ومثله إشارة الصديقة إلى عيسى الطفل ليخاطبه قومها ، وليجيب عن تساؤلاتهم :

     ( فأشارت إليه ) ( الآية 29)

     وقد فهموا إشارتها ، أو كلامها غير المباشر ، فقالوا مستغربين :

     ( كيف نكلم من كانَ في المهدِ صبيّاً ) ( الآية 29)

    وبالطبع كان عجبهم أكبر لما سمعوه يجيب على تساؤلاتهم ، وهو ( صبيّ) ، بل يبلغهم أنه نبيّ أيضاً.

    ومن الحوار غير المباشر نيابة متكلم جديد في الحوار عن المتكلم الثاني ، ومثله ما جاء على لسان النبي المسيح ، حين امتنعت أمه عن الكلام صوماً للرحمانِ ، وأشارت إلى قومها أن يكلموا الصبي النبي ، فردّ عليهم قائلاً :

     ( إني عبدُ الله آتاني الكتاب ، وجعلني نبيّاً . وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دُمتُ حيّاً . وبرّاً بوالدتي ، ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً . والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً )  ( الآيات 30 -33 ) .

من الإعجاز ومن البيان الساحر تساؤل قوم مريم في آية واحدة عن محاورة (صبي) ، فيجيبهم هذا (الصبي) بأربع آيات على تساؤلهم ، ويزيدهم معلومات حول مهمته النبوية ، وبره بوالدته   أيضاً ، إلماحاً إلى حاجتها للبر والرعاية بسبب المسؤولية الصعبة التي أسندها الله تعالى إليها ، وهي أنثى ضعيفة عذراء .

أما الحوار التصويري فهو الحوار الذي يعنى بتصوير ملامح الشخصيات المتحاورة ، ولا سيما بعدها النفسي ، وقد ورد معظمه في القسم الأول من السورة أي القسم القصصي ، حيث القصص الحوارية ، وكان التركيز على شخصيات ( زكريا ومريم وإبراهيم ) . ومن التركيز على هذه الشخصيات التعريج على النبي يحيى في الحديث عن أبيه زكريا ، ثم التعريج على النبي عيسى في الحديث عن أمه مريم  . أما شخصيات الأنبياء موسى وإسماعيل وإدريس ، فكان وصفها  من غير حوار ، وبحجم أقل ، يغني عنه ما جاء من أوصاف إخوانهم الآخرين من الأنبياء المذكورين ، عليهم السلام أجمعين .

شخصية النبي زكريا تعرض لنا في حواره أبعادها كلها ( الجسدية والنفسية والاجتماعية ) :

ففي البعد الجسدي نعلم أنه رجل كبير السن جداً ، عظامه واهية ، والشيب منتشر في رأسه : ( ربِّ إني وهن العظم مني ، واشتعل الرأس شيباً ...) ( الآية 4) .

وفي بعده النفسي نعلم أنه مؤمن بالله تعالى ، يتأدب في خطابه له ، ويستعين به ، فيخاطبه بصوت خافت ، ويكشف له ضعفه ، وحاجته لغلام يرثه ويحمل الرسالة التي يحملها من بعده ، ويعترف بمنن الله عليه من قبل ، من باب الشكر والعرفان بالجميل :

     (..  لم أكن بدعائك ربِّ شقيّاً ) (الآية 4)

     ( .... كانت امرأتي عاقراً ، فهب لي من لدنكَ وليّاً . يرثني ويرث من آل يعقوب ، واجعله ربِّ رضيًاً ) ( الآية 5 و6) .

     وهو خائف من أن تُضيع عشيرته وأقاربه هذا الدين من بعده بسبب حرمانه من النسل :

     ( وإني خفتُ المواليَ من ورائي وكانت امرأتي عاقراً ...) ( الآية 5) .

     وهو يتقي الله ، فيصوم ويسبح ، ويلزم المحراب :

     ( آيتكَ ألا تكلم الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّاً . فخرج على قومِهِ من المحرابِ ، فأوحى إليهم أن سبِّحوا بُكرةً وعَشِيّاً ) ( الآيتان 10 و11)

     وفي بعده الاجتماعي نعلم أن اسمه زكريا ، له زوج عاقر ، وله أقارب من حوله ، وهو في الوقت نفسه نبي ، استجاب الله دعاءه ورزقه غلاماً ، يبعث نبياً منذ نعومة أظفاره ، اسمه يحيى ، بارّ بوالديه تقيٌّ ، ميمون الطلعة ، مبارك من يوم ولادته حتى يوم وفاته :

      ( يا زكريا. إنّا نُبشرُكَ بغلامٍ اسمُه يحيى ، لم نجعلْ لهُ من قبلُ سميّاً ) ( الآية 7)

     ( يا يحيى . خذِ الكتابَ بقوةٍ . وآتيناهُ الحكمَ صبيّاً . وحناناً منّا وزكاةً وكان تقيّاً . وبَرّاً بوالديه ِ ، ولم يكن جباراً عصيّاً . وسلامٌ عليهِ يومَ ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً )( الآيات 13 - 15)

        تصوير الأبعاد الثلاثة لشخصية النبي ، من خلال الخطوط العريضة ،  والتفصيلات الموحية ، رسخت في مخيلتنا وأنفسنا صورة هذا النبي الكريم شاخصة واضحة محببة ، أسهم في ذلك الألفاظ والتراكيب الموحية بظلالها ( خفتُ الموالي – حنانًا منّا وزكاةً – ربِّ – ربِّ – ربِّ – ربِّ ) والصور البيانية مثل هذه الصورة التي بهرت البلاغيين قديماً وحديثاً ( واشتعل الرأس شيباً ) .

     والشأن نفسه في تصوير الحوار لشخصيتي الصدّيقة مريم والنبي إبراهيم . والملاحظ أن التصوير عني بإبراز علاقة هؤلاء الأنبياء والصالحين بربّهم من جهة ، ثم علاقتهم بأهلهم أو ذوي رحمهم ، ولاسيما الوالدين من جهة ثانية ، وهذان الجانبان من علاقة الإنسان ، هما الأساس والمنطلق لعلاقته بالمجتمع أي بالناس الآخرين .

