الأثر التركي في شعر شوقي
د. نعيم محمد عبد الغني
يقولون في المثل المصري: "الدَّمُ يَحِنُّ"، ويقصدون به أن الإنسان مهما شطت به الديار، عن وطنه وأهله، فإنه يحن إلى الرجوع لهفاً وشوقا، وشوقي الذي ولد لأب كردي وأم تركية وكانت جدته لأبيه شركسية وجدته لأمه يونانية اختار أصله التركي لكي يولي وجهه شطره مادحا.
ورغم دراسة شوقي في أوربا إلا أنه ما زال على إيمانه بأهمية الخلافة، ذلك الإيمان الذي غرس في نفسه منذ صباه الذي أمضاه في قصر الخديوي الذي كان تابعاً للخلافة العثمانية في ذلك الزمان، ومن ثم فشوقي لم يكن اتصاله بالترك من باب صلة الرحم ولا من باب الممالأة لأميره، وإنما كانت صلة في الله كما يقول محمد حسين هيكل في مقدمة الشوقيات، "فقد كان السلطان العثماني خليفة المسلمين، ووجوده يكفل وحدة البلاد الإسلامية ويلم شتاتها، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده، بل كان إيمان كثير من الزعماء المصريين".
لقد اهتم شوقي بالأتراك اهتماما كبيراً من هذا المنطلق، فخصص لهم 18 قصيدة طويلة من ديوانه تغنى فيها بأمجادهم وقوادهم، وبكى فيها أحزانهم، بعاطفة صادقة وصورة رائعة وموسيقى لا هي من بحور صعبة كالمقتضب والمجتث والمنسرح ولا هي من بحور سهلة كالرجز والمتقارب والوافر مثلا بل من بحور عوان بين ذلك، بحور كالبسيط مثلا ذي الإيقاع الراقص؛ ليناسب التغني بالمآثر.
لقد ذكر الأستاذ محمد حسين هيكل في مقدمة الشوقيات بأن شوقي "إذ يتحدث عن الترك إنما يُملي ما يُكنه فؤاده، وإنما يندفع بقوة دفينة هي قوة الجنس" ثم يقول: "وإنك لمؤمن حقا بأن هذه القصائد التركية هي أقوى قصائده عن الحوادث وأصدقها حسا وعاطفة".
ويكاد يجمع النقاد على أن سر اهتمام شوقي بالأتراك راجع إلى الميل إلى الأفكار التي نشأ عليها في قصر الخديوي من اتصال بالخلافة ووحدة المسلمين؛ وهذا ما نجده جليا في شعره عندما نتصفح الشوقيات.
إن اهتمام شوقي بالأتراك نستطيع أن نتلمس آثاره في قصائده من خلال عدة ظواهر، أغلبها كان يدور حول الخلافة الموحدة للمسلمين باعتبارها مصدر عزتهم، ويتغنى لمن يرفع من هذا الشأن ويكون شعره سيفا مسلطا على من ينال من هذه الغاية العظيمة.
لقد ذكر شوقي بأن الترك هم أهل القوة والبأس وهم أهله المقربون، فيقول:
تُحَذِّرُنِي مِنْ قَوْمِهَا التُّركَ زَيْنَبُ
وَتُعْجِمُ فِي وصفِ الليوث وتُعْرِبُ
....ثم يقول بعد أن عددت من وصف قوة وبأس الترك بأن العثمانيين هم أهله وعشيرته يجمع بينهم الدين والمذهب فيقول:
وزينبُ إِنْ تَاهَتْ وَإِنْ هِيَ فَاخَرَتْ
فَمَا قَوْمُها إِلا العَشِيرُ الْمُحَبَّبُ
يُؤَلِّفُ إِيلَامُ الْحَوادثِ بَيْنَنَا
وَيَجْمَعُنَا فِي اللهِ دِينٌ وَمَذْهَبُ
ويتغزل شوقي في زينب التركية بأنها جمعت بين القوة والجمال فيقول في صورة بديعة:
فَجَئِتُ فَتَاةَ التُّرْكِ أَبْغِي دِفَاعَهَا
عَن المُلك والأوطانِ مَا الحقُّ يُوجِبُ
فَقَبَّلْتُ كَفًّا كَان بالسيفِ ضَارِبًا
وَقَبَّلْتُ سَيْفاً كَانَ بِالْكَفِّ يَضْرِبُ
وَقُلْتُ أَفِي الدُّنْيا لِقَوْمِكَ غَالِبٌ
وفي مِثْل هذا الحِجْرِ رُبُّوا وَهُذِّبُوا
ثم يبالغ شوقي في أن الأتراك العثمانيين بلغوا ذؤابات العظمة وتنسموا ذراها فيأتي بهذه الصورة البديعة التي يقول فيها:
رُوَيْدًا بَنِي عُثْمَانَ فِي طَلَبِ الْعُلَا
وَهَيْهَاتَ لَمْ يَسْتَبْقِّ شَيءٌ فَيُطْلَبُ
أَفِي كُلِّ آنٍ تَغْرِسُونَ وَنَجْتَنِي
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ تَفْتَحُونَ وَنَكْتُبُ
ثم يعدد مآثر أمة الترك في مواطن كثيرة من هذه القصيدة كأن يقول مثلاً:
تَلَمَسَ التُّرْكُ أَسْباباً فَمَا وَجَدُوا
كَالسيفِ مِنْ سُلَّمٍ لِلْعِزِّ أَوْ سَبَبُ
والأسماء التركية لم تدخل في شعر شوقي إلا على سبيل الحكاية في ظل تغنيه بالخلافة العثمانية، وقد أدخلها في موسيقى الشعر ببراعة كصانع النسيج الذي يحكم بين خطوط نسيجه فلا ترى عوجا فيه ولا أمتا، ومن ذلك قوله في قصيدة سقوط السلطان عبد الحميد:
سلْ "يَلْدِزَا" ذات القُصُور ..هل جاءها نبأُ البُدور
لو تستطيعُ إجابةً ...لَبَكَتْكَ بالدَّمعِ الْغَزِير
و"يَلْدِزَا" كلمة تركية تعني اسم نجم وقد سمي به قصر عظيم في الأستانة كان يسكنه السلطان عبد الحميد أيام ملكه.
