الرجــز

د. عبد الهادي دحاني

مصطلحات فنية :

1ـ الرجــز

رحلتي مع الأراجيز بصحبة الأستاذ أمجد طرابلسي رحمه الله

 د. عبد الهادي دحاني       

   أستاذ فقه اللغة والقراءات القرآنية

                                                                                     كلية الآداب والعلوم الإنسانية   

جامعة شعيب الدكالي       

 الرجز فن شعري  لم يفرد كباقي الفنون الشعرية بمؤلفات متخصصة، ولم يحظ بديوان أو مجموع شامل يضم أراجيز حقبة معينة أو إنتاج طائفة من الرجاز، باستثناء بعض المحاولات البسيطة المتمثلة في جمع عزت حسن لأراجيز العجاج، وما قام به توفيق البكري من تأليف لما سماه بمجموع أراجيز العرب، والذي لم يتجاوز فيه جمع بعض من أراجيز العجاج و رؤبة.

ويبقى الرجز مع ذلك في حاجة ماسة إلى الجمع والتدوين، ناهيك عن الدراسة التي لازالت إلى يومنا هذا نادرة ندرة كبيرة في هذا الميدان. وأمام هذا الإعراض المصاحب للغفلة وعدم الاهتمام بالرجز كقالب من قوالب الشعر الذي ينبغي، بل من يفترض أن يأخذ نصيبه المطلوب من الجمع والدراسة، بادرت إلى اقتحام هذا الميدان المهيب، وقررت ركوب مخاطره التي تجنبها الباحثون وتهيبها الدارسون، لأنهم اعتبروا دروب الرجز لا تتوفر على مسالك آمنة، وقضاياه كلها شائكة. واكتفوا بإصدار مثل هذه الأحكام دون خوض تجارب أو تلمس حقائق ومعطيات تؤكد صحة ذلك، أو تسلم بوجود مخاوف ومخاطر تدعو إلى الإحجام أو إلى الإقدام.

ولقد نظرت في كتب السيرة النبوية الشريفة فوجدت كما لا يستهان به من الأراجيز، يدعو إلى التأمل والبحث، ثم نقلني النظر من هذه الحقبة التاريخية المهمة إلى ما قبلها من فترة الجاهلية، وتبنت لي ضرورة الجمع بين هاتين الفترتين الزمنيتين من تاريخ الرجز العربي، مما يدل على أن الشعر العربي لم يطرأ عليه تغيير كبير يدعو إلى التمييز بين الحقبتين، لأن الظروف التي جمعت بين العصر الجاهلي وفترة البعثة النبوية دلت على أنهما فترة أدبية واحدة لا يمكن الفصل بين شطريها المتلاحمين، فقد التقت المراحل الأولى لظهور الإسلام مع ما قبلها من راحل الجاهلية، لتبقى معظم خصائص الشعر العربي ثابتة على ما كانت عليه، وظل الشعراء ينسجون ـ في الغالب ـ أشعارهم على المنوال الجاهلي، يؤيدهم في ذلك إقرار العقيدة الجديدة لبعض العادات والنظم الجاهلية والتي لم تتناف مع منهج الإسلام، كما يؤيدهم في ذلك أيضا نزول الآيات من القرآن الكريم و ورود بعض الأحاديث النبوية التي حسمت في مسألة النظم والإنشاد، فبينت ما يقره الشرع وما لا يقره.

ولاشك أن تناولي للرجز بالدراسة، دعاني إلى الوقوف عند نشأة الشعر العربي بشكل عام. ومن الملاحظ أن إمعان النظر في نشأة الشعر العربي ينبيء بأن أوليته كانت على غير ما استقر عليه في عهد المعلقات والمطولات، وأن الشعر قد مر بضروب متعددة من فنون القول، وأن الشاعر حينما بدأ يقرض الشعر كان يعتريه لا محالة بعض النقص و عدم النضج، ثم إن الشاعر و غير الشاعر، كالمائح والمرقص الذي يرقص الأطفال بغرض التسلية واللهو، وكالراعي الذي يترنم بما يسلي به نفسه ويهدئ به ماشيته، وكالحادي والفارس وغير هؤلاء من فئات المجتمع الجاهلي، كلهم كان يعبر عما يدور في وجدانه من مشاعر وأحاسيس بلغة شعبية قبل أن تصبح لغة نموذجية، وكان يعتمد البديهة والارتجال، ولاشك أن هذه اللغة الشعبية قد ارتبطت بقالب أنسب لها، وليكن هذا القالب هو الرجز، وهو أخف وأسرع على لسان المنشد في التعبير وتصوير الأحاسيس والانفعالات، فمن الأكيد أنه كان هناك رجز كثير يدور على ألسنة الناس قبل الشعر النموذجي، وبقي بعده، فأين مصيره، أحسب أنه لحق بالمفقود الذي تحدث عنه القدماء بقولهم : "ما انتهى إليكم من الشعر إلا أقله، ولو وصلكم أكثره لوصلكم علم غزير".