     التصوير المعجز للشخصيات لا يتأتى من شمول الحوار لأبعاد الشخصيات ، ولا بإشعاع بعض الألفاظ والتراكيب وحسب ، فهناك جزئيات متغلغلة في تضاعيف مكونات النص بأسره ، من فاصلة الياء الممدودة بالفتح ، إلى تموج الجمل والآيات طولاً وقصراً ، إلى ألوان من التكرار اللطيف الساحر في الأحرف والكلمات والعبارات والتراكيب والصيغ . خذ مثلاً جوّ الرحمة وظلالها التي تمسح هذه السورة وشخصياتها بالذات بمسحة علوية ، أحسها الأديب سيد قطب في تفسيره وأشار إليها ، فقال : ( وإنك لتحسّ الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال ، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته ) (11) . وخيط من خيوط الرحمة التي تشمل الجو والشخصيات نلحظه في  تكرار لفظ ( الرحمة) أربع مرات في الآيات (2 و21  و50  و53 ) ، ولفظ الرحمان سبع عشرة مرة في الآيات ( 18 و 26 و 44 و 45 و 58 و 61 و 69 و 71 و 75 و 78 و 85 و 87 و88 و 91 و 92 و 93 و 96 ) ، مع العلم أن أسماء الله الحسنى المشهورة تعد تسعة وتسعين اسماً ، كثير منها ورد في سورة مريم ، لكن اسم الرحمان هو المختار أكثر للمعاني والظلال التي نحن بصددها . وفوق ذلك إن اختيار لفظ بعينه وتكراره مرات لا يكفيان ، بل لا بد من توظيف بليغ لكل مرة يستخدم فيها هذا اللفظ ، وهذا ما سنتناوله في التكرار الفني .

     ولما كان الجو السائد في السورة ، وفي قسمها القصصي أولاً ، هو جو الرحمة والتواصل والحنان ، لم يكن الصراع هو المحرك للحوار ، الصراع بمعناه الاختلاف أو التضاد أو العداوة ، بل كان على العكس صعوبات أو عقبات ، يعاني منها المحاور البشري ، ويتكفل الله تعالى بحلها ، مثل طلب النبي زكريا أن يكون له ولد صالح ، يتابع من بعده رسالته ، برغم بلوغه سن الكبر وعقم الزوج  .  ومثل الحكمة الربانية التي اقتضت أن تحمل الصدّيقة مريم بالمسيح ، وممانعتها ذلك بسبب المشقة البالغة على أنثى عذراء ، تحمل مثل هذا الحمل ، فيحاورها الملك جبريل مؤنساً ومطمئناً ، ثم منفذاً لقرار حاسم لا مردّ له ، يشفع ذلك كله بالكرامات التي وهبت لها ولابنها البارّ صبياً وشاباً وكهلاًً ، مما يحل الإشكال ويخفف الأزمة .

     أما حوار النبي إبراهيم مع أبيه ، فهو حوار ينطوي على صراع حقيقي أي صراع عداوة ، لكن من طرف واحد ، هو الأب . الابن ينادي يا (أبتِ ) ، ويتلطف بالدعوة  وبعرض الحجج والترغيب والتخويف من سوء العاقبة ، والأب على العكس يهدد ويتوعد ، ويهجر أخيراً ابنه مقاطعاً إياه ، تحت طائلة الرجم . ولذلك كان كلام النبي إبراهيم مطولاً مفصلاً في سبع آيات ، وكلام الأب محدوداً في آية واحدة .

     وقد تكفل حوار إبراهيم بالتدرج في العرض والتصعيد ، فقدم أولاً الحجج العقلية مع نداء البنوة :

    ( يا أبتِ . لم تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يُبصرُ ولا يُغني عنكَ شيئاً ) ( الآية42)

     ثم ثنى بالعلم الذي جاء ت به النبوة تعزيزاً للحجاج العقلي :

     ( يا . أبتِ . إني قد جاءني من العلم ما لم يأتكَ ، فاتبعني أهدك صراطاً سويّاً ) (الآية 43)

     ثم انتقل إلى التحذير من الانجرار إلى عبادة الشيطان العاصي ربه :

     ( يا أبت . لا تعبدِ الشيطان . إن الشيطان كانَ للرحمانِ عصيّاً ) ( الآية 44 )

     واستكمل التحذير بالترهيب الشفوق عليه :

     ( يا أبتِ . إني أخافُ أن يمسَّكَ عذابٌ من الرحمان ، فتكون للشيطان وليّاً ) ( الآية 45)

      ولما أجابه أبوه بجواب التهديد والمقاطعة والتهديد بالرجم ، ونفض يده من هدايته ، فارقه بسلام ووعده بالدعاء له بالغفران ، ومهد للمفارقة بإحسان :

     (سلامٌ عليكَ . سأستغفرُ لك ربي . إنه كانَ بي حفيّاً . وأعتزلكم وما تدعون من دون الله . وأدعو     ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيّاً ) (الآيتان 47 و48 ) .

     أما الحوار الحجاجي العقلي  فيدور حول قضايا عقلية بين المتحاورين ، مثل قضية (البعث ) بعد الموت ، و قضية( التوحيد ) أو ادّعاء شركاء لله تعالى من مال أو ولد أو أحجار ، وهما القضيتان اللتان تضمنهما الحوار في النصف الثاني من السورة .  وفي كل قضية تتوفر أركان مثل ( دعوى ) و( مدّعٍ ) و( مناقض  ) لهذا المدعي و ( بينة ) أو بينات تحسم الدعوى .

فقضية ( البعث بعد الموت) ينكرها مشركو مكة : ( ويقول الإنسان  أإذا ما مِتُ لسوف أُُخرجُ حيّاً ) (الآية 66) في صيغة سؤال إنكاري . فيرد الله على هذا الادعاء ببينة عقلية منطقية بأن البعث مؤكد بقدرة الله الذي خلق هذا الإنسان أول مرة ، ولم يكن شيئاً يذكر ، ومن باب أولى أن يقدر على خلقه أو إعادة الحياة إليه مرة أخرى : ( أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) ( الآية 67) .

