عبدالوهاب المسيري شاعرا..

عبدالوهاب المسيري شاعرا..

اغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية شبه ذاتية، شبه موضوعية

ابراهيم درويش

كلما يأتي المفكر العربي المعروف عبدالوهاب المسيري للندن، يجلب لنا عددا من اصداراته الجديدة التي تتولي في العموم دار الشروق في القاهرة اصدارها، في حزيران (يونيو) احضر لنا كتابه المشترك عن الحداثة وما بعد الحداثة ، في رحلته الاخيرة التي قضي معظمها بالسرير بسبب عارض صحي قدم لنا هدية ثمينة، الطبعة الجديدة والمختصرة من موسوعته التي قضي اكثر من ربع قرن لاعدادها، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي جاءت في ثلاثة اجزاء انيقة، مع مجلدين اعدهما الدكتور احمد عبدالحكيم عطية، وقدم لهما الكاتب والصحافي المعروف، محمد حسنين هيكل في عالم عبدالوهاب المسيري: حوار نقدي حضاري حيث وثق المحرر عطية للمقالات التي كتبت عن تجربة المسيري، حياته الفكرية وسيرته كمثقف في القرن العشرين، وباحث عاش تجربة شك خاصة، واكتشف الايمان بعد سفر عميق في الكتابة والقراءة وتحليل وتفكيك المفاهيم الاساسية التي قامت عليها حداثة الغرب، اعرف ان الدكتور المسيري، سرقته الكتابة الفكرية والالتزام الفكري، ايا كان، للتعريف بالفكرة االصهيونية التي ادت لاستعمار فلسطين، وكيف تعاونت الحداثة الغربية في صناعة هذا الكيان علي فلسطين لمواصلة المشاريع الاستيطانية الاحلالية والحلولية، فالدكتور المسيري هو اديب، وناقد درس الادب الانكليزي في الولايات المتحدة، وكان من الذي قدموا انثولوجيا عن دراسات عن ادب المقاومة الفلسطينية بالانكليزية، من خلال عمله الاول عاشق من فلسطين وقصائد فلسطينية اخري 1972، عرس فلسطيني: انثولوجيا ثنائية اللغة ـ انكليزية ـ عربية لشعر المقاومة الفلسطينية ((1983 وفي عام 1996 قدم مع كريمته انثولوجيا عن ادب القصة

الفلسطينية ارض الحجر والزعتر ، وله دراسات في الشعر الفلسطيني، عن الموضوعات الكامنة المتواترة في الشعر الفلسطيني (فلسطينية ولم تزل) ((2001، واعرف ان المسيري ناقد قدم عددا من الدراسات بالانكليزية عن الادب العالمي، والادب العربي، مثلا تحليله لتصارع الحداثة والتقاليد كما تشير اليها رواية دومة ود حامد للطيب الصالح، الاديب السوداني المعروف، وله مشاركات مهمة في ادب الاطفال اضافة لاعماله الكثيرة في نقد الحضارة الغربية والفكر الصهيوني، والفردوس الارضي الامريكي، الذي عاشه اثناء دراسته في كولومبيا 1959 ورتغرز 1969، وهذه الاهتمامات، خاصة اهتماماته في ادب المقاومة الفلسطينية، في مراحله التأسيسية واعجابه بشعر محمود درويش تشير الي جانب اخر، خفي لم اكن اعرفه وهو ان المسيري باعتباره شاعرا.

وهذا الامر يعيدني الي بداية الحديث، فمع الهدايا الثمينة التي حملها في رحلته الاخيرة للندن، ديوانه الشعري اغاني الخبرة والحيرة .. والبراءة: سيرة شعرية...

سيرة شبه ذاتية شبه موضوعية ہہ الصادر العام الماضي في القاهرة، والسيرة الشعرية هذه تقرأ كمواز لعمله الهام في مجال السيرة الذاتية.. رحلتي الفكرية ـ في البذور والجذور والثمر : سيرة غير ذاتية وغير موضوعية ، وهي التي قدم فيها صورة عن تشكل مثقف عربي في منتصف القرن العشرين، وتحولاته الفكرية من الايمان (التقليدي) الي الشك (الالحاد) او اللايمان ومن ثم العودة لمنابع النور الايمان (ايمان الفلاسفة والمفكرين والصوفيين).