والرجز يمثل عند العرب ما يسمى بالحداء، وهو الأبيات القليلة التي يتغنى بها حادي القافلة في رحلتها الطويلة في عرض الصحراء الواسعة، وكانت الإبل ترتاح وتطرب لهذا الحداء أو الرجز أو الغناء، وتجد في السير وتنشط، وكان الحادي يعبر فيه عن حنينه إلى الأحبة الذين فارقهم، وعن شوقه إلى الأوطان، كما يعبر فيه عن حزنه لألم الفراق، وما استبد به من الغربة والنأي، فكان يخلع كل هذه المشاعر على مطيته، ويلجأ إليها لتشاطره أحاسيسه، لأنها رفيقه في الرحلة وأنيسه في الوحشة والغربة عن الأهل والأوطان، يقول أحدهم في ذلك[1] :

 دَعِ  الْمَطايا تَنْسِمُ  الجَنُوبـــــــا

إِن  لَها لَنَبَأً  عجِيبَــــــــــا

حَنِينَها وَمَا اشْتَكَتْ  لُغُـــوبــــا

يَشْهَدُ أَنْ  فَارَقَتْ  حَبِيبــــــــا

مَا حَمَلَتْ  إِلاَّ فَتًى كَئِيبــــــــا

يُسِرُّ مِمَّا أَعْلَنَتْ نَصِيبَـــــــــا

لَوْ تَرَكَ الشَّوْقُ لَنَا قُلُوبـــــــــا

إِذَنْ لآثَرْنا بِهِنَّ النِّيبَــــــــــا

إِنَّ الْغَريبَ يُسْعِدُ الْغَرِيبَـــــــــا

 ويقول الآخر[2] :

 فَغَنِّهَا فَهِيَ لَكَ الْفِــــــــــــداءُ

إِنَّ غِناءَ الإبِلِ الْحُــــــــــــداءُ

 ومن الحداء أيضا ما حدث به سلمة بن الأكوع، وهو أحد الصحابة، حيث قال : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنياتك؟ وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم ويقول :

لاَ هُمَّ  لَوْلاَ  أَنْتَ مَا  اهْتَدَيْنَـــــــــا

وَ لاَ  تَصَدَّقْنَا  وَ لاَ صَلَّيْنَــــــــــا

فَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَــــــــــــــا

وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِذْ لاقَيْنَـــــــــــــا[3]

 ومن الحركات المنتظمة ذات الرتابة الملائمة لإيقاع الرجز حركات العمل الجماعي، وهي حركات موسيقية طبيعية كانت تحث من تلقاء انسجامها على التغني بمقاطع غنائية موزونة، مصاحبة لعمل العمال وحركات جوارحهم، فتساعدهم على مواصلة العمل مساعدة نفسية ميسرة. وقد رويت عن العرب هذه الأغاني، من مثل ما جاء في فتوح البلدان للبلاذري[4] :

قال الراجز :

 نَحْنُ حَفَرْنا الْغَمَرَ لِلْحَجِيــــــــــــجْ

تَثُجُّ مَاءً أَيَّمَا ثَجِيـــــــــــــــجْ

وقال الراجز :

نَحْنُ حَفَرْنا بِئَْرنَا الْحَفِيــــــــــــرا

بَحْراً يَجِيشُ ماؤُها غَزِيــــــــــــرا

ولعل التجاوب بين الحادي ومطيته أو بين الجوارح والحركات في مسألة الغناء والحداء هو الذي دفع بمؤرخي الأدب والعروض إلى اعتبار النظام الموسيقي للرجز نشأ نتيجة الانسجام

