موت المسرح : قراءة في عبثية التواصل
د.محمد سالم سعد الله
تحمل الأجناس الأدبية تقاليد إبداعية ، تعيش في وسط تجارب حضارية تتخذ لها مفهوماً يجسد مراحل نموها ، ويكون معبِّراً عن الأشياء الواقعة الحديثة ، وتسهم هذه الأجناس بصياغة واقع إبداعي ينطلق من قاعدة فكرية ، تشكل إرادة ومنطلقا للإبداع ، وتقود من ثم إلى توفر فرص الفاعلية الواعية بضرورة التغيير ، مستندة إلى المعادلة الآتية : ( الواقعية في التعامل ، والعلمية في التأثير ) ، ومحتاجة في الوقت نفسه إلى أرضية واعية لتقديم المنجز في ظل سياق المعطيات الإنسانية .
وتصور الأجناس صيغاً إنسانية هدفها تقديم الهادف والجميل ، لأنّ الصيغ الإنسانية تحمل بالضرورة تمثلات جمالية ، متكئة على أرضية فلسفية بوصفها نسقاً ، وعلى أساس نقدي بوصفه إبداعاً ، وعلى حقل معرفي بوصفه واقعاً ، وقد تنمو هذه الصيغ بوجود مكون معرفي أساسه التلقي ، وبنيته التخطيط الواعي لتحقيق التواصلية بين أطراف العملية الإبداعية .
ويشكل المسرح ميداناً أجناسياً مهماً ، يحمل بطاقات معرفية لها جوانب إنسانية ، منفتحة على اللغة ، ومكملة النقص الثقافي لدى الآخر ، إنّه نص تأسيس لطبيعة النتاج والتقبل ، وخطاب موجه له مظاهر قدسية سمتها الطبيعة الثنائية بين : التبني والرفض ، المتعة واللهو ، الاقتناع والمرح ، المأساة والملهاة ، الضحك والحزن ، ... ، وبالرغم من ذلك فقد عانى المسرح ، ويعاني من سلسلة إخفاقات متولدة من أزمات ثقافية ، ناتجة من ظهور فجوات عدة في البنية الإجناسية ، حتى عدّ بعض النقاد أنّ المسرح المعاصر يمرّ بمرحلة احتضار ، ويمكننا الحديث عن ذلك من خلال تقديم مكثف حول الإجابة عن تساؤلات معرفية تناقش طبيعة المستقبل العلميّ للمسرح ، من قبيل : هل مات المسرح ، ومن أعلن عن موته ، وما أسباب ذلك ، ومن سيقوم بتشييعه ، وإن لم يكن ميتاً ، هل هو في حالة احتضار ، ولماذا وصل إلى هذه المرحلة ، وما هي العوامل الضرورية لانتشال المسرح من غيبوبته ، وإعادته إلى مكانته في تمثيل مفردات الإنسان وتقديم همومه ، والتطلع إلى مستقبله ؟ .
إنّ الموضوع في هذا الإطار له تبعات عدة ، وتنوعات مفاهيمية مختلفة ، يمكن الحديث عنها من خلال المحاور الآتية :
1. طبيعة المسرح الوظيفية .
2. أنسنة المسرح .
3. أنشودة التواصل المسرحيّ .
4. مرحلة ما بعد المسرح .
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه المحاور تمتلك آفاقاً معرفية وجمالية تطال المسرح بوصفه ميداناً إبداعياً ، وتتجه نحو التمسرح بوصفه حياة إنسانية مجسَّدة ، معرفيّة لأنها تحدد مواطن ثقافة الظلّ وتسعى لتعريتها ، وجمالية لرسمها صيغ التعامل الفني القادم مع المسرح ، بوجود الرقابة النقدية التي تمثل سلطة تأخذ به إلى مظان الإبداع المتجدد ، من خلال ترميم الفجوات في نصه ، وتفعيل آلية الاشتغال الدلالي فيه .
