التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة

(11)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

3- حقل الطبيعة: ومظاهر تأصيل التجربة الشعرية

 تطمح الدراسة الآنية إلى عرض بعض خصائص دلالات الطبيعة في شعر محمد بنعمارة. وقد زال اللبس في الفقرات السالفة حول مفهوم التجربة الشعرية وعلاقتها بالمضمون الفكري الذي يتزود به الشاعر لإنتاج النص الشعري. والقصيدة الشعرية عنده كل متكامل  لا تخضع للانفصال والتشظي إلا بالقدر الذي يتيح الفرصة أمام المتلقي كي يقول كلمته الثانية وينتج الدلالة في مصدرها الثاني.

يقول العربي الحمداوي وهويحاول رصد تجربة القصيدة الوجدانية في الشعر المغربي الحديث:" القصيدة المغربية - لتحقيق أكبر قدر من العلمية في دراستها لا بد من تناولها في كليتها لأن الدلالة فيها تتناثر في كل فضائها وأحيانا قد لا نعثر على المفتاح لتحديد تشاكلاتها الدلالية إلا إذا قطعنا السير في فضاءات جملها ودلالة أفعالها وما تزخر به من أدوات للربط صريحة وضمنية." [1]

ونضيف – نحن – هنا ، ارتباط القصيدة بدلالاتها بالسياق النصي للشاعر ذاته في كافة نصوصه، لأنها تشكل التجربة الشعرية التي تصبغ دلالاته بسمات لا يمكن أن نضع الأيدي عليها منفصلة. كما يليق بنا أن نزيد السياق العام الذي ظهر فيه النص الشعري وارتباطه بالمحيط الثقافي والاجتماعي والفكري والسياسي، والعلاقة مع باقي الشعراء الذين ظهروا في نفس الفترة. [2]

 إن الطبيعة – إذن – تحظى باهتمام الشاعر محمد بنعمارة، وقد حملت دلالاتها أبعادا عدة . منها ما هو مرتبط بالذات، أو بالطبيعة ذاتها (الدلالة الحقيقية)، أو ما تعلق بالتجربة الصوفية وتجلياتها. وسنقتصر على عناصر محددة تهم المادة الخاصة بالنخل والسنبلة ، وهذا الانتقاء كان وراءه سببان:

v       الحضور المكثف لها في شعره.

v    تزامنها وتألق التجربة الشعرية، ذلك أنها بدت بشكل جلي أكثر مع الدواوين الثلاثة الأخيرة، وهي بداية النشيد الروحي في مملكة الروح ، وبداية جني السنبلة ، ومحاولة البحث عن القصيدة في الرياح وفي السحابة.

 3-1- النخل :

تتوزع دلالة النخلة في بعدها اللغوي بين مصدرها القرآني:

يقول تعالى( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا ) [3]. ودلالتها هنا نابعة من التصور الإسلامي فهي:" معادل موضوعي للخصب والنماء " [4]

وبين بعدها المعجمي، التي هي نوع من الشجر الذي ينبت في الصحراء، ويقاوم جميع أنواع الحر والريح والجدب.

أما عند محمد بنعمارة فقد تعامل معها من جانب تعدد الدلالة ، واستغلالها في مواقف تخدم تجربته. لذلك جعلها قناة التواصل مع المتلقي من جهة كونها رمز المقاومة والتحدي والعذرية والعطاء.

فالنخلة رمز الحلم الإسلامي ، ودلالة الأمان الذي يحمله الشاعر المسلم في قلبه. يقول في قصيدة ( إنني أرسم إقلاعي بالأخضر):

في محطتك الأخيرة أوقفتني نخلة

رسمت اللون واختبأت بقايا الحلم في قلبي

فأورق ظلك الممتد من جرحي

قفي أصطفيك.. [5]

وهي حينا آخر تحمل دلالة الأفق الذي تحمله القصيدة على عاتقها، وتنهض الكلمات لإتمامها والتعبير عنها. يقول في قصيدة ( موانئ عشقي القصائد):

موانئ عشقي التي زرعتها القصائد

تصبح نخلا

تعانق فيه اتساع البراري

بوهج الضياء الذي أوقدته النجوم [6]

ولا يقتصر الأفق على الكلمات، بل يتعداه إلى دلالة الضياء والنور ، وفي مقابل الظل والضلال. ثنائية يحملها مقطع شعري من قصيدة ( هذا وقت .. تختار صلاتك فيه ) ، ينزل الشاعر فيها منزلة العذرية ( مريم) ولا يهز النخلة كي يسَّاقط عليه رطبا، وإنما يستنبت الفعل ( الهز) لتلقي الضوء:

أو تدري من أين يمر اثنان

وبينهما شوق المشي الصاعد

إنهما يختفيان إذا طال السير

الأول يلج الوحشة

أما الثاني فهو العاشق عذبه ظل النخل

فهز الجذع ليسقط زمن ضوئي [7]

 ظاهريا يبدو الأمر معقولا إلى حد المعقولية، مادام الشاعر يربط بين فعل النخل برموزه الدينية، ودلالته الإيحائية. لكنه لا يلبث أن يعود – كما هو حاله في جل شعره – إلى مخاطبة القصيدة / الشعر ، ويلومه على إحراق النخلة التي كانت تشكل الأمل الضائع.

