الشَّهَادَةُ والشُّهَدَاء
في ديوان الشعر العربي
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرى مسرى الأمثال قولهم "العرب أمة شاعرة". وكذلك قولهم "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم وأيامهم، ومسيرتة حياتهم.
عزيزي القارئ:لقدقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ...).التوبة 111
وقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). آل عمران 169
لقد جعل الله سبحانه وتعالى للشهادة قيمة رفيعة، وللشهداء منزلة عليا. وعلى مدار العصور كان للشهادة والشهداءِ مكانٌ مرموق في ديوان الشعر العربي، وسنعيش هذه الحلقة من ديوان العرب مع الشهادة والشهداء.
* * *
عزيزي القارئ ، تعال معي إلى يوم من شهر جُمادَى الأولى في العام الثامن الهجري، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يودع جيشًا من ثلاثة آلاف مسلم متجهًا إلى قتال الروم في الشام. "قائد الجيش زيد بن حارثة، فإن استشهد فجعفر بن أبي طالب، فإن استشهد فالقائد عبد الله بن رواحة" . كانت هذه هي وصيةُ النبي عليه الصلاة والسلام للجيش المسلم، ويواجه جيش الآلاف الثلاثة، جيشًا للروم وأحلافهم من مائة ألف ، ويستشهد القائدان زيد بن حارثة ، ثم جعفر بن أبي طالب، ويأتي دور عبد الله بن رواحةَ في القيادة، فيتقدم، لكن يأخذه شيء من التردد، فيخاطب نفسه قائلاً:
أقـسـمت يا نفس قد أجلب الناس وشدوا الرنة قد طالَ ما قد كنت مطمئنةْ يـا نـفس إلا تقتلي تموتي ومـا تـمنيتِ فقد أعطيت | لتنزلنهْلـتـنـزلـن أو مـالي أراك تكرهين الجنةْ هـل أن إلا نطفة في شنهْ هذا حمام الموت قد صليتِ إن تـفـعـلي فعلها هُديت | لتكرهنةْ
وحمل الراية وأخذ يقاتل إلى أن لقي ربه شهيدًا.
وفي شهداء مؤتة يقول حسانُ بن ثابت رضي الله عنه:
فـلا يـبعدن الله قتلى وزيد، وعبد الله حين تتابعوا غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم فطاعنَ حتى مال غير موسد فـصار مع المستشهدين ثوابه | تتابعوابمؤتة منهم ذو الجناحين جـميعا، وأسباب المنية تخطر إلى الموت ميمون النقيبة أزهرُ بـمـعـتـرك فيه قنا مُتكسرُ جـنان وملتف الحدائق أخضرُ | جعفرُ
* * *
ومن الشعراء المجاهدين في العصر الحديث الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود، الذي خاض معارك متعددة في الأربعينيات ضد المستعمرين الإنجليز والصهاينة في فلسطين، وهو صاحب القصيدة المشهورة التي يقول فيها:
سأحمل روحي على راحتي فـإمـا حياة تسر الصديق ونفس الشريف لها غايتان | وألقي بها في مهاوي الردى وإمـا مـمات يغيظ العدى ورود الـمنايا، ونيلُ المنَى |
وعاش طيلة حياته يتغزل في الشهادة، ويتمناها، إلى أن حقق الله أمنيته، فاستشهد في معركة (الشجرة) في الثالث عشر من تموز سنة ثمانٍ وأربعين وتسعمائة وألف (1948م):
إن المجاهد حينما يجود بنفسه في سبيل دينه ووطنه، إنما يؤدي واجبًا لازمًا، ويسدد ضريبة شريفة نبيلة، وبأمثال هؤلاء الشهداء تعيشُ الأمم، وتؤكد قيمتها في مسيرة الحياة. وفي هذا المعنى يقول أحمد شوقي:
ولـلأوطـان في دم كل ومن يشقي، ويشرب بالمنايا ولا يـبني الممالك كالضحايا فـفـي القتلى لأجيال حياة | حريـد سـلـفت، ودين مستحق إذا الأحرار لم يسقوا، ويسقوا ولا يـدني الحقوق، ولا يحق وفي الأسرى فدى لهمو وعتق |
* * *
لقد ألح كثير من الشعراء على هذا المعنى، ومنهم الشاعر إبراهيم طوقان، الذي يقول في قصيدة له بعنوان (الشهيد):
عبسًَ الخطب نـفـسه طوعُ همة وهْي من عنصر الفدا ومـن الـحق جذوة | فابتسموطغى الهول، وجـمت دونها الهممْ ء، ومن جوهر الكرم لـفـحها حرر الأمم | فاقتحم
**********
ونرى ديوان العرب في كثير من قصائده يلهج بعظمة الشهادة، وتمجيد الشهداء، والأمثلة أكثر من أن تحصى، ومن أدلها وأعظمها ما فاضت به قريحة الشاعر علي محمود طه في البطل السوري الشهيد يوسف العظمة الذي واجه بقواته القليلة جيشًا فرنسيًا، يفوقها عددًا وعدة في الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة عشرين وتسعمائة وألف 24/7/1920م، وكان هذا القائد العظيم أول شهداء هذه المعركة، معركة ميسلون التي خلد ذكرها بدماه. يقول علي محمود طه:
هـبَّ الكميُّ على النفير أي الـملاحم بين أبطال الوغى فقضيتَ ليلك لا هدوء ولا كرى | الصادح"مهلاً.. فديتك، ما الصباحُ بواضحِ فـجـأتـك بالشوق الملح البارح ووثـبتَ في غَسق الظلام الجائح |
وفي هذه القصيدة الطويلة يحيي الشاعر بضمير الغائب هذا الشهيد الحاضر في القلوب، وفي ذاكرة التاريخ فيقول:
أسعى إليه بكل ما جمعت وهْـو الجديرُ بأن أحيي باسمِهِ مـن كل حر نافضٍ مما اقتنى أو كـل فـادٍ بـالحياة عشيرهُ | يديوبـكل ما ضمت إليه في الشرق كلَّ مناضل ومنافح يـدَه، ووهـاب الحشاشةِ مانحِ لا القولِ في خدع الخيالِ السانحِ | جوانحي
**********
وفي سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وألف، وفي ذكرى البطل سعيد العاص الذي استشهد في "جبل النار" بفلسطين ينشد الشاعر عمر أبو ريشة قصيدة طويلة استهلها بقوله:
نام في غيبة الزمان الماحي جبل المجد والندى والسماحِ
ويخاطب الشهيد "سعيد العاص" بقوله:
يا شهيد الجهاد، يا صرخة الهو كـلـمـا لاح للكفاح صريخٌ تـحـمل الحملة القوية والإيما فـكـأن الـحـياة لم تلق فيها هـبـة في يديك كانت. ولما | ل إذا الخيل حمحمت في صحت "لبيك يا صريخ الكفاح" نً أقـوى فـي قـلبك المفراح مـا يـروِّى تـعطش الملتاح رامـهـا الـمجد عفتها بسماحِ | الساحِ
**********
ويختم الشاعر مطولته بتوجيه الخطاب إلى "جبل النار" حيث استشهد البطلُ فيقول:
جبل النار: لن تنام كما نم ت جريح العلا، كسيح الطماحِ
أنت للعُرب كالمنارة في السا حل لاحت لأعين الملاحِ
**********
إن شهداء الأمة هم عنوانُ إيمانها وحيويتها، وإصرارها، ووقود مسيرتها، ونهضتها، وهم مشاعل الحق التي تنير الدروب للأجيال، فهم وإن ماتت أجسامهم أحياءٌ عند الله.. خالدون في ذاكرة التاريخ:
والناسُ صنفانِ: موتى في حياتهمو وآخرون ببطن الأرض أحياء
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ...).التوبة 111
وقال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).آل عمران 169.