طبيعة المسرح الوظيفية :
في هذا المحور يمكن طرح التساؤلات الآتية : هل للمسرح المعاصر دور في جوانب الحياة المختلفة . فإن كان الجواب بنعم ، فأين يكمن هذا الدور ، وإن كان الجواب بلا ، فإلى أين نتوجه بالإدانة : لأنفسنا أم لجمهورنا أم لنصنا ، ثم هل من العلميّ ذكر إفلاس المسرح المعاصر من الهمّ الثقافي والمعرفي ، بمعنى تحرره من مواقف المجموع المنبثقة من الواقع ، وتوجهه ـ أي المسرح ـ لمخاطبة نفسه ، والتنازل عن تركاتٍ من الثراء الإبداعي الذي رافق مسيرته ؟ .
لا شك أنّ المسرح اليوم مصاب بنوع من الترف الفكري ، الذي إذا أصاب ميداناً معيناً ألزمه السكون ، وأورثه الاطمئنان للمنتوج ، لا إلى النتاج بوصفه حالة دينامية ، مما جعل النقد المتابع لحركة المسرح يصاب بمواقف متشنجة ذات أحكام مسبقة ، متخلياً عن ممارسة السياق التحليلي للثنائية الأزلية : ( النص والعرض ) .
إنّ الذات المسرحية مرّت بأزمنة من الإبداع الوظيفيّ ( مرحلة الأبوة في المسرح ) ، والخصوبة الدلالية ، والغزارة في تقديم المعنى ، وهي اليوم ( مرحلة الطفولة في المسرح ) تحِنّ إلى تمثل الهمّ الذي أنشِىء المسرح لأجله ، وهو : النهوض بالإنسان بوصفه قوة ممثلة للقيم ، وإنماء الوعي الفردي لمجابهة أزمات الواقع المتواصلة ، ومحاولة تحديد مواقف الصراع بين قوة الإنسان وقوة الميتافيزيقا ، ورسم الفروق الدقيقة بين طبيعة الإنسان المحدودة ، وبين إمكانيات الغيب غير المحدودة .
لقد تحددت طبيعة المسرح الوظيفية ، بانقلاب جذريّ على صيغ التمثلات الكلاسيكية ، التي تمتعت بنقل القيم التعبيرية والجمالية إلى عالم التبني للمتلقي ، لكنها تضاءلت لعدم إفساح المجال له في المشاركة في صنع تشكيل الهمّ الثقافي أو الحياتي المعيش ، وبذلك تألقت الأشكال والرموز والخطوط والألوان والإضاءة والديكور والمكياج والملابس ونحو ذلك ، انطلاقاً من رغبة المتلقي ومتعته في اكتساب وسائل ممكنة للتواصل مع المُؤدَّى على خشبة المسرح .
إذن الدور التواصلي الذي من المفترض أن يقوم به المسرح ، يتزامن مع طرح المشكلات الفكرية والفلسفية والعقائدية للإنسان ، ثم البحث ـ من خلال ذلك ـ عن أنفسنا ، وعن مجمل الحقائق التي نتعايش معها ، ثم تقديم الكلمة الموظفة المرفقة بالأداء (Performance) ، والمحملة بالصدق الإنسانـي ، ومن هنا انبثقت الثنائيات المسرحية المختلفة من جهة اشتقاقها ، والمتفقة من حيث رؤيتها لاكتمال العمل ، من قبيل : ( الممثل والمخرج ، النص والعرض ، الإلقاء والاستماع ، الأداء والتفرج ، الإمتاع والإقناع ، المأساة والملهاة ) ، وتحاول هذه الثنائيات الانتقال من أفق الخيال إلى مستوى التخييل ، أي من تقديم الإنسان إلى تصور المعنى الشمولي له ، لتحقيق بناء طقس مشترك بين المؤدي والمؤدَى له ، وبوجود هذا الطقس يحصل المتلقي على التواصل المطلوب المبنيّ على المتعة والفائدة والتخلص من الرقيب والتقليد ، لذلك فإنّ التواصل يرتسم بنواحٍ أربع هي : ( التواصل بين الخشبة (Stage) والجمهور ، بين المؤلف(Playwright) والمخرج (Director) ، بين الموضوع والجمهور (Audience) ، بين الممثلين والأداء ) ، ومن الجدير بالذكر أنّ صيغ الخلل قد طالت هذه النواحي ، فأصابت الذات المسرحية بأزمات ظاهرة للعيان .
