سمات أسلوبية في قصيدة حديث النفس للدكتور عبد العزيز الرنتيسي

سمات أسلوبية

في قصيدة حديث النفس للدكتور عبد العزيز الرنتيسي

الدكتور عبد العزيز الرنتيسي

د. كمال أحمد غنيم

[email protected]

نص القصيدة:

حديث النفس

ماذا دهاك يطيب عيشك في الحزن      تشري النعيم وتمتطي متن الصعاب

ماذا عليك إذا غدوت بلا وطــن     ونعمت رغـد العيش في ظل الشباب

يا هذه يهديك ربك  فارجعــي

القدس تصرخ  تستغيثك فاسمعي

 والجنب مني بات يجفو مضجعي

 فالموت خير من حياة الخنــع

ولذا فشــدي همتي وتشجعـي

هاأنت ترسف في القيود بلا ثمـن     وغدا تموت وتنتهي تحت التــراب

وبنوك واعجبي ستتركهم  لمــن     والزوج تسلمـها فتنهشــها الذئاب

القيد يظهـر دعوتي يوما فعي

وإذا قتلت ففي إلهـي مصرعي

والزوج والأبناء مذ كانوا معي

في حفظ ربي لا تثيري مدمعي

وعلى البلاء تصبري لا تجزعي

إني أخــاف عليك أن  تنفى غدا      ويصير بيتك خاويا يشكو الخراب

وتهيم بحثا عـن خليل مؤتمــن      يبكي لحالك أو يشاطرك العـذاب

إن تصبري يا نفس حقا ترفعي

في جنة الرحمن خير المرتـع

إن الحياة وإن تطل يأت النعي

فإلى الزوال مآلها لا تطمعـي

إلا بنيــل شهادة فتشفعــي

إني أراك نذرت نفسك للمحــن     وزهدت في دنيا الثعالب والكـلاب

وعشقت رمسا يحتويك بلا  كفن     فرجوت ربي أن تكون على صواب

أنا لـن أبيت منكسا  للألمــع

وعلى الزناد يظل  دوما أصبعي

ولئن كرهت البذل نفسي تصفعي

من كل خوار ومحتال دعــي

إن تبذلي الغالي فمجدا تصنعـي

إني أعيذك أن  تذل إلى وثــن      أو أن يعود السيف في غمد الجراب

فاقض الحياة كما تحب فلا  ولن       أرضى حيـاة لا تظللها الحــراب

  يعدّ الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي من أبرز الشخصيات السياسية المؤثرة في التاريخ المعاصر، وقد اكتملت شخصيته الفذة بالجمع بين البندقية والشعر، ليكون بذلك فارس البندقية والقلم.

وقد بين شعره روحا إنسانية تتمثل القيم قولا وفعلا حيث كانت مضامينه الشعرية تتوافق مع مواقفه العملية، إذ كان شديدا فيهما في مضمار الحق رحيما في ميدان الإخاء والعلاقات الاجتماعية، وكأني به يحاول على صعيد آخر من خلال قصيدته (حديث النفس) أن يبرز الجانب الإنساني الذي يتسم به، حيث يقف مع نفسه مثل باقي البشر الذين قد تحدثهم أنفسهم بالاستكانة للراحة والدعة، لكنه يجابه نفسه بصلابته المعهودة، ويفند إغراءاتها ومخاوفها مما يجعلها في النهاية، ومن خلال محاجّة منطقية فنية؛ تتماهى مع رغبته الكامنة في تحقيق العزة والكرامة.

وهو ضمن معادلة الثنائيات التي أجادها في حياته واستشهاده يحافظ من الناحية الفنية على الشكل الموسيقي للقصيدة العربية الأصيلة، مع تجديده الكامن في تشرّب الكثير من المعطيات الفنية المعاصرة، ومن ذلك التزامه في قصيدة حديث النفس بالأسلوب الأندلسي المغاير للشكل الموسيقي الشرقي، فقصيدته هذه هي القصيدة الوحيدة التي تخرج عن النمط الموسيقي العمودي المعهود، ولكنه خروج في إطار الموروث العربي القديم، حيث اتبع فيها أسلوب الموشحات الأندلسية بشكل كبير، ولكنه لم يغفل المعاصرة من خلال المزاوجة بين أسلوب التوشيح وأسلوب البناء الدرامي المعاصر.