الحاصل بين حركة الإبل في السير والحداء. والرجز بحكم تركيبته وبنيته المتكونة من وحدة متكررة هي "مستفعلن"، تتوالى فيها الحركة مع السكون، وهو من أكثر الأوزان ملاءمة للحركات الرتيبة التي تجري على نسق واحد، كخطى الإبل وحركات العمل، وحركات الفرسان في ميادين القتال والنزال، وحفر الآبار ومتح الماء منها بالدلاء، وكترقيص الصغار، وسائر الأعمال التي تعتمد الحركات الرتيبة والمنسجمة. إلا أن العرب قد استعملت الحداء لسوق الإبل خاصة، وسمت الرجز بالحداء، وكأنه وضع لهذا الغرض، لأن العربي كان يقضي أكثر وقته في مصاحبة راحلته، سواء في الحضر أو في السفر.

 التعريف بالرجز :

الرجز في اللغة هو تتابع الحركات، وهو ارتفاع الصوت كذلك بإيقاع خفيف وسريع، وذلك طبيعي في الرجز لأنه يقوم على التفعيلة الواحدة، وهي تقوم بدورها على الحركة الدائبة. ويمتاز الرجز بقلة أبياته وقصر، كما تمتاز الكلمات فيه بقلة الحروف والأصوات، وكل هذه صفات تؤدي إلى الخفة والسرعة، ولذلك كان الرجز أخف على اللسان، واللسان به أسرع. وقد وصف الرجز بأنه شعر مرتجل يؤدى بكلام قصير وموزون، متوالي القافية، وبصوت رفيع، وكل ذلك ينبع من تفعيلته الرئيسية والمتكررة في نظام موسيقي متميز.

والرجز شكل من أشكال الشعر العربي يكون كل مصراع منه منفردا بيتا، أي يعد كل شطر فيه بيتا، وتسمى قصائده أراجيز، واحدتها أرجوزة، وصاحبها راجزا أو رجازة. ولهذا يعتبر الرجز هو ما نظم على المشطور وعلى المنهوك من بحري الرجز والسريع، وقد يكون أيضا ما نظم على المشطور والمنهوك من بحري الهجز والرمل أحيانا، ولكن المنظوم من الرجز على غير بحري الرجز والسريع قليل وقليل جدا. ومن أمثلة ما نظم من الرجز على بحر الهجز، قول امرئ القيس [5]:

لِمَنْ زُحْلوفَــــــــــــــــةٌ  ُزلُّ

بِهَا الْعَيْنانِ تَنْهَـــــــــــــــــلُّ

يُنادِي الآخِــــــــــــــــرَ الألُّ 

ومما نظم من الرجز على بحر  الرمل قول الآخر [6]: 

يَا لُدَيْنا يَا لُدَيْنَــــــــــــــــــا

لَيْتَنَا يُعْدَى عَلَيْنَـــــــــــــــــا

ثُمَّ يُبْلَى مَا لَدَيْنَـــــــــــــــــا

 

ومن المعلوم أن الشعر ينقسم إلى قريض ورجز، وهذا التقسيم يؤيده أحد العلماء بفنون القول، وأحد الفرسان فيه، وهو الأغلب العجلي، وهو الذي ميز بين القريض والرجز، وذلك عندما كتب عمر بن الخطاب إلى عامله، أن سل لبيدا والأغلب ما أحدثا من الشعر في الإسلام، فقال الأغلب [7]:  

أَرَجَزاً تُرِيدُ أَمْ قَرِيضَــــــــــــا

كِلَيْهِمَا أُجِيدُ مُسْتَرِيضَــــــــــــا

والرواية في طبقات فحول الشعراء على الشكل التالي [8]: 