أنسنة المسرح :
إنّ الحديث عن أنسنة المسرح هو حديث عن إمكانية استيعاب مشكلات الإنسان المعاصرة من جهة ، والتكيف مع النتاج الأدائي بوصفه ملحمة إنسانية درامية من جهة أخرى ، ثم محاولة شكلنة المسرح وإعادة تقديم المحتوى بما يتناسب مع التحول المعرفي والثقافي الذي يعيشه الإنسان المعاصر .
وفي هذا الإطار تعدّ إمكانيات : الانفعال الشعوري ، والأنين ، والصفير ، والموسيقى ، وحتى منحنيات الجسد في اتجاهاته المختلفة ، مهمة جدا في أنسنة المسرح بشكل متواتر ومتسارع الأداء ، وهذا الأخير يعتمد على الجهد البدني والصوتي ، لأنّ المسرح ـ كما قيل ـ هو مملكة الجسد ، وساحة معرفية لتقديم العمليات النفسية والجسدية والانفعالية التي تسهم في إيصال الرسالة الفنية للمتلقي ، الذي يجد فيها حاجته الروحية في البحث عن الحقيقة ، وبهذا يدخل المسرح تحدٍ جديد من خلال الانتقال من الصيغ المسرحية المجردة ، إلى روحية النتاج المسرحي ، إلى المفهوم الشمولي للإنسان .
ومن الجدير بالذكر أنّ وجودية المسرح لا تتضح إلا من خلال تصوير الواقع المعيش ، وابتكار سبل جديدة في إيصال أو بيان أو إدراك الحقيقة ، التي يبحث عنها الآخر المتابع لفعاليات المسرح ومعطياته ، وبهذه الطريقة يمكننا تجاوز أداء المسرح إلى صيغ التمسرح ، بمعنى التحول من مفردات الصناعة المسرحية ، إلى دلالات الصياغة الفنية المندمجة بالحياة وليست الغريبة عنهـا ، وبمعنى قريب من هذا حُدِّدَت الشخصية المسرحية الإنسانية نقدياً على أنّها : العلاقة الواصلة بين الإنسان والعالم ، ثم رؤية الناس للإنسان بالصورة التي يرغبون برؤيتها انطلاقا من حاجاتهم النفسية من قبيل : تمثل الأداة الاجتماعية في بناء الدور الإشتغالي للشخصية ، وتصوير دورها في الواقع .
إنّ ما يحدث في واقع المسرح العربي بعيد عن إمكانية أنسنة المسرح ، وتفعيل دور الفعل الإنساني فيه ، ويمكننا الاستئناس بتقرير مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الذي عُقِد في مناسبة اليوم العالمي للمسرح ( 27 / 3 ) للتدليل على ذلك ، إذ قُدِمت عروض مسرحية لـ( ست وثلاثين ) فرقة عربية ، اصطُبِغت بغياب الحدث المسرحي أولاً ، والركون إلى المنجز الكلاسيكي والجاهز ثانياً ، والتنازل عن الصيغ الجمالية في مقابل الاعتناء بالحركة على حساب الدلالة ، وبسبب هذا وُصِف هذا المهرجان بـ( مهرجان نعي المسرح العربي ) ، فالرؤية الأدائية المسرحية المتسمة بالاحتراف ، استبدلت بالورش التجريبية القائمة على التجريب وغياب الهمّ ، وبذلك رُسِمت خارطة العمل المسرحي ببعدين : ( الأول : صورة المرح المفرغ من الدلالة ، ثانياً : صورة الوعظ المتسم بالنصح والإرشاد ) .
