الشاعر العالمي محمد حسين شهريار
عاشق الحزن والجمال
محمد مهدي بيات
أراد الشاعر محمد حسين التبريزي أن يغير لقبه الشعري المسمى ( بهجت ) المعروف في الأدب القديم ب ( التخلص) فاستخار بديوان الشاعر حافظ الشيرازي المعروف في إيران ( خيرة حافظ) فوقعت الاستخارة باسم شهريار وقد تغلب هذا اللقب على اسمه واصبح معروفا بلقبه هذا في ربوع إيران الواسعة الشاسعة يعرفه حتى من لا يحسن القراءة والكتابة ويحفظ مقطعا من شعره أو من ملحمته التي كتبها باللغة التركية ( سلاما يا حيدر بابا ) حتى من لا يجيد التركية وهذا ما لاحظته أنا شخصيا عندما كنت أسأل عن الشاعر كلما أرى إيرانيا في كربلاء العراق ولقب عند الفرس ب ( حافظي) تيمنا بهذه الاستخارة .
عاش الشاعر بين ثقافتين هي التركية والفارسية ونهل من منابعهما الأدبية وكانت الأولى هي لغته ألام والثانية لغة الدولة وكانت قدوته من شعراء الترك نامق كمال وتوفيق فكرت ومحمد عاكف ارصوي وكان معجبا بالثاني انه أراد أن يقلده في قصيدته ( الوطن) ولم يفلح فمزق القصيدة ولم يقلد أحدا وفي الفارسية سعدي وحافظ الشيرازيين ونظامي كنجوي وفضولي البغدادي غير أن شعراء الشرق تأثروا به كثيرا خاصة في الهند وباكستان وإيران وتركيا وأذربيجان وتركمان العراق وبعض الدول الناطقة باللغة التركية وأكثرهم قلدوه على شكل نظائر أو كتبوا جوابا لملحمته المعروفة ( حيدر بابايا سلام ) فذاع صيته باسم ( أستاذ شهريار)عندما منحته جامعة تبريز درجة الأستاذية الفخرية في الأدب واتخذت الحكومة الإيرانية بيوم وفاته يوما خالداً وعيدا وطنيا للشعر وقد وصفه المرشد الديني للثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي بان الشاعر شهريار كان كبيرا في نتاجاته ومفخرة لامته لأنه لم يتكسب بشعره رغم قصر يده ولم يتقرب للقصور وكان أبيا عزيز النفس غيورا لبلده ودينه .
لم يكن الشاعر ذا ميول يسارية ولم يكن قريبا من تياراتها النقدية التي سيطرت على الساحة الادبية في ايران في القرن الماضي لذلك لم يعطوا لاعماله ما تستحقه من الاهتمام ولنزعته الانسانية والدينية لم يهتم به كذلك القوميون الاتراك في ايران وقد لاحظت هذا انا شخصيا عندما التقيت بالشاعر القومي (علي تبريزي)في محله في شارع الخيام بطهران سنة1991 وكان لايحسب له حسابا بينما اعتبره الباحثون المحافظون عميدا للشعر الفارسي بلا منازع ونعتوا اسلوبه (باسلوب شهريار)وهو من النوع السهل الممتنع أي ما يصعب قوله ويسهل فهمه .