أَرَجزاً تُرِيدُ أَمْ قَصِيـــــــــــدَا

فَقَدْ سَأَلْتَ هَيِّناً مَوْجُــــــــــودَا 

ولعل كثيرا من النقاد يرون، بناء على رواية ابن سلام، أن الشعر رجز وقصيد، وهذا الرأي يكتنفه نوع من الإبهام، بحيث يلتبس الأمر إذا علمنا بأن الرجز هو قصيد أيضا ، والقصيدة يمكن أن تكون من الرجز كما هي تكون من القصيد. ودفعا لهذا الالتباس رأيت أن أن أقسم الشعر إلى رجز وقريض، كما هو الحال في رواية لسان العرب، لأن لفظ القريض يقابل لفظ الرجز، ولا تتوفر هذه المقابلة للقصيد، الذي يشتق من القصيدة، وهي تستعمل في الرجز، كما تستعمل في القريض، ومن ثم لم يسمع من القريض قريضة، كما تعارف على القصيدة من قصيد. ولفظ القريض أنسب لأن معناه من قرضت الشعر أقرضه إذا قلته أو نظمته، أما القصيد فهو لفظ يدل على إطالة ما يقال أو ما ينظم من الشعر حتى يصبح قصيدة. والذين يجعلون القصيد مرادفا للقريض، يرجعون في هذا التصور إلى كونهم ألفوا في الرجز المقطعات والأبيات المعدودة والقصيرة، ففرقوا بين الرجز والقصيد من خلال صفتين أساسيتين عرفتا في القصيد، وهما الطول وتمام البيت, أي تأليفه من صدر وعجز، وهي صفة لا توجد في الرجز لأنه مشطور أو منهوك في طبيعته.

إلا أنه من خلال صفة الطول، يصبح التقسيم القائم على أن الشعر رجز وقصيد غير مقبول، وذلك لأن الرجز يصير قصيدا حينما تكثر أبياته فيطول، وفي هذا الصدد يقول ابن رشيق القيرواني :"وليس يمتنع أيضا أن يسمى ما كثرت بيوته من مشطور الرجز ومنهوكه قصيدة، لأن اشتقاق القصيد من قصدت إلى الشيء، كأن الشاعر قصد إلى عملها على تلك الهيئة، والرجز مقصود أيضا إلى عمله كذلك"[9]، أي إنه قصد إطالة الرجز قصدا، فصنع منه القصائد. وقد أيد ابن قتيبة هذا المعنى في حديثه عن الأغلب العجلي حين قال : "هو أول من شبه الرجز بالقصيد وأطاله، وكان الرجز قبله إنما يقول الرجل منه البيتين أو الثلاثة إذا خاصم أو شاتم أو فاخر. "[10] وأكد المعنى نفسه ـ قبل ابن قتيبةـ محمد بن حبيب في الأغاني، متحدثا عن الأغلب كذلك فقال : "أول من قصد الرجز ثم سلك الناس بعد طريقه"[11].

وتفاديا لحصول الخلط بين الرجز والقصيد، قرض ابن رشيق الرجز من دائرة الشعر، مدعيا ـ وهو يقسم الشعر إلى رجز وقريض ـ أن القريض هو الشعر الذي ليس برجز، يكون مشتقا من "قرض الشيء" أي قطعه، كأنه قطع جنسا، والقرض القطع والتفرقة بين الأشياء، كأنه ترك الرجز وقطعه من الشعر[12].

وقد اعتمد ابن رشيق منطق الطول في التمييز بين النوعين، فجعل القريض أعلى مرتبة في حظيرة الشعر، وجعل الرجز أسفلها، وليرقى الرجز إلى مرتبة القريض لابد له من شرط الطول، وهو كثرة الأبيات أو البيوت كما يسميها، يقول متجوزا أو متأسفا : "فعلى كل حال تسمى الأرجوزة قصيدة طالت أبياتها أو قصرت"، ويقول : "فالقصيد يمكن أن يطلق على كل الرجز، وليس الرجز مطلقا على كل قصيد"[13].

ويجدر بي في هذا المجال أن أورد قول ابن منظور في شرح كلمة "قصيد"، لأنه يتحد مع ابن رشيق في تعريفه للقصيد، ولأنه يذهب كذلك إلى اعتبار الرجز قصيدا إذا توفر فيه طول الأبيات وكثرتها، يقول ابن منظور : "القصيد من الشعر ما تم شطرا بيته، وسمي بذلك  لكماله وصحة وزنه، وسمي قصيدا لأنه قصد واعتمد، وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه، نحو الرمل والرجز شعرا مرادا مقصودا، وذلك أن ما تم من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدما في أنفسهم مما قصر واختل. والقصيد جمع قصيدة، كسفين جمع سفينة، وقيل الجمع قصائد وقصيد، وقيل سمي قصيدا لأن قائله احتفل له فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار، وأصله من القصيد، وهو المخ السمين الذي يتقصد، أي يتكسر لسمنه، وضده الرير والرار، وهو المخ السائل الذائب الذي يميع كالماء ولا يتقصد، والعرب تستعير السمن في الكلام الفصيح، فتقول : هذا كلام سمين، أي جيد"[14].