أنشودة التواصل المسرحيّ :
يتسم الحديث عن التواصل (Communication) ومعطياته ضمن متوالية دلالية تبدأ من ( النص / العرض ) ولا تنتهي عند حدّ معين ، يتسم بسلسلة من التأثيرات الدائرة بين أطراف ثلاثـة : النص ( العرض ) ، والمتلقي ( المتفرج ) ، والكاتب ( المسرحي ) ، وتلف هذه الأطراف سلوكيات دلالية قابلة للاتساع أو الانحسار تبعا لطبيعة العمل الحيوية ، وتسعى أيضاً إلى ممارسة طرق فاعلة في صياغة التحول من المقروء إلى المنظور ، ومن المتوارث التقليدي إلى الإبداع الدرامي ، ثم تكوين المعرفة التي يُراد إيصالها إلى الجانب المستقبِل للعمل .
ونعتقد أنّ للتواصل جانبين مهمين أولاهما الذي ذُكِر آنفاً : ( التواصل بين أطراف دائرة الحدث الكلامي ) ، وثانيهما : التواصل بين الناقد بوصفه الرقيب ، والنتاج المسرحي بوصفه الممارِس ، ويمكن القول أنّ الجانبَ الثاني مفقودٌ ـ أو يكاد ـ ويرجع التقصير في ذلك إلى عدم قبول المسرح لبعض الآراء النقدية من جهة ، وتقصير النقد لمراقبة المسرح من جهة أخرى ، وكلا الجانبين متطرف في هذه المسألة ، لأنّ النقد لا يعني التدمير ، بل يمثل رؤية إدراكية لتحصين النتاج الإبداعيّ من الوقوع في الخطيئة المعرفية المضمونية والفنية الشكلية ـ إن صح التعبير ـ فضلاً عن توجهه لتحرير الخطاب من هيمنة التسلط ـ أيّاً كان شكله ـ .
ومن المهم ذكر أنّ الدراما المسرحية لا تمثل مشاهد حركية لمجموعة من الممثلين وحسـب ، إنما هي ثقافة طقوسية تسهم في استقرار القيم في النفوس ، وبهذا المعنى ينتقل التمثيل من فعل الحركة المجرد إلى فعل الإيحاء المستمر بصياغة واقع أفضل ، أي تمثل الأداء المسرحي بوصفه ( محنة ) وهَمّ معرفيّ ، لا بوصفه ( مهنة ) ووهم تقليديّ ، وبذلك يكتسب التواصل طبيعة جدلية النتاج (Production) والاستقبال (Reception) .
ويظهر اختيار عنوان هذا الإطار ( أنشودة التواصل المسرحي ) إشارة إلى مسارات التوقف الحاصلة بين الخشبة والجمهور ، والفجوات التي تعتري مسيرة النتاج المسرحي المعاصـر ، وقد يظن البعض أنّ هذه المشكلة هي وليدة المسرح المعاصر ، والقضية غير ذلك ، إذ يمكننا ضرب أمثلة عدة على وجود هذه المشكلة منذ منتصف القرن الماضي تقريباً بوصفها هاجساً مقلقاً ، فمثلاً مسرحيـة ( الحواجز : The Screens,1962 ) للكاتب المسرحي الفرنسي : ( جان جينيت Jean Genet ) (1986-) صورت معاناة التواصل بين المشاهد والممثل ، وبين فعل التفرج وفعل الأداء ، من خلال تخيل وجود حواجز عدة تلف مقاعد المشاهدين بشكل مستقل.