     إلى هنا انتهت القضية عقلياً ، ويمكن أن نطوي الصفحة للانتقال إلى قضية أخرى ، لكن القرآن الكريم الذي لا يحرص على الغلبة للغلبة ، بل على الوصول إلى الإيمان والاطمئنان العميقين ، يعالج المتسائلين أو المعاندين بمخاطبة وجدانهم وقلوبهم ونفوسهم ترغيباً وترهيباً ، بقدر ما يخاطب عقولهم  وقناعاتهم ، ومن هذا الباب لم يصرح باسم السائل المتشكك أولاً ، وعمم السؤال على (جنس)  الإنسان ، لأنه سؤال يتكرر في أزمنة وأمكنة أخرى ثانياً ، وأضاف إلى البينة تهديداً  لمن يصرّ على دعواه الباطلة بالعذاب الشديد : (فوربِّكَ لنحشرنَّهم والشياطين ، ثم لنُحضِرنهم حول جهنّم جِثيّاُ . ثم لننزِعَنَّ من كلّ شيعةٍ أيهم أشدُّ على الرحمنِ عتيّاً . ثم لنحنُ أعلم بالذين هم أولى بها صِِليّاً ) ( الآيات 68-70) ، لأن الإنسان الذي لا يقتنع بالحجة والمنطق يعالج بالتخويف من سوء المصير والإصرار على الزيغ والضلال .

     وهنا تستيقظ  ذاكرتنا بالمناسبة ، لتستعيد الحديث عن (الولادات) العجيبة التي عمرت بها قصص القسم الأول في السورة : ولادة النبي (يحيى) ، وولادة النبي (عيسى) ، وهي ولادات غير مألوفة في العرف البشري ،  تذكر بقدرة الله تعالى في الخلق من عدم ، تلك القدرة التي عبر عنها كثيراً ، مثل القول :  ( خلقتك من قبلُ ولم تكُ شيئاً ) ( إنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) مرتين ( الآيتان 9 و 67) ، وقوله تعالى لنبيه يحيى لما استغرب أن يرزق بولد مع شيخوخته وعقم زوجه : ( قال: كذلكَ قال ربكَ : هو عليَّ هيِّنٌ.. ) (الآية9) أو قول جبريل عن الله تعالى لمريم لما تعجبت  من إمكان حملها ولم يمسسها بشر : ( قال :  كذلِكِ قال ربكِ : هو عليَّ هيِّنٌ ..)( الآية 21) .

     أما دعاوى الشرك بالله المنافي لقضية الوحدانية التي هي موضوع السورة الرئيس ، فيعرض لها القسم الثاني في ثلاثة مواضع :

     الموضع الأول هو لما استقوى الذين كفروا بغير الله من مٌقام رفيع أو جمع غفير من الأعوان أو النسل :

     ( قال الذين كفروا للذين آمنوا : أي الفريقينِ خيرٌ مُقاماً ، وأحسنُ نديّاً ) ( الآية 73) .

     لم يذكرهم الله تعالى بأنه هو الذي وهبهم الأولاد والجاه والأنصار والأعوان ، فلا حجة لهم في هذه الدعوى ، وإن جاءت في مواضع أخرى  ، بل انتقل إلى قدرته على الذهاب بهم ، وبما استقووا به ، مثلما ذهب بمن سبقهم من الأمم ، على الرغم من تمتعهم بما هو أحسن منهم منظراً وعدداً وقوة : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هم أحسن ُأثاثاً ورِئياً ) ( الآية 74) فجمع بذلك الحجة العقلية والترهيب النفسي .

     والموضع الثاني استقواء الكافر بالمال والولد من دون الله صراحة :

     ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال : لأوتَيَنَّ مالاً وولداً ) (77)

     فجاءه الجواب يدفع دعواه الباطلة بحجتين عقليتين : الأولى جهله بالغيب إن كان سيرزق بولد ومال أم لا . والثانية نفي أن يكون وعده الله الخالق بأن يرزق ولداً أو مالاً :

    (أطَّلعَ الغيبَ ، أم اتخذ عند الرحمانِ عهداً ) (الآية 78) .

     وهنا تستعيد ذاكرتنا وعد الله تعالى لنبيه زكريا بالولد ، وبقضائه للسيدة مريم بالحمل ، وبهبته لنبيه موسى بأخ نبي هو هارون ، للدلالة على أنه هو الذي يهب المال والبنين ، كما هو وحده الذي يهب الحياة ويسلبها من عباده ومخلوقاته .

     والموضع الثالث لما ادعى المشركون صراحة بأن لله تعالى ولداً :

     ( وقالو : اتخذ الرحمانُ ولداً ) (الآية88)

     فكان الجواب العقلي المنطقي مخالفة الدعوى للفطرة السليمة ولناموس الكون لدرجة ، أن السماوات تكاد تتفطر من فظاعتها ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال منهدة ، لأن اتخاذ الولد يناقض كمال الألوهية التي لا تحتاج لمن يكملها من ولد أو سواه من عبيده :

     ( لقد جئتم شيئاً إدّاً . تكاد السماواتُ يتفطرنَ منه وتنشقُّ الأرضُ ، وتخرُّ الجبالُ هدّاً . أن دعَوا للرحمانِ ولداً . وما ينبغي للرحمن أن يتخذَ ولداً . إن كلّ من في السماواتِ والأرض إلا أتي الرحمنِ عبداً ) ( الآيات 89- 92) .

     إن تصوير ارتجاف السماوات والأرض وانهداد الجبال على صحته ، يوظف في التأثير العاطفي النفسي من باب تفظيع الدعوى ، والترهيب لقائليها ، فكيف إذا أضيفت إليها زواجر أخرى :

     ( لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً . وكلّهم آتيهِ يومَ القيامةِ فرداً . )( الآيتان 94 و95) .

      وإتيان البشر يوم القيامة إلى الله تعالى فرادى يذكرنا أيضا ببطلان استقواء من استقوى بالولد والأعوان من مقام رفيع أو نديٍّ حسن من دون الله .

     ومع الترهيب يأتي الترغيب يحرك الوجدان ، فما يترك للنفس البشرية الصالحة من مناص للاقتناع والاستجابة ، إما بالعقل وإما بالترهيب وإما بالترغيب :

     ( إن الذين أمنوا وعملوا الصالحاتِ سيجعل لهمُ الرحمانُ وُدّاً . فإنما يسَّرناهُ بلسانِكَ لِتُبَشِّرَ به المُتَّقينَ ، وتُنذِرَ بهِ قوماً لُدّاً ) ( الأيتان96 و 97) .