ولعل مثل هذه الأحكام عن الرجز هي التي أزرت به، وحملت كثيرا من الناس على الإعراض عنه والنفور منه، فصار ميدانا مهجورا غير مطروق، لا يرومه إلا من يحن إليه حنين الإبل إلى الحداء. ويتضح من كلام ابن رشيق ومن كلام ابن منظور أن العرب كانت تفضل من  الشعر ما تمت أبياته وتوفر وطال، فذلك آثر عندهم وأميل لنفوسهم مما قصر واختل. فالرجز عندهم مغبون لأنه لا يتوفر على صفتي الطول وتمام البيت، وقد غاب عن أصحاب هذا الرأي الزعوم أن الرجز هو عمل شعري وليد اللحظة والحاجة الآنية، وأن قائله يقصد إليه قصدا سريعا ومرتجلا أحيانا كثيرة، لأنه يفاجئه عند الضرورة فلا يتريث في القول، فينطلق به انطلاقا، وينساب به انسيابا، وقد يقتضبه اقتضابا حسب ما يخطر بباله ويخالج وجدانه، فيجري على لسانه جريان الماء على اليابسة. إلا أن هذا الرجز، وإن كانت هذه حاله من حيث الارتجال والسرعة، فإنه يصدر من الشاعر المطبوع رجزا متينا، يتوفر على شروط الفن الشعري شكلا ومضمونا، ويصدر عن غير الشاعر أو عن الشاعر الناشيء رجزا أو شعرا بسيطا خاليا من بعض المقومات الفنية التي ترقى به إلى مقام الشعر الصحيح والجيد. وقد يخف به الحال أحيانا حتى يسقط إلى مرتبة النثر المسجوع، فيخرجه ذلك من حظيرة الشعر.

ولعل النقاد من القدامى وغيرهم من المحدثين قد ذهبوا في التمييز بين القريض والرجز إلى النظر في الناحية الشكلية المتمثلة في الشطر والوزن والقافية، أو المتمثلة بعبارة أصح في الشرطين اللذين ذكرت آنفا، وهما الطول وتمام البيت، ولم يلتفتوا إلى ناحية التأليف الفني أو الصورة الشعرية للرجز، حيث يخالف نهج القريض، وينفرد بمميزاته الخاصة، وهذا موضوع يتعلق بخصائص الرجز.

والرجز ينقسم بدوره إلى نوعين من حيث الطول والقصر، فما دام ينظم على المشطور والمنهوك، فإن الأول أطول من الثاني، لأنه أكثره تفعيلات ومقاطع. وأقصر ما صنع القدماء من الرجز، ما كان على جزءين، أي على تفعيلتين (مستفعلنX 2)، وهو ما يسمى المنهوك من الشعر، ومن ذلك قول هند بنت عتبة يوم أحد[15] :  

إِنْ تُقْبِلُوا  نُعَانِــــــقْ

وَنُفْرِشِ   النَّمـــــارِقْ

أَوْ تُدْبِرُوا  نُفَـــــارِقْ

فِراقَ غَيْرِوَامــــــقْ 

وقول دريد بن الصمة يوم هوازن[16] :  

يَا لَيْتَنِي فِيها جَــــــــذَعْ

أَخُبُّ فِيهـَـــــــا وَ أَدَعْ

وسمي هذا النوع من الرجز منهوكا، لأنك حذفت ثلثه، فنهكته بالحذف، أي بالغت في إمراضه والإجحاف عليه. ولعل من قصره لم تسمع فيه أرجوزة مطولة من المتقدمين، لأنه في نظرهم لا يبلغ القائل غرضه لشدة قصره. ثم إن البعض اتخذ من ذلك ذريعة لينفي عنه صفة الشعرية, وعن قائله صفة الشاعر، وزاد من تأييدهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال من المنهوك، وهو الذي لا يقول الشعر وما ينبغي له، فما دام قال هذا الكلام فهو ليس بشعر، قال[17] : 

أَنا  النَّبِيُّ لا كَــــــــــــــذِبْ

أَنا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِـــــــــــــبْ 

ولاشك أن قوله صلى الله عليه وسلم هذا لايقصد فيه  أو ينويه[18].

