العالم الشعري عند الأميري من خلال " ألوان طيف " (6)

العالم الشعري عند الأميري من خلال

" ألوان طيف "

(6)

  عمر بهاء الأميري

سعيد الكرواني

الجمال والفضيلة عند الأميري

  كان " ابن رواحة" رضي الله عنه، كاتباً في بيئة لا عهد لها بالكتابة إلا يسيراً، وكان شاعراً، ينطلق الشعر من بين ثناياه عذباً قوياً، ومنذ أسلم، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الإسلام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب شعره ويستزيده منه، جلس عليه السلام يوماً مع أصحابه وأقبل عبد الله بن رواحة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم:

( كيف تقول الشعر إن أردت أن تقول؟)

فأجاب عبد الله رضي الله عنه:

( أنظر في ذاك ثم أقول)

ومضى على البديهة ينشد:

يـا  هـاشـم الخير إن الله iiفضلكم
إنـي تـفـرست فيك الخير أعرفه
ولـو  سألت أو استنصرت iiبعضهم
فـثـبـت  الله مـا أتاك من حسن



عـلـى الـبـرية فضلاً ماله iiغير
فـراسـة  خالفتهم في الذي iiنظروا
في  حل أمرك ما ردوا ولا iiنصروا
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

  فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي وقال له:

( وإياك، فثبت الله).(1) 

ومن عجب أن ابن رواحة رضي الله عنه كان شاعراً ومجاهداً وسريع البديهة وحاضرها، وكذلك كان الأميري رحمه الله ، وإذا كنا تكلمنا عن جهاده في فلسطين من قبل فإننا سنكتفي الآن بإبراز موهبته وسجيته بموقفين اثنين:

 ففي محاضرة له عن مقام الإنسان في الإسلام يسأله سائل:

 ما رأيك في قول الشاعر:

إبليس  خير  من  أبيكم  آدم     فتبينوا يا معشر الأشرار

إبليس من نار وآدم من طينة   والطين لا يسمو سمو النار

  فساد القاعة صمت وتجهم لم ينفرجا إلا بعدما جاء الجواب الأميري ليصفق له جمهور الحفل طويلاً:

إبليس من نار وآدم طينة      والنار لا تسمو سمو الطين

النار تفني ذاتها ومحيطها      والطين للإنبات والتكوين

  وللعلم فهو كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي في أحد حواراته أول من وضع مصطلح التغيير الحضاري بالمفهوم الذي يتداول به الآن في الساحة الفكرية والأدبية.

 وتقريباً من ذات المشكاة يتفضل الأميري رحمه الله بقوله على البديهة أيضاً:

" وأذكر أنني كنت مدعواً مرة إلى أمسية من الشعر الإلهي... وفي فترة تجرع الماء بين القصيدتين، رفعت فتاة من المستمعات يدها تستأذن للكلام، وسألتني:

 ما رأيك بقول الشاعر؟

خلقت  الجمال  لنا  فتنة    وقلت  لنا، يا عبادي اتقون

وأنت جميل تحب الجمال     فكيف عبادك لا يعشقون!؟

  وساد القاعة صمت.. وكأن كل من في الحفل كان يردد في سره: لقد أحرجت عمرا... وسكت دقيقة وأنا أفكر وأتأمل، ثم خاطبتها: نعم يا آنسة... وتابعت الكلام بابتسام:

خـلـقـت الـجمال لنا " iiنعمة"
وإن  الـجـمـال تـقى iiوالتقى
فـذوق الـجمال يصفي iiالنفوس
وإن الـتـقى ها هنا في iiالقلوب
ومـن خـامـر الـعشق iiأخلاقه




وقـلـت لـنـا يا عبادي iiاتقون
جـمـال، ولـكـن لمن iiيفقهون
ويـحـبـو العيون سمو iiالعيون
ومـا  زال أهـل التقى iiيعشقون
تأبى الصغار، وعاف المجون(2)