عاش الشاعر زاهدا ناسكا متفرغا للعبادة في اواخر ايامه سنة 1988 حيث توفي فيها في داره المتواضعة ومن حسن حظي ان ازور هذه الدار عدة مرات التي تحولت الى متحف تضم اثاثه واثاره وصوره في احدى احياء مدينة تبريز ومساحتها لا تتعدى 50متراً واستغربت بصورته المعلقة بمدخل الدار التي تعكس حياته في ايامه الاخيرة وكانه درويش متنقل اثقلته السنون جالس بين متاع داره وحيدا لاتتعدى بخرق بالية من الملابس والفراش وفانوس ومدفأة كان الشاعر كذلك عاش وحيدا ومات فريدا تركه اولاده بعدما كوّنوا اسرهم .وقد اهديت للدار نسخة من ديواني ملحمة (قه يته ز بابا بير عمر دستاني) ليكون جسرا موصلا بيننا وبينهم وكلما امربالدار اجده في خانة الكتب المهداة للدارفي زجاجيات من كتب عن الشاعر
ولد محمد حسين شهريار سنة1904م في تبريز وهو من قرية تسمى (قه يش قورشاغ) المطلة على سفح جبل اشبه ما يكون بتل المسمى(حيدر بابا) واصبح هذا الجبل مرتعاً لخياله الخصب بملحمته المسمى باسم الجبل والقرية تابعة لقضاء (خوش جناب ) وعندما زرت هذا القضاء رايت تمثال الشاعر فيه شاهقاً وابتداءً من قريته هذه( وهي غنية بزراعتها وفقيرة بمنشأتها ) اخذ اسم الشاعر حيزا كبيرا و مساحةواسعة في اقليم اذربيجان ومن قريته الى تبريز كل شيء معنون باسم شهريار من مدرسة ومستشفى الى شارع وجامع ومصرف وجامعة ومطاروعندما تجولت مدينة تبريز وضواحيها جميعا لم اجد تمثالا غير تمثال شهريار سالت بعض الناس من مختلف الاصناف احقاً هكذا كان شهريار واسعاً ومحباً فيكم فكان الجواب يدمي القلوب كما هو لاكثر النوابغ باننا نقدر عظماءنا بعد وفاتهم ولا نفرحهم في حياتهم ولو بمكرمة او اقامة نصب ولو انه حظي بزيارة السيد خامنئي قبل وفاته بقليل الا انه عاش كئيباً يعتاش براتبه التقاعدي ولم يسافر الى اية دولة و لو انه عاش في اسطنبول او في باكو لكان محمولا على الرؤوس . نعم انه كان هكذا انك لو قارنت داره المتواضعة بقبره الفخم لترى الفرق بينهما كالكوخ والقصر ومن زهده انه كان يتهرب من الاضواء ولا يقبل الاعلاميين لمقابلته فيقول الشهرة ظلنا وهي تتبعنا ولا نتبعها غير انه اعطى لخياله مساحة واسعة من الابداع فعبرعن كل الامه واماله وهمومه في العشق وتجاربه في الدنيا في شعره لانه عندما اكمل دراسته الاعدادية بدار الفنون في طهران دخل كلية الطب وفيها احب فتاة بكل قلبه واستولت عليه جعلته خافقاً لاجلها الا ان اسرتها رفضت تزويجها له لسبب فاقته اوقعته في ازمة نفسية حادة ادخلته المستشفى واختل توازنه عقليا اضطره ان يترك الكليه التي كانت سهلا عليه اكمالها ومنال شهادتها وهذه الحادثة المفجعه اثرت بشكل كبير على حياته وفجرت طاقاته الابداعية ليكون شاعراً من الطراز الاول ومفخرة على مر العصور ومجددا في الشكل والاسلوب ومبدعا من صميم الروح بكل ما استطاع من جمال وصدق وخيال وحكمة بمستوى سعدي وحافظ وخيام النيسابوري . يقال ان هذه الانتكاسة في الحب اثرت في شخصيته فاصبح متشائما وروحانيا مجسما بالحزن ومطلقا دنياه ناعتا اياه بالكذب والهراء فيقول :ـ ان دنيانا هذه كذب وهراء يا حيدر بابا... وهي ورثة من سليمان ونوح .... اعطتنا ولدا وقهراً ومصائباً... وكل ما اعطتنا ارجعته قسراً ولم يبق لنا من افلاطون سوى اسم مجرد
حتى ان اهله واصدقاءه تخلواعنه كعشيقته في شبابه وقدصورهذه الحادثة في ملحمته بلوحةجميلة يقول