ولقد بالغ بعض المتقدمين ـ ما يسميهم ابن رشيق ـ في إنهاك الرجز حتى صنع منه علي ابن يحيى أو يحيى بن علي المنجم أرجوزة على جزء واحد، وهي :  

طَيْفٌ أَلَـْــــــــم

بِذِي سَلَـــــــــمْ

بَعْدَ الْعَتَـــــــــمْ

يَطْوِي اُلأَكَــــــــمْ

جَادَ بِفَــــــــــمْ

وَمُلْتَــــــــــزَمْ

فِيهِ هَضَـــــــــمْ

إِذَا يُضَــــــــــمّْ

ويقال إن أول من ابتدع  هذه المبالغة في إنهاك الرجز هو سلم الخاسر، يقول في قصيدة مدح بها موسى الهادي :

 مُوسَى    الْمَطَــــــــــــرْ

غَيْثٌ    بَكَــــــــــــــرْ

ثُمَّ    اُنْهَمَــــــــــــــرْ

أَلْوَى     الْمَـــــــــــــرَرْ

كَمِ    اُعْتَسَــــــــــــــرْ

ثُمَّ   ايْتَسَـــــــــــــــرْ

وكَمْ    قَـــــــــــــــدَرْ

ثمَّ    غَفَــــــــــــــــرْ

عَدْلُ   السِّيَــــــــــــــرْ

باقِي  الأَثَـــــــــــــــرْ

خَيْرٌ  وَشَـــــــــــــــرْ

نَفْعٌ  وَضُـــــــــــــــرّْ

خَيْرُ الْبَشَــــــــــــــــرْ

فَرْعُ مُضَــــــــــــــــرْ

بَدْرٌ بَـــــــــــــــــدَرْ

وَالْمُفْتَخَــــــــــــــــرْ

لِمَنْ غَبَـــــــــــــــــرْ

ومنهم من يسمي هذا النوع من الرجز بالمقطع[19]. ولقد كاد سلم الخاسر ومن لف لفه من المولدين والمتعقبين أن يخسروا الرجز والشعر عموما، حيث ذهبوا به أسفل سافلين، وأوشكوا أن يخرجوه من حظيرة الفن الشعري.

وأما المشطور فهو أرقى الأنواع في فن الرجز، وهو الذي يضاهي القريض، وذلك نحو قول العنبر بن عمرو بن تميم، وهو من جيد ما قيل في الرجز :

قَدْ رَابَنِي مِنْ دَلْوِيَ اضْطِرَابُهَـــــــــــــا

وَالنَّأْيُ فِي بَهْرَاءَ وَاغْتِرَابُهَــــــــــــــا

إِنْ لاَتَجِيءْ مَلأْىَ يَجِيءْ قِرابُهَــــــــــــا[20]

ومن الرجز المقصد، أي الذي نظمت منه القصائد، قول عمرو بن سالم الخزاعي يوم فتح مكة في قصيدة مطلعها : 

يا رَبِّ  إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّـــــــــدا

حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَــــــــــدا

قَدْ كُنْتُمْ وَلَداً وَكُنَّا وَلَـــــــــدا[21]

 ونجد في العصر الجاهلي قصائد من الرجز طويلة عند امريء القيس والأعشى ولبيد بن ربيعة وغيرهم. وقد تبلغ الأرجوزة عداد العشرين من الأبيات، وهذا أقصى ما تطول إليه القصيدة من الرجز غالبا في العصر الجاهلي وفي صدر الإسلام. أما في ما تلاهما من العصور، فقد نظم من الرجز المطولات، وخاصة في العصر الأموي، عند رؤبة والعجاج وغيرها.

