الشعر الإسلامي في العراق
الشعر الإسلامي في العراق
ومدى إفادته من تقنيات القصيدة المعاصرة
مع تمهيد لمصطلح الأدب الإسلامي وإشكالية هذا المصطلح
بقلم: رائد فؤاد طالب الرديني
-البصرة-
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد في مصطلح الأدب الإسلامي
تنطلق هذه القراءة النقدية المقارنة من رؤية خاصة لمصطلح (الأدب الإسلامي) إذ أن القراءة تؤكد بادئ ذي بدء من وجود إشكالية كبيرة في مفهوم هذا المصطلح، ذلك لأنه لا يزال يكتنفه شيء من الضبابية، وبالتالي فإن أية نظرة إلى الأدب الإسلامي يجب أن تنطلق من فهم دقيق، ورؤية حادة، ومنطق يتوافق وروح العصر.
وحين أقول إن في المصطلح إشكالية، لا أعني تلك الإشكاليات التي يثيرها معارضو هذا الأدب، وإنما أعني الفهم غير الدقيق لهذا المصطلح من قبل المهتمين بالأدب الإسلامي، سواء كانوا شعراء، أو نقاداً، أو متلقين.
وحتى نكون على وضوح من الأمر، نورد تعريف الأدب الإسلامي:
((هو تعبير فني عن الكون والإنسان والحياة والطبيعة من خلال تصورات إسلامية))(1).
نستطيع أن نقول إن هذا أول تعريف للأدب الإسلامي من قبل الأستاذ محمد قطب، ومن عرف الأدب الإسلامي بعده لم يخرج عن هذا التعريف، سوى أنهم قد تصرفوا في صيغته.
الإشكالية التي وقعت لدى المهتمين –والجمهور منهم بالخصوص- أن الأدب الإسلامي هو النص الذي يعبر عن كل شيء إسلامي، بظهور دوال إسلامية وإشارات تحيل المتلقي مباشرة إلى المرجعية الإسلامية، إحالة تقريرية من غير تأمل ولا تعمق في النص، فلا نجد فيه إلا ما يشعرنا أننا أمام نص إسلامي مباشر، فهناك ترديد لآيات القرآن وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهنا مدح للرسول عليه الصلاة السلام ولصحابته الكرام، ومن ثم عرض لمزايا الإسلام عقيدة، وشريعة....إلخ، وكأننا أما نص مهمته التعريف بالدين الإسلامي، ولسنا إزاء نص أدبي بمعنى الأدبية.
أقول إن هذا الفهم الساذج للأدب من قبل الشاعر أولاً، والمتلقي ثانياً، جعل الذوقية الأدبية لدى الشاعر والناقد والمتلقي تخبو شيئاً فشيئاً، وأصبحنا أمام قوالب جامدة، وكأن الحياة قد توقفت في حد معين ولا يوجد هناك تطور، وكأن الأدب قد رفع راياته مستسلماً لهذا الجمود. والحقيقة ليست كذلك، فأعداؤنا سبقونا في مجالات كثيرة، وبالأخص مجال الأدب، وأصبحنا –نحن- ولحد هذه اللحظة نقول ونكتب: هل أن الشعر الحر جائز أم أنه جريرة على العربية؟!!!
حتى وجدنا أنفسنا أما أعدائنا وقد أيقظونا بمدافعهم، يقصفون تراثنا مستلهمين منه تجاربهم بما يتفق ورؤاهم، سواء كانت هذه الرؤى إيمانية أم سلبية، وذلك لغزوهم للقيم الإسلامية وتوظيفها حسب ما يريدون، ولم يتوقف المجال في هذا الحد، بل تعدى ذلك إلى استعارة مناهج نقدية "غربية"*، وتطبيقها على التراث الإسلامي.
الإشكالية كما قلت نابعة من الفهم العقيم بأن الأدب الإسلامي هو كل نص فيه قيم إسلامية، وهذه النظرة في الحقيقة لا تكون لنا أدباً إسلامياً متميزاً، وذلك لأسباب:
أ – أن التركيز بهذا المعنى سينصب على الجانب الموضوعي بدرجة أولى.
- هذا إن كان هناك جانب فني، مع الجانب الموضوعي.
ب – رب سائل يسأل: وما الضير من نص فيه قيم إسلامية مباشرة، مسبوك بفنية عالية؟!!
أقول: إن الجانب الموضوعي، أو بالأحرى ما يريده الشاعر أن يعبر عنه يجب أن لا يكون مباشراً، وإذا عبر الشاعر الإسلامي في نص تظهر فيه ((الإسلامية)) بشكل كبير ومباشر، فإن القيمة الفنية ستجنو في النص.. لماذا؟!!
لأن النص الشعري الجيد يجب أن لا يكشف عن نفسه من أول قراءة بل من ثانية وثالثة ورابعة.. وحتى القيم الإسلامية التي تبدو في النص – إذا أردنا استعمالها – فيجب أن تكون غامضة المعنى بعض الشيء أعني أن لا تكون موضوعة في معناها الأساس، وهكذا هو الأدب، لأنه –قبل كل شيء- هو ليس شعارات ترفع، ولا دعوات تعلن، ولا حتى مواعظ تقال، إنما الأدب هو –كما يقول سيد قطب رحمه الله- ((التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية)).(2)
إذن هو التعبير عن تجربة الشاعر ((الشعورية)) وما تكتنف هذه التجربة من معطيات وإفرازات وظواهر، بمعنى أن الأدب هو التعبير عن إحساس الشاعر، وعكس هذا الإحساس في صورة موحية، وليس رفع شعارات ولا هو هتافات، ودعوة إلى الأعمال الخيرية والتعبدية، كالخطيب أو الواعظ حين يرشد الناس إلى ما يصلح دينهم ودنياهم.