ومما ذكر أيضا "أنقرة" التي تغنى بها في قوله:
قُمْ نَاد "أَنْقَرَةَ" وَقُلْ يَهْنِيكِ ...مُلْكٌ بَنَيْتِ عَلَى سُيوفِ بَنِيكِ
ويبدو أن شوقي كان مخدوعا في مصطفى كمال أتاتورك الذي مدحه بقصيدة طويلة، جاعلا إياه في مرتبة الفاتحين الكبار كخالد بن الوليد وصلاح الدين فاستهل مدحه بقوله:
الله أكبرُ كَمْ فِي الفتحِ مِن عَجَبٍ
يا خَالدَ التُّرْكِ جَدد خَالدَ الْعَرَبِ
ويقصد بخالد الترك مصطفى كمال أتاتورك وخالد العرب خالد بن الوليد، لكن شوقي عندما فوجئ بأن أتاتورك أسقط دولة الخلافة سنة 1923 وكانت من الأشياء التي كان يؤمن بها شوقي إيمانا كبيرا ذكر بأن العالم الإسلامي ما كاد يفرح بانتصار الأتراك على أعدائهم في ميدان الحرب والسياسة إلا وقد أتى أتاتورك يلغي الخلافة فنظم شوقي قصيدة يرثي فيها الخلافة وينبه أمة الإسلام لأن تسدي له النصح لعله يبني ما هدم، وينصف ما ظلم ومن هذه القصيدة قوله:
بَكَت الصلاةُ وتلكَ فِتْنَةُ عَابِثٍ
بالشَّرعِ عِرْبِيد القَضَاء وقاح
أفتى خُزَعْبَلةَ، وقال ضَلَالة
وأتى بُكُفْرٍ في البلاد بَرَاحِ
ثم يقول شوقي بأنه ما تحول عن موقفه من مادح لأتاتورك إلى قادح له إلا عندما نال من صرح الخلافة الذي هو خط أحمر لا ينبغي أن يتجاوز فيقول:
أستغفرُ الأخلاقَ لستُ بِجَاحِدٍ
من كنت أدفع دونه وأُلَاحِي
مَالي أُطَوِّقُه المَلَامَ وَطَالَما
قَلَّدْتُه الْمَأْثُورَ مِنْ أَمْدَاحِي
ثُمَّ يُنَادِي المسلمين بأن يسدوا له النصح ويشبهه بحصان جامح فيقول:
أَدُّوا إِلَى الْغَازِي النَّصِيحَة يَنْتَصِحْ
إِنَّ الْجَوَادَ يَثُوبُ بَعْدَ جِمَاحِ
ولما سقط السلطان عبد الحميد قدم شوقي مفارقة تصويرية بين ماض كانت الأوانس فيه ناعمة في القصور وفي الخدور، وواقع بدت الأوانس بائسات في الدواهيَّ والقبور، فيقول:
ذَهَبَ الجميعُ فَلا القصورُ تَرى وَلا أَهْلَ القُصُور
ويلقي باللائمة على السلطان عبد الحميد بأنه رَكن إلى الدعة، ولم يستشر أحدا رغم كثرة المستشارين، فيقول:
عَبْدَ الْحَميدِ حسابُ مِثْلِك في يدِ الملك الغفورِ
سُدْتَ الثلاثين الطوالَ ولسنَّ بِالْحكمِ الْقَصيرِ
تَنْهَى وتأمرُ ما بَدَا لك في الكبير وفي الصغيرِ
لا تستشيرُ وفي الحِمى عددُ الكواكبِ من مُشيرِ
ويتحسر شوقي في قصيدة أخرى على الخلافة تحسرا يوحي بهول الأزمة ويصور وقع المصيبة فيقول في أكثر من قصيدة فيقول:
قل للخلافةِ قولَ بَاكٍ شَمْسَها...بالأمس لما آذنت بدلوكِ
يا جَذْوَةَ التوحيدِ هل لك مطفئٌ...والله جلَّ جَلَالُه مُذْكِيكِ
وهكذا يظهر الأثر التركي في شعر شوقي من منطلق إيمانه بدولة الخلافة ووحدة المسلمين ذلك الأمل المنشود والعز المفقود.