ويمكن قراءة سيرة المسيري الشعرية في اطار خطي يتابع مراحل حياة الشاعر ـ المفكرـ من البداية للقمة ـ اي الخروج من رحم الحياة الرعوية ـ المجتمع التراحمي في مدينته دمنهور ـ الي عالم المدينة القاسية، المشوهة بين ماضيها وحاضرها المزيف ـ القاهرة مثلا او الاسكندرية ـ ولعالم المدينة ـ الحديد ـ البرود ـ العزلة في الشارع السابع نيويورك مثلا ـ وهذه المدينة هي المدينة الزانية القاسية، مدينة الارجاس والضياع والغياب علي الرغم من ان بانيها هو الانسان الذي قدم نفسه ضمن منظومة الحداثة الغربية كمركز للوجود واله مادي.

ويمكن البحث في تفاصيل الرحلة الشعرية هذه عن مفاصل، رموز ومجازات، وتفكير عميق

باطن يحتفي بالعالم والانسان، والانسان هنا مهم في فكر المسيري، اذ يحاول دائما تفصيل وقياس حجم المسافة بين الانسان كموضوع وذات، بين الانسان كفرد ـ شخص وفاعل ـ موضوع في الحياة.

وتحليل موقف المسيري من الانسان والفن يعين بالضرورة علي فهم سيرته الشعرية، التي عبر عنها بالشبه الموضوعية علي خلاف مذكراته التي كانت غير موضوعية، لسبب بسيط ان الشعر بطبيعته يجب ان يكون شخصيا يتحدث عن التجربة باعتبارها في مركز الوجود وخارجه او علي هامشه، ولهذا ولتجاوز هذا الجانب الموضوعي الذاتي لجأ الشاعر ـ المفكر هنا الي تحديد مفاصل حياته، التي كما اشرنا تبدأ بالبراءة الاولي، براءة الطفل الذي يريد اكتشاف العالم، براءة الولد ـ الصبي الذي يشتاق للمعرفة والكلمات، ويمضي الكاتب صاعدا الجبل، وليس مواجها له كما في حالة جومو كيناتا، السياسي الكيني المعروف وكلما صعد الجبل، ضاقت المسافة، وتغير المزاج، وحصل تشوش، واكتشاف، وتحلل من الاعباء، وتحرر، وغموض، وغيوم وبعدها شمس تستقر

علي القمة. والقصائد هي تسجيل لحياة الشاعر في شبابه، وحتي وصوله زمن الحكمة اول قصيدة مؤرخة عام 1956 واخر قصيدة تعود الي 2002 وبين القصيدة الاولي المتفائلة المثقلة بحس المغامرة والرومانسية والسذاجة الشعرية والقصيدة الاخيرة التي تكمل الرحلة وتلملم اطرافها وتحدد معالمها النفسية تكمن طاقة فكرة هائلة وشعرية، فقصائد المسيري ذهنية تحتاج لقراءة علي اكثر من مستوي ومعرفة بالعالم والشاعر، ليس كشخص ولكن كموضوع وفكرة، خذ هذا التفاؤل الحس الجميل نحو امنا الارض بتعبير العقاد لو كان لي الف ذراع، لو كان لي الف قدم، لضممت الارض الي صدري، واغمضت عيني في شغف سطور اربعة ليس فيها الا عاطفة، طاقة شابة تريد الرحيل والاكتشاف وتتعامل مع الارض ـ العالم بنفس الحس الرومانسي لعالم المدينة ـ الريف ـ الحب البريء، الاشجار الهدوء والرتابة، والحب المجاني للانسان والارض والحيوان، هنا مجتمع متكامل متراحم عطوف ودود يعيش بحس دورة الطبيعة لا الآلة، اي يعيش حسب النظام الكوني المقدس، لا حسب نظام الآلة الجديد. وقارن هذا الموقف الشاب الغر من الحياة بنهاية التجربة التي تشير الي عبور الشاعر الجسر، الصراط المستقيم، ومر من طريق الالام الي شارع او محطة السلامة، عبرتها وحيدا ..

عبرتها جميعا: عبرتها وحيدا، صحاري الظلام، يا سحابة الضياء، ولكنني وجدتك هناك تقفين شامخة وحائرة، تحملين زهرة الحياة والبراءة، كتمثال رخامي جميل، دبت فيه الحياة فجأة، فاستمر فيما هو فيه، لا يلوي علي شيء ، واقرأ بعد كل هذا الحس المثقل بالتعب والفرح للوصول لبر السلامة والذي لم يكن بثمن، فالبراءة والضياء والحقيقة التي عثر عليها الشاعر هنا لا يمكن ان تقف مع ذلك الشعور بالحب للارض التي يريد احتضانها بشغف، هنا حب بلدي، وفي نهاية الرحلة، عشق صوفي فكري باطني جاء بعد رحلات السندباد ـ الشاعر ـ المفكر وحيدا، شريدا، كسيرا، اسيرا، سجينا، حزينا، طليقا، سعيدا، فريدا، شريكا، جميعا .