بمعنى آخر إن الأدب هو المجال الذي يسمح فيه الشاعر لنفسه أن تقول ما يخطر على مشاعره، فالشاعر ((الجاهلي)) سيقول ما يعكس جاهليته، والشاعر الإسلامي سيقول ما يعكس إسلاميته، من غير قصد في قول هذه ((الإسلامية)) ومن غير اتباع قوالب في توظيف هذه القيم.
وهنا معترض يعترض وسيقول:
- وكيف نطمئن للشاعر الإسلامي أنه سيقول ما يتفق وإسلامه؟!! وسنقول له:
- إن التزام الشاعر الإسلامي سيتدخل في هذه اللحظة، ولا أعني الالتزام الديني المجرد، وإنما التزام الأديب الإسلامي بحدود الشريعة – فيما يقول- ومجالات هذه الشريعة الكبيرة الواسعة، إذ أن (الأصل في الأشياء الإباحة)
ثم إن المسلم يعلم الحلال من الحرام، وسيقول العقل الباطن (أو منطقة اللاشعور) بتوجيه الشاعر – من غير أن يحس- إلى ما يعكس فكره.
كذلك فإننا لا نترك الأديب الإسلامي ونفسه والتزامه فحسب، بل هناك النقد الإسلامي في الأدب وإلا فما هو دور الناقد الإسلامي؟!! إذن خلاصة ما سبق هو: أن مصطلح (الأدب الإسلامي) كما أرى أنا شخصياً، هو لا يتجه إلى النص، وإنما يتجه إلى المنشئ، بمعنى أننا يجب أن لا ننظر إلى النص لنقرر هل هو نص إسلامي أم لا، وإنما النظر سيتوجه نحو المنشئ (الأديب) هل هو إسلامي الاتجاه، أم لا؟ فإن كان إسلامي الاتجاه، فسنعد كل ما يصدر عنه من أدب سواء ظهرت فيه الروح الإسلامية أم لا، أدباً إسلامياً، لأن الروح الإسلامية لن تراها ظاهرة في النص بشكل مباشر، وإنما هي موجودة على درجة كبيرة من الخفاء، وسيكون مهمة النقد الإسلامي هنا كبيرة، تتمثل في توضيح النص للقارئ وإرجاعه إلى المرجعية الإسلامية المرتبطة بالنظرة الشمولية للكون والإنسان والحياة، وإذا أردنا تعريف الأدب الإسلامي بصورة أدق وفق المعنى والمفهوم الذي ذهبنا إليه فسنقول:
(هو تعبير المسلم (أو الإسلامي)* عن الكون والإنسان والحياة والطبيعة وعن كل شيء، تعبيراً أدبياً فنياً).
وبهذا التحديد سنخرج من إشكالية كبيرة جداً، وهي المقولات التي أسمعها دائماً تتردد، بأن بعض أدب تولستوي – مثلاً- وهو النصراني – أدب إسلامي، وبعض كتابات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ هي كذلك أيضاً!!!
لماذا؟!! نسألهم دائما ويقولون لنا (لأن نصوصهم قد عبرت عن قيم إسلامية هذا صحيح ولكن هو /أدب قد عبر عن قيم إنسانية مشتركة في الحقيقة، إذ أن الأخلاق والآداب...إلخ، ليست قيماً إسلامية فحسب، بل هي قيم إنسانية عامة، أكدها الإسلام، وجعلها سمة للشخصية الإسلامية، فحين يأتي تولستوي بقيم إنسانية. لا نستطيع أن نسمي أدبه أدباً إسلامياً، وحتى لا يبقى مجال للشك حول هذا المفهوم الدقيق للأدب الإسلامي أتوجه للقارئ بهذا السؤال:
أين تضع زهديات أبي نواس وغيره من الشعراء القدامى، وأين تضع بعض القصائد الإسلامية من بعض المعاصرين غير الملتزمين إسلامياً، بل قد يكونون أبعد الناس عن الإسلام؟!!
هل سنستطيع جعل هذه النصوص في دائرة الأدب الإسلامي؟
إن كان هنا يجوز في مصطلح الأدب الإسلامي، فإن هذا المصطلح غير دقيق بل هو يتنافى مع مبادئه وأهدافه.
تبقى إشكالية أخيره وهي:
هل من الصحيح أن نركز على الأديب، ونترك النص؟!!
أقول: لا، فالتركيز على الأديب وترك النص إجرام بحق النص، إذ ليست العبر بالأسماء وإنما بالمسميات، كذلك ليست العبرة بالذي صنع النص وإنما بالناتج، وهذا شيء أعتقد به اعتقادا جازماً، إذ أن المؤلف – كما يقول النقاد المعاصرون- قد مات، وحل محله النص، وإن كنا لا نبالغ في هذا، ولكن المؤلف ليس له شأن أعلى من النص، إذ النص له الدرجة الأولى، والمؤلف يأتي بعده.