الاحبة والاصدقاء اداروا ظهورهم
فردا فردا عليّ يا حيدر بابا
بعدما تركوني في العراء
انطفأ نور بصري وبصيرتي
تحول نهاري الى ظلام دامس
وحياتي الى اسير في خرابة الشام
وهنا يشبه نفسه باولاد الامام الحسين(ع) وهم اسارى في بلاد الشام ولم لا وهو من اولاده ؟
عمل الشاعر موظفاً في احدى البنوك في طهران ولما ذاع صيته واصبح مشهورا في البلاد اعفته ادارة المصرف من الدوام مع الاحتفاظ براتبه كاملة ليتفرغ للشعر ثم احيل على التقاعد ليعود الى تبريز ويعيش مع اسرته في هذه الدار المتواضعه وله من الاولاد بنتان وولد واحد لايفهم من الشعر شيئا
ظهر النبوغ الشعري عند شهريار في سن مبكر اذ قدم لوالده الذي كان يوكل الدعاوي القضائية (بما هو معروف اليوم المحامي) مثقفا ومحترما بين قومه يعرف ب(الحاج اقا خوشكنابي) ورقة وعليه ابيات شعرية من نظمه فتوقع له الاب بمستقبل شعري زاهر وكان كذلك اذ نشر اول ديوان شعر له عام1929م مع مقدمة تعريف كتبها ملك الشعراء(بهار)
احب شهريار الشعر وعاش في كيانه جاعلا كل وقته وحياته وقفا له وكان يخلو للقوافي وينظم في اعتكافه يكتب في كل زمان ومكان وكانه وحي ينزل عليه من اله الشعر تصفه ابنته الكبيرة (مريم) عندما ينشغل في النظم ونزول وحي الشعر اليه تقول "لازلت اتذكر عندما كنت طفلة استيقظ من النوم في منتصف الليل فالمح بصيصا من الضوء في غرفة والدي ثم اقصده بحجة شرب الماء اجده ينشد الشعر بصوت خافت وفي يده قلم يكتب به على ورقة امامه واني لا استطيع ان اصف تجاعيد وجهه وحركته وهو في هذا المقام لقد كان منقطعا عن عالمنا تماماً وكان يترقى في خشوع ويطوي مسافات داخل عالم اخر الى درجة انك اذا ناديته انتفض وكانك ايقظته من نوم عميق وكنت اتركه في خشوعه وتبتله الشعري"
اشتهر شهريار بالغزل وعجيب في الادب الفارسي والتركي حيث يقيّم الشاعر بمقدرته في الغزل وليس المقصود فيه ان يكون الغزل كما هو معروف عندنا ولكن للغزل شكل وتركيب ووزن خاص به يتراوح ابياته من ستة ابيات الى اثني عشر بيتا ومن وزن الهزج والاكثر شيوعا هو الهزج الاخرم وزنه مفعول مفاعيلن فعولن وقد عرف شهريار شاعر الادب الفارسي في عصره بلا منازع وفي سنة 1956 م سمع بان والدته الذي كان يحبها الى درجة القدسية والعبادة تقول لا افهم من شعر ولدي شيئا لانه يكتب بلغة غير لغتي فتاثر بهذا القول جاهدا ارضاءها فجمع اسرته للذهاب الى قريته التي ولد فيها وعندما لمح بصره من بعيد جبل (حيدر بابا) اجادت قريحته بهذه الخماسية
عندما تلمع البروق يا حيدر بابا
والسيول الجارفه تجري مزبدة
وحينما ترى البنات بهاءها صفا صفا
سلاما على جمعكم ومنعة دياركم
ماذا يكون لو تردد اسمي بلسانكم
وهذه الملحمة التي اصبحت فيما بعد منال كل شاعر واديب وهي من روائع الشعر التركي باللهجة الاذرية التي يصفها كثير من النقاد بـ(ذخيرة الادب العالمي ) او (الشعر العالمي الحي) لما تميزت به من المضامين الانسانية والفلسفية وتجاربه في الحياة والتراث وصدق العاطفة وجمال في الشكل والاسلوب وهي من نوع السهل الممتنع ومن طراز (تركيب بند) على شكل خماسي بوزن المقاطع الصوتية وهو خاص للشعر التركي(4+4+3) ولقد نشرنا عدة مقالات عن هذه الملحمة باللغتين العربية والتركية وعن اصدائها في المناطق والدول الناطقة باللغة التركية .
