قراءة تأملية في ديوان ومض الخاطر
قراءة تأملية في ديوان
ومض الخاطر
للشاعرة نبيلة الخطيب
|
بقلم: صالح أحمد البوريني عضو رابطة الأدب الإسلامي |
عن دار الأعلام للنشر والتوزيع في عمان صدرت الطبعة الأولى من ديوان ومض الخاطر للشاعر نبيلة الخطيب عام 2004 ، ويقع الديوان في مائة وخمس وثلاثين صفحة من القطع المتوسط واحتوى على تسع وثمانين مقطوعة شعرية ، ست منها التزمت عروض الخليل ، بينما رفرفت النصوص الباقية على أجنحة التفعيلة . تراوحت النصوص في القصر والطول بين الومضة المؤلفة من كلمات قليلة وبين القصيدة المشتملة على عدد من الفقرات المتعانقة في وحدة موضوعية محكمة .
اللغة المكثفة :
بين كل عبارة وعبارة تلوح عبارات ، وتتراءى دلالات ، وتنطوي امتدادات ، إنها اللغة الشعرية المكثفة ، التي تحمل ألوان الطـيف الشعـوري لروح الشاعـرة نبـيلة الخطيب ، هكذا تبـدو هـذه القصائـد المكثفـة للشاعرة في ديوانها ( ومض الخاطر ) ، إنها نصوص تتسم بالعمق وتتشح بجمالية الصورة الفنية وتتسع في مساحة الدلالة ، وتشف في رمزيتها من غير غموض ، وتحلق في خيالها من غير شرود ، وترتقي في تعبيرها ، وتبدع في تصويرها ، وتحافظ على واقعيتها في رسم المواقف واقتناص اللقطات ثم الاندماج في تفاصيلها عبر معايشة وجدانية عميقة وتجربة شعورية صادقة تتحرك في أمداءٍ فسيحة لرؤية فكرية إسلامية واضحة تتكئ على مرتكزات العقيدة الصحيحة وتستوعب عناصر الجمال والإبداع الفني وتمتد إلى آفاق البعد الإنساني والكوني .
نمثل لما سبق بومضة ( إحسان ) في الصفحة 48 حيث تقول الشاعرة :
تلفع بالليل
ودس بخاصرة الحقل الغافي
في نبضي .. جمرة
في وضح اليوم التالي
منّ علي بكسرة
تكسوها خضرة
إنها ومضة تصور إحسان القوي المنتصر إلى الضعيف المهزوم ، وهو إحسان مع إملاء شروط القهر والإذلال ، إنها صورة واقعنا العربي والإسلامي مع الاستعمار الجديد المتسلح بكل أنواع القوة المادية والخبث المبيت .
وللنص قابلية التشكل في حيز شاسع من التصويـر الفني والتنوع الدلالي ، يحملك العنوان عبرهما من أول حرف إلى آخر المطاف لتجد نفسك في مواجهة حقيقة من حقائق الواقع الذي تعيش ، بعد أن أعادت التجربة الشعرية إنتاجها والكشف عن أبعادها الخفية ووضعها أمام الرؤية التأملية لعين القارئ في شكل جديد ، يجدد الشعور بها ، ويحررها ممن جمودها النمطي .
االصورة الشعرية :
وتعتـني نبيلة الخطيب بالتصوير الشعري عناية خاصة ، وترتاد عالم الصورة الشعرية بخيال محلق ورؤية تخترق حواجز الزمان والمكان وقدرة متميزة على التشكيل والتفكيك وبصيرة ثاقبة كأنها أشعة الكشف العميقة تنفذ إلى دخائل النفس وتسبر أغوار الشعور . وكأني بها تغوص إلى أعماق الذات وتـتحسس همومها وخلجاتها عبر رؤية كاشفة تجلي ما خفي من جوانب المشهد الإنساني في رحاب ما انطوت عليه الذات أو تـفرق في جوانب الحياة ، ومن هناك تخرج لنا نبيلة الخطيب الصورة الشعرية في تشكيل مبتكر .
وحين تكون الصورة الفنية خادما أمينا في حمل المعنى وتوصيله إلى القارئ كاملا غير منقوص صافيا بلا كدر صادقا بلا خدوش فتلك لعمر الحق من أجل مهمات الشعر :
من أين أمسك بالزمن ؟
تـتدحرج الأيام من سفح الترقب ..
الصورة الفنية تشف وتشف ولكنها لا تـنطمس وراء ستار الغموض بل تظل تـتراءى وتلوح وراء ظل من الرمزية المدهـشة :
النخل وسم الرمل .. والعرجون ذكرى .. .