ولكن – أخي القارئ:
إن تحديد المصطلح تحديداً موضوعياً أي (بالإسلام، سيجعلنا – إذا نظرنا إلى النص بالدرجة الأولى – نحكم على النص حكماً موضوعياً، قبل أن يكون حكمنا عليه حكماً فنياً أدبياً، إذ أن قياسنا بالدرجة الأساس سيكون: هل هو نص إسلامي أم لا؟ وكيف نعرف أنه إسلامي؟ بظهور علامات إسلامية واضحة مباشرة. إذ أن النظرة إلى النص مجرداً أو بدرجة أولى لا يتفق مع مفهوم المصطلح.
أما تركيزنا على المؤلف وفق المفهوم الذي نذهب إليه – هو ليس تركيزاً حقيقياً عليه بقدر ما يكون وسيلة لإحالة النص إلى مؤلفه هل هو إسلامي أم لا، لكي نحتفظ بهوية الأدب الإسلامي كمصطلح.
أعني أن نظرتنا إلى المؤلف هو للإحالة فقط، وتكون العملية الثانية وهي الأهم قراءة النص نقدياً والاهتمام به اهتماماً بالغاً، وهذا المفهوم سيتيح لنا حرية أكبر في قراءة النص، وكذلك يتيح للشاعر فرصة كبيره في أن يقول ما يريد،، من دون التقيد بقيم محددة.
ويعجبني في هذا المجال ما قاله الشيخ محمد الغزالي:
(إن الإسلام ليس أفعالاً تعد على الأصابع دون زيادة أو نقص. كلا، إنه صلاحية الإنسان للمسير في الحياة وهو يؤدي رسالة محددة. فالمهندس الذي يصنع آلة ما لا يعنيه كم تنتج من السلع والأدوات، وإنما يعنيه أن تكون أجهزتها مستعدة على الدوام لإنجاز ما تكلف به، فصلاحية الطيارة للانطلاق.وصلاحية المدفع للقذف، وصلاحية القلم للكتابة) هذه الصلاحيات هي مناط الحكم. على قيمة الشيء فإذا اطمأننا إلى وجودها قبلناها ورجونا ثمرتها.
كذلك الإنسان. إن الإسلام يريد أن تستقيم أجهزته النفسية أولاً. فإذا توفرت لها صلاحيتها المنشودة، بصدق اليقين، وسلامة الوجهة، فكل عمل تتعرض له في الحياة يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة الله. إن آلة سك النقود يدخلها المعدن الغفل (الخام) فيخرج منها عملة مالية غالية الثمن، تحمل من الألوان والأختام والشارات ما يجعلها شيئاً آخر. كذلك المسلم يعالج ما يعالج من شئون الدنيا، فيضفي عليه من طبيعة إيمانه وسناء وجهته ما يجعل أي عمل يقبل عليه يتحول في يده إلى عبادة غالية القدر.
في شئون الحياة ليس للأعمال الصالحة حصر تنتهي عنده، ولا رسم تخرج فيه إنما هو إسلام الوجه لله وإصلاح العمل، والبلوغ به حد الكمال المطلوب)(3) وكذلك هو الأدب الإسلامي..
فقط نريد من الأديب أن تستقيم أجهزته النفسية، مع صدق اليقين وإن كان حديث غزل، إذ ليس في شئون الأدب موضوعات صالحة وأخرى غير صالحة إنما هو:
إسلام الوجه لله.. وإصلاح العمل.. والبلوغ به حد الكمال المطلوب. وبذلك يكون لدينا أدب إسلامي.
* * *
الشعر الإسلامي في العراق
-توطئه-
لا أريد – هنا- أن أتناول تاريخ هذا الشعر، متى بدأ.. وأين.. وكيف ولماذا؟!! ولكن احب أن أركز على الناحية (العملية) التي تخص هنا الشعر.
وأعني (بالعملية) الوسائل والطرق التي نستطيع من خلال هذه الندوة المباركة أن ندفع بالشعر الإسلامي في العراق إلى الأمام، وأن نجعله يتقدم خطوات نحو الأفضل.
وحين نريد أن نطور شيئاً ما فيجب –قبل كل شيء- أن نبحث في الشيء.. سلبياته.. معوقاته، كذلك حالنا مع الشعر، فالمتأمل للشعر الإسلامي العراقي، يجد أنه دون المستوى، وهذا الأمر هل بسبب أنه إسلامي، أم بسبب الأديب المسلم، أم بسبب عدم وجود الناقد المسلم؟!!
أرى –شخصياً- أن هذه الأمور قد تكالبت على هذا الشعر وجعلته في مستوى لا يليق بأناس يريدون أن يصنعوا الحياة "الحياة بعمومها لا بخصوصها"!! فالفهم الخاطئ –كما سبق في التمهيد- للأدب الإسلامي، واقتصار هذا المفهوم على النص الإسلامي بشكله المباشر، قد أخّر الأدب الإسلامي شيئاً كبيراً جداً، ثم عدم استيعاب الأديب الإسلامي لمفهوم الشعر بصفته أدباً لا مواعظ أو إرشادات أو غير ذلك.
