شــعرية الــمكان
شــعرية الــمكان
مقاربة المكان في رواية"الريح الشتوية"
إبراهيم القهوايجي/االمملكة المغربية
" إن للأشياء تاريخا مرتبطا بتاريخ الأشخاص ، لأن الإنسان لا يشكل وحدة بنفسه ، فالشخص ، وشخص الرواية ، ونحن أنفسنا ، لا نشكل فردا بحد ذاتنا ، جسدا فقط ، بل جسدا مكسوا بالثياب ، مسلحا ، مجهزا ."
ميشيل بوتور.
اعتنت الدراسات النقدية الحديثة بتحليل عناصر الخطاب السردي ، ومنها المكان باعتباره ملفوظا حكائيا قائم الذات ، وعنصرا من بين العناصر الفنية الأخرى المكونة للنص السردي . وقد أولى غاستون باشلار أهمية للمكان في نظريته عن المكان الروائي في كتابه"شعرية المكان"1، دارسا القيم الرمزية للأمكنة ، المرتبطة بالسارد والشخوص ، في جميع تجلياتها وتعارضاتها، ومن هنا تناولنا لشعرية المكان في الرواية المغربية"الريح الشتوية" لمؤلفها مبارك ربيع 2 ، ولا يمكن بأي خال تناول المكان الروائي بمعزل عن باقي المكونات الأساسية في الآلة الحكائية ، لذلك يؤكد حسن البحراوي أن "ظهور الشخصيات ونمو الأحداث التي تساهم فيها هو ما يساعد على تشكيل البناء المكاني في النص،..."3
ثنائية المكان أو شعرية الر يف والمدينة:
تأخذ ثنائية الريف والمدينة أشكالا مختلفة، و تقوم العلاقة بينهما في الثقافة العربية ،على الأقل، على الصراع ، حيث تغدو المدينة هي الأقوى بما تمثله من سيطرة قوية ومركزية على تسيير الشأن الحياتي ، في حين يبقى الريف هامشا في هذه العلاقة، فكيف تجلت ثنائية :الريف والمدينة كمكان روائي في "الريح الشتوية"؟
تدور أحداث الرواية بين فضاءي البادية التي لاتحمل أي اسم، وليست محددة الموقع بشكل عام، أما المدينة فهي الدار البيضاء، حيث أجهزة السيطرة والقمع الخاضعة للسلطة الفرنسية،والزمان هو الأربعينيات المتزامنة مع الحرب العالمية الثانية ، مما يسم الفضاء الروائي في " الريح الشتوية " بطابعيه : الوطني والعالمي ، وهكذا تقوم بنية المكان في هذه الرواية على مكان مؤرق للذاكرة وحاضر دوما في ذهن ووجدان شخصية العربي الحمدوني وهو أرضه بالبادية ، وبين مكان وفضاء الهجرة / الدار البيضاء ، الهجرة القسرية ، حيث تكثر المعامل ودور الصفيح التي تمتص النازحين من البادية بعرقهم وآلامهم وأحلامهم .
لقد أولى السارد للمكان أهمية كبيرة ، لكونه يؤطر أحداث ووقائع الرواية ، ويحيل على أمكنة واقعية معروفة لدى المتلقي ، مثل كراج علال ، كريان سنطرال ، سوق لقريعة ...علاوة على كون هذه الأمكنة تغني الرواية بدلالاتها الواقعية والرمزية، كما أنها تحفز الذاكرة على الاسترجاع :" وفكر العربي في نزاعات وصراعات مما ينشب في الماضي عادة بين أسر الفلاحين في القرى ، قد قامت بينهم في الماضي ، ولم يبق لها بينهم اليوم من أثر."4.