 يقول في قصيدة ( شيخوخة هذا البحر ):

ــ آدم بدء

يحتل الماء الثلثين . ويبقى لك ثلث بري

تزرعه نارا

ــ هذا أنت بلاد الله مكانك

لكنك أحرقت النخل ، وطاردت العصفوره

وكسرت مرايا الوجه الكوني

ومزقت الصوره [8]

إننا هنا بصدد تأليفات للمعاني من أنواع مختلفة ، وتشكيلات دلالية تنحث من كافة المجالات كي ينبع منها أقحوان الشعر الخلاب. هذا هو نهج الشاعر الحر، الذي يختار من التعابير ما يخدم طاقته الإبداعية ، وينتشي بالقول الصوفي كي يعبر عن عشقه للذات العليا.

يقول محمد بنعمارة في قصيدة (الإيقاع الخامس ):

عاشق في بدء نوبته يخيط الكِلْمة الأخرى

ويشنق شوقه

ــ إني رفضت الحب حربا

ذاك صوتي : نخلة أثمارها الحب الإلهي

 وذاك الصوت منها

غربة تدني أحاسيس الرحيلْ [9]

وأخيرا يتحول فعل النخلة بشيرا لإلقاء الكلمات الشعرية، والشاعر يهزها لتلقي إليه دم الشعر.

يقول من قصيدة (سأرسم عينيك الدمعتين ):

أراك بلادا

تأمر حرفي أن يرسمها

تأمرني

أن أدخل مملكة الشوق

ليهتز المحراب الشعري

ويهتز النخل

ليسقط دم شعري

فوق زجاج المِرآه [10]

هذه بعض الدلالات التي ساقها محمد بنعمارة ليقدم لنا لفظة ( نخلة )، وقد رأينا كيف أنه يحولها وينتقل من دلالة إلى أخرى يستنير الطريق السوي الذي يوصله إلى مرفإ الأمان ، ويظل يبحث عن العبارة الدالة في مسير تجربته الشعرية، طيرا في السماء مع الفراشات فيحترق. وركوبا البحار والأمواج العاتية لينهل من أصدافها ، وسعيا وراء دماء المجاهدين / الغرباء يلتمس طريقهم عله يصل إلى هداهم.

هكذا يتشكل هذا الحقل الدلالي الأول في مجال النبات، وعبره يصل محمد بنعمارة إلى إنجاز الصورة الشعرية، ويعبر بالمجاز عن رموز متعددة، بواسطة لفظ النخل.

كما أنه استطاع أن يطوِّع اللغة ، ويحول الدلالة تماشيا مع نمو تجربته الشعرية، وتماشيا مع التأثيرات الشعرية والبلاغية والفكرية التي يحملها في ذهنه. وهو القادر بسلاسة اللغة أيضا أن يعبر عن الحال الواحد بتلميحات متعددة.

وهو يصل درجة تحقيق مستوى الكتابة الشعرية الحداثية ، كما نظر إليها جل الدارسين. لذلك :" فإن الانتماء إلى اللانهائي هو الانشغال بما هيأ به الشعر العربي الحديث ، من خلال هامشه النقدي، لزمن شعري كانت مقاومة الموت أساسه، ليطأ عتبة الشعر والحداثة ، في أفق مفتوح للبحث عن الفريد الذي يعود مع كل تجربة حيوية بماء إلذاذ لا يضبطه جفاف القواعد القبلية أو المعممة." [11]

إن التجربة الشعرية وتحولاتها لا تقف عند درجة الوصول للمنتهى، ولا ينفك دور الشاعر يبحث – دائما – عن المجهول ، عن اللاموجود في واقعه. وما ذلك إلا صفة من صفات التأزم الذاتي، وسمة الشاعر الحداثي الباحث عن الحقيقة.

يقول محمد بنعمارة في قصيدة (نور المِلاح ):

سأظل

أبحث في العبارةِ

عن ..

جناحي …

فأنا الذي

سأطير

أبحث عنك

في غضب الرياح [12]

رحلة الشاعر - مع ذلك - لا تتوقف عند الحد نفسه، بل يواصل البحث ، ويواصل تعميق دلالاته. وللسنبلة في شعره أيضا بعد مجازي يتلاءم والنفحة الصوفية وحدود الرؤيا التي يؤمن الشاعر بها.

              

[1] - العربي الحمداوي: شعرية القصيدة الوجدانية في المغرب، 1930 – 1960، الدار العلمية للكتاب ، دار الأمان للنشر والتوزيع، 1998، ص- 27.( لقد سقنا هذا النص لكونه يرتبط بالشعر المغربي – ولو أنه يقتصر على الحديث منه- وكون المؤلف يتحدث في هذا المجال عن القصيدة الطبيعة، أو علاقة الشاعر – الذات بالطبيعة ومفاتنها.

[2] - رغم أهمية تداول السياق العام للنص الشعري والشاعر، لم نعطه حق الدراسة لأن التجربة الشعرية عند محمد بنعمارة نفسها مرت بمراحل، والربط بالسياق يقتضي ربط كل مرحلة بما يدور حولها و ما أنتج من شعر. ثم كون الدراسة الحالية لا يسمح مجالها الضيق بالغوص في متاهات المقارنة والمثاقفة.

[3] - سورة مريم : 25 –26.

[4] - صابر عبد الدايم: الأدب الإسلامي، ص- 117.

[5] - محمد بنعمارة: نشيد الغرباء، ص- 11.

[6] - نفسه: ص – 53.

[7] - محمد بنعمارة: مملكة الروح، ص- 18.

[8] - محمد بنعمارة: السنبلة، ص- 11.

[9] - نفسه: ص-ل 39.

[10] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة ، ص- 102.

[11] محمد بنيس: الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها، 4 – مساءلة الحداثة، دار توبقال للنشر، ط- 2، 2001، ص- 179.

[12] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة ، ص- 65 –66.