ويقدم الكاتب المسرحي الأوربي غروتوفسكي (-1999) الفكرة نفسها من خلال مسرحه العبثي غير المستند إلى دلالة أو قصد ، فهو بانتظار الذي سيأتي ولا يأتي ، وبانتظار الفكرة التي سيقدمها المسرح ولا يمكنه تقديمها بسبب وجود الحواجز ، ولأنها فعل ينطلق من الفراغ ، ولا يمكنه التوجه إلاّ نحو الـلا( دلالة ) ، إنها فكرة انتظار البطل الذي لن يأتي ، أي بانتظار المعنى الغائب المفقود ، وقد صرّح غروتوفسكي عام (1970) بأننا نعيش مرحلة ما بعد المسرح ، مما دفعه لترك المسرح عـام (1975) ، وتشكيـل ما اصطلح على تسميته : ( ضد المسرح ) ! .
مرحلة ما بعد المسرح :
يكتسب هذا المحور رؤية إستشرافية للوضع النقدي للمسرح ، من حيث صلاحيته أو عدم صلاحيته للواقع الإبداعي المعبِّر عن تطلعات الإنسان وهمومه مستقبلاً ، والسبب في الحديث عن مرحلة ما بعد المسرح (post-theatre) هو : غياب المسرح نفسه ، وانحداره ، وانغلاقه ، ثم تهميشه ، وقد استند هذا الغياب إلى جملة من السلوكيات ، نؤشر بعضاً منها كالآتي :
1.الفجوة الحاصلة بين ما هو نخبوي ، وما هو شعبي .
2.تفشي عروض المسرح التجاري الهابط الذي يمتاز بالخفة والحركة غير المنضبطة ، واستغلال الجسد لإثارة العواطف المكبوتة في النفس الإنسانية ، فضلاً عن جلب مؤدين ليس لهم حظ أو موهبة تمثيلية .
3.الابتعاد عن تمثل صيغ الجماليات المسرحية أو تغييبها ، من قبيل الدمج بين التصورات العقلانية وبراعة التناول النسقي المحسوس .
4.غياب الهمّ الفكري أو المشكلة النفسية من تكوين النص المسرحي ، وقد قاد هذا إلى تسطيح العمل المسرحي .
5. طغيان ثقافة الصورة التلفزيونية ومغرياتها في مقابل ثقافة العرض المسرحي ، بمعنى آخـر : هيمنة التقنية الحديثة وتأثيراتها العصرية في الجنس الإبداعي التقليدي وتجاوزه في مرحلة مقبلة ، مما أسهم في انحدار مستوى التلقي في الجانب الثاني على حساب الجانب الأول .
6.عدم اعتراف المسرح العربي بأصالته المنقوصة أو إن شئت قل : ( لا أصالته ) أي : نسبه الهجين ، غير المنتمي للبيئة التي يمارس نشاطه فيها ، وقد دفع هذا المسرح العربي إلى إنشغاله المتواصل بإثبات فرضية تأصيله الغائبة ، وتحقيق إمكانية كونه غير دخيل على البيئة العربية الفنية والثقافية ، فضلاً عن الانشغال بإثبات الهوية العربية المتميعة في ظل العولمة ، وقد أضرّ ذلك المسرح الفكري بشكل كبير .
7. ممارسة عملية التمثيل بوصفها بناء أدائياً للنص المكتوب ( بناء خارجي ) ، وليس بوصفها تمثلاً شعورياً ( بناء داخلي ) .
8. التخلي عن ممارسة الاهتمام بالمنتوج المسرحي ، وقد قاد هذا إلى الملل والاستهجان ، وانحسار الجمهور .
9. تخلي المسرح بشقيه المأساوي والكوميدي ـ في الغالب ـ عن وظيفة التطهير (Catharsis) المتجهة أساساً نحو فعل التلقي ، من خلال بثّ العواطف والمشاعر التي قد تسبب قلقا أو توتراً ثم تتجه نحو إدراك الحلول .
10. لا تكتسب النصوص المؤداة خصوصية عربية في الطرح ، مما أبعدها عن الجانب التداولي للمتلقي العربي .