وتحافظ كلمات الشاعرة على عنصر التشويق والإغراء بالقراءة ؛ وتظل تلك سمة تـتصف بها مقطوعات الديوان ، فالقراءة الأولى تغريك بالثانية والثانية تغريك بما بعدها وهكذا حتى تحس بالري والاكتــفاء ، وذلك حينما تـنفذ بعين التأمل إلى أغوار الصورة الفنية وتـنكشف لك كل الأبعاد :
من أين لألواني زهوا
لأشكل إشراقة عينيك ؟!
وحقول الخضرة
هل تكفي
كي أرسم ظلا
بين يديك ؟!
الرمــز :
وهي في مقطوعة ( ليل ) في الصفحة 19 من الديوان تتخذ من الليل رمزا للواقع وتخلع عليه بياض روحها وإشراق أملها وتـتساءل :
من قال إن الليل أسود ؟!
هلا رنوت إلى قناديل السما
ما بين بدر
وثريات وفرقد ؟!
مضارب المحبوب ( الرمز ) مهما بعدت فهي قريبة ، لأن القلب نحوها قد يمم شطره ، وتوجّده وتـنهّده يشعل النجوم فتضيء مسافة البعد وهوة الفراق .
إضاءة تـنكر حلكة الليل ، وبصيرة ترقب قناديل الأمل المضيئة المبشرة بطلوع الفجر . المحبوب ( الرمز ) عند نبيلة الخطيب تكبر وتمتد دلالته لتـتجاوز ذاتا معينة وشخصا محددا وتـتسع لتـشمل الأهل والأرحام والقرية والشعب والأمة ، وتـتجاوز حدود المكان لتمتد من البيت إلى الحي والقرية والمدينة والوطن والقطر ثم الوطن القومي والوطن الإسلامي الكبير .
ثـقة وإباء :
وتطالعك شخصية نيلة الخطيب ـ كما تبدو في ديوانها ـ شخصية امرأة مؤمنة واثقة ممتلئة اعتدادا بالنفس واعتزازا بالذات ومحافظة دائمة على البقاء في الموقع اللائق بها والسمت الجديرة به .
امرأة ليست حبرا على ورق ، ولا رماد جمر يطفئه الماء .. إنها وهج الإيمان ، ونور اليقين الذي تعرف به موقعها وتبصر به طريقها ، فهي نموذج المرأة المسلمة المؤمنة التي تـترفع عن مواطن الشبهة وتسمق إلى مشارف الضياء وتـتسنم قمم الطهر والعفـة ، ولا تجذبها زوايا العتمة ولا مسارب العفن ..
فلأني لا أستبدل صدر المجلس بزوايا
ولا أمنح حبا من وصمة عار وخطايا
ولأني امرأة من وهج لا يطفئه الماء ..
ولا يكتبه الحبر
وللثقة بالنفس مشهد آخر في ومضة ( عصف ) ، تتكئ فيه الشاعرة على ما تختزنه من الإباء والأنفة والاستغناء والتعفف حتى عن قبول عرض المحب حين يكون من باب الصدقـة ، ومودة المؤانس حين تكون عونا وإشفاقا ، وهبـة الغني حين تكون جسرا لغرض ، وصلة الولي حين تكون غـلا في العنق وقيدا في اليد .
إنها النفس المؤمنة بربها ، الأبية الغنية بذاتها ، والشخصية الواثقة بنفسها ، تستعلي على ذل السؤال وتترفع عن عبودية الحاجة ، وترفض قيد الافتقار وأسر المسألة ، وتأبى أن تبيت أسيرة لإحسان عبـد منان ، وتؤثر حرية العفة وأنفة الكرامة ، ولو باتت على الطوى :
بدمي أذكيت قناديلي
وبها عللت مواويلي
أسدِلْ ذكراك على ليلك
حرّمْتُ الخبز على جوعي
فارجع بالقمح إلى عصْفِـك .