ثم عدم وجود الناقد المسلم الذي يحاول معالجة النصوص الإسلامية المطروحة من قبل أدبائنا معالجة أدبية إسلامية.
ومحاولتنا هذه، في بحثنا هذا، إنما هو دعوة إلى "الأديب" المسلم أن يطوّر تقنياته في كتابة "النص" الأدبي الفني، وليكون –بعد ذلك- دور كبير من قبل "الناقد" المسلم ليحلل وينقد ويعالج.
وقبل أن ألج في عرض هذه التقنيات التي نريد من الأديب المسلم أن يعتمدها، في وقفة مع الشاعر الإسلامي:
فقد فهم عدد كبير من الشعراء الإسلاميين أن الأدب والشعر بصورة خاصة هو عبارة عن معلومات وأخبار وقصص و"ترنيمات"، ونسي أو تناسى أن الشعر هو غير ذلك، واقتنع الشعراء بهذا الوضع، والمشكلة الكبيرة أنهم أقنعوا المتلقي والجمهور الإسلامي –عبر نصوصهم- أن الشعر هو هذا، فأصبح المتلقي لا يتذوق إلا المباشر والتقريري من الشعر، فجمد الشعر بسببهم، وعطلوا ذوق المتلقي بـ "مواعظهم" فغدا الشعر ساكناً لا يتحرك ولا يتطور، وكأن هذا الشكل من الشعر أصبح يميز الشعر الإسلامي عن غيره.
وأياً كانت النتيجة، ولا أريد أو أقف موقف المحاسب، وإني أدعو أدباءنا إلى أن يراجعوا أنفسهم، ويراجعوا ثقافاتهم، وليكون لديهم مفهوم واضح وواسع عن الأدب وعن الشعر –بصورة خاصة- ليعرفوا ماهيته.. تاريخه.. تقنياته القديمة والحديثة، ليختاروا من هذه التقنيات ما يتناسب وروح الإسلام السمحة اليسيرة، وما يتفق مع ذوقهم الأدبي بمعنى الأدبية!!
ولكون هذه الصفحات موجهة إلى الأديب الإسلامي، أحب أن أعرض ماهيته.. تاريخه.. تفناياته، ولكني سأقتصر على التقنيات بصورة واسعة، لأنه موضوع البحث ولأقف وقفة قصيرة حول تاريخه، أما مسألة ماهية الشعر فللباحث والقارئ والأديب أن يرجع إلى المصادر في هذا المجال.
أما مسألة التاريخ.. فإن الشعر القديم بدءاً من الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي، ثم العباسي بقرنيه، ومن بعد ذلك العصر الوسيط، ووصولاً إلى العصر الحديث حيث سفر جماعة أبولو والديوان والمهجر، والرواد من الشعراء كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي والزهاوي، كان الشعر مع هؤلاء جميعاً يسير على وتيرة واحدة من الشكل الموسيقي، وعرض الموضوعات وإن اختلف عصر على عصر أو شاعر عن شاعر آخر، فالاختلافات تكون شيئاً بسيطاً، إذا ما قورنت بالتطورات التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين على يد جماعة الشعر الحر "شعر التفعيلة" سواء في الشكل الموسيقي، أو في المضمون وأساليب تناول المضمون.
ثم جاءت رحلة الشعر الستيني، وما حدث في هذا الشعر كغموض متقصد وكتلاعب بالأوزان، وألفاظ عامية، ووصولاً إلى مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، وما وصل إليه هذا الشعر من هوّة سحيقة بينه وبين الجمهور بحيث أصبح الشعر حكراً على طبقة معينة من المثقفين بل من المختصين بالشعر الحديث، وغدا الشعر عبارة عن ترنيمات غير مفهومة، هذا بغض النظر عن قصيدة النثر!!
ولا أريد أن أتعرض للأسباب التي أدت بالشعر العربي الحديث إلى هذا المنحدر.
من خلال هذا السرد التاريخي البسيط نرى أن لكل مرحلة من مراحل الشعر لحظات إضاءة، فالشعر المحافظ "التقليدي" كانت لحظات إضاءاته طويلة وواسعة، وأما الشعر الحديث فسرعان ما انطفأت هذه الإضاءات، فالمرحلة الذهبية له –كما يحددها النقاد- هي مرحلة الشعر الخمسيني، هذا إذا استثنينا الشعراء القلة الذين ظلوا يكتبون ولكنهم محسوبون على الشعر الخمسيني كالبياتي، وبغض النظر عن الشعراء النوادر الذين ظهروا في الستينات وما بعدها، لأن العبرة بالظاهرة وليس بالشاعر الواحد أو الاثنين.
وبما أننا مسلمون ونريد أن نبشر بالكلمة الطيبة، وأن تكون الحياة إسلامية "ليس إسلامية الشكل فحسب بل إسلامية الروح أيضاً" والأدب واحد من مجالات الحياة التي لابد أن نستغلها، وأن نعبر عن الحياة بروح إسلامية، أقول:
فإنه لا ضير في أن نكون وسطاً، وأن نختار المراحل الذهبية "أو اللحظات الذهبية" في الشعر العربي قديمه وحديثه، نعتمد تقنياته، ونعرض الشعر الإسلامي للمتلقي بأبهى صوره، فلا هو ساكن وجامد في قوالب، ولا هو غامض غاص في متاهات اللاوضوح، بل هو شعر يعتمد التقنيات الفنية القديمة كالصورة واللغة والأسلوب، وبنفس الوقت يعتمد التقنيات الحديثة كالرمز والأسطورة والأسلوب القصصي والحوار، إضافة إلى شكلية الشعر الحديث "شعر التفعيلة" شعر يحس متذوقه المضامين واضحة من تأمل وتحليل يعالج وفق منهج يعتمد المرجعية الإسلامية في إبرازه، ولا ضير في الاعتماد في نقده على المناهج النقدية المعاصرة إن كانت تتفق مع رؤانا الإسلامية.
