شرائح النثر بين شاعرين 5
شرائح النثر بين شاعرين
عمر الأميري ومحمود حسن إسماعيل
(5)
عمر بهاء الدين الأميري |
أ.د/ جابر قميحة |
يعتبر محمود حسن إسماعيل من أشعر شعراء العربية وأشهرهم ، وأغزرهم إنتاجاً على
مدى قرابة نصف قرن تبدأ من الثلاثينيات . فمن دواوينه أغاني الكوخ – هكذا أغني – الملك – أين المفر – نار وأصفاد – قاب قوسين – لابد – التائهون – صلاة ورفض – هدير البرزخ – صوت من الله – نهر الحقيقة – موسيقى من السر – رياح المغيب.
وقد عرف في شعره بالعمق ، والاستغراقات الصوفية البعيدة الحادة ، والقدرة العجيبة على تركيب غرائب الصور ، وتوليد الخيال في طرافة لم تعرفها العربية ، وبسبب هذا التفرد في أفكاره وخيالاته وتهويماته يحتاج شعره – حتى يتمكن المتلقي من فهمه ومعايشته – إلى أكثر من قراءة.
وعناوين دواوين الشاعر فيها من الخيال الوحشى الغريب ، والإشارات الصوفية كالذي نراه في عناوين قصائده مثل : أحزان الغروب – ثورة الضفادع – الناى الأخضر – لهيب الحرمان - سجينة القصر – دنيا " أدمع ومآتم" – أغاني الرق – عبيد الرياح – جلاد الظلال – حصاد القمر – عاشقة العنكبوت – هدير البرزخ – موسيقى من الإصرار ، وغير هذا كثير .
ومحمود حسن إسماعيل من أكثر شعراء العربية في تصدير قصائده بالنثر ، ومع هذا الجانب تكون وقفتنا مع الشاعر لنتبين مابينه وبين شاعرنا الأميري من مظاهر اتفاق أو اختلاف ، في نطاق هذا الجانب فقط :
فهما يلتقيان في هيمنة التدفقات الروحية ، والتوهج والاستغراق الصوفي ، فنرى كثيراً من تصديرات ت محمود حسن إسماعيل تشبه إلى حد كبير تصديرات الأميري في نجاوى محمدية . كما نرى في تصديره لقصيدة "ظلام" وفيه يقول :
مع الأرض في ظلمها وظلامها قبل انبثاق النور الأعظم
ومع أول شعاع تبلجت به سماء العرب
وأشرقت به حقيقة الإنسان
مس جبينه الخاشع للحجر فارتفع لله
وظهره المقوس للطغيان .. فسواه للكرامة
وبصره الضارع للظلم .. فأعلاه للحق.
وقيده الصاغر للبطش..
فاحاله أجراس حرية .... ([1])
* * *
وكثير من التصديرات الذاتية تسبح في الجو الذى سبحت فيه تصديرات الأميري ، مبينة عن لواعج النفس ،ودفقات الوجدان ، وطروحات الأمل والألم ، فمما كتبه محمود حسن إسماعيل في تصديره قصيدة " إلى سجينة القصر""
عصفت بقلب الشاعر عاصفة من الوجد الصارخ
عقب فراق مفاجئ نكب به منذ عامين ...
فاستحالت حياته إلى جحيم من العذاب النفسي
والقلق الممض..
وقد نزع به الحنين يوما الى قصر عذرائه..
حيث مهد غرامة ، وشط إلهامه ..
فسبق الشمس إلى أستاره في الصباح ..
بنظرات مشدوهة ... وروح شارد .. ([2])
* * *
وهذا التصدير يذكرنا بكثير من تصديرات عمر في "قلب ورب " و " أمي" . ومنها التصدير الآتى لقصيدة "شردات مفجوع"([3])
في حرقة الوجد
ولوعة الفقد
كانت تنتاب حسي الظاهر أحياناً
سبحات شرود ، إلى عالم اللاشعور..
يتراءى لي خلالها
أنها مقبلة علي ..
ترنو إلي ....
فأناجيها بين الهمس والصمت
والصحب من حولي
يرمقونني في وجوم .."
وكلا الشاعرين حريص على سلامة العربية وأصالة اللغة ، وتجنب الدارج المبتذل منها ، وإن كان محمود حسن إسماعيل أكثر من الأميري ، وأشد منه التزاما بهذه السمة ، كما أن معجمه اللغوي أوسع وأثرى.
* * *
ومن أهم الفوارق بين الشاعرين في هذا المجال .. مجال توظيف الشرائح النثرية في الشعر ، وخصوصاً التصدير:
1- فى بيان الأميري وضوح وصفاء، وفي كلماته رشاقة وإيحاء ، أما محمود حسن إسماعيل فأسلوبه فيه قوة وعرامة وجرس نحاسي صاخ.
2- تبدو صوفية الأميري صوفية نقية شفافة ، واستغرقاته الروحية لا تقود إلى التيه الغيبى الغامض. بينما نجد محمود حسن إسماعيل يجنح إلى الإبهام ، فلا يجد القارئ – وقد عجز عن ولوج عالمه – إلا أن يتوقف عند العتبات. ومن ذلك تصديره لقصيدة " نشيد الأغلال ":
وأنشيت أطواقها في زمانه بالحيرة والعذاب
تسقي ، وتقول الرحيل !