روحانية :
وتتجلى روح الشاعرة الخطيب ، وتظهر روحانيتها الخاصة في شعرها ، وكأنها في جو قصيدتها قائمة في محرابها تتلو وتتدبر .. لا تجذبها أحاديث السمر العامة ولا تثير انتباهها محافل السهر مع الناس :
كان لون البحر أصفى
من عيون الساهرين
وحديث الموج نجوى
إنه مهرجان التبتل في محراب الكون ؛ ذاك الذي يغريها بالاحتفال معه في تسبيح الخالق عز وجل .. فتـقوم وتمشي إليه ؛ لا مشية التكسر والتـثـني ، ولكن مشية التأدب على عتبات التقرب إلى الحق سبحانه ، تقول :
قمت أطوي الرمل خجلى
أتوارى بالنسيم
كيف لا أتبع قلبي
كلما رف وطارا ؟
نعم إن قلبها يرف ويطير في جو ذلك المهرجان الكوني البديع الذي تلتقي فيه صلاة الطيور مع تسابيح الأمواج ورفيف النسيم مع حنين القلب وأشواقه ، وخاصة حين يستحضر ذلك المشهد صورا مطبوعة في ذاكرتها محفورة في مخيلتها :
كلما أغريه بالنسيان يهفو
يحضن الموج ويغفو
ظامئ قد هزه الشوق
وغنى في ثناياه الحنين .
النفس المرهفة :
وتتجلى روح الشاعرة ونفسهـا المرهفـة في ومضـة ( أشواك ) أيضـا في الصفحة 50 ؛ حيث تظهر البراعة في التقاط المشهد مهما كان صغيرا ، وتسليط أشعة الإحساس بكل قوتها على أدق تفاصيل الحياة ، وإخضاعها لعملية تشريحية تحت مجهر التأمل ، ثم ربطها بما تبعثه في النفس من أشجان ويتحرك لها من هموم وأحزان .
حين انغرست
في قدمي
انتفض لها جسمي
وشهقت
قد لا يعني ألم الشوكة لكثير من الناس شيئا ، ولكنه في نفس الشاعرة قد يعني الكثير .. إنه على أي حال حدث طارئ مهما كان وزنه ، لا بد أن يمر عبر مسارات التوهج الوجداني والإضاءة الشعورية ، ويأخذ موقعه المناسب . إنه على الأقل يستحق من الشاعرة وقفة تأملية لرسم خطوطه وتصوير حالته ، وإظهار ارتباطه بما يشاكله في مخزون الذات وواقع الحياة ، سواء أكانت مجازية تلك المشاكلة أم حقيقية :
وبرأسي أشواك لا تحصى
ترتع في باحة سهوي
لا تؤلمني ..
ويغذيها الوقت .
إن ألم الشوكة البسيط المفاجئ الذي شهقت له الشاعرة قد صار مادة تشبه جرعة النظائر المشعة التي تدخل وتتجمع حول مصدر الألم لتشير إليه وتدل عليه .. وكذلك الشوكة الصغيرة في نفس الشاعرة تدل على أشواك لا تحصى ؛ ألمها ساكن ، ولكنها موجودة .
االرسم بالكلمات :
أما في ومضة ( عثرة ) في الصفحة 51 من الديـوان فتبدو مهارة الرسم البديع ، وفن النظم ، والاتقـان في مزج الألـوان ؛ فالشعر رسم ونظم وتلوين وتصوير ، وثمة بعد آخر هو الموسيقى ؛ تكتمل به حياة النص الشعري ، فيتحول الجامد إلى متحرك والتمثال إلى كيان حي ناطق . والقصيدة لوحة ، واللوحة نسخة من نفس الشاعرة ، من روحها ، أو هي صفحـة مشاعرها ، في حالة ما ، تجاه حدث ما . واللوحة أيضا صورة الحياة ، في زمان ما ، في مكان ما ، في واقع ما ، ذلك أن الشعر يمثل نوعا من الاتحاد التام بين الشاعر والحياة .
أذكر .. لما عثرت قدمي
واتـكـأ القلب على قلمي
من ساعتها ..
والريشة تبكي
والحبر يغني .. يا ألمي .
ومثل هذا البناء الهندسي الشعري تراه في مقطوعة ( شوق ) ص 31 حيث تقول الشاعرة :
نهفو إليكم
كلما تتلاطم الأشواق
في عرض النفوس
ونموت ...
حين تذوب
أحلام الزنابق
في اشتعالات الرؤوس
إنها حالة الشعور بالذنب التي تسيطر على الإنسان حين تكبله أغلال عجزه وقيود ضعفه عن تحقيق أمنيات محبوبه والوفاء بعهده . والمدى مفتوح ليكون الحبيب هو الشخص المحبوب أو الشعب المنكوب أو الوطن المسلوب ، وربما امتد إلى غير ذلك .