إن الساحة الأدبية اليوم تشهد نكوصاً ليس له مثيل، بل إن الناس أخذوا يبتعدون شيئاً فشيئاً عن الأدب، وبالأخص عن الشعر، وأياً كانت الأسباب، فإن السبب الأهم هو الغموض والتعقيد التي حصل للشعر، بحيث أصبح المتلقي يأنف مثل هذه النصوص، فالدور الآن للأديب الإسلامي، الشاعر الإسلامي. القاص الإسلامي.. ليستغلوا هذا الفراغ وهذا الشرخ، ليؤكدوا علو المقصد، وسمو الرفعة وإبداعية القلم الذي يمتلكه الأديب الإسلامي.
ويؤكدوا أيضاً أن مرحلة التقريرية عن الشاعر الإسلامي قد مضى عهدها وحل محلها الوعي بالجوانب الفنية، والاهتمام بالتقنيات، إضافة إلى الثقافة الكبيرة والواسعة التي أصبح يتمتع بها الأديب المسلم، وإن هذه الثقافة لا تجعله يبتعد عن جمهوره إلى حد المختصين بالأدب منهم، ولا هو قريب إلى حد المتلقي قليل الثقافة –إن لم يكن عديم الثقافة- جمهوره هو جميع "المثقفين" في جميع الاختصاصات.. والجمهور حينما يقرأ لشاعر إسلامي سيقرأ نصاً أدبياً فنياً يعالج قضايا متعددة، ولا نلمس فيه ظهوراً إسلامياً مباشراً بل النص لا ينفك إلا بقراءة متأنية، وربما لا يجد الروح الإسلامية بعد هذا القراءات فيأتي دور الناقد الإسلامي ليرجع النص إلى مرجعيته الإسلامية.
فإذا كان الشعراء الجاهليون يبتعدون عن جمهورهم، فنحن نتقرب منهم، وإذا هم يتخلون عن معالجة قضايا أمتهم، فنحن نعالجها بثقافة عالية وتقنية فنية أدبية وإذا هم وأدوا الشعر، فنحن نحييه، وبذلك سيكون لدينا أدب إسلامي متميز، يبرز الهوية الإسلامية لا بالنص فحسب بل بالأديب الإسلامي الذي سيكون الحجرة التي توضع في مجال كان مهملاً، أو على الأقل كان باهتاً، فمثلما وُجد الاقتصادي المسلم، والسياسي المسلم، والمهندس المسلم والطبيب المسلم، فهنا أيضاً الأديب المسلم الذي نباهي به الأدباء الآخرين، وسنقول –عندئذ- إن الإسلام نظام شامل لكل مناحي الحياة، وشموله متأتٍ من النية الخالصة، والإبداع العالي وسلامة القصد.
* * *
وحتى لا نكون منظرين بالقول فقط، فيجب أن ندعم ما قلناه بالنصوص العملية التي تؤكد مع ذهابنا إليه، فكما قلت إنه لا ضير على الأديب الإسلامي أن يستفيد من تقنيات القصيدة في لحظاتها المضيئة "فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وحدها فهو أحق بها" وهذا الشيء ليس فيه ما يسيء إلى فكرنا الإسلامي ما دامت هذه التقنيات لا تصطدم مع رؤانا الإسلامية وتفيدنا في إغناء القصيدة التي يقولها الشاعر الإسلامي.
وبما أن الشعر الإسلامي في العراق هو أشد ما يكون حاجة إلى هذه التقنيات، وحتى يكون الأديب المسلم على بنية من الأمر حول التقنيات ما هي.. وكيف توظف، وهل هناك نصوص قد وظفت منها هذه التقنيات، فسأعرض أهم التقنيات وبصورة سريعة جداً، لأن البحث لا يتسع لمثل هذا الموضوع فقد كتبت فيه رسائل جامعية وألفت حوله الكتب، وإنما هو من باب العلم والمعرفة بها ومحاولة الاستفادة منها.
مثلما عرف الشاعر القديم تقنيات فنية كالصورة واللغة والمهارة في استخدامها والأسلوب، كذلك عرف الشاعر الحديث وزاد على ذلك، محاولاً إحداث تغيير في الشكل الموسيقي، ثم الدخول على الأنواع الأدبية الأخرى ومحاولة الاستفادة من فن القصة والمسرح في الشعر، وأكثر من ذلك اعتماد تقنيات فن السينما وتوظيفه في القصيدة المعاصرة*
لذلك سأركز تقنيات مهمة قريبة من منال الشاعر وهي كالآتي:
(1) الرمز.. الأسطورة.. القناع:
يؤكد المحدثون على أهمية هذه الأمور في القصيدة، إذ "إن الرمز والأسطورة والقناع أهم أقانيم القصيدة الحديثة، وبدونها تجوع وتعرى وتتحول إلى مشروع أو هيكل عظمي بجثة ميتة"(3).
