قراءة في مقال الدكتور حسن الأمراني
قراءة في مقال الدكتور حسن الأمراني:
قصيدة "حالة حصار" للشاعر محمود درويش
هل تبني على الأساطير اليهودية المعاصرة؟
نعيم الغول
سؤال تمهيدي
قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نسأل : هل يجوز لأحد أن يخرج على خط المديح الذي ظل يكال " للنجم" الشاعر الفلسطيني محمود درويش؟ هل درويش فوق النقد؟ هل ندخل في منطقة محرمة إذا تناولنا نصا من نصوصه وحللنا مرجعياته ووقفنا وقفة تأمل عند بعض محطاته؟ ألا يجوز لنا أن نقول "بلى ولكن؟"
حادثة صغيرة
في بداية هذا العام قام قاص مغمور بقراءة عدد من قصصه في رابطة الكتاب الأردنيين فرع مدينة اربد، وكان من بين تلك القصص قصة بعنوان "الربابة" تتحدث عن انشغال النقاد بمحمود درويش وتجاهلهم لبقية الشعراء. وثارت ثائرة أنصار درويش واعتبر أحدهم القصة تجريحا في رمز من رموز الشعب الفلسطيني ( وما أكثر رموز هذا الشعب الذين لم يفلحوا في تخليصه من الاحتلال)وقال آخر أن محمود درويش " قامة " لا يصل إليها أي شاعر على وجه الأرض في هذا العصر ولا يجوز لأحد أن يفكر في مطاولتها او التطاول عليها، وهمس ثالث في أذن القاص المغمور بان من الأفضل له إتلاف القصة قبل أن تصل إلى محمود درويش فيرفع قضية ضده، ولم تفلح محاولة القاص المغمور ترقيع الأمر وكانت النتيجة أن نقلت الحادثة إلى المحرر الثقافي لأحد الصحف المحلية الواسعة الانتشار وهو من المولعين بمحمود درويش فحرم نشر أية كلمة مما يكتب ذلك القاص المغمور الذي تجرأ على العلامة الفارقة الوحيدة في الشعر العربي الحديث.
مع أجواء القصيدة
ونعود إلى السؤال حول قصيدة "حالة حصار" وننقل قراءتنا لمقال نشره الدكتور حسن الأمراني رئيس تحرير مجلة المشكاة المغربية بعنوان" الأساطير المؤسسة لقصيدة (حالة حصار) لمحمود درويش ". وكي لا يبدو الأمر انتقاصا من الشاعر ومكانته ختم الدكتور الامراني مقدمة المقال الطويلة بالحديث عن مكانة الشاعر الكبيرة حيث قال:" محمود درويش واحد من الشعراء الذين ارتبطت أسماؤهم بفلسطين بل لعله أشهرهم لا لأنه فلسطيني فحسب بل لأنه لا يفتأ يفاجئ قارئه بالجديد فنا ورؤية."
ومع هذا لا يكتمنا الدكتور الأمراني شعوره بالحيرة أمام قصيدة "حالة حصار" .يقول :" القصيدة محيرة تكاد تبني على أساطير اليهود المعاصرة وربما كانت بعض مقاطعها قابلة للتأويل…. إلا أن مقاطع أخرى تتأبى على التأويل لتصب في نهاية الأمر فيما يخدم المطبعين على اقل تقدير."
ويحذر الأمراني محبي درويش من أن قراءته للقصيدة قد تصطدمهم. ولكنه لم يذهب بعيدا أو لعله آثر حسن الظن فعاد واعتبرها كبوة "جواد" ولم يشك في انتماء محمود درويش لشعبه وقضيته رغم الظلال التي تخيم على موقعه . ورغم ذلك فهو أي الأمراني لا بد من أن يقول كلمة الحق لأنه أحق أن يتبع ولا مندوحة من استنطاق النص حتى وان كنا نحب محمود درويش ويذكر بما قاله درويش نفسه: " ارحمونا من هذا الحب القاسي."
يرى الأمراني أن السلام الذي تدعو إليه القصيدة سلام جارح [ للفلسطيني والعربي] فعلا، وهو يقوم على عدد من الأساطير؛ أساطير يونانية لم يعرف عن درويش اللجوء إليها إلا مقتصدا، أما الأخطر فهي الأساطير اليهودية المعاصرة التي تريد إسرائيل أن تجعل منها حقائق راسخة وليست أساطير تبتز بها شعوب الأرض ودولها.
يدخل المقطع الأول من بوابة الأسطورة اليونانية ، وينجح في إثارة تعاطف القارئ حين يتحدث عن المسافة الفاصلة بين الجسد الفلسطيني والقذيفة ، ثم يعبر الشاعر إلى توجيه الدعوة إلى الجنود [المحتلين القتلة] الذين يقيسون كل شيء بمنظار دبابة" يدعوهم إلى الدخول وشرب القهوة مع الفلسطيني كي يشعر الفلسطيني انه بشر مثل هؤلاء الجنود.
"نطمئن إلى أننا بشر مثلكم"
ويتساءل الأمراني إن كان هذا سيشعرهم بكينونتهم الإنسانية مع تأكيد الشاعر على ان اليهودي القاتل يحس بكينونته ولكننا كضحايا لا نحس بها وهي درجة من الإحساس بالدونية. فبدلا من القول اخرجوا من صباحاتنا كي نطمئن أنكم بشر مثلنا انقلبت الآية وصرنا نحن الذين نشك في كينونتنا الإنسانية مقابل اليقين بكينونة القاتل الإنسانية . وربما كان الأمر كذلك في القناعات اللاواعية لدى درويش بحيث ينظر إلى الجندي اليهودي على انه البشر وعلى الآخرين أن يفعلوا شيئا ليثبتوا انهم بشر مثله، وربما كان هذا الشئ دعوة إلى البيت وتناول القهوة شيئا من هذا.
لكن الدكتور ألأمراني يشغله أمر المقارنة بين موقف درويش القديم الذي لفت إليه الأنظار في قصيدة (عابرون في كلام عابر ):
"أقيموا حيث شئتم ولكن لا تقيموا بيننا"
وموقف درويش الحالي هو دعوتهم إلى شرب القهوة . هل تغير موقف محمود درويش من الطلب الصريح بالخروج إلى حيث ألقت إلى الدخول وشرب القهوة وإيجاد وقت للتسلية ولعب النرد وتصفح الأخبار في جرائد أمس الجريح؟ و هل ظل درويش على رده الشهير يوم غادر بلده فلسطين وقيل له أنت قلت : "وأبي قال مرة
الذي ماله وطن في الثرى ماله ضريح ونهاني عن السفر"
فرد: غيرت موقعي ولم أغير موقفي. هل يؤدي التلاعب بالمسافة بين العين