وبين هاتين الرحلتين، نعثر علي رحلات متعددة، والمهم في هذا السياق ان الايقاع المتفائل الغنائي بطبعه الذي يظهر في القصائد الاولي، يتلاشي شيئا فشيئا لايقاع الفكرة والحكمة، فقصائد العقود التالية من حياة المسيري الشعرية مشغولة اكثر بتفكيك الرموز الحجر، الثعبان، السلطة والمجد ، واعطاء معني للكلمات، ففي مرحلة التشوش الاولي، تشوش المثقف الذي يبحث عن مكان له في جيل الستينات في مصر القرن الماضي، وجيل انظر خلف بغضب وثورة الطلاب وجيل المثقفين اليساريين الناشطين ضد الحرب في امريكا التي عاش لحظاتها المسيري تلقي بظلها علي اختيار الشاعر هنا للكلمات وطرق التعبير، وفيها تمثل المدينة، مدينة الشرور، غوثام المدينة الكئيبة، المظلمة التي يحاول باتمان (الرجل الوطواط) حمايتها من الاشرار، والمدينة، والحالة هذه تتمظهر في قصائد المسيري باكثر من رمزـ فهي مدينة

الشر بالوانها المختلفة وجشعها، خذ مثلا قصائده الامريكية، التي يقول فيها ان كل شيء وفير هناك والبطون متخمة ومع ذلك تقرع الطبول وتنفخ الابواق وتشعل النيران في العالم (حكمة جميلة تشير لوضعنا الحالي الذي تقوم فيه امريكا بتدمير العالم للحفاظ علي تخمة الامريكيين، هذه المرة أي الذين صوتوا لبوش في الانتخابات الاخيرة) وكلما صغر عالم المدينة واقترب من السماء اصبحت سامية جميلة، مضيئة، احجارها تتكلم وتفيض بالضياء، مقارنة مع مدينة الحداثة، المتعبة ـ الباردة التي يتربع فيها الانسان البطل الخسيس النبيل...ذلك التناقض المضحك: الانسان .

قسم الشاعر ديوانه لمفاصل تبدأ اولا بالافراح الاولي، هنا غنائية جميلة، ساذجة واشعار تحرص علي ايقاع القصيدة اكثر من الفكرة، وهذه السذاجة لا غضاضة فيها، فالشاعر هنا في ربيع شبابه، متحمس يكتب اشعارا للعامل المصري، وبالعامية احيانا كل يوم لي جناح.. ينبت فاسبح طائرا.. فوق القري، فوق المدن، بين القلوب الباسمة ، ورغم هذه البساطة الشعرية والفكرية يذكرنا الشاعر بـ سقراط الساخط الذي يغرس في قلبه الاما قضايا اجتماعية ولكن الاكثر من هذا يغرس رأسه بالشوك، تفاؤل الشاب هنا له جانب قلق، ثورة وعدم استقرار، وكل هذه اعراض رومانسية الشاب الذي يريد افتداء العالم، والفداء هذا ليس قائما علي التزام او ايمان بقدر ما هو نرجسية خاصة فوق الجبل ساصلب ذاتي، حتي يصعد شدوي لكم ، اختيار الجبل، واسماع الجماهير شدو الشاعر له بعد دعائي، يريد موتا احتفاليا، وللقلق جانب اخر، هو الوحدة، التي لا تعني عزلة المفكر، بل عزلة تعطي للشاب حسا بالاهمية انظر مثلا