نخلص من هذا التعريف الفني إلى أن الرجز  يمثل في شعرنا العربي القديم فنا قائما بذاته، له بنياته، وله موسيقاه، وله طبيعته البدوية، وله موضوعاته. وقد رأينا أنه في أثناء هذه الفترة الزمنية التي تناولت موضوعه بالبحث في نطاقها، كان يرتجل مقطعات قصيرة، لكن سرعان ما أصبح الرجز مدرسة نشيطة محتدمة النشاط، وذلك حينما أخذ مقصدو الرجز في عصر بني أمية يضاهون به فحول الشعراء في طول النفس وفي تنوع الموضوعات، فأصبح الرجز منذ ذلك الحين وإلى فترة غير قصيرة جوادا مطهما يجري في حلبة الشعر محتالا فخورا، بعد أن كانوا يلقبونه بحمار الشعر.

واختلف القدماء، كما هو معروف، في تقدير قيمة الرجز، اختلفوا بحسب اختلافهم في مذاهبهم ومشاربهم وأذواقهم، فزعم بعضهم أنه ليس بشعر، وأن مجازه مجاز السجع، ومنهم من ساوى بين الرجز والقريض على أنهما من فنون القول، وأجود الكلام الشعر، ومنهم من رفع فحول الرجز فوق فحول القريض، وهؤلاء بخاصة هم علماء اللغة الذين كانوا ينتشون بلغة الرجاز ويثملون بغريب الرجز. ولم يعرف الرجز بين منتقصيه ألد خصومة من أبي العلاء المعري في القرن الخامس الهجري، فالمعري لم ير في الرجز إلا فنا قاصرا يزري بمروءة الشاعر وبمقدرته. والشعار التي قالها في اللزوميات، والتي يحط فيها من قدر الرجز مشهورة، منها قوله مثلا :

قَصَّرْتَ أَنْ تُدْرِكَ الْعَلْياءَ فِي شَرَفٍ      إِنَّ الْقَصَائِدَ لَمْ يَلْحَقْ بِها الرَّجَزُ

أو قوله عن نفسه :                 

وَلَمْ أَرْقَ فِي دَرَجاتِ الْكِرامِ           وَهَلْ يَبْلُغُ الشَّاعِرَ الرَّاجِزُ

والرجز فوق هذا وذاك قالب من قوالب الشعر العربي، له بنياته الخاصة به، كما رأينا، وفيه الغث والسمين كما هو الشأن في قوالب الشعر الأخرى، ويرى أمجد طرابلسي رحمه الله أن لو أسقطنا الرجز من تراثنا الشعري القديم لكانت الخسارة فادحة جدا، فالرجز هو بلا ريب أقدم قوالب الشعر، ومعروف أن نشأة الشعر العربي وأطواره الأولى من نشأته ما تزال مجهولة، وستبقى كذلك، وقد تباينت أقوال القدماء في هذا الباب، مما لايفيد فائدة كبيرة في تلمس حائق يقينية أو قريبة من اليقين عن هذه النشأة، ونحن اليوم عاجزون عن الفصل في هذا التباين لفقدان الأدلة التي يمكن أن نركن إليها، وليس في أيدينا إلا التراث الرجزي القديم، وبه وحده، إذا تعمقنا دراسة ألفاظه وتراكيبه وبنياته وصوره وأغراضه، نستطيع أن نستشف بعض جوانب هذه القضية التي غطى عليها الماضي السحيق، أعني قضية نشأة الشعر العربي وأطواره الأولى. ولقد استطعت من خلال العمل الذي قمت به من جمع أراجيز الجاهلية وفترة البعثة النبوية، أن أبرز فائدة جليلة تكمن في أن فحول الرجز في صدر الإسلام وما بعد، قد لقوا ولقيت آثارهم الشيء الكثير من عناية القدماء والمحدثين، حتى إن دواوينهم كلها تقريبا صارت في متناول الأيدي، مشروحة ومحققة ومخرجة ومضبوطة. أما الرجز في نشأته، فلم يلق مثل هذه العناية، ومعظم المقطعات الرجزية التي تنسب إلى الجاهليين والمخضرمين، كانت ما تزال قبل هذا العمل مبعثرة في كتب الأدب والتاريخ التي لا يأتي عليها الحصر، فكان الإقدام على جمع هذا التراث المتناثر والمبعثر هنا وهناك، وكان الإقدام على تصنيف هذا التراث وضبطه وتحقيقه وشرحه وتخريجه، كان كل ذلك أمرا مفيدا لدراسة هذه الحقبة البعيدة من التراث الشعري العربي. وقد جمعت هذا التراث في متن رجزي قوامه أكثر من خمسمائة وحدة منظومة، تنطوي على أكثر من ألفي بيت. وإن هذا المتن ليمثل من دون ريب في نظري الرجز القديم في مختلف جوانبه، في نشأته وصباه، في جده وهزله، في حقائقه وأساطيره، وبذلك استطعت أن أسد ثغرة في مكتبة التراث الشعري القديم، لم يستطع الإقدام على إنجازها باحث قبلي. اهـ 