حـب خـاص :
وحين يرتقي الحب إلى ما فـوق البشري حسا ووجودا ؛ نـرى في ومضة ( نجوى ) في الصفحة 53 من الديوان كيف تـتـناجى الأرواح ، وفي النجوى لذة ، وفي تناجي الأرواح المؤتلفة متعة ساحرة ، وأمنيات وتطلعات مشرقة ، يخفق لها الفؤاد ، وتهفو لها النفس ، وينفتح لها مدى الوجدان ، ولكنها جميعا قد تتوقف عند حدا ما ، حد أمضى من السيف ، وأحد من السنان ، حد الحب الأعظم والعشق الأعلى ، الذي لا تخبو جذوته ولا ينطفئ نوره ، ولا يعـروه وهن ، الحب الساكن في غور الروح ، والذي لا يسكن معه الخاطر ، ولا يهدأ القلب إلا بالسفر إلى المحبوب ، والغرق في الحب حتى التـشظـي والفناء ، ومن كانت روحه معلقة بحب دار الخلود ؛ فإن بهاءها وظلها الممدود ونعيمها الأبـدي يقف به على أبـواب التضحية .. يطرقها .. من أجل حب لا يتقن ممارسته إلا هو ؛ حين يسرج ركوبة الروح بالحزام الناسف ، ويركب صهوة الجسد المتـفجر إلى عليين ، ويرسم للمجاهدين على أرض الفداء والإسراء خريطة الطريق الموصلة إلى الجنة :
حدثـني عن ألوان الطيف ..
عن ظل دون شموس
عن أفكار ذات بهاء سوداوي
حدثـني عن حب
لا يتـقن صنعته إلاه .
همْـسٌ حـد صراخ النجوى
فـتّـحـْتُ له أبواب الروح
هشّـم نافذتي ومضى باللحظات النشوى !
اخـتـزال :
وفي ومضة ( لونان ) في الصفحة 45 تختزل الشاعرة كل الأحداث التي تـنتهي بتخيـير مفروض ، وتـترجم كل ردود الفعل بصياغة شديدة التكثيف حيث تقول :
أم جئت تخيرني
ما بين بياض وسواد ؟!
فالأول كفني ..
والثاني ثوب حدادي !!
وحين يفرض على الإنسان خياران سيئان لا ثالث لهما ، يقول بعـض الناس : أحلاهما مر ، وتقول الخطيب ، الأول كفني والثاني ثوب حدادي ، وحين يتباين الخياران إلى درجة التـناقض الماثل بين السواد القاتم والبياض الناصع في الظاهر ، فقد يتوهم أن هناك حرية اختيار وأن في أحد الخيارين خير وفي الآخر شر ، أو أن أحدهما يمثل فضيلة والآخر يمثل رذيلة ، وأن صاحب التخيير قد أعطى الآخر حقه الكامل في الاختيار ، والحقيقة تـقول أنه حين يكون الفاصل بيـن الخيارين فاصلا بين فجيعة شربَـتـْـنا وفجيعة شربناها ، أو هو الفاصل بين حياة سوداء وموت أبيض ، فإن هناك مغالطة ظاهرة في تصوير المعادلة وكأنها قائمة بين طرفين متعادلين ، وأن ثمة مؤامرة على الحقيقة تهدف إلى تزويرها ليظهر القوي وكأنه يمنح الضعيف حرية الاختيار ويمن بها عليه مع أنه يرسم له إطار هذا الاختيار ويحدد له بدائله .
وتظهر قيمة العنوان الدلالية إلى جانب إيحاءات النص في إبراز الاختزال كفن يقترب من فن التوقيعات كما نرى في ومضة ( طرف واحد ) في الصفحة 32 حيث تقول :
أما زلت
ترزح
في قيد وجدك ..
وحدك ؟!
ولعله صوت معجب أو نداء مدنف أو تأوهات محب أو مواجيد عاشق قد أزرى به وجده فظهر في حالة تستدعي الشفقة والرثاء .. وكم تفضح العيون صاحبها وتعلن الملامح عن بواطن النفس .. وليس المشغول كالخالي ولا المغلول كالطليق .
التأمل الفلسفي :
ولا شك أن ملكة التأمل عند نبيلة الخطيب قد أتاحت لها أن تقلب وجوه الأفكار والمعاني وتـنظر إليها عبر منظار متعدد الزوايا يعطيها قدرة على التشكيل وبراعة في التكوين والمزاوجة بين الفكر واللغة في مساحة وجدانية يختمر فيها الإبداع فيخرج حين يأتي أوان خروجه غضا نضيجا.