تعدد مستويات الحوار :

وهو أن يعدل المتكلم في خطابه عن المقصود الظاهر من حواره إلى مخاطب أو مخاطبين آخرين . فالحوار السردي الأحادي الذي خوطب به النبي محمد في قسمَي السورة لم يقصد به تبادل الحوار مع النبي ، بل أريد به أن يسرد المولى تعالى عليه قصص الأنبياء والصالحين في القسم الأول ، ومحاججته للكافرين والمشركين في القسم الثاني ، فلذلك لم يجب النبي ، بل اكتفى بالسماع والتلقي قبولاً وطاعةً .  فكان لهذا الحوار أو الخطاب مستويان في القصد . ومثله خطاب الملك جبريل للنبي محمد ردّاً على تخرصات المعاندين .

     المستوى الثالث من الحوار حين تستعيد ذاكرة القاريء حديث الولادات العجيبة في القسم القصصي ، وهو يقرأ أو يتلو استنكار منكري البعث في القسم الثاني : ( ويقول الإنسانُ أإذا مِتُ لسوفَ أُخرَجُ حيّاً ) ( الآية 66) ، لأن من خلق الإنسان من عدم ، كخلق يحيى من أبٍ مسنٍ وأمٍّ   عاقر ، وخلق المسيح من غير أبٍ ، لهو قادر على أن يبعث الميت حيّاً . كما تستعيد الذاكرة وعد الله تعالى لزكريا بأن يهبه ولداً ، ومشيئته تعالى أن تحمل الصديقة مريم بولد ، وبأن يهب إبراهيم أولاده إسحاق ويعقوب ، ويهب النبيَّ موسى أخاهُ هارون نبيّاً أيضاً ، كل ذلك تستعيده الذاكرة حين تسمع كلام الذي كفر بآيات الله وادّعاءه بأنه سوف يمتلك المال والولد من غير مشيئة الله وتوفيقه : (أفرأيتَ الذي كفرَ بآياتِنا وقالَ : لأُوتَيَنَّ مالاً وولداً ) (الآية 77) ، ومثل ذلك ادعاء من يدعي أن يتخذ الله   ولداً ، في الوقت الذي اتضح في قصص زكريا والصدّيقة مريم وإبراهيم أن الإنسان العبد هو المحتاج إلى الولد ، كخوف يحيى الموالي من بعده إذا انقطع عقبه ، وحاجة موسى إلى أخ يساعده على مواجهة فرعون ، وهو أفصح منه لساناً ، كما ورد في سورة أخرى ، وفي الأحوال كلها كان الله القادر هو الذي يعطي ويمنح ،أو يستأصل الكفار والمشركين من الأمم السالفة ، فما حاجته لشريك من ولد أو سواه ؟ تستعيد الذاكرة هذه المعاني من الحوار القصصي حين تسمع المشركين يقولون في القسم الثاني : ( ..اتّخذَ الرحمانُ ولداً ) (الآية 88) . وهكذا يتضح أن القسم القصصي قام بمهمة المقدمة الضرورية ، أو التمهيد للقسم الثاني من وجوه عدة ، فاستحكم بناء لسورة الواحدة ، وتبادلت مكوناته التكامل والتناظر والإشعاع .

الالتفات في الحوار:

لما كان الحوار جزءًا من القصة الحوارية ، وكان الانتقال من السرد إلى الحوار ، ومن الحوار إلى السرد ، بات متوقعاً أيضاً أن يتم الانتقال بالضمائر والأفعال من ضمير الغائب  الذي يكثر في السرد إلى ضمير المتكلم أو المخاطب وبالعكس ، أي الالتفات في السياق من خطاب إلى خطاب .

    والالتفات في اصطلاح البلاغيين هو التحويل في التعبير الكلامي من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث : <التكلم والخطاب والغيبة>  ، مع أن الظاهر في متابعته الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أولاً ، دون التحول عنها (12) ، ومن أمثلته قوله تعالى : (قال : آيتك ألا تُكلِّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّاً . فخرج على قومِهِ من المحرابِ ، فأوحى إليهم أن سبِّحوا بُكرةً وعَشِيّاً ) ( الآيتان 10 و 11). فالآية الأولى كانت بضمير المخاطب ( آيتك ) ، أما الآية التالية فانتقل الخطاب فيها إلى ضمير الغائب : (خرج – قومه – إليهم ..).

      وهناك من البلاغيين من توسعوا بتعريف الالتفات كالسكاكي ليشمل كل انتقال في السياق بالضمائر أو الأفعال أو المعاني ، وهذا ما نذهب إليه ، كالانتقال من المفرد إلى المثنى أو الجمع وبالعكس ، أو الانتقال بين أزمنة الفعل من ماض ومضارع وأمر . فالذين حصروه بالانتقال بين الضمائر عدّوا له ستة صور لا غير (13) ، على حين نرى أن صوره أكثر من ذلك بكثير .

     ولقد عني النقاد المحدثون بالالتفات ، وأدرجوه في المصطلحات الحديثة مثل ( مستويات القص – الالتفات السردي ) ( 14 ) ، وكشفوا عن أسرار الجمال البياني في الالتفات غير التي فطن إليها البلاغييون القدامى ، لأن القدامى شغلوا بالجزئيات عن الكليات .

     فطن البلاغيون لست من فوائد الالتفات ، وهي :

     1 – فنية التنويع في العبارة ، المثير لانتباه المتلقي ، والباعث لنشاطه في استقبال ما يوجّه  من كلام ، والإصغاء إليه ، والتفكير فيه .

     2 – الاقتصاد والإيجاز في التعبير . مثل حذف أفعال القول أو ما يمهد للانتقال .

     3 – الإعراض عن المخاطبين ، لأنهم عن البيانات معرضون أو مُدبرون وغير مكترثين .

    4 – إفادة معنى تتضمنه العبارة التي حصل الالتفات إليها ، وهذا المعنى لا يُستفاد إذا جرى القول وفق مقتضى الظاهر .

     5 – ما يُستفاد من معنى بالالتفات إنما يستفاد إلماحاً بطريق غير مباشر ، ومعلوم أن الطرق غير المباشرة تكون أكثر تأثيراً من الطرق المباشرة حينما تقتضي أحوال المتلقين ذلك .