ابدع شهريار في كل مجالات الشعر الفارسي والتركي , في الغزل والمثنويات والرباعيات والشعر الخماسي والحر ولو القينا نظرة الى ديوانه التركي نجد بان اجمل شعره هو ملحمته (حيدر بابا) وهي اول شعره في التركية نابعة من الصميم من غير تكلف وتعتبر الدرة اليتيمه في الادب التركي كما كتب الشاعر قصائد دينية لانه عاش في بيئة دينية حوزوية وله معرفة جيدة بالفنون الموسيقية الصوفية حيث كان صديقاً حميماً لكبار الموسيقيين في ايران يقال انه كان ينظم بعض قصائده على انغام الموسيقى عندما يعزف على الكمان صديقه الذي لا يفارقه اقبال اذر وكما لحن بعض المقاطع من ملحمته وتغنى في اذربيجان الشمالية
وقد ظهرفي شعره بعض المعجزات ومما يرون في ايران انه كان في مدينة"قم" مجتهد معروف اسمه اية الله المرعشي النجفي وكان تركياً اذرياً راى في منامه ان الامام علي(ع) يخبره بان شهريار نظم قصيدة في مدحه فقرا له بعض ابياتها فحفظ الرجل منها ولما استفز من النوم سال من جماعته عن شهريار ومن يكون هذا الشاعر لانه لم يكن يعرفه فاشاروا بانه شاعر في مدينة تبريز فاستدعاه ولما حضر بين يديه قال له يا شهريار اقرا لنا قصيدتك في مدح الامام عنوانها(علي هماي رحمت) وقرأ له منها بعض الابيات و (هماي كلمة فارسية مفادها طير السعد معناه علي طير الرحمة) فتعجب الشاعر بهذا القول فاراد ان يتاكد من ذلك قال وما قصدك؟ فقال رايت في منامي ماهو معروف في اليوم والساعة الفلانية ففاضت عين شهريار بالدموع فقال والله لا يعرف احد عن هذه القصيدة غيري وقد انهيتها في الوقت الذي ذكرته انت ونقتبس من هذه القصيدة بعض الابيات :
يا علي انت طير السعد جئت رحمة
فانت اية الله في كل شيء
ذاتك كنه الله ,يعبده في كل زمان ومكان
اجب ايها القلب عن هذا
ان اردت ان ترى الله وتعرف كنهه
فانظر الى جمال علي وهو نورعلى نور
قسما بكل ما يقسم به
باني عرفت الله بعليّ
يا ايها المسكين المستجدي لم هذه الحيرة؟
اذهب الى باب علي فانه يتصدق
خاتمه في سبيل ربه وان كان خاتم الشاه
كان الشاعر حلقة وصل بين الشعر الكلاسيكي والحر وقد عاصر شعراءهما وكان صديقاحميما للشاعر علي اسفندياري المعروف في الادب الفارسي بـ(نيما يوشيج )رائد الشعر الحر ومجدده في ايران وانه اول من كتب الشعر الحر عندمانشر قصيدة باسم((افسانه)) بمعنى الاسطورة في سنة1921 م وهي اول قصيدة فارسية تمت صياغتها وفقا لا سلوب الشعر الحر وكانت صوتا جديدا في فضاء الشعر الفارسي انذاك شكلا وعاطفة وموسيقى وهو المعادل الشعري لبدر شاكر السياب في الادب الايراني وكان يكبر عن شهريار تسع سنين حيث ولد هو في 1895 في منطقة طبرستان بمحافظة مازندران وعاش اقل بكثير عن شهريار حوالي64 سنة بينما عمّر شهريار اكثر من ثمانين عاما وكان بينهما مراسلات وحوار وجلسات وكان متواضعا ينظر الى شهريار نظرة ً حب واحترام وريادة يقول في احدى رسائله
"شهريار العزيز : قصيدتي التي جعلت عنوانها باسمك وهي لا تساوي شيئا في حضرتك ,انت الشمس في سماء الشعر ولولا الشمس فلا لون لاي شيء انت القلب ماذا تريد... اتريد القلب !؟" كما عاصر الشاعر بروين اعتصامي الشاعرة العصامية المعروفة التي جعلت شعرها مناراً لاصلاح مجتمع المراة رغم قصر عمرها وقد ماتت و لم تكمل عقدها الرابع بحادثة سير كما كان صديقا للشعراء سليمان رستم ومحمد راحم و ابو الفضل الحسيني (حسرت) من اذربيجان الشمالية وكان له معهم مناظرات شعرية ومراسلات ادبية وقد التقى اثنان بالشاعر من ادبائنا التركمان هما الاستاذان عطا ترزي باشي ونجيب وهاب
توفي الشاعر تاركا وراءه ذخيرة ادبية لا تفنى, تنوّر العقول وتهدي الاجيال وهي باقية ببقاء الشمس على وجه الخليقة عاش في ضمير الناس ونال تقديرهم وانه اخترق القلوب عندما احترق بنار العشق لينير درب المحبين بدايته ماديه نهايتة.