           

من مراجع البحث:

1.       الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق عبد الستار فراج، دار الثقافة، بيروت، 1957-1958.

2.       أمالي القالي، أبو علي إسماعيل بن القاسم، تقديم محمد عبد الجواد الأصمعي بدار الكتب المصرية، المكتب التجاري، بيروت. بدون طبعة ولا تاريخ.

3.       تاريخ الأ[مم والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، 1961.

4.        تاريخ الآداب العربية لجرجي زيدان ، مطبعة الهلال، الطبعة الثالثة، 1936.

5.        تلبيس إبليس لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت  بدون طبعة ولا تاريخ.

6.        جمهرة اللغة لابن دريد، طبعة بالأوفسيت، مكتبة المثنى، بغداد. 

7.        ديوان امرئ القيس، ومعه أخبار المراقسة، تحقيق حسن السندوبي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1939، وتحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، 1958.

8.         السيرة النبوية لابن هشام أبي محمد بن عبد الملك، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مطبعة البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية، 1955.

9.        الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار التراث العربي، بيروت، 1982.

10.    الطبقات الكبرى  لمحمد بن سعد، دار صادر، بيروت، 1968.

11.    طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، تحقيق محمود  محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة.

12.     العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده،لابن رشيق القيرواني أبي الحسن، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، الطبعة الرابعة، 1972.

13.     فتوح البلدان للبلاذري، تحقيق رضوان محمد رضوان، المكتبة التجارية بمصر، 1959.

14.    الكامل في التاريخ لأبي العباس المبرد، طبعة دار نهضة مصر، القاهرة.

15.     لسان العرب لابن منظور المصري، دار صادر، بيروت.

16.     مفتاح العلوم للسكاكي وبحاشيته إتمام الدراية للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت.

17.    نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق بيفان Anthony Ashley BEVAN، دار الكتاب العربي، طبع ليدن، بيروت، 1908-1909. 

الهوامش:

[1]  تاريخ الآداب العربية لجرجي زيدان : 1/56.

[2]  جمهرة اللغة لابن دريد : 3/231  ومفتاح العلوم للسكاكي : 75.

[3]  تلبيس إبليس لابن قيم الجوزية : 224.

[4]  فتوح البلدان للبلاذري : 60-62.

[5]  ديوان امرئ القيس : 174 (198)، وأمالي القالي : 1/42.

[6]  الأغاني : 16/34.

[7]  اللسان : مادة قرض.

[8]  طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي : 135.

[9]  العمدة لابن رشيق القيرواني : 1/183.

[10]  الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري : 595.

[11]  الأغاني : 21/29.

[12]  العمدة : 1/184.

[13]  العمدة : 1/184 .

[14]  اللسان : قصد.

[15]  سيرة ابن هشام : 3/72.

[16]  سيرة ابن هشام : 4/82.

[17]  نقائض أبي عبيدة : 403  وتاريخ الطبري : 3/76 وطبقات ابن سعد : 1/25 و 4/51.

[18]   ناقش ابن رشيق شاعرية الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه  العمدة : 1/185.

[19]  العمدة : 1/185.

[20]  الرجز في طبقات فحول الشعراء : 27  والكامل في التاريخ للمبرد : 2/63  والعنبر بن عمرو بن تميم جد جاهلي من الشعراء، تنسب إليه قبيلة بني العنبر، كان مجاورا في بهراء، فرابه ريب. الكامل في التاريخ : 2/63.

[21]  القصيدة بكاملها في الكامل في التاريخ : 2/240، وهي من دون البيت الثامن في سيرة ابن هشام : 4/36 والروض الأنف : 2/264.