6 – إشعار مختلف زمر المقصودين بالكلام ، أنهم محلّ اهتمام المتكلم ، ولو لم يكونوا من الزمرة المتحدث عنها أولاً ، ويظهر هذا في النصوص الموجهة لجميع الناس كنصوص القرآن . ( 15 ) .

     ومما رصدنا سبعة وعشرون التفاتاً ، أربعة عشر منها انتقال من السرد إلى الحوار ، خمسة منها إلى ضمير المتكلم في الآيات ( 7 و 36 و 66 و 68 و89) ، وتسعة أخرى انتقال إلى ضمير المخاطب في الآيات ( 16 و 41 و 51 و 54 و 56 و 71 و 75 و 83 و 97) .

     أما الانتقال من الحوار إلى السرد فرصدنا انتقالين من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب في الآيتين (11 و73 ) وتسعة انتقالات من ضمير المتكلم إلى الغائب في الآيات ( 12 و 22 و 27 و 34 و 40 و 49 و 68 و 81 و 88 ) .

     كما رصدنا انتقالاً أو التفاتاً واحداً من ضمير المخاطب المفرد إلى ضمير المخاطب الجمع ( الآية 71 ) . في قوله تعالى ( فوربّكَ لنحشُرنَّهم والشياطين َ ........وإن منكم إلا واردُها كانَ على ربِّكَ حتماً مقضيّاً ) ( الآية 71) .

     ولو رحنا نكشف عن جماليات هذا الحجم الوافر من الالتفات ، لاحتجنا إلى بحث مستقل . ونكتفي باختيار بعضها للتمثيل .

     ( في قصة زكريا ويحيى انتقالات سردية في أكثر من موطن ، فبعد دعاء زكريا الخاشع في بداية سورة مريم استجيب دعاؤه ( فخرج على قومهِ من المحرابِ فأوحى إليهم أنْ سبِّحوا بُكرةً وعشيّاً .يا يحيى . خذ الكتابَ بقوة . وآتيناهُ الحكمَ صبيّاً ) (الآيتان 11و12) فمن السرد بضمير الغائب (خرج ، أوحى ) انتقل الخطاب إلى يحيى بضمير المخاطب (خذ الكتاب ) ، فهنا قفزتان سرديتان مندمجتان : ألأولى في الضمائر من الغياب إلى الخطاب ، والثانية : في الزمان من عهد البشارة التي جاءت زكريا إلى عهد يحيى إذ يتخذ الكتاب بقوة عند بلوغه رشده واضطلاعه بالنبوة ، ثم يعود السرد من الخطاب بفعل الأمر(خذ) إلى السرد بالفعل الماضي مع الضمير الغائب ( وآتيناه ) ، فهنا عودة إلى صبا يحيى حين آتاه الحكم لتبرر أخذه الكتاب بقوة فيما بعد ... كأن الخطاب هنا إلى يحيى ( يا يحيى...) كان جسراً نصيّاً عبر من فوقه السرد من زكريا والبشارة إلى قصة يحيى ونبوته ! ثم استمر الحديث عن يحيى ( وحناناً منّا وزكاةً وكانَ تقيّاً ، وبرّاً بوالديه ، ولم يكن جبّاراً عصيّاً ، وسلامٌ عليهِ يوم ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً ) ( الآيتان 13 و 15 ) . هذا السرد الرخيم في شأن يحيى جاء بضمير الغائب ، بينما جاء ما يشبهه في نفس السورة على لسان عيسى بضمير المتكلم واصفاً حاله ( وبرّاً بوالدتي ، ولم يجعلني جباراً شقيّاً . والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآيتان 32 و33)  . المدهش في هذه الشهادة أنها جاءت من طفل وليد لتوّه . فأن يُخبرنا يحيى عن نفسه بضمير المتكلم فذلك الإدهاش المقصود فنيّاً ، والمؤثر أيضاً ! فلذعة معجزة ميلاد عيسى في القصة تتوج بحديث الوليد عن نفسه بنفسه ، مما يحرك النفوس إعجازيّاً في الحادثة والحديث ! ) ( 16 ) .

     ومن الالتفاتات المؤثرة توقف كلام النبي المسيح بضمير المتكلم باعتراض آيتين وسطه بضمير الغائب في قوله تعالى : ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) (الآية 33) والكلام لعيسى بضمير المتكلم ، فينتقل الكلام إلى ضمير الغائب ( ذلك عيسى ابنُ مريمَ قولَ الحقِّ الذي فيهِ يَمترون َ . ما كانَ للهِ أن يتخذ من ولدٍ سبحانه . إذا قضى أمراً فإنما يقول له كنْ فيكون ) (الآيتان 34 و 35) ، ثم يكون الانتقال إلى ضمير المتكلم ، وهو في الحقيقة استمرار لضمير المتكلم قبل اعتراض الآيتين السابقتين بضمير الغائب ( وإن الله ربي وربُكم فاعبدوه . هذا صراطٌ مستقيم ) ( الآية 36 ) . ومن الملاحظ أنه حصل انتقال أيضاً من فاصلة الياء المفتوحة (حيّاً ) إلى فاصلة النون(ن) والميم الساكنتين . والفائدة البليغة من قطع كلام المسيح والعودة إليه ، هو أهمية المناسبة للبرهان على بشريته التي اختلف فيها أتباعه ، وخصوصاً أنه يصرح بنفسه أنه بشر (يولد ويموت ويُبعث) ، ذلك لأن كلام المسيح بضمير المتكلم استحضار لشخصه أمام أعيننا وأعين المتلقين عياناً ، وقطع حديثه ، كما رأينا، هو تقرير للحقيقة بحضوره ، وتصديق منه أيضاً .