فالرمز يشكل أهمية كبيرة، وهذه الأهمية متأتية من منح المفردات والشخصيات والقيم والمضامين بعداً أوسع مما هي عليه عن وجودها المعجمي بالنسبة للمفردات وعن وجودها التاريخي كالشخصية والأسطورة وعن وجودها الديني كالقيم.
ولا أريد أن أسترسل في الحديث عن الرمز فادعو الشاعر المسلم أن يقرأ الكتب التي اختصت بدراسته واقتصر على ضرب الأمثلة فقط:
(أ) الرمز في المفردة:
- المفردة "فعلاً" حاول الشعراء استخدام بعض الأفعال استخداماً رمزياً بإخراجها من معناها اللغوي أو الإصلاحي أو الديني "الشرعي" إلى معنى رمزي يتفق وتجربة الشاعر الخاصة، فمثلاً الفعل "توضّأ" فإن الوضوء معروف في المعنى الشرعي الإصلاحي، ولكن الشاعر المعاصر حاول حرف هذا المعنى الاصطلاحي إلى معنى ذي دلالة رمزية.
يقول الشاعر عبد الكريم راضي جعفر:
حملوا أحزانهم
زرعوا بعض أغانيه على مدن الوجدِ
فتوضأ في صلواتهم التعب(4)
ويقول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد:
كأني توضأت يوماً على شاطئ البحر
بالضوءِ والسمك المسجدي
وأوشكت أغرف في موجةٍ لا تهادن
ثم قُذفت إلى نخلة في الجزيرة صابرة(5)
المفردة "اسماً"" وذلك مثل لفظ "المنارة.. القباب.. المصلى.. المسجد.. القرآن.. المصحف" فهذه الكلمات قد منحها الشعراء بعداً رمزياً للدلالة على قيمة معينة، فكثير من الشعراء حاولوا أن يرمزوا إلى الإسلام بلفظ "القباب أو المنارة" فأعطوها دلالة رمزية، وقسم آخر استعمل هذه الألفاظ الإسلامية بدلالة معاكسة "سلبية" فمثلاً كلمة "القرآن" لنقرأ هذا النص للشاعر ذو النون الأطرقجي:
أيها العاشق المستريب
أنكويت –وقرآن عشقك-
قبل التلاوة، بعد التلاوة(6)
ولفظة المآذن في قول الشاعر حميد سعيد متحدثاً عن فلسطين:
النساء تحدثنَ عنها.. وبكينَ.. وقلتُ:
لعل فلسطين واحدة منه بناتِ الحسينْ
يرتدين اعترافاً
وعلى وجهِ أمي انسحاق المآذن(7)
ب – الرمز في الشخصية: قد يوظف الشاعر اسم شخصية معينة، ويجعلها ترمز إلى شيء آخر كقيم أو معلم.. وذلك مثل توظيف السياب اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رمزاً للقيم الإسلامية التي ضاعت في العصر الحديث، ومحاولة الأعداء طمس كل معلم إسلامي عربي يقول في قصيدته "في المغرب العربي":
كمئذنة تردّد فوقها اسمُ الله
وخُطّ اسم له فيها،
وكان محمدٌ نقشاً على آجرةٍ خضراءْ
يزهو في أعاليها..
فأمسى تأكل الغبراء
والنيران، من معناه،
ويركله الغزاة بلا حذاء
بلا قدمِ
وتنزف منه، دونَ دمِ،
جراحٌ دونما ألم
فقد مات..
ومتنا فيه، من موتى ومن أحياء
فنحن جميعاً أموات
أنا ومحمد والله(8)
وهذه القصيدة فهمها كثير من الناس خطأ، فمحمدٍ صلى الله عليه وسلم هو ليس حقيقة شخص النبي وإنما هو يساوي القيم الإسلامية، مثلما يساوي شخص الشاعر "أنا" الإنسان العربي، أما لفظ الجلالة "الله" فيساوي الروح الدينية التي ماتت في فترة الخمسينيات فترة الحزب الشيوعي الملحد، لاسيما وأن السياب في هذه القصيدة أعلن تخليه عن الشيوعية.
(ج) الشخصية القناعية رمزاً: قصيدة القناع هو محاولة الشاعر تقمص شخصية ما بحيث يستنطق هذه الشخصية "يجعلها تتكلم" سواء كان هذا الكلام يتعلق بالشاعر نفسه، أو هو محاولة استنباط هذه الشخصية، أو غير ذلك، إذ أن الشاعر من خلال القناع "يستطيع أن يقول كل شيء دول أن يعتمد شخصه أو صوته الذاتي بشكل مباشر، لأنه سيلجأ إلى شخصية أخرى يتقمصها أو يتحد بها، أو يخلقها خلقاً جديداً، وسيحملها آراءه ومواقفه تماماً كما يفعل المسرحي الذي يختفي وراء أشخاص من صنعه، يتولون مقل كافة ما يريد أن يقوله، أو يوحي به(9).