ويمكننا قبل كل شيء أن نثبت تلك المزاوجة الجميلة، ونحن نتتبع الأسلوبين في القصيدة، حيث تظهر مفردات فن الموشحة بشكل لا يقبل الشك في هذه القصيدة الفريدة، حيث تتكون من مطلع وثلاثة أقفال وخرجة تكوّن كلٌ منها من أربعة أشطر، بقافية موحدة لكل غصن (شطر المطلع أو القفل أو الخرجة) لكل بيت . وتخلل ذلك أربعة أدوار التزم الشاعر بوجود خمسة أبيات في كل منها بقافية موحدة. وخالف المعهود في الموشحات في التزامه بقافية موحدة لكل دور، وكون الخرجة بالشعر الفصيح لا الزجلي أو الأعجمي على عادة شعراء الموشحات. وقد استفاد النص من هذا التوزيع الموسيقي إمكانيات موسيقية ونفسية، إذ منحتنا تلك الأبيات الموزعة بهذه الطريقة تنويعات موسيقية انسجمت مع التغيرات النفسية، حيث كان لصوت النفس المترددة نغمة مميزة تنسجم مع تضاربها وتختلف عن صوت الشاعر الثابت من أول النص لآخره.

ويقودنا هذا الأمر للحديث عن أسلوب البناء الدرامي الذي اتبعه الشاعر هنا، ومزجه بأسلوب الموشحات، فتعدد الأصوات هو محور هام هنا لمسناه على صعيد الموسيقى ونلمسه على صعيد الصراع بين فكرتين نقيضتين تتصارعان في ذهن الشاعر ووجدانه، وقد استطاع أن يشكّل ذلك من خلال حواره الداخلي مع النفس ذلك الحوار الذي كان بوضوحه واختلاف نبرته يقترب من شكل الحوار الخارجي مما أسهم في تكريس الصراع وتفعيله، ولعل الانتقاء الصارم للحوار الدائر دون وجود تعليمات مسرحية تبين حالة كل طرف وسلوكه مما أسهم في بلورة الإيهام بالواقع وأن الحوار محتدم فعلا، وكأن الشاعر اكتفى بعنوان النص ليشرح تلك التعليمات المسرحية. وقد لمسنا منحنى تطور الأحداث من بداية لا تشكّل البداية الحقيقية للموقف، فقد اختار الشاعر أن يبدأ من المنتصف أو من لحظة تقترب من النهاية على عادة المسرحيات الكلاسيكية، فالبداية الحيوية جاءت من منتصف الحيرة والتردد، في فترة يبدو أنها تلت أحداث جسام، خاضها الشاعر، حيث تحاول نفسه أن تصده عن الاستمرار، وهذه الأحداث أهمها على ما يبدو السجن بكل مفرداته المريرة، يتضح ذلك من قول النفس له:

هاأنت ترسف في القيود بلا ثمـن     وغدا تموت وتنتهي تحت التــراب

وبنوك واعجبي ستتركهم  لمــن     والزوج تسلمـها فتنهشــها الذئاب

وقوله هو في الرد عليها:

القيد يظهـر دعوتي يوما فعي

وإذا قتلت ففي إلهـي مصرعي

والزوج والأبناء مذ كانوا معي

في حفظ ربي لا تثيري مدمعي

وعلى البلاء تصبري لا تجزعي

ويتفق منحنى تطور الحدث هنا مع الشكل الدرامي المتصاعد تدريجيا من لحظة الصراع الحاضرة المستدعية لأحداث سلفية تتمثل في ترهيب النفس له من السجن والنفي والموت بشكل تدريجي، والترغيب بحياة أفضل بعيدة عن المعاناة حتى لو ضاع الوطن، ويقابل ذلك إصرار الشاعر على الرفض وقراره الثابت بمواصلة الطريق، حيث يقوم بتفنيد آراء النفس ويبين الوهن الذي تدعو له، ويصر على المواصلة في حياة العزة المزوجة بالألم والمعاناة ليقينه بأن المعاناة هنا في ظل العزة والكرامة أفضل من المعاناة مع حياة الذل والمهانة، ويتشبث بفكرة قوية تقوم على حتمية الموت، وعدم خوفه من أقصى ما يستطيع أن يعاقبه به المحتل، وتظل هذه الفكرة تسيطر على كلامه كلما واجهت النفس بوجوه الإغراء أو الترهيب، وكأنه يمنحها من اللحظة الأولى قبوله بذروة المعاناة التي يفرضها العدو، وتبدأ النفس في التحول الدرامي في الدور الرابع، إذ تتمنى فيه أن يكون الشاعر على صواب، وعنده يحتد الشاعر في لغة الحوار بعد أن طال صبره وهو يناقش بالمنطق، ويهددها بالذل و(الصفع) إن بقيت على ما هي عليه، لنصل إلى نهاية حاسمة تتمثل في انسجام النفس مع الشاعر وإدراكها لفكرته وتنضم معه في الإصرار على مواصلة المقاومة مهما كان الثمن، لأن أقصى ما يستطيع العدو أن يفعله هو أن يمنحها وصاحبها كرامة الاستشهاد في سبيل الله، حيث تقول في النهاية:

إني أعيذك أن  تذل إلى وثــن      أو أن يعود السيف في غمد الجراب

فاقض الحياة كما تحب فلا  ولن      أرضى حيـاة لا تظللها الحــراب

وقد أظهرت الأساليب الإنشائية انسجاما مع حالة الشاعر ونفسه، فقد جاءت أساليب الاستفهام في النص على لسان النفس مما يظهر حيرتها ويبرز محاولاتها التشكيكية في إمكانية صمود الشاعر، بينما جاءت أساليب الأمر والنهي على لسان الشاعر في إيحاء بحزمه وثباته وتقريعه للنفس، ولم تتحول النفس إلى النهي والأمر إلا بعد اقتناعها بفكرة الشاعر ابتداء من الدور الرابع، ليدل ذلك على انسجامه مع الشاعر في الفكرة وفي الأسلوب أيضا. وقد جاء أسلوب النداء في حديث النفس للتعجب واللهفة (واعجبي)، بينما جاء دالا على الحزم والتحقير والتنكير في كلام الشاعر، وهو يخاطبها بقوله: (يا هذه!)، و(يا نفس!) هكذا دون مجاملات.

وقد دل معجم القصيدة على محور دلالة الموت والألم أكثر ما يكون، وقد برز ذلك في كلام النفس بشكل كبير: (دهاك، الحزن، الصعاب، القيود، تموت، تحت التراب، الذئاب،... إلخ)، بل إن النفس عندما جاءت على لسانها كلمات إيجابية جاءت في بعد الفقد لها، مثل افتقاد: (النعيم، الرغد، الشباب، خليل مؤتمن، عشقت رمسا...)، وبدأت المفردات الإيجابية بمفهوم إيجابي تظهر في نهاية النص عند تحول النفس: (رجوت، صواب، الحياة ، تجب، حياة)، بل إن الكلمات السلبية التي جاءت في نهاية كلام النفس: (تذل، وثن، السيف، غمد ، الحراب...) جاءت بمعنى إيجابي يقوم على رفض الذل (أعيذك)، ورفض (الوثن)، وجاء (السيف، والغمد، والحراب) هنا رموز عزة وكرامة.

ويمكننا أن نجد الأمر ذاته بشكل مقلوب على صعيد معجم كلام الشاعر كطرف مقابل لكلام النفس.