     على أن الإعجاب لا ينقضي من روعة الالتفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في قوله تعالى ( وقالوا : اتخذ الرحمانُ ولداً . لقدْ جئتم شيئاً إدّاً . تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه وتنشقُّ الأرض وتَخِرُّ الجبالُ هدّاً ) (الآيات 88-90) ففظاعة ادعاء المشركين أن الرحمن اتَّخذَ ولداً ، اقتضت سرعة الانتقال ليتكلم الله تعالى مخاطباً إياهم ( لقد جئتم شيئاً إدّاً ) بشكل مباشر، ومن غير مقدمات ، ولا فعل (قال) الذي يرد أحياناً في بدايات الحوار ، ويعقب على ذلك بتصوير أثر هذه القالة الفظيعة بمزيد من الهول ، من خلال ارتجاف الكائنات والسماوات والأرضين والجبال ( تكاد السماوات يتفطّرنَ منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً ) .

     كل ما ذكر من التفات أو معظمه كان في حال انتقال السياق من السرد إلى الحوار وبالعكس ، وهناك أيضاً الالتفات داخل الحوار نفسه ، نمثل له بقوله تعالى ( قل من كان في الضلالة ، فليمدُدْ لهُ الرحمانُ مدّاً . حتى إذا رأوا ما يوعدونَ : إمّا الساعةَ وإمّا العذابَ ، فسيعلمون من هو شرٌّ مكاناً ، وأضعفُ جنداً ) (الآية 75) ، فقد بدأ السياق بضمير المتكلم ( قلْ ) والحديث عن المعاند بصيغة المفرد الغائب ( من كانَ – لهُ ) ، ثم انتقل أو التفت إلى ضمير الجمع الغائب ( رأوا – يوعدونَ – فسيعلمونَ ) . وفي هذا الالتفات توكيد على أن المقصود في لفظ (منْ) ليس فرداً بعينه ، حتى ولو كان كذلك ، فإن المصير نفسه ولو أصبح المعاندون جموعاً ( رأوا ما يوعدون ) ، لأن تجمعهم لا يغني عنهم من الله شيئاً . والطريف المخيف أنهم لا ينتظرهم إلا الاختيار من خيارين ، وكل منهما أشد من الآخر ( إمّا الساعةَ ، وإمّا العذابَ ) فبئس الضلال وبئس الخيار في المآل .

التكرار في الحوار :

لأهمية قانون التكرار في علم الجمال يجعله بعض الدارسين قسيماً لقوانين الإيقاع الأخرى ( من نظام وتساوٍ وتوازٍ وتوازن وتلازم ) ، فيدرجونها تحته ، ما عدا قانون (التغير) ، ويرون أن عنصر الجمال يدور على الانسجام ( 17 ) وأن الانسجام كله ، مداره على التنويع والتكرار.

     وقد عني بظاهرة التكرار القدماء والمحدثون  في القرآن الكريم وغيره ، وكشفوا عن عدد من دلالاته وجمالياته ، أهمها : التأكيد ، والترنم الموسيقي ، والقفل أو التقسيم وإثارة الانفعال ( 18 ) .

      ولوفرة التكرار في الحوار سوف نتناوله على مستويات ثلاثة : الآية فالمقطع فالسورة .

     أما التكرار على مستوى الآية ، فنتناوله من حيت البنية العامة للآية ، ثم من حيث المكونات الداخلية لها .

     في بنية الآية العامة نلحظ تكرار البدايات : ( يا أبت إني قد جاءني من العلم – يا أبتٍ لا تعبدِ الشيطانَ – يا أبت إني أخاف أن يمسَّكَ عذابٌ ) (الآيات 43-45) ، وقد سبقها النسق نفسه في تضاعيف الآية السابقة : ( إذ قال لأبيه : يا أبتِ لم تعبدُ ما لا يسمعُ ) (الآية 42) ، وفي هذا التكرار ما فيه من تلطف في النداء ، وإلحاح في المعاني أو توكيد ، فضلاً عن الأثر الموسيقي .

     وفي بنية الآية نلحظ ختم الآية بفاصلة ، وهي كلمة الآية كقافية الشعر وسجعة النثر، متماثلة الروي ، تسهم في التوقيع الموسيقي على مستوى الآية والمقطع والسورة ، ولو تغيرت إلى روي الياء والنون أو الدال المحركة بالفتح ، فضلاً عن علاقة معناها بأربعة أنواع من العلاقة : كالتمكين والتصدير والتوشيح والإيغال (19) . إن تكرار فاصلة وورودها من جهة ، وعلى رويّ معين من حهة ثانية ، كل ذلك يثير التوقع أو يشبعه ، بما يبعث على الطرب أو الانشداد إلى النص وموحياته . فإذا تكررت ألفاظ أو تراكيب بعينها ، وهو ما سوف ندرسه في موضع آخر ، زاد التأثير والإيحاء ، وترابط الأجزاء بالكل .

     من حيث مكونات الآية الداخلية نلحظ تكرار صيغ في بعضها مثل ( وسلام عليه يومَ ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يبُعثُ حيّاً ) الآية(15)  تكرار حروف العطف وتكرار جمل الأفعال المضارعة المضافة إلى ( يوم ) ثلاث مرات ، مما يؤكد المعاني ، ويبعث على الترنم الموسيقي في الوقت نفسه . والأمر نفسه في قول المسيح ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآية 33) مثله تقسيم الآية قسمين ( واذكرْ في الكتاب .. . إنه كانَ ...) خمس مرات في  ( الآيات 16 و41 و 51 و 54 و 56 ).

     وعلى مستوى المقطع ( مجوعة آيات ) نلحظ تكرار البدايات : ( واذكرْ في الكتابِ مريم – واذكر في الكتابِ إبراهيمَ – واذكرْ في الكتابِ موسى - واذكرْ في الكتابِ إسماعيلَ – واذكر في الكتابِ إدريسَ ) ( الآيات 16 و 41 و51 و 54 و 56) ، ومن قبلها افتتاح السورة ببداية مقاربة ( ذكرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريا) (الآية2) ، وهي بدايات تسهم في الإشعار بالقفل أي بداية مقطع أو قصة ونهاية مقطع آخر أو قصة أخرى ، أو التقسيم المتماسك للسورة . هذا التكرار نفسه يحمل دلالاتٍ أخرى ، مثل الإيحاء بالشبه والتماثل بين القصص المذكورة ، وبين الأنبياء والصالحين الذين تحدثت عنهم ، ووحدة الرسالة غرض مهم من أغراض العقيدة .