  إن الأبيات التي عارض الأميري هي لعطاء الخراساني الملقب بالمقفع؛ وإليك أخي القارىء لتكتمل الصورة معارضة أخرى بعنوان " الجمال" للشاعر الفلسطيني الدكتور عدنان علي رضا النحوي:

خـلـقـت الـجمال لنا iiآية
وأبدعت في الكون ما iiتجتلي
وزيـنـتـه! يا لهذا iiالجمال
فـتـخـشع في نوره iiأضلع
فـهـذي  الـسـماء وآفاقها
فـكم  بصر عاد منها iiحسير
وغـيب وراء وثوب iiالخيال
فـطـف  حيث شئت فآياتها
وهـذي هي الأرض كم iiجنة
وروض  تنفس عند iiالصباح
وطـيـر كأن رفيف iiجناحي
يـسـبـح  لـله في iiموكب
وكـم  من جبال تشق iiذراها
وكـم  أبـحر غيب الله iiفيها
ونـهـر تـدفـق iiأمـواهه
يـزيـنـهـا الله كيف يشاء















تـطوف القلوب بها iiوالعيون
عـيـون  وما هو سر iiدفين
وهـذا  الجلال وهذا iiالحنين
وتـخـفق أشواقها والشجون
بـروج  تـزيـن iiللناظرين
عـل  " خشية وهم iiمشفقون
عـصـي عليه وسقف iiمتين
جـلال الندى وجلال القرون
تـفـجر  بين جناها iiالعيون
شذى من ورود ومن iiياسمين
ه رف بكور وهمس الغصون
جـليل  وحشد من iiالخاشعين
عـنـان السماء وسهل iiيلين
غـيوب  وأطلق فيها iiالسفين
يـروي  حياة ويفني iiالقرون
ويـمـنـحها عبقري الفنون

إلى أن يقول:

فـفـي  كـل نـاحية iiآية
تـدل عـلى أنك الله iiربي
ولـيس يراها سوى iiمؤمن
وأنت  جميل تحب iiالجمال



من الحس تجلى وحق يبين
ورب  الـخلائق والعالمين
وليس  يراها سوى iiالمتقين
فقلت  لنا يا عبادي iiفاتقون

ولولا مخافة الإطالة لسردت هذه القصيدة بتمامها، لكني أكتفي بإحالة القارىء الكريم عليها في: " ديوان مهرجان القصيد".

ولاشك أن القصص القرآني للعبرة، وهذه العبرة بكل تأكيد تكون من السلبي كما تكون من الإيجابي نظراً إلى العواقب، إلا أن القرآن الكريم حين يتحدث عن لحظات الضعف لا يضخمها ولا يحببها للنفس إنما يحاول تنقية المقتدي منها، وهي لحظات " يعرضها القرآن دون مداراة على أصحابها كما يقول الأستاذ محمد قطب"(*) ولكنه لا يصنع منها بطولة، لأنها في الحقيقة ليست كذلك! كما أن هناك سمة بارزة في القصص القرآني وهو يعرض قصص " الفاحشة". إنه لا يعرضها لإثارة تلذذ القارىء أو السامع بمشاعر الجنس المنحرفة كما تصنع المذاهب " الواقعية " و" الطبيعة " في المذاهب الحديثة الضالة، فلحظة الجنس  منحرفة أو غير منحرفة  لا تستأهل الوقوف الطويل عندها، فإنها ليست هي الحياة، إنها هي وسيلة من وسائل الحياة، إنها عارض يعرض في الحياة ويقضى، يقضى ليفسح المجال لأهداف الحياة العليا الجديرة بالتحقيق، يفسح المجال للتصور الإيماني الكبير للكون والحياة والإنسان، تملأ المشاعر بذلك التصور، وإطلاق النفس في واقع الحياة تحاول أن تحقق من كماله ما تقدر عليه: من إقامة مجتمع نظيف، من تربية نفوس مستقيمة، من إقامة الحق والعدل في الأرض، من تمتيع الناس بحقوقهم، وتجميل الحياة لهم بحيث تستحق أن تعاش، في غير فتنة بها ولا انحراف، وتلك كلها أهداف ضخمة تشغل الحس البشري، وتشغل هم الإنسان الرفيع الذي ينبغي أن يعمر وجه الأرض، ومن ثم لا تستحق لحظة الجنس الوقوف الطويل عندها، وتفصيصها، وإعادتها، والتفنن في عرضها، لأن ذلك إسراف في المقادير النسبية لما يلزم للحياة البشرية، وتحويل للوسيلة حتى تصبح غاية، وهي ليست كذلك ولا ينبغي أن تكون.

