التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة 12

التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

(12)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

-2- السنبلة:

السنبلة في القرآن رمز الخير والعطاء المكثر. يقول تعالى في سورة البقرة: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم ) [1]

وقد جمع محمد بنعمارة في شعره بين هذا المعنى ودلالات أخرى. والسنبلة كونها تتعلق بما يثبت التناسل الفوري والزمني، وبما أن هذا التناسل يخضع لعملية التواد النباتي. فإن اعتبار التحول الناتج عن هذا العنصر سمة من سمات التغير الذي يتم في إطار السنبلة ذاتها. وهذا الإجراء كان ذا صلة وثيقة بالارتواء، ودلالة الماء في شعر محمد بنعمارة.

عند النفاذ إلى النص الإبداعي، تتمثل اللغة الشعرية كونا قائم الذات، ويصدر الشاعر دلالاته انطلاقا من هذا التميز. لذلك فالسنابل تنبت من بين شفاه فضاء مكاني ، وتتحول دلالاتها إلى فعل الكلمة، وتتميز بدورها بإنتاج غيرها من الشجر .

يقول محمد بنعمارة في قصيدة ( آه بيروت.. جرح أنت في الأشعار ):

بيروت الوجه

الله .. يبادلك الحب

ويزرع فوق الخدين نخيل الجنة

يمطر ثغرك بالغيث

فتنبت في الثغر الأزهار البرية

وتنبت ما بين الشفتين سنابل

تعطي زيتونا

تعطي مرات أخرى ليمونا [2]

وتدخل السنبلة في مجال آخر، في البدء والتكوين والخلق. وتحفل الدلالة في هذا المجال باستعارة صفة الفضاء لها، ولا تنفصل الرؤية الشعرية عن القطيعة التي يعيشها الشاعر مع واقعه، لذلك فكل استعارة يختارها تكون ذات علاقة وطيدة بهذا الشرخ. وتصبح دلالاتها من كينونة الشاعر ذاته، وهذا ما جعل بعض النقاد يذهب إلى درجة اعتبار كل تعبير عن الواقع مجازا واستعارة. ولعله يستدرج القارئ إلى الدخول معه حالة الحلول الصوفي مع الواقع. سواء تمت الاستفادة من التمثلات الطبيعية، أم تحولت عن العادي وتصير الواقع عكسيا. يقول أدونيس:" كل تعبير عن الواقع هو نوع من الاستعارة أو المجاز. ذلك أنه تجابه تخيلي بين الفكر والواقع، ويكون أكثر عمقا حين يكون التجابه جدليا. لكن حتى في هذه الحالة يظل التعبير نوعا من المجاز، أي شكلا خاصا من فهم الواقع وتصوره." [3]

يقول محمد بنعمارة في قصيدة (الأقداح):

ـــ لم ترسم بين الجدع وبين الأغصان حدودك

أنت إذن مثلي

كالكائن / يحتاج إلى من يخلقه

في البدء : الماء مهين

والنطفة جسد قبل التكوين

والسنبلة فضاء سري يسكنه التلوينْ [4]

يبدو من خلال هذه الإيحاءات علو كعب محمد بنعمارة في تسلق التلميح، والانزياح عن المعيار، وعدم التشبت بالمألوف من القول. وفي سياق التحولات التي عمد التعامل معها كان يميل إلى الشطحات الروحية الصوفية، ويرمي إلى التميز بخصوصية الإبداع في هذا الحقل الدلالي، وقد تمكن من إنقاذ دلالاته من الشيوع، فتكرست الخصوصية.

يقول في مقطع من قصيدة (الذي يأتي):

جاءني …

وبين يديه أنين السواقي

وجرح التراب

وسنبلة يشتهيها الجياع

وباقة ورد

 تضم الكلام الملون

أثقله ناطق بالرموز [5]

إن التجربة الصوفية التي تحملها هذه الأسطر الشعرية، كشفت عن العلاقة التي تربط الشاعر بالتصوف منهاجا في تكثيف اللغة الإبداعية، ومجاراة الواقع. وقد اتسمت الدلالة عند محمد بنعمارة بالعمق في التعبير، وكثفت من الحديث عن اللغة الشعرية عند بالبعد على المستويين:

 التنظيري: ذلك أنه يعود في كل مرة للتعبير عن نظرته للقصيدة ومواطن الشعرية فيها. ومحاولة بناء حلمه لكينونة النص الشعري، وامتلاء الذات بأصول الكتابة والتشكيل اللغوي.

الإنجازي: وذلك سعيا وراء إشراك المتلقي في إنتاج الدلالة، وقد سبق لنا الفصل في القضية، من خلال الحديث عن قصدية التحولات الدلالية. ويمكن أن نعكس الاتجاه هنا لنقول إن الإنجاز يتحقق أيضا في مجاراة المبدع ذات المتلقي، أي محاولة تمرير فضاءات لغوية للمتلقي ليكون سندا له، وتمثيلا له في محاولة التأثير عليه. وهذا الأمر لا يتحقق إلا بالمقاربة النسقية للنص الإبداعي، بمعنى التكثيف اللغوي الذي يجعل المتلقي منفعلا وفاعلا على السواء.

أما عن التلقي المرتبط بالقصيدة المغربية المعاصرة المتحولة عن المسير، فيمكن الاستئناس بقول نرى فيه - أيضا - صفة التحول الدلالي من جهة التعبير

الحر عن الهدف والغاية من التفاعل بين المبدع والمتلقي. يقول مصطفى الشليح في كتابه ( في بلاغة القصيدة المغربية ):" التوصيل والتشكيل وجهان لسكون المتلقي ذات المبدع، ولاستشفاف المبدع مسافة أفق للرحيل إلى ذات المتلقي. رحيل تأخذه لذتان: لذة بناء الحلم بالكائن اللغوي، ولذة انفلاق البناء اللغوي كائنا حلميا ، حيث تماهي الكتابة والقراءة ، وذوبان الفردية في جماعية الإبداع. ويمكن اعتبار التحويل الناتج المعرفي والجمالي عن امتزاج التوصيل والتشكيل المذكورين، وانفراجهما عن لحظتي بوح ومحو ، يختزلان العالم رمزا ويلغيان وظائف التأليف والتفكيك، من قبل الشاعر مبدعا، ومن لدن القارئ مستمعا." [6]

لن نتجاوز المتن المدروس دون أن نكشف درجة استماعنا له، والاستماع هنا يكشف العلاقة القائمة بين الشاعر وقارئ على أساس التفاعل والتلاقي في درجة الوعي بالكتابة.

              

[1] - البقرة: 260.

[2] - محمد بنعمارة : العشق الأزرق، ص- 125.

[3] - أدونيس : الثابت والمتحول، 4/ ص- 285.

[4] - محمد بنعمارة: السنبلة ،ص- 77.

[5] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة ، ص- 35.

[6] - مصطفى الشليح: في بلاغة القصيدة المغربية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط ، 1999، ص- 327.