     كما يسترعي انتباهنا انفراد مقطع من ست آيات بفاصلة ، تكرر رويها على حرف النون أو الميم الساكنتين المردوفتين بالواو أو الياء ، التي هي فاصلة القرآن الأثيرة ، وهي مخالفة لفواصل السورة التي جاءت محركة الروي بحركة الفتح ، وحتى للفواصل التي اعترضت سياقها ، فقسمتها قسمين متقاربين ، وهي فواصل الياء الممدودة بالفتح أو ألف الإطلاق .

     المقطع المشار إليه هو مجموعة الآيات ( 34 – 40 ) ( ذلك عيسى ابنُ مريم قولَ الحقِّ.......إنّا نحن نرث الأرض ومن عليها ، وإلينا يُرجعون) ، وقد فطن سيد قطب في ( ظلاله ) إلى دلالة تبدل الفاصلة في هذا المقطع عما قبله وبعده فقال : (إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ، وللفصل في قضية بنوته. فيختلف نظام الفواصل والقوافي .. تطول الفاصلة <أي الآية> وتنتهي القافية بحرف الميم والنون المستقر الساكن عند الوقف بالياء المدودة الرخية ...حتى إذا انتهى التقرير والفصل عاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة ) ( 20 ) .

     مثل ذلك يقال عن قسمَي السورة الآخرين أو مقطعيها الطويلين ، القسم الأول الذي جاء على فاصلة الياء الممدودة بالفتح ( الآيات2 - 33 و 41 – 74 ) ، والقسم الثاني الذي جاء على فاصلة الدال المحركة بالفتح (الآيات 75 – 98 ).

    وعلى مستوى السورة نلحظ التكرار في ألفاظ وتراكيب بعينها ، ثم تكرار آية بما يشبه اللازمة ، وأخيراً اضطراد الفاصلة .

     سبق أن أشرنا إلى تكرر لفظ (الرحمة) أربع مرات ، ولفظ ( الرحمان) سبع عشرة مرة  ، وأشرنا إلى أثر ذلك في إشاعة جوّ الرحمة والتواصل في السورة ، ومثل ذلك تكرار ألفاظ (عبد : 12 مرة ) و(ربّ : 16 مرة ) وعلاقتهما بالموضوع الرئيس للسورة ، وهو (التوحيد) في العقيدة . ونشير إلى مجموعة من الألفاظ تكررت بأكثر مما هي مألوفة نسبياً في العادة ، مثل : ( جعل : ست مرات ) و (حيّ : 4 مرات)  و( سلام  - شقيّ – ولد -  شيء - نرث يرث: 3 مرات ) و مرتين لكل من ( فرد –عهد – مدّ – بغيّ – صبيّ – والدان – نرث – تقيّ – آتى ) ، وهي كلها تسهم في وحدة الجو أو وحدة السورة ، وبعضها  له دلالته الموضعية بالإضافة إلى ذلك ، مثل لفظ ( ولد ) التي كان تكرارها يثير الانفعال ، ويرسم جو الهول والتفظيع من ادعاء الولد لله سبحانه .

      ولنتأمل لفظ (الرحمان) في سياقين مختلفين : سياق الاستنكار( وقالوا اتخذ الرحمانُ ولداً ) (الآية 88) ، وسياق الإكرام ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سيجعلُ لهم الرحمانُ وُدّاً ) ( الآية 96) ، ففي السياق الأول إظهار لنكران جميل الرحمان ثم الافتراء عليه فوق ذلك بالشرك ، وأما في الثانية فإشاعة للرحمة مع الوداد الرباني الذي ينتظر المؤمنين .

     ومثل ذلك لفظ (شيء) في آيات ثلاث متباعدات :

     قوله تعالى للنبي يحيى : ( قال كذلكَ قالَ ربُّكَ : هو عليَّ هيِّنٌ ، وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ  شيئاً ) ( الآية9) .

     وقول النبي إبراهيم لأبيه : ( يا أبتِ لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يُبصرُ ولا يغني عنكَ شيئاً ) ( الآية 42) .

     وقوله تعالى : ( أو لا يذكرُ الإنسانُ أنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) ( الآية 67) ، فهي على الرغم من دلالتها التوكيد على قدرة الخالق ووحدانيته .. تسهم في وحدة السورة .

      أما تكرار التراكيب أو الصيغ فلا يقل عن تكرار الألفاظ  ، من ذلك :

     ( لم أكن بدعائك ربِّ شقيّاً ) (الآية4 ) و( عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيّاً ) (الآية 48)

     و(كانَ رسولاً نبياً ) ( في الآيتين51 و54 ) ، وقريب من ذلك (كانَ صدّيقاً نبيّاً ) (الآية 56) .

     و( كذلكَ قالَ ربُّكَ : هو علي هيِّنٌ ) في الآيتين (9 و21) بتعديل حركة كاف المخاطب من الفتح إلى الكسر.

     و( لم أكُ بغيّاً ) (الآية 20) و( وما كانت أُمُّكِ بغيّاً ) ( الآية 28) .

     و( بُكرةً وعشيّاً ) (في الآيتين 11 و62 )

     وقريب من ذلك ( فليَمدُدْ له الرحمنُ مدّاً ) (الآية 75) و ( ونمدُّ لهُ من العذابِ مدّاً ) (الآية79)

     و( ...  تؤزُّهم أزّاً ) (الآية83)

     أو ( لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً ) (الآية94) أو ( ... خيرٌ عندَ ربِّكَ ثوابا ً وخيرٌ مردّاً ) (الآية 76)

     واجتماع أنواع من التكرار في بعض الآيات لدرجة تقترب من تشكيل (اللازمة ) :

     ( سلامٌ عليهِ يومَ ولد ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً ) (الآية 15) والآية ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) (33) .

     أو الآيات التي افتتح بها عدد من المقاطع والقصص( واذكر في الكتاب .. إنه كان ... ) خمس   مرات ، فهي بالإضافة إلى دورها في التقسيم افتتاحاً أو قفلاً ، تسهم في الجو الموسيقي العام المتناغم من الألفاظ إلى العبارات والتراكيب ، فالفواصل ، فاللوازم انسجاماً وائتلافاً . 