وقد تبدو هذه الومضة من سهولتها وبساطتها أقرب إلى المباشرة أحيانا، ولكنها حين التأمل تـنحسر حروفها عن منجم غني بالصور البديعة والمعاني العميقة لتؤكد أنها لا تقل في قيمتها عن مطولات القوافي .
في ومضة ( فاكهة ) في الصفحة 55 من الديوان تقول :
قشرت الفاكهة
وقدمت له اللب
على أطباق ذات بريق
لم يتذوق سكر فاكهتي
لم ينظر حتى في وجهي
لكن ..
نظر إلى القشرة
وابتلع الريق !
تـنظر الشاعرة إلى الإنسان من حيث هو كيان مخلوق نظرة فلسفية تشبهه بالفاكهة .. فترى فيه قشرة ولبا .. فالصورة الخارجية هي القشرة واللب شيئ آخر .
هذا الجسد البشري الجميل هو الثوب الذي تلبسه الروح ، أو هو القشرة التي تغلف اللب ، وكما هو معروف فإن القيمة الأعظم تكون في اللب ، واللذة الأكمل تكون في اللب . لكن كثيرا من الناس لا يلتـفـتون إلى الاستمتاع بلذة اللب ، ويتوقف طموح استمتاعهم عند القـشرة .. وهنا تكون المشكلة ، وتقع المعاناة ، حين يجتهد الإنسان المبدع ويعصر قلبه ويذيب روحه ويعرض وجدانه ومشاعره على صفحة إبداعه المشرق فينصرف عنها صاحب العين القاصرة التي لا ترى إلا القشرة فتـلتـفـت إلى الاستمتاع بالمادي المحسوس أو الظواهر والأشكال والطقوس دون النظر إلى الروح والجوهر .
لم ينظر حتى في وجهي ..
ولأن الوجه مرآة المشاعـر .. وهي لا تهم صاحب العين القاصرة الكليلة عن استبصار الأعماق .. فاستـثـناء الوجه هنا من الصورة الخارجيـة له ما يسوغه .
وفي ومضة ( عقوق ) في الصفحة 76 تقول الشاعرة :
يبكيني انكسار العين
للدمعة إذا التمعت بمدمعها
وإن هبت لها الأهداب
تكفكفها وتمنعها
ولكن دونما جدوى
فتبقي حسرة
في النفس موقعها
إذا فرت من الأجفان
راحلة بلا رجعة
وتؤلمني فعال الضوء بالشمعة ..
بين العيـن والدمعة كما بين الضوء والشمعة ؛ علاقة وجودية وسببية خاصة ؛ فلا دمع بلا عيون ولا ضوء شمعة بلا شمعة . إن حالة الحزن الناجمة عن قهر داخلي ناجمة أصلا عن قهر خارجي . إن روح الشاعرة الرافضة للقهر تستنكره بكل مظاهره ، وتأبى وجوده حتى في شكل الاستجابة الطبيعية التي لا يملك أكثر الناس لها ردا ، وهي الدموع . إن للحزن تأثيرا عميقا في نفس الشاعرة يعمق نظرتها لأسبابه وآثاره حتى يجعلها ترفض الحـزن بكل أشكاله وتفلسف عملية ذرف الدموع بشكل يذكـرنا بالمقولة المشهورة ( الدمعة بنت العين ) ، فتصور انحدار الدمعة كما لو كان عقوق البنت لأمها المنكسرة التي تـهُبُّ لنصرتها الأجفان والأهداب ولكن دون جدوى ؛ فضغط الألم والحزن يجعل مغالبة العين لدمعتها رحلة شاقة تنتهي بالاستسلام فترحل الدموع وتخلف الحسرات .
( ومض الخاطر )
ديوان يفتح باب التأمل على مصراعيه لعقل القارئ ويعرض له آفاقا من التصوير الفني وألوانا من التعبير الإبداعي يقع منها على جمال ساحر وروعة مدهـشة .
نبيلة الخطيب تستخدم إمكاناتها التعبيرية وطاقاتها الشعورية وخيالها المحلق وتعمد إلى التكثيف والاختزال وتوظف الرمز وتـفيد من ذلك كله في تشكيل عالمها الشعري الخاص وبنائها الإبداعي المتميز .
كانت هذه القراءة إطلالة على بعض اللوحات الخاصة من خواطر نبيلة الخطيب في ديوانها الأخير الذي يعتبر منجما مكتـنزا بالمعادن النفيسة وبحرا يزخر باللآلئ والأصداف .