كسر الشاعر قيثارته .. سار وحيدا لا يؤنسه.. في وحدته لا اخوان ولا خلان.. فهم صم او عميان ، المفكر الحقيقي لا يحتاج لكي يكسر قيثارته ولا لخلان او اخوان، فهو يبحث عن الفكرة التي تشكل عالمه، وفي هذه المرحلة تبدو التأثيرات الرومانسية، والرعوية واضحة في عبارات ومجازات وايقاع القصائد، فيها طاقة عاطفية كبيرة. في قصائده الستينية (الاحزان الاولي) نبدأ بملاحظة اشكال التحول الفكري واضحة، هنا القصائد مسبوكة بايقاع ثقيل، فيها رمزية عالية، وتوترات داخلية بحيرة الحجر .. يا بحيرة الحجر.. اموت في ضجر... بحيرة الحجر.. امر بالدخان والذباب والعفن هنا صور حداثية، تسخر من الآلة والعدم والحياة الجديدة، الافكار والعقارب تلاحق الشاعر رأسي ملآن بالعقرب.. يا ويلي هل لي من مهرب؟، ويبدو مأزق الشاعر في الرحلة المجيدة التي ينقض فيها حكاية وفاء زوجة يوليسيس وعبثية رحلته التي لا تصل لشيء، ففارس البحار والقفار تافه حقير.. محاول من زيفه الفرار، وكاذب سفيه، يصلب الرجال فوق عود قش ، يوليسيس سفيه، خسيس، تافه، مكتوب عليه السفر، لان رحيله في العالم المقدس رؤية الاله وابصر الكمال والجمال ما هي الا هروب من واقع البيت، المرأة الخائنة الويل، كل الويل، لو تعود للوطن، فالزوجة الحنون في مضاجع الرجال، تمضغ اللبان، وفوق نولها قد خيم الظلام ، ومجرد الاشارة للبان يعني ان اسطورة المرأة التي قضت حياتها تغزل علي النول هربا من الخطاب الواقفين علي الباب، كذبة، فالمرأة هنا بلا حياء. المسيري في هذه المرحلة، غني بالافكار في قصيدة السكون والحركة بين الانتقام والجمال

الساكن وخراب العالم شكسبير، واليوت ودافنشيِ ولوحة الجيوكندا لكن الجيوكندا ما زالت مبتسمة... اليد الشاحبة اشارت للجوقة.. هاملت ياهاملت.. ما زلت ايا هاملت في الصفحات.. بالحزن تغني .. بالموت وبالابطال... . في اغنيته لامريكا التي يدخلها مثل طائر، يمامة يكتشف في الشارع السابع اللعين صورتها يا بلدة العبيد، يا وردة وشارة الحداد . في احزان الفردوس الارضي يكتشف الشاعر ان لا حاجة للحديث/ الكلام، ان كانت الكلمات جلاميد ثلج تسحق الفؤاد فيصيبه البكم ، وحتي عندما ينشب اظفاره في فخذه او فخذ/ الذات المعادلة له لا يعثر الا علي عظام وتراب الزمن لا تسعف حكمة الاجداد او الفلاسفة في دفعه للكلام. كان الشاعر طوال هذه الفترة، ما بين ولادته 1937 وحتي عام 1971 يعيش عالم الحيرة، بين المادة وما بعد المادة، بين الشيخ الذي صعد المنبر وطائر الفردوس الذهبي الارض الذي يبتعد عنه الان. في هذه الفترة يصارع الشاعر عالم البراءة الصفحة البيضاء ، يحاول السير علي الصراط المستقيم ، ولكنه لا يزال يحمل في عقله الاف الافاعي والثعابين.. ولا اجد في صفحة يدي البيضاء سوي العدم .

ومع ذلك يعثر الشاعر علي الجانب الذي حاول نسيانه لزمن طويل صغيرتي، لقد زال عني الزكام وضيق النفس.. دون اللجوء الي ادوية القرن العشرين.. رغم اني من المؤمنين بالعلم، وبقوانين الحركة ولا اؤمن بما وراء المادة ، هنا اكتشاف جديد، عودة من الصعود الي الصعود الاخر، صعود سماوي، علي خلاف الصعود للفردوس الارضي، الرموز، ووتيرة الاسئلة، وشكل السؤال تتغير تلك الوجوه العربية القديمة، الوضاءة ، و الايدي الناعمة التي ستعانقني اصل الي مدينة الله ، وخلال الطريق الطويل للجنة السماوية، تحضر الرؤي حينما جاءني النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مرة اخري، انفجرت باكيا، فابتسم.. ثم سمعت هذه الكلمات: ابن آدم.. في مركز العالم فلتقف ثابتا لا تتزحزح، فقد استخلفك الله في الارض، فانفجرت اساريري ولم اخرج من الحلم . في هذا الجزء من الديوان يستعيد الشاعر صورة الانسان، كمركز للعالم، كما في النموذج المادي ولكن بلا سلطة روحية علي الكون. ومجرد الاعتراف بهذه الحقيقة، تجعل الشاعر يعيد نسج السؤال والمنول بطريقة مختلفة تشير للعودة