     أما اضطراد الفاصلة فهي مزية القرآن كله أولاً ، وملاءمتها لمواضعها ثانياً ، وإسهامها في رسم الجوّ العام للسورة ثالثاً . وقد عرضنا لكثير من جوانب الفاصلة في تضاعيف البحث ، لكن يستوقفنا هنا حركة الفتح التي اضطردت في معظم الفواصل ، أو التي حروف رويها على الياء وعلى الدال ، لأن المألوف في حروف القافية أن يكون التماثل أو الاضطراد في حروف الروي ، وليس في حركات حروف الروي ، وهذه  في الحقيقة مزية من مزايا التعبير القرآني .

إن إحلال حركة الروي محل الروي نفسه أصعب ، لكنه إذا تحقق فهو أجمل ، فكيف استطاعت الفواصل تحقيق هذه الخطوة الجمالية ؟

     إن التزام حركة الفتح ، وهي صوت جهوري ، كفيل بالنهوض بهذه المهمة ، وسوف ندرسها ببحث مفصل في فواصل سور أخرى التزمت حركة الفتح أيضاً .

     وهناك وسائل أخرى أسهمت في هذه الخطوة ، نضرب مثلاً عليها من أول آية تمَّ الانتقال فيها من فاصلة الياء إلى فاصلة الدال :  

     ( وكم أهلكنا قبلَهم من قرنٍ ، هم أحسنُ أثاثاً ورِئياً ) (الآية74)

     (قل من كانَ في الضلالةِ فليمدُدْ له الرحمنُ مدّاً .

     حتى إذا رأوا ما يوعدون : إما الساعةَ وإمّا العذابَ فسيعلمونَ من هو شرٌّ مكاناً ، وأضعفُ جنداً ) (الآية 75) .

     ففي الآية 75 التي تم فيها الانتقال من رويّ الياء إلى روي الدال .. نلحظ العوامل المساعدة :

     أولاً : مهد السياق للفاصلة(جُنداً ) بفاصلة داخلية مماثلة( مدّاً ) ، وهي مهمة جداً في هذه الخطوة.

     ثانياً : لاحظ وفرة حركات الفتح في الألفاظ ( كانَ – مداً – حتى – يوعدونَ – الساعةَ – العذابَ – فسيعلمونَ – هو – مكاناً – جُنداً ) .

    ثالثاً : الطول النسبي للآية يساوي ضعف الآية السابقة ، مما يبقي في الذاكرة الصوتية على أثر حركة الفتح أكثر من الإبقاء على حرف الياء .

    رابعاً: تمكن كلمة الفاصلة الجديدة(جُنداً ) في موقعها من الآية : موقعها من عبارتَي التفضيل      ( من هو شرٌّ مكاناً وأضعفُ جُنداً ) حتى ليكاد القاريء أن يحزرها قبل التلفظ بها ، ثم موقعها من مجموع الآية أيضاً ، ولاسيما ترجيعها الموسيقي للفظ (مدّاً ) .

     ومثل ذلك في الفاصلتين المتباعدتين (أزّاً ) (رِكزاً ) ، فهما فاصلتان تختلفان عن روي الياء أو الدال ، وقد وردتا في سياق روي الدال ، وكان لهما الأثر الطيب أيضاً . كيف سّوغا لنفسيهما الاستبدال ، ثم التأثير الجميل الآسر ؟

     أولاً : نهضت حركة الفتح بالدور الأول .

     ثانياً : تكرر حرف الروي لكل منهما على الزاي .

     ثالثاً : البنية الداخلية لكل آية وردا  فيها .

      لاحظ معي عبارة ( تؤزّهم أزّاً ) ففعل (تؤز) يستدعي المفعول المطلق(أزّاً ) معنوياً ، وينسجم معه لفظياً ، ثم علاقة الجملة (تؤزه أزّاً ) بالفعل (أرسلنا ) ، أي كيف أُرسل الشياطين ؟ وقريب من ذلك فاصلة (رِكزاً ) ( ..هل تُحسُ منهم من أحدٍ أو تسمعُ لهم رِكزاً ) ، فهنا توازن بين جملتين (تحسُ من أحد) و( تسمع لهم رِكزاً ) ، فضلاً عن حركة الفتح وبلوغ الترهيب للكافرين والمشركين أقصاه .

              

الهوامش:

(1) – في ظلال القرآن – سيد قطب – دار الشروق – بيروت والقاهرة – ط17 – 1412هـ =1992م –

         ج16 – ص 2326 و 2299 .

(2) – المرجع السابق : ص 2300 .

(3) – المرجع نفسه : ص 2300 .

(4) _ نفسه : ص 2300- 2301 .

(5) _ نفسه – ص 2357 .

(6) _ نفسه : ص 2315 .

(7) _ رياض الصالحين – يحيى بن شرف النووي – تحقيق عبد الله أحمد أبو زينة – باب فضل قيام الليل –

         دار العلوم الحديثة – بيروت – ط13 رمضان 1390هـ - ص 351 - ذكر المؤلف : حديث

         شريف ( متفق عليه ) .      

(8) _ الظاهرة القرآنية – مالك بن نبي – دار القرآن الكريم – ط 1398هـ = 1975م – ص 194 .

(9)   –  دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية – د . سليمان الطراونة – ص : 172 – ط1 – 1413 هـ = 1992م – عمان – الأردن .

(10)    - المرجع السابق – ص : 162 .

(11)   – في ظلال القرآن – سيد قطب – ج16/2300- دار الشروق – القاهرة بيروت- ط17 – 1412هـ = 1992م .

(12)    – البلاغة العربية – عبد الرحمن حبنكة – ص : 479 – دار القلم – الدار الشامية – ط : 1416هـ = 1996 م .

(13)   – المرجع السابق – ص : 482 .

(14)   – دراية نصية أدبية في القصة القرآنية – ص : 118 .

(15)   – البلاغة العربية – ص : 482 – 484 م .

(16)   – دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية – ص : 134- 135 .

(17)   – المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها – د . عبد الله الطيب المجذوب – ج2 / 37 – نشر مصطفى البابي الحلبي وأولاده في مصر – ط1 – 1955م .

(18)– الفاصلة في القرآن – محمد الحسناوي – ص : 278 – 284 – ط3 – 1421 هـ = 2000م – دار عمار للنشر والتوزيع – عمان – الأردن .

(19) – المرجع السابق – ص : 286 – 291 .

(20) –في ظلال القرآن –  ج16/2300- 2301 .