وتنزف الكأس ..وتجثو على حطامها
كثاكلة خانها المزار !
فعزف لها هذا النشيد ...
فعادت خاشعة مسحورة بجراحها ,وأصفادها
تقول لنفسها :
ألا عودي أيتها العاصية
فما أنت بمستطيعة الفكاك ..
وما لك من مهرب ([4])
وقد يساعدعلى اطراد هذا الإبهام غرام الشاعر بالخيال المغرب الموغل في الإغراب مع توليد صور من صورة ، وخلق تركيبة لايراها القارئ إلا مغلقة ، كما نرى فى تصديره لقصيدة "العزلة":
وأخنت على روحه الوحدة ..
فنورت له ضبابها
روضة من مقابر الأحلام ([5])
* * *
3- وللأميري تصديرات موجزة ، ولكنه لم يبلغ في ايجازه مبلغ محمود حسن إسماعيل الذى قد لايزيد التصدير عنده أحياناً على سطر واحد أو سطرين مثل تقديمه لقصيدة "الخريف":
حين تسقط ورقة ميتة من غصن ، يتلفت أمل
إلى مصيره في التراب ([6])
* * *
وتصديره لقصيدة " عاشقة العنكبوت ":
وراحت في هدير الزحف ، تتلفت إلى الماضى ،
فطمسها غبار التخلف .. وشيعتها بهذه الترانيم ([7])
4- ولم يلجأ محمود حسن إسماعيل – كما فعل عمر الأميري - إلى تخليل الشعر بالنثر ، أو ختمه بشريحة أو شرائح النثر ، ولكنه اكتفى بالتصديرات النثرية.
5- وكثير من تصديرات محمود حسن إسماعيل يأخذ صورة توجيهية أو إهدائية – إن صح هذا التعبير- ، وهذا مالم نجده عند الأميرى في تصديراته. فيستهل محمود حسن إسماعيل كثيراً من تصديراته بحرف الجـر ( إلى) .. وكأنه إهداء أو توجيه إلى مشهود أو مغيب ، كما نرى في النماذج الآتية .
إلى التى حملت لى الأسلاك شدوها بأغاريدي،
وعتابها الغامض على صمتي ([8])
* * *
إلى سدرة النضال العربي المنيع .. العزلاء التي
قهرت حديد الطغاة ، وحيرت بطش الاستعمار ([9])
***
إلى الذين دميت جباهم من السجود ، وعميت
قلوبهم عن الإنسان([10])
***
إلى سقاة الضباب ([11])
* * *
6- وكذلك يستهل محمود حسن إسماعيل كثيراً من تصديراته بالمعية ، أى استخدام الاسم (مع) ، ولم نجد مثل هذا عندالأميرى ، ولاشك أن ذلك يوحي بشدة اندماجية الشاعر مع موضوعه وإحساسه به ، ومعايشته له، ومن نماذجه في هذا المجال:
مع الأرض الجريحة ، وهي تتلوى من فجأة
الزلزال قبيل شروق الشمس ... ([12])
مع إصغاء الشاعر لسحر الطبيعة وجمالها
في شاطئ المنستير بتونس ([13])
* * *
مع ناي الربيع ، وهى تصغي لنداء الذكرى ([14])
* * *
مع بطل الثورة وهو يجلجل بصوته في سمع
العالم كله معلنا تأميم القناة ([15])
ونكتفى بهذه الإلمامة الموجزة بمظاهر الاتفاق والاختلاف بين شاعرين يعدان من أكثر شعراء العرب توظيفا للنثر في الشعر ، وإن كان الأميري أكثرهم تفوقاً . وأخيراً نرى أن ماسجلناه على تصديرات الأميري يمكن أن يسجل على تصديرات محمود حسن إسماعيل ، وقد قدمنا فى الصفحات السابقة حيثيات هذه المآخذ ، وآمل ألا أكون قد جانبني الصواب فيما سقته من أحكام ، والله ولى التوفيق ،،،.
([1] ) محمود حسن إسماعيل : نار وأصفاد: 2/849 (الأعمال الكاملة )
([2] ) محمود حسن إسماعيل : هكذا أغنى 1/203 (ع.ك)
([3] ) الأميرى: أمى 176.
([4] ) أين المفر 1/ 765 (ع.ك)
([5] ) أين المقر 1/ 683 ( ع.ك)
([6] ) أين المفر 1/ 711 ( ع.ك)
([7] ) قاب قوسين 2/1097 ( ع.ك)
([8] ) هكذا أغنى 1/ 239 ( ع.ك)
([9] ) نار وأصفاد 2/1047 ( ع.ك)
([10] ) لابد 2/ 1353 ( ع.ك)
([11] ) قاب قوسين 2/1109(ع.ك)
وانظر كذلك – من أعماله الكاملة الصفحات 313 ، 355 ، 375، 387، 979 ، 1023، 1357.
([12] ) رياح مغرب 4/2125.
([13] ) موسيقى من السر 4/2043(ع.ك)
([14] ) قاب قوسين 2/1231(ع.ك)
([15] ) نار وأصفاد 1/1015(ع.ك)