تلك قاعدة مرعية في كل قصص القرآن عن " الفاحشة "، وهي كذلك ينبغي أن تكون مرعية في كل لون من الفن الإسلامي، إن الإسلام لا يحرم وصف المشاعر الجنسية  نظيفة أو غير نظيفة  ولا يحرم وصف لحظة الهبوط والضعف، ولكنه يعرضها كما ينبغي أن تعرض، لحظة ضعف لا لحظة بطولة، ولحظة عابرة يفيق منها الإنسان إلى ترفعه الواجب، ولا يظل دائراً في حلقتها المرتكسة على الدوام، ودون إمعان في مستنقع الفساد والميوعة، أما عمر بهاء الدين الأميري فإنه يرنو إلى الجمال ويتعلق به، وتحدثه نفسه ببعض الشهوة غير أنه يترفع عنها ويكبح جماحها رحمه الله:

قد بعد المدى

     ولم يعد ندى

     يبل لي صدري

     وأبت في لغب

     يؤج بي سغب

     محير الأرب

     في لهفة غرثى

     تملكني إرثا

    أصبو إلى أنثى

    أصبو ولا أسير

    فصيحة الضمير

    تصرخ كالزئير

    تمرد الحمأ

   والروح في ظمأ

   صبا وما صبأ(3)

  إنها مطابقة حيث يشترك معنيان بلفظ واحد كما ذهب قدامة بن جعفر الكاتب؛ وهي من أبواب البديع: " صبا وما صبأ " مع الإشارة إلى عدم اختلاف الفئة النحوية الفعلية.

ويا حبذا لو تعفف عن هذه الكلمة وأقام بدلها الثديين مثلاً وإلا فإن في الإيحاء الزهدي لمندوحة:

وأرى  بـنـهديك iiاللذين
مـن  سر قلبك والصبابة
أرنـو إلـيك كما iiرنوت
لـكـنـنـي  لا iiأستكين
زجر النفوس عن التمادي
لي في مضاء العزم صبر





تـوثـبـا فـي iiالواثبين
مـا  حجبت عن iiالخدين
وأشـتـهـي ما iiتشتهين
لـنـزوتـي، لا iiأستكين
فـي الـهوى طبع iiمتين
إنـه كـنـز iiثـمين(4)

  والأجر كله لمن يجد الحنين إلى اللذة فيقمعها إن كانت في حرام، ثم إن ( الله مع الصابرين) سبحانه عز وجل، وهو القائل: [ ولا متخذي أخدان] صدق الله العظيم.