وهنا لابد –ونحن نوظف القناع في شعرنا- من أن تكون لنا هويتنا الخاصة بنا، فلا نقبل للشاعر الإسلامي أن يتقمص كل شخصية، فالرسول صلى الله عليه وسلم شخصية مقدسة لا يجوز للشاعر أن يتكلم باسمها أو أن يقول ما يريد بلسانها لذلك كان الشعراء المعاصرون "يحسون بنوع من التحرج من استخدام شخصية الرسول.. تأثماً من أن يتأولوا في شخصية الرسول الكريم، أو أن ينسبوا لأنفسهم بعض صفاته"(10)
فمن الأقنعة التي استخدمها الشعراء السيد المسيح عليه السلام، المسيح من خلال أسطورة الصلب، يقول السياب في قصيدة "المسيح بعد الصلب":
بعدما أنزلوني سمعت الرياح
في نواح طويل تسفّ النخيل
والخطى وهي تنأى، إذن فالجراح
والصليب التي سمروني عليه طوال الأصيل
لم تمتني..
مت كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسم
كم حياة سأحيا: ففي كل حفرة
صرت مستقبلاً صرت بذرة
صرت جيلاً من الناس، في كل قلب دمي
قطرة منه أو بعض قطرة
هكذا عدت فاصفرَّ لما رآني يهوذا
فقد كنت سره..(11)
ففي هذه القصيدة "يتنبه الشاعر إلى معاني التضحية والفداء التي يشارك فيها السيد المسيح ويتعمقه"، أي الشاعر، رمزاً ويتحد به ويطرح محنته من خلال شخصه وصوته"(12)
فالمسيح هنا هو السياب في معاناته.
وأقول كم لدينا –نحن الإسلاميين- من الشخصيات التي صارت رمزاً للتضحية والفداء والشهادة، فهل وظفناها من خلال القناع، كم لدينا فرصة لتقمص هذه الشخصيات لنظهرها للناس أولاً ونعرفهم بها، ثم لنعرض تجربتنا الشعورية كشعراء، ومن بعد ذلك نحاول استبطان هذه الشخصيات لنستعرض على الجمهور ما كان يجول بدواخل هذه الشخصية أو تلك التي أصبحت مثالاً ورمزاً*
(5) الأسطورة رمزاً: ربما يتعجب القارئ المسلم حينما يسمع بمصطلح الأسطورة في هذه الورقات إذ نحن في مجال الأدب "الإسلامي"!!
وأقول إنه لا ضير من توظيف الأسطورة وفق ما نرى –نحن الإسلاميين- فما هو البأس في الاعتماد على أسطورة معينة نستلهما نوظفها في نص، يخدم رؤانا.
فالأسطورة كما يرى ذلك النقاد المحدثون "هي فكر الإنسان، وتجربته الكبيرة في مرحلة من مراحل تكوينه فإنها تمتلك القدرة –شأنها شأن كل التجارب الإنسانية الكبيرة- على الحضور الدائم، أو التجدد المستمر والالتقاء بتجارب الإنسان في مختلف العصور(13).
ثم إن الأسطورة ليست "حلية جمالية تضاف إلى العمل الشعري بقدر ما هي عامل أساسي يساعد الإنسان المعاصر على اكتشاف ذاته وتعميق تجربته، ومنحها بعداً شمولياً وضرورة موضوعية تستطيع النهوض –بما تمتلك من طاقات متجددة- بعبء الهواجس والرؤى والأفكار المعاصرة، وبهذا الفهم للأسطورة ورموزها فإن الأشخاص الأسطوريين سيفقدون داخل النتاج الأدبي شيئاً من هويتهم الذاتية.. ويتوحدون مع الجنس البشري عموماً"(14)
وحين نريد تأصيلاً إسلامياً للاستفادة من الأسطورة فإن غايتنا سامية في ذلك إذ نحن نأخذ الأسطورة ونحرف دلالتها إلى دلالة إسلامية، ثم نحن نحاول أن نختار الأساطير التي لا تصطدم مع عقيدتنا، وذلك مثل أساطير اليونان كالآلهة وأنصاف الآلهة.. وغيرها من الأمور التي تتنافى مع أفكارنا الإسلامية، ونحن المسلمين لدينا من الأساطير العربية الجيدة التي لا بأس بها، وأنا أتفق –بعض الشيء- مع ما ذهب إليه الناقد الإسلامي الدكتور صابر عبد الدايم حين قال:
"اللجوء إلى الأساطير الهندية واليونانية والإفريقية والفرعونية يضعف من أثر النبض الشعري في وجدان المتلقي لأن أذواقنا لم تألف هذه الأساطير ولم تتعايش معها، واللجوء في هذا الاتجاه إلى القصص الشعبي أو القصص العربية القديمة أو القصص التي تجري على ألسنة الكائنات الطبيعية الحيوانية والنباتية خير وأجدى فنياً من الأساطير التي تحكي عن آلهة اليونان أو معبودات الهنود لأن فيها مساساً بالناحية العقائدية عندما نحن المسلمين فشخصينا المسلمة بمنأى عن التفكير الوثني أو التجارب التي تستهين بقداسة الذات العليا، وهذه التجارب أعدها خارجة عن نهج الشخصية المسلمة"(15).