11.ابتعاد النقاد عن بيان أو إظهار جماليات المسرح المعاصر ، بسبب انعدام الذائقة المسرحية أولاً ، واعتقادهم أنّ المسرح الآن لا يشكل إلاّ ترفاً أدائياً وحسب .
12.سعي المسرح العربي المعاصر إلى التجريب ، الذي مارس دوراً سلبيـاً ـ في أحيان كثيرة ـ لا سيما فيما يتعلق بالقضايا الإنسانية والانفعالية .
13. انحسار جانب الجمهور الجاد ، وتنامي الجانب الآخـر ذي الثقافة السطحية والذائقة الزائفة .
14.غياب الجدّة في تكوين عناصر البناء المسرحي ، إنطلاقـاً من تأسيس النص مروراً بالأداء ، وانتهاء بدور المخرج .
15. غياب الجانب التنظيريّ المعاصر في الميدان المسرحي ، عن بعض المشتغلين بالجانب التطبيقيّ فيه.
16. لم يحدد المسرح العربي نموذجه الأجناسي المحدد ، ولم يحدد له طبيعـة نقدية منفلتة من المعطيات النقدية الوافدة كالمسرح العبثي ، أو مسرح اللامعقول ، أو مسرح التجريد ونحو ذلك .
17. تقصير المسرح العربي بمواكبة الموضات الدرامية ، من قبيل الإبتعاد عن الرؤية المباشرة ، واستبدالها بالرؤية غير المباشرة ، أي : الرؤية الرمزية أو رؤية المفارقة النصية .
18. مارس المسرح سلطة على الجمهور ، أي لم يجعل التلقي فعلاً منطلقاً من رغبات المسرح ، بل ركن هذا الأخير لرغبات المتلقي ـ حتى وإن كان ساذجاً ـ ، لذا يجب علينا توجيه إدانة للمتلقي في جميع نشاطاتنا المسرحية ، من أجل إيصال الرسالة التي مفادها : أنّ المسرح هو الذي يقوم بفعل التغيير والتأثير في الآخر وليس العكس .
19. غياب الجانب الإنزياحي في لغة تكوين الحدث المسرحي ، وافتقارها إلى دينامية المفارقة التي تقدم ما ورائيات المعنى ، وتحقق فعل التلقي المتواصل .
وفي الختام :
يمكن القول أنّ الأجناس الأدبية قد تزهد بازدهار البيئة الحاضنة لها ، وتتراجع بتراجعها ، وبمعنى آخر : أنّ حيوية النتاج الأدبي بأشكاله المختلفة ، تتوقف على المجتمع المستنير الساعي بشكل دائم لاكتساب العلم والمعرفة ، لذا فإنّ حديثنا عن موت المسرح هو حديث عن مرحلة جديدة قد تتجاوز المسرح إلى غيره بسبب غياب نشاط التواصل ، وقد تأتى هذا من خطيئة زمنية امتدت عبر عقود طويلة ، همشت المسرح ، وعمدت إلى إهماله وحجبه عن الآخرين ، وانطلاقاً من ذلك ستحدد مرحلة ما بعد المسرح بإمكانيات دمجـه مع التقنيـة الحديثـة من جهة ، والفنون القريبـة منه من جهة أخرى ، مثل دمجه بالأوبرا ، وهذه العملية شبيهة بعمليات نقل النواة (Nuclear Transfer) ، أو كما يحلو للبعض تسميتها : ( الاستنساخ ) إذ سينتقل ( الجين ) المسرحي ليُزرَع في وسط آخر ليتم الحصول على كائن جديد ، أو إيجاد التواصل بين الممثل والمتلقي من خلال ثقافة رقمية نجهل آليتها ، ونتوقع حدوثها ، استناداً إلى حركة المجتمع العالمي التي استبدلت النشاط التقني الرقمي بكلّ شيء ، حتى أصبح العالم أشبه بخارطة كونية تتحكم بها : الأرقام والأزرار والإيعازات المختلفة