  ويؤكد الأميري على إبراز هذه المعاني في:

أغوي وأتوب:

ألهذا الروح جسم     أم لهذا الجسم روح؟!(5)

والجواب في ساعتي:

فـإبائي  iiوالهوى
ويـد  الرحمن iiما
لم تصيرني iiملاكاً
أنا إنسان iiبروحي
كلما ناديت روحي




ركـبا في فطرتي
مـسـحت جبلتي
عـديـم iiالـنزوة
لظى  من iiشهوتي
صـاحت  iiطينتي

  ويعلمنا رحمه الله كيف نصمد ونقاوم النزوات في ذات القصيدة:

كل  شيء أشتهي    ماثل  في  حوزتي

ليس ما  يمنعني    عنه إلا عزتي (6)

  وذات الشيء تأكيداً في:

شبح الخريف:

يـا ضميري أقصر فما هم iiعزمي
فـي نـجـاري على الخنا كبرياء

بـتـرد، أوهـام قـصدي iiبرجس
وجماح على السلوك الأخس (312)

  غير أنه ينسى نفسه أحياناً فيمد الحبل خاصة في:

حرم الحب:

قـد  سـرت كـالـخمر في iiلذتها
فـقـرعـنـا الـسن بالسن iiهوى
*               *              ii*
حـرم  الـحـب الـذي iiيـجمعنا
لـم  نـقـع فـيـه وصـنا iiذمماً
ولـقـد نـغـفل عن بعض iiالتقى
الـشـبـاب  الـغض في iiجمحته






تتمطى راحها في الساعدين (319)
وذكـرنـا الله عند القبلتين (327)
*               *              ii*
لـم  نـزل حـول حـماه iiحائمين
وسـنـبـقـى  طـائفين iiعاكفين
ثـم  نـأوي لـلـهدى iiمستغفرين
كم عصرنا عوده بالراحتين (324)

  والحق أن الأدب الإسلامي ينتصر للفضيلة، ويكفن الرذيلة، حتى إذا وقف عندها لم يفعل إلا لتحقيرها والغض منها تزهيداً وتنفيراً، لأن طبع المؤمن أو نجاره بأسلوب الأميري رحمه الله ،صنع صنعاً ربانياً إلهياً محكماً، والنموذج هو سيدنا يوسف عليه وعلى سيدنا محمد أزكى الصلاة والسلام، ولا أظنني أقحم موضوعاً حساساً كهذا في عمل نقدي كهذا، بل نرجو فائدة وراء التحقيق: ذلك أن بعض المتسرعين عوض أن يطرحوا رأيهم غير ضائقين  على أقل تقدير  بالرأي الآخر، علمنا أن التسامح الفكري قيمة كبرى في الإسلام، وسموا الفريق المخالف ( بالبلداء) هكذا والله دون حياء، وإذا كان بعض أهل العلم لا يتورعون في إطلاق مثل هذا الكلام غير المسؤول، فإننا نحترز أن تزل أقدام من ليسوا من أهل النظر والتسامح الفكري؛ من هنا تأتي ضرورة هذه الوقفة التي تعرض لرأي ( البلداء) فتنتصر له بأدلة مقنعة وبالله التوفيق:

  أما إذا كان دليل اللعانين السبابين المعتقدين في أنفسهم الكمال  وما هم كذلك  أن الله تعالى قال: [ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه]، معناه أن الهم لم يقع أصلاً وحجتهم الداحضة أن ( لولا) تفيد الامتناع لوجود، وأن الهم جملة لا يليق بعصمة الأنبياء عليهم السلام، فإن دفع هذين الأمرين يكون بالتالي:

1 . ولقد غرقت وغرق لولا أن الإنقاذ تم فنجيا من الغرق، مثلاً، وهذا يعني أنهما تجرعا جرعات من الماء بنسب قد تتفاوت، المهم لا تتريب عليهما في ضعفهما، ولما يسر الله عملية الإنقاذ، لم يغرقا وهذا هو الأساس.

  ولكي تتضح الصورة أكثر، فإن شرب الماء كالهم، أما الغرق فهو الفاحشة والفاحشة لم تصدق الهم.