وهكذا يمكن رصد أمكنة القسم الأول من الرواية على الشكل التالي :
المعمل |
بيت كبور والعربي |
رحبة الزرع |
سوق القريعة |
كريان سنطرال |
كراج علال |
المكان |
مكان الاستغلال والتحرش |
مكان البؤس والمأساة |
مكان الكدح اليومي |
مكان النصب والاحتيال والسرقة |
موئل النازحين والبؤس والحلم |
مكان الانتظار |
مواصفاته |
ويمكن رصد أمكنة القسم الثاني من الرواية على الشكل التالي :
السجن |
الملعب |
المدرسة الوطنية |
المزبلة الأمريكية |
المسيد |
المعمل |
المكان |
مكان اعتقال الوطنيين |
فضاء التظاهر والتحدي |
الوعي الوطني |
فضاء الإغتناء |
الطفولة وبداية التعلم |
فضاء الاستغلال |
مواصفاته |
فكريان سنطرال هو تجمع يستقطب كل النازحين الذين يتشابه مصيرهم بمصير العربي الحمدوني ، واندمجوا فيما بعد في حياة البؤس والحرمان والغربة والاستغلال داخل المعامل ، وسكنوا في دور الصفيح والبراكات ، لكنهم لم يستطيعوا التخلي عن أمل العودة إلى القرية ، وخير من يمثلهم العربي الذي تتابعت أمام عينيه " شتى الصور نابضة بالحياة . يخرج من بلده ، يترك أرضه ، ومواشيه وكلابه ، يترك علاقاته وأهله ، دائنيه ومدينيه ، وعوده ومشاريعه،..."5 ، وبالرغم من كون المعمل/ معامل النسيج والسكر والسردين يعكس حياة الكدح والشقاء والاستغلال ، غلا انه شكل بداية الشرارة التي سينطلق منها العمل الجماعي/ النقابي لمواجهة المستعمر، وهو أيضا فضاء للتحرش الجنسي والذل والمهانة واستغلال الأطفال :"كان أرنو حقا نموذجا آخر من هؤلاء النصارى ، فبدل الترفع والتعالي المألوف منهم ، يظهر أرنو محطما لكل كلفة بينه وبين أطفاله ، وإن كان لا موضوع للحديث بينهم إلا الفكاهة الفاحشة ، التي كان أرنو قد أجاد تعابيرها العربية.. " ولعل أخطر تلك التحرشات هي التي استهدفت العربي الحمدوني ، وانتهت بنقله من ورشة التعليب إلى ورشة الميكانيك حيث دهسته إحدى الآلات الضخمة، فيغدو المعمل فضاء للموت، لكن هذا الموت سيعقبه ميلاد جديد داخل المعمل ، إنه ميلاد الوعي النقابي العمالي الذي سيزج بالعمال لمواجهة المستعمر. ومن الأمكنة الهامة في النص مكان المحكمة التي تبدو من مظهرها الخارجي قصرا عاليا يعج بالأعمدة الرخامية والأقواس ، وهي في جوهرها فضاء للسماسرة الذين يفتشون عن ضحاياهم من المغفلين ، وهو فضاء التيه والضياع والخديعة ، ومع ذلك يستقيم حلم النازحين من خلالها لاسترجاع الأرض المغتصبة .
ويشكل بيت العربي الحمدوني فضاء البؤس والحلم المجهض والمصير الذي تحول إليه من حياة العز والكرامة في القرية إلى حياة البؤس والحرمان في مدن الصفيح ، ولعل الحنين إلى الارض وزرعها هو الذي جعل العربي يختار في البداية العمل في رحبة الزرع :ط ولم يكن الحمدوني بحاجة إلى أن يتعلم طريقة خلط الحبوب التي يفرضها عليه السوق " 7، وفي المقابل يشعر الحمدوني بغربة قاتلة بالذل والتجريح ، لدرجة يشبه ذاته بثور يباع في السوق بعد مساومة بين المشتري والبائع8 ، وهنا تتقاطع المرجعية البدوية بواقع الاستغلال في المعمل، كما كان العربي يشعر بالحسرة وهو ينسلخ من جلبابه ، ويربط حول وسطه قطعة خيش. وما يقال عن معمل السكر ينسحب على معمل السردين ، حيث اشتغال النساء في ظروف مزرية.
ويقوم السارد بتوصيف شكل الأماكن وتحديد ملامح امتداداتها ، كما في سوق لقريعة والحي الصناعي / كريان سنطرال والمزبلة الأمريكية التي تمتد على مساحة رحبة ، تختلط فيها الزيوت المحروقة وعلب الصفيح والورق وأعقاب السجائر وقطع الغيار الفاسدة وشفرات الحلاقة الصدئة...9 ومن خلال توصيفها يتم رصد جملة من الأنشطة المرتبطة بها كبيع ما يتم العثور عليه ، واقتتات عائشة العرجاء من قمامتها...