لذا فإن الاستفادة من القصص الشعبي العربي أو القديم "الأسطورة العربية إن صحت التسمية" لا بأس به، وسأضرب منالاً لأسطورة عربية طريفة وهي السندباد الشخصية التي عرفها التراث العربي في حكاياته الأدبية الشعبية، إذ أن السندباد تاجر يجوب بسفينته البلدان بحثاً عن الطرائف، ويتعرض في رحلاته لمواقف شاقة لا يخرج منها إلا بعد عناء ومغامرة، وحتى ينجح الشاعر في توظيف هذه الشخصية الأسطورية أو غيرها لابد له من استكشاف لهذه الشخصية والتفاعل معها أي أن تحمل هذه الشخصية عبء التجربة الإنسانية التي يمثلها الشاعر"(16)
ومن الشعراء الذين وظفوا شخصية السندباد، السياب في قصيدته "رحل النهار" يقول فيها:
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
وجلستِ تنتظرين عودة سندباد من السفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود(17)
يقول الناقد د. عز الدين إسماعيل في تحليل هذه القصيدة:
"وفي هذه الأسطر نجد السندباد الذي نعرفه قد خرج لسفرة من سفراته، طال أمدها (رحل النهار) ولكنه ترك وراءه قلباً ينتظر عودته، فرحلات السندباد –مهما طال أمدها- تنتهي دائماً بعودته، لكن الأمل في عودته هذه المرة قد أخذ يذبل مع مضي الزمن (ها إنه انطفأت ذبالته) يؤكد هذا إن (البحر يصرخ بالعواصف والرعود) والسندباد لا يملك في رحلته إلا السفين والشراع. السندباد الشجاع الهمام قد صار في قبضة المقدور، فليس بيده إذن أن يعود أو لا يعود، ولابد أنه فقد القدرة على الرؤية فالنهار الصريح قد رحل، والليل المظلم قد أقدم، لقد خرج السندباد إذن من منطقة المعروف إلى المجهول، من الذلول إلى العص، ومن الوجود إلى الضياع والعدم..18)
وهكذا يمضي السياب في قص حكاية السندباد حسب ما يرى هو وبوجهه وفق ما يريد.
أقول –بعد ذلك- كم يبدو هذا المعنى ذا أهمية لنا –نحن المسلمين- إذ ننتظر بزوغ فجر الإسلام الذي طال طلوعه والدنيا تنتظره معنا، ألا نستطيع أن نعبر عن هذا المعنى وفقاً للقصة الأسطورية السابقة؟!!
وقبل أن أختم البحث لابد أن أشير إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: حاولتُ أن أستشهد بنصوص لشعراء غير إسلاميين لأني لم أجد خلال إطلاعي على كثير من النصوص الإسلامية توظيفاً لهذه التقنيات، ولذلك وللسبب نفسه كتبت هذا البحث.
الثانية: حتى لا أفهم خطأ بأني معجب بالشعراء المعاصرين ومهمل للشعراء الإسلاميين، فليس قصدي هذا، ولكني وجدت –والحقيقة تقال- أن الشعر الإسلامي فقير جداً، في حين بلغ الشعر المعاصر درجات عالية من الجودة والفنية، وهذا لا يعني أنه لا توجد هفوات في الشعر المعاصر بل هفواته كثيرة، وبنفس الوقت لا يعني ما تقدم أننا لا نملك شعراء لنا فيهم الأمل المعقود.
وختاماً أسأل الله العلي القدير أن يفيد بهذا البحث من يقرأه، وأسأله سبحانه أن يعفو عني إن قصرت في كتابته أو أن قلمي زلّ عن الحق، والله الموفق إلى الخير والسداد.
الهوامش:
(1) ينظر: منهج الفن الإسلامي، محمد قطب.
* وإن كنت لا أرى ضرراً في تطبيق هذه المناهج ولكن بشرط أن نحتفظ بهويتنا الإسلامية (العربية).
(2) النقد الأدبي – أصوله ومناهجه، 7
* يفرق الدكتور عبد الباسط بدر بين هذين المصطلحين فالأول هو للمسلم الملتزم التزاماً عادياً، والثاني هو المسلم الذي التزم بالإسلام منهجاً وطريقاً وفكراً، ينظر: مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي.
(3) "هذا ديننا" نقلاً عن كتاب "العبادة في الإسلام" للدكتور يوسف القرضاوي.
* كمثل قصيدة الشاعر كاظم الحجاج، سيناريو "مقتل جندي" في ديوانه "غزالة الصبا".
(3) دير الملاك، د. محسن اطميش، 121.
(4) عن الفارس والصيف الآخر، 30
(5) الأعمال الشعرية الكاملة، 1/77
(6) الترجل عن صهوة البراق، 176
(7) لغة الأبراج الطينية، 30، 31
(8) ديوان السياب، 394/1
(9) دير الملاك، اطميش، 103
(10) استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، د. علي عشري زايد، 98
(11) أنشودة المطر، 145
(12) دير الملاك، 106
* أعجبني بعض الشعراء الإسلاميين في الفترة الأخيرة حينما حاولوا تقمص شخصية محمد الدرة.
(13) دير الملاك، 121، 122
(14) ينظر دير الملاك، 122
(15) التجربة الإبداعية في ضوء النقد العربي الحديث، 40
(16) ينظر: الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د. عز الدين إسماعيل، 203، 204
(17) نقلاً عن المصدر السابق، 208
(18) المصدر نفسه، 208، 209