الشاعر طالب هماش في أيقونة المراثي
الشاعر طالب هماش في أيقونة المراثي
د.حمزة رستناوي
يقدم الشاعر طالب هماش في مجموعته الشعرية السادسة " عم مساءً أيها الرجل الغريب " ثلاث أيقونات كبيرة, و هي على التتالي " أيقونة الوحشة – أيقونة الأجراس – أيقونة الخسران “، و هو في اعتماده الأيقونة يحيلنا إلى نقطتين
أولاً
: تحويل القصيدة إلى صورة بصرية, عبر إسقاط اللغة بمضمونها الخاص, أي بصفتها نصاً كتابياً و منطوقاً.ثانياً
: إسباغ صفة القداسة على قصائده، فطالما اقترنت الأيقونة بالمقدّس المسيحي، و اتخذت من المسيح و العذراء والقديسين موضوعاً لها.
و سأكتفي في هذه العجالة بالحديث عن قصيدته " مرثيه القرية الضائعة " إحدى أطول و أجمل قصائد المجموعة، ولما للقرية من أهمية الطرح الشعري عند طالب هماش.
ليس ثمة مفاجأة في عنوان القصيدة " مرثية القرية الضائعة " و لكن حين ندرك أن هذا الأفق الطبيعي موجود بكليته داخل النفس، فإن تصعيد الطبيعة المستسلمة يبدوا كاملاً في القصيدة و خصوصاً مع الكم المعادل من الصور الشعرية الجميلة, و لكن الهاربة أيضاً لأناس يقتسمون فطرة الكون، لأناس يسكنون في المشهد البدائي للحياة, قبل أن يلوثها هباب المدينة, فثمة غدٍ موعود يستطيع الشاعر استبداله بنفسه، و لكن من الواضح غياب الحاضر المكرس لذاته، أي غياب اللحظة الراهنة و مشكلاتها, رغم تكراره لكلمة " الآن " في مطلع القصيدة، لأن الشاعر حسم أمره و شد رحال روحه و جسده إلى تفاصيل قارته الضائعة في أقيانوس الطفوله, و كأنها القارة المفقودة " أطلنطيد " التي ذكرها أفلاطون.
إذاً سرعان ما تغادر القصيدة الحاضر " الآن " إلى الزمن الماضي, و في مقابل هذه المغادرة الزمانية، نجد القدوم المكاني في مطلع القصيدة " و أتيك يا قرية الآن " هذا القادم من جهة الريح الذي أرهقته السنون, فأضحى نسراً عجوزاً بنثر الريش في مهب العذاب.
و لكن لماذا ظل الماضي صامداً ومسيطراً على امتداد القصيدة ؟!
ألأنه نقي و طاهر و أبيض, أم لأننا نسبغ أمالنا و طموحاتنا المستقبلية على هذا الماضي ؟!
على كل حال ليس للإنسان عموماً, و للشاعر خصوصاً الاستغناء عن تفاصيل الماضي
" أما أن لي أن أعود صغيراً
على درج الدار
كي أتسلق أشجار جدي القديمة
و أبني لروحي عشاً عليها فأخلد للنوم "
و لكن لماذا الإلحاح على العودة, و استعجال شريط الذكريات ؟!
هل هو الاستقرار بعد التوتر المرافق لعملية الاستعادة ؟
أم أنه المصير المتحوم إلى النوم قرين الموت و الخلود ؟!
"و أيا قرية الضائعين
حننت إليهم لمحراث أحزانهم من الخريف
و هم يبذرون دموع العتابات في الأرض "
فالقرية التي يشتهيها الشاعر هي قرية مشاع, لا تخصه وحده, إنها قرية تمتد في المكان لتصبح أندلساً, وتنكأ الحاضر ليقطر الجرح حزناً شجياً, فالشاعر ينكر ذاته, و يستبيح الغناء للآخرين, ولكن من هولاء الآخرين
" أغنّي لهم
و لمن هجروا وقتهم
و استحالوا تماثيل,
كيف استحالوا تماثيل؟
يا قرية الضائعين و أندلس الحزن "
إنهم الذين استحالوا إلى تماثيل , فهل التماثيل هي المقابل المادي لغيابهم في القرية الضائعة !
أم أنها استمرار للوجود الصنمي المهاجر في ذواتنا؟!
ينتقل الشاعر بعد ذلك ليخبرنا عن تفاصيل قريته الضائعة, و أشيائها, و أناسها الطيبين, من مازن سارق البطيخ, إلى أبو طالب المستحيل الذي يرفع أذان العشاء في مغرب الفقراء, إلى خالد الصياد و بندقيته التي تطلق العشق في جسد الليل, إلى سعاد التي تنهد رف اليمام, إلى أوزه, الثلج, و غزاله الحب, و قبرات الحواكير و الحساسين و زهرة القطن و الفراشات, و حمامة الحزن التي وجدت في الطريق دونما عش, إلى العصافير و الفراشات
" رأيت عصافير من لذة
تتراكض في روحها
و الفراشات تجمع من صدرها عسل الياسمين "
و تتوالى المشاهد البسيطة و المركبة قي القصيدة, حيث تظهر من خلالها خصوصيات القرية, فهناك مشهد التسايق, و مشهد السرقة, و مشهد الأذان, و مشهد الفرس
" أواه لقد أقفل العرس أبوابه
يذهب الناس للبيت
و العاشقون إلى كوخ أيلول
كل البنات ذهبن إلى الحب كل البنات
ولم يبق إلا شرائط عرس
و عازف زمرٍ و طالب"
وأخيراً يسدل الشاعر ستار الذكريات على مشهد الحزن, ليصوغ قانون الرثاء الذي ارتضاه عنواناً للقصيدة
"ضاعت سعاد
و ضاعت بنات الطفولة كل البنات
و ظل " أبو سعيد " خلف البصيرة
مثل إله من الدمع
يغفو على قدمٍِ واحدة
و يردد ماذا أصاب الحياة
أيا قرية الضائعين وأندلس الذكريات .
عم مساءً أيها الرجل الغريب - شعر
طالب هماش – اتحاد الكتاب العربدمشق – عدد الصفحات 235