إن فضاء المسيد يرتبط بالوظيفة التنويرية ، لنه يعمل على تنشئة الأطفال واندماجهم في الحياة الاجتماعية ، في حين يمثل الملعب فضاء للتجمع والتجمهر قصد مجابهة قرار الترحيل ، وهو احسن مكان لتبليغ سكان الكاريان القرارات الوطنية التي تحض على مواجهة ممارسات المستعمر الاستفزازية ، وهكذا يغدو الملعب فضاء سياسيا بامتياز ، في الوقت الذي نجد فيه مكان المقبرة فضاء للمواجهة ، حيث البطش بالوطنيين العزل ، ولعل اختيار هذا المكان تم بدقة لكونه يستدعي الحس الوطني في أبهى تجلياته البطولية : فإما الاستقلال أو الموت . ويظهر السجن في نهاية الرواية كمكان لاقتناص الوطنيين ، الذين واجهوا قرار الترحيل ، وهو أيضا فضاء يضع حدا لتحركاتهم ونشاطاتهم الوطنية ، ولعل خير من يمثل هذا المنحى هو كبور ، وهو فضاء معارض لفضاء الحرية خارج أسوار الزنازين ، وتقدم لنا الرواية انعكاسات هذا الفضاء على النزلاء والزائرين بعدما رصدت مظاهره الطبوغرافية : فالسجين /كبور يحس بالعجز التام لاختراق هذا الفضاء الموصد والمغلق، والزائر/ الغالية تنتابه رهبة شديدة ، وهو يصغي إلى حركة انغلاق أو انفتاح الأبواب، يقول السارد عندما زارت الغالية زوجها السجين :" اعترتها رهبة شديدة وبوابة السجن الصغيرة الثقيلة تنفتح وتغلق دونها لتجد نفسها في فسحة صلدة هامدة ، تحدها على بضعة أمتار أمامها ، قضبان حديدية سوداء. وتقدمها أحد الحراس ، وحزمة مفاتيح ثقيلة تطن في يده ،يعالج بها بوابة بعد أخرى .."10 ، فمعالم وفضاءات السجن وشكله توحي بمنطق العجز والانغلاق والشعور بالاغتراب، لدرجة لايتم التعرف على السجين بسهولة : " ... ثم دلف فجأة وراءه . رجل لم تعرفه بسهولة : كبور. كان حليق الرأس والوجه في شحوب لم تعهده فيه..."، فداخل السجن يغدو الزمن ميتا ويتجاوز مقاساته الطبيعية ، وينعدم فيه الشرط الإنساني، فيصير الزمن نفسيا مثقلا بالانكسارات ، ويمثل فيه زمن الزيارة استثناء ، لذا يتم الحرص عليه وعلى تملكه أطول مدة ، غير أن المؤلم أن مكانه محدود وزمانه محدود أيضا في فترة الزيارة ، فضربات المفاتيح هي إعلان ، عن نهاية زمن الزيارة ووضع حد للرغبة الملحاحة في امتلاك زمن الزيارة باعتباره فسحة زمكانية داخل السجن وخارجه :" وضرب الحارس الباب الحديدي بمفتاحه الثقيل ، معلنا أن الزيارة انتهت.." 12، وتنتهي الزيارة التي هي فرصة السجين الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي ، وبنهايتها يعود السجين لمنغلقه المكاني والزماني، ودقات المفاتيح تحبل بدلالة رمزية وإيحائية ، فهي تعلن عن زمن الزيارة ، كما توحي بمعنى الانغلاق والحجز الملازمين للمفاتيح.
على سبيل الختم :
هكذا تتنوع الأمكنة ، وتتعدد الفضاءات ، وبقدر ما تحيل على أماكن واقعية حقيقية ، بقدر ما يتم استعمالها وتوصيفها بطريقة متخيلة مرتبطة برؤى الشخوص الفكرية ، وبمخزون الذاكرة ، وأحيانا بالحلم والاستيهام ، فالفرق " فيما عناه العربي الحمدوني من " الارض" وما عرفه كبور ابن عمه عنها ليس فرقا في الوعي الذاتي فقط ، أو في مجرد الظروف العارضة ، إنه فرق بين اتساع الشعور والقدرة على التواصل مع الآخرين ، بين القرية المنطوية على ذاتها ، والمدينة بطاقتها الهائلة على الفكر والعمل"13./.
الهوامش والإحالات:
Gaston. Bachelard : La Poétique de l éspace. Paris.Ed Puf,1957 1 .
2 . مبارك ربيع : " الريح الشتوية " ، ط3 ، 1996 ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء/ المغرب. وجميع الإحالات النصية منها..
3 . حسن البحراوي : " بنية الشكل الروائي " ، المركز الثقافي العربي، بيروت/ لبنان، الدار البيضاء/ المغرب،ط1990،ص:29.
4 . الرواية ، ص :26.
5 . الرجع نفسه ، ص 120.
6 . المرجع نفسه ، ص 166.
7 . المرجع نفسه ، ص101 و102.
8 . المرجع نفسه ، ص 151 و152
9 . المرجع نفسه ، ص 201..
10 . المرجع نفسه ، ص308 .
11 . المرجع نفسه ، 308.
12 . المرجع نفسه ، ص310.
13 . د محمد حسن عبد الله :" الريف في الرواية العربية " ، س عالم المعرفة ،ع123 ، نوفمبر / تشرين الثاني1989،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت،ص :201.