2 . أين العبرة المقصودة من ذكر القصص؟! حتى إذا اختلطت بشرية سيدنا يوسف عليه السلام بنبوته؛ انتصرت نبوته ليكون لنا قدوة وأسوة، فنقول قد وقع لمن قبلنا فخرج سليماً ناجياً؛ مما يعني أن هذا الأمر قد يقع لغير الأنبياء فيصمدون أمام الإغراء، وقد جاء في الأثر أنه: " إذا هم العبد بسيئة ولم يقترفها كتبت له حسنة"، لأن فَرجهُ لم يصدق ذلك؛ وهو الأمر الذي لا يخالف عصمة الأنبياء عليهم السلام، وإلا فما معنى قوله عز وجل: [ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين]، وما معنى قوله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام:[ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين]؟! ومن المعلوم أن المخلِص من أخلص نفسه لله ، عكس المخلَص وهو من أخلصه الله تعالى لنفسه، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن الله تعالى كما جاء في الصحيح يظل يوم القيامة سبعة بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن هؤلاء السبعة رجل دعته امرأة ذات مال وجمال فقال إني أخاف الله ، وذلك موطن العبرة، وقد جرب هذا وصمد بحمد الله تعالى من صمد ضداً على الإغراء حتى سمي رجل بالمسكي لما دعته امرأة بعدما غلقت الأبواب فاستأذنها ليتهيأ ولما دخل الكنيف لطخ وجهه فانتفضت رعباً لما رأته على تلك الحال! واستمع معي إلى الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل حفظه الله (**) وهو يقول بصدد ارتباط الابتعاث بالصهيونية خلال الفصل الأول: " البعثات التعليمية بين السلب والإيجاب" من كتابه الفذ " حوار في المعمار الكوني"(*) ثمة محاولات التدمير الأخلاقي وتفكيك المبتعث حتى آخر مسمار فيه... في مجتمع أصبح شرب الخمر والحشيش فيه كتناول الخبز والماء.. وغدا الاتصال المحرم بين الرجل والمرأة كركوب سيارة أو قطار... وقد يتم هذا التدمير والتفكيك والاستنزاف عفوياً... وقد يخطط له لجر أقدام الذين أبدوا بعض المقاومة، والنتيجة في كل الأحوال سواء: أن يرجع إلينا هؤلاء وقد استنزفوا حتى النخاع وأصبحوا مستعدين لأن يبيعوا حتى ضمائرهم وأوطانهم من أجل إشباع شهوة غامرة أو نزوة عابرة... والذين يحاولون أن يمارسوا الحرام في السر، لسبب أو لآخر ويسعون إلى تغطيته كي لا يؤثر على مراكزهم الاجتماعية في بلادهم... تتولى أجهزة التقاط الأسرار الكشف عن الأسرار فما تزيد هؤلاء الوجلين إلا وجلاً، وما تزيدهم إلا خضوعاً لمن يقدر على هتك الحجاب فيعرضهم للدمار...

  أدوات... على أي حال من الأحوال... والذي يستعبد نفسه لشهواته تهون نفسه عليه، وتصبح أكثر استعداداً لاستعباد الآخرين...

  وفينا من المبتعثين من لا تزال المشكلة الجنسية تؤرقه ليل نهار، بسبب من الظروف المعقدة الصعبة التي يعيشها المسلم، ولم يأذن بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما إن تطأ قدما الواحد منهم ديار الغربة حتى يصبح على استعداد من أول لحظة لأن يقاد من فرجه!! أما عقله وضميره؛ فإنه يهبهما لهم يفعلون بهما ما يشاؤون...

  ويخطر على البال هنا، من بين حشد كبير من الوقائع والنماذج، ذلك الضابط الطيار الذي استهوته أمريكية حسناء يهودية الهوى والانتماء، فقادته بطائرته " الميكَ 17" قبل معارك حزيران 1967 إلى (إسرائيل) ، وأغلب الظن أنه لا يزال يعمل هناك، ويقال إنه كان واحداً ممن انقضوا بطائرتهم على المواقع العربية الغافلة في الصباح الحزين...