هانذا قد عدت يا قدس الاقداس، لاقف فيك واتعبد، ها انذا قد عدت، بعد طول بعاد، لا لبس عباءة الغناء وامسك النجوم والهلال . ولعل من اجمل قصائد هذا الديوان اغان عثمانية في استنبول ، حيث تحمل القصيدة كل رموز الحداثة المعاصرة الطائرة واحزمة النجاة واقنعة الاوكسجين ، ولكن حولها، ملائكة ها أنذا قد عدت يا دار السلام، اقرع بواباتك القديمة، ادخل تحتضني الاعين الرحيمة، تلفني الديار ، واختيار الشاعر تركيا العثمانية، له دلالاته، فهذا البلد يعاني من حداثته المشوهة، والتردد بين عالمين، تماما كما تختلط التصاوير البيزنطية، بقارئ

القرآن الذي لا يفهم معانيه. وربما جاء اختيار استنبول، والفتح واستحضار صورة أبي ايوب الانصاري، محاولة لتحديد معالم ازمة الانسان العربي والمسلم المعاصر، والتي بدأت مع عصر التحديث. تمثل الرحلة العثمانية للشاعر بمثابة استعادة للزمن البريء وهنا في الجزء الذي يليه قصائد كلها عن البراءة، والسكون الخاشع الذي يختلف عن الصمت الجليدي في المدينة الحاضرة، وفي هذا القسم بيارق وانتصارات وشموس ومنارات ومساجد، وقديسون، وصحراء شاسعة.

ويتغلب الشاعر علي حس البرودة، ويبتعد عن الموائد العارية حيث يصل الي الشجرة الصوفية، والتي تقوم بتفجير الينبوع الصافي في قلب الشاعر ولا اري الا وجهك يا رسول الله.

في قصائد اميرة القهوة، يتمثل الشاعر عالما اسطوريا، ويبدأ مع الانتفاضة الفلسطينية 1987 رحلة جديدة، هنا القصائد مثقلة بالرموز مليئة بالحياة، فيها تفاؤل واضح، وقهوة بما فيها من عبق جميل، واغاني براءة واطفال، واحمد الزعتر، الرمز الفلسطيني المثقل. ويودع فيها الحزن في ظلال شجرة المودة.. نحتسي القهوة معا.. فيلتحم المعني بالكلمات.. ويمتليء الصمت بالاغاني والاشعار ويظهر وجه الحقيقة العاري . يصل الشاعر لسلام مع نفسه بعد رحلته في عالم الوثن وثنيا كنت بالامس.. وثنيا كنت.. اعبد الاصنام والصور.. اما اليوم فاسقف يا ربي عند عتباتك خاشعا، احمل غصن صفاء المودة.. وانتظر مشيئتك، ان تهطل رحمتك، فيكلل قطر الندي الزهر . الشاعر يلح علي رموز الاميرة، والصغيرة والحكايات والقصص والفارس الذي كانه القديم.. تقف علي عتباته، تعلو وجهه ابتسامة خفيفة، وتمر علي جبينك سحابة الاحزان ، هنا الشاعر اكتمل في نضوجه، وحكمته، صار مليئا بالحكايات والاماني الجميلة، صار قادرا علي البساطة، والفرح مع البراءة التي تمثلها الاميرة الصغيرة، التي لا تحضر الا في الحكايات.. والشاعر ينثال عندما يمسك القلم تسيل الالوان انهارا واشجارا وطيورا ورجالا ونساء.... . يختصر الشاعر رحلته قائلا وتجلسين بين اكوام الورق والكتب.. كطائر ضل طريقه في السماء الشاسعة... .

قصائد المسيري، مليئة بطاقات شعرية ولغوية، علي صعيد الرمز والعالم الماورائي، فيها حركية عالية، وموسيقي جميلة تتحرك حسب مزاج الشاعر وزمنه، وتغطي هذه الاشعار مساحة خمسين عاما من حياة الشاعر. وفي الكثير من ملامحها ذكرتني، باعمال الشاعر السوداني، محمد عبد الحي، والعودة الي سنار، العودة للنبع، او العودة للذات، ولكن عودة المسيري تختلف في سياقاتها وملامحها، ربما ما يجمعهما هنا رمز المدينة، والعودة والحس الصوفي. وذكرتني ايضا باعمال عبداللطيف عقل، وحسين البرغوثي. ولكن الشعر عند المسيري هو جزء من رحلة الحياة، وتطور مع تطور حياة الشاعر. وفيه اشعاره استعادة للاساطير الحديثة وميثولوجيا الفداء في تجربة الهنود الحمر، وتقاليد مصر الفرعونية، وحتي الصين وشجرتها التي تعيش 37 عاما قبل ان تزهر، زهرتها اليتيمة، وتموت. ونأمل ان لا يكون هذا هو الديوان اليتيم للمسيري.