  ويخطر على البال كذلك  وفي مقابل هذا  ما حدثني به ضابط كبير القدر ومؤرخ معروف، من أنه ذهب إلى إنجلترا في العقد الرابع من هذا القرن مبتعثاً لدورة في العلوم العسكرية، :

" دخلت الغرفة التي أعدت لمنامي  يقول الرجل  فإذا بإنجليزية حسناء تسوي أغطية السرير، فأشحت بوجهي عنها، وأدرت ظهري لهاريثما تتم مهمتها، ولكن مهمتها طالت بأكثر مما يجب، ولمحتها بطرف عيني تعبث بالملاءة ثم تعيد صقلها من جديد... فلما لم تلق مني ما يشير إلى شيء أكملت مهمتها ووقفت حول السرير وسألتني: أثمة شيء آخر؟ أجبتها بخشونة: كلا... وأحذرك مرة أخرى أن تعيدي اللعبة... اخرجي...

  وفي اليوم الثاني استدعاني الضابط الإنكليزي المسؤول عن الدورة وهنأني وكتب إلى قيادتي في العراق تقريراً مترعاً بكلمات التقدير والاحترام! "

  أما الضباط الآخرون فيبدو أن بعضهم وقع في المصيدة التي كان ريقهم يتحلب لطعمها اللذيذ، والتي نصبت لهم بمهارة لكي تحيلهم إلى أدوات بأيدي الشياطين... وأغلب الظن أن الضابط الإنجليزي وجد نفسه إزاء الرجل الشهم أمام أمر واقع، فما كان منه، تغطية للعبة، إلا أن بعث بتقريره المذكور...

  ترى كم واحد من أمثال هذا الرجل لم يخونوا الله في بعثتهم فقطعوا الطريق على مراكز التوجيه في ممارسة جريمة توظيف حركة الابتعاث لتحقيق المصالح والمنافع والأهداف؟؟!

  استطاعت الأمريكية أن تقود الضابط الأول من فرجه لكي يهرب بطائرة عربية ثم يغير بها على بني قومه... ولم تستطع الإنجليزية أن تخترق جدار الإيمان الصلب الذي تميز به الضابط الثاني، فقدم لأمته كتاباً عن اليهود ( اليهود ومعركة المصير) يحذرها فيه من احتمال قيام ( إسرائيل) بشن حرب كاسحة، ويحدد على ضوء خبرته العسكرية موعد هذا الهجوم... فلم يستمع إليه أحد... لأن العرب لا يقرأون  كما قال موشي دايان  وكان ما كان!"

  وإن تعجب فعجب لماذا اختار الغرب بعض الأخلاق الجميلة من مثل الحفاظ على الموعد ولماذا غابت عنهم سلبيات الزنا وما يدور حوله من عرض للسلع والأشياء وسوء السبيل؟! والجواب فيما يبدو  والله تعالى أعلم  أن المصلحة بادية لهم في احترام المواعيد وغيرها، وما لم تتحقق منفعتهم فيه، نبذوه وراءهم ظهريا، وما خمنوا فيه " براغماتيتهم" كما يسمونها اقترفوه ولو كانت القوادة كما رأينا. وها هو ذا الأميري يحدثنا عن بعض ذلك في صورة موحية معبرة تنقل لك الواقع نقلاً رائعاً: " لبيت دعوة الصحب إلى العشاء في المطعم الأنيق، كانت تجتذب النظر في صدر القاعة، أريكة من مخمل، يستريح عليها تمثال ملون رائع، لفتاة عريانة، بارعة الجمال! دنونا لنأخذ مجالسنا، فتبينت أن التمثال حقيقة حية!! ثم أخذت تتداول الأريكة بإغراء، حسناء إثر حسناء، في عري كامل وأوضاع متغيرة، تجمد كل واحدة نفسها ليرسمها من رواد المطعم: كنت أقرأ في عيونهن أهوالاً؛ وأردد في سري: هذا هو " تحرر المرأة " في " أوروبا " !!(389).

رق:

زعـمـوا والـمـين فيما iiزعموا
ودعــوا ذلــك فـنـاً iiفـنـدا
مـغـريـات  جـمـعت iiأسبابها
غـادة  فـي عـريها يزهو الصبا
وشــراب  مـذهـل درأت بـه
شـرك  لـلـنـاس من قد iiأبدعه
مـن يـشـمـهـا مثلما iiأبصرتها
أجـرت لـلـمـسـتـغلين iiصبا
جـسـدٌ تـنـهـشـه الأعين iiفي
إنــهـا  يـائـسـة iiمـعـوزة
بـسـمـة بـاهـتـة تـجثم iiفي
إنـهـا  إنـسـانة مهدورة iiالذات
قـصـة  الـغرب التي تخنق iiفي
أيـهـا  الإنـسـان، ماذا iiصنعت
كــرم  الله بــنــي آدم iiمـذ
عـبـث  الإنـسـان بالإنسان iiما
إنــه الـرق الـذي iiيـنـكـره
















أنـهـا جـالـسـة iiلـلـراسمين
يـبـرأ  الـفن من الجور iiالمهين
فـتـنـة الشيطان في هذا iiالكمين
وطــعـام  لـذة لـلآكـلـيـن
فـتـيات يستبين iiالشاربين(391)
جـشـع الـمـال ومكر iiالماكرين
سـيـرى  فـي نفسها الهم iiالدفين
عـريـها  الفتان، والقلب iiالحزين
نـهـم  الحيوان، مخفوض الجبين
بـسـمـت،  مضطرة للحاضرين
غـورهـا  مـأساة جيل الحائرين
يـحـكـي  صـمـتها iiللمدركين
شـدوهـا الصاخب أصداء iiالأنين
شـهوات  الجسم بالروح iiالثمين؟!
برأ الخلق، وصاغ العالمين (393)
كـان  فـناً في حجى الحق المبين
كـل إنسان ووجدان ودين ii(394)

  هل ينكر الرق الإنسان الغربي؟! كلا ثم كلا، إنه الإنسان بمواصفات الإنسان المكرم لا ذلك الذي يؤله الإنسان، ألا إنه عاش حراً من ترفع عن الشهوات الحرام، ولم تجره من فرجه إلى الهوان من تبيع في الدكان وهي مسحوقة بالمساحيق مثلاً.

  ونعود مرة أخرى إلى الدكتور خليل في كتابه: ( آفاق قرآنية) الصادر عن دار العلم للملايين طبع سنة 1982( ص ص / 21  23): " في أسفل " " مانشيت" لأحد الأفلام الحديثة، قرأت هذا العنوان  العزف على الحسناء  ، فرفعت رأسي إلى أعلى فإذا بصورة امرأة شبه عارية يحتضنها " رجل" بيد، ويحرك على ظهرها باليد الأخرى ، وتر الكمان، فكأنه يعزف عليها!! ولولا أنني كنت قاطعت السينما منذ تحولت إلى جنس رخيص، لخطوت الخطوة التالية ودخلت الصالة لمشاهدة هذا الفيلم المثير.. " العزف على الحسناء " ، ترى.. ماذا كنت سأجد؟ وماذا ستكون عليه أفلام ما بعد سنة 2000؟ مع اعتذاري لأخي المحبوب الدكتور عماد الدين للتصرف الفارض نفسه علي ، وشكراً. ويضيف حفظه الله: " إذا أردتم أن تعرفوا مقدار الحزن الذي يترع عصرنا فقوموا بجولة في واجهات دور السينما، وتأملوا إعلاناتها... ولا أقول ادخلوها!! ".

  أجل إن الأمر كما قال عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله تعالى:

إنه الرق الذي ينكره      كل إنسان ووجدان ودين

  والوجدان؟! إنه الوجدان الصافي النقي من كل كدر وشين رنق الزلال المعين.. أما الدين، فغير المحرف طبعاً،ذلك الذي ينبثق من مشكاة الصفاء والطهر والنقاء والبقاء، إنه الإسلام العظيم حيث يكون المرء مطمئناً يفوز بالسكينة والحق دون غيره من أصحاب الاديانات والمعتقدات، ومعلوم أن الأنبياء جميعاً عليهم السلام جاءوا بالإسلام لله رب العالمين.

  أما قاسم أمين، فنبه الناس إلى نبذ التقاليد التي ليست من الإسلام نعم، ولكن لماذا؟! ثم ما الذي اقترح من بدل؟! إنه الخروج كلية عن الإسلام تحت ستار الدفاع عن الإسلام، حتى قال  بعد  بالحرف على المرأة أن تمزق الحجاب، هكذا والله ، إنه الاتباع والانقياد والخنوع للغرب، كما صنع أخوه الداعي إلى الثورة الجنسية توفيق الحكيم، إذ لم يجد المسكين ما يستورد من الغرب إلا الثورة الجنسية، أما أسباب العلم والتقدم الحقيقي، فلنضرب به عرض الحائط ، ولا علينا أن نتقدم أو نتأخر، ثم هل نستحضر طه حسين والدعوة السافرة إلى اتباع الغرب في الخير والشر وتنزيهه إن كان فيه شر كما قال عميد الأدب العربي بين قوسين؟!

  وأخيراً لابد أن نختم هذا التقريب بمقاطع جادت بها قريحة الشاعر سليم عبد القادر تحت عنوان " الأميري ": (7)

أأرثيك أم ألزم الصمت، والصمت
عـبـرت الـحياة وما زلت iiفيها
وهـبـت  حـيـاتـك لله iiوجدا
وذبـت  هـيـاماً وشوقاً iiوعشقاً
وتـسـكـن في القلب آه الجريح
ولـو شـئـت عشت خلي الفؤاد
فـرحـت  تجوب السموات صبا
عـفـفت،  ولو شئت نلت iiشهي
مـن الـمغرب العربي إلى iiالهند
حـمـلـت  الـهموم، كأنك أنت
ويـا أيـها المتألق ما شئت iiفوق
وكـنـت كبيراً، وقد سحر الناس
رحـيـلـك أدمى قلوب iiالمحبين
وإن الـعـزاء الـكـبير iiالجميل













كـالـبوح صعب، فأنت الأميري
ولـو غبت عنها، شديد iiالحضور
وعـشـت  مـع الله جم iiالحبور
بـحـب الـنـبي البشير iiالنذير
ودمـع  الـحزين، وبؤس iiالفقير
تـقـلـب فـي فرش من iiحرير
عـلـى رفـرفات الخيال iiالمثير
ثـمـار الـحـياة، متاع iiالغرور
مـن كـل صـقـع عريق أسير
الـوكـيـل الـوحيد بسد الثغور
ائـتـلاف  الـربـيـع iiالنضير
وهـج  النّضار، وزيف iiالقصور
حـزنـاً،  أوان الـوداع iiالأخير
بـحـسن الحياة، وحسن iiالمصير

         

الهوامش:

(1) رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم، لخالد محمد خالد رحمه الله ، ص: 278 عبد الله بن رواحة، يا نفس إلا تقتلي تموتي!! دار الفكر بغير تاريخ.

(2) لقاءان في طنجة... تاريخ وفكر وشعر ( ص ص: 57  58 ).

(3) طيف ( ص ص: 347-348).

(4) كرامة 114  115.

(5) ص 201 .

(6) 208  209  210.

(*) منهج الفن الإسلامي ( ص ص161   162) دار الشروق ط7 ( 1408  1987)

(**) ص ص 20  21 بتصرف، صدر السفر القيم عن دار الثقافة 1407.

(7) مجلة الفيصل ع 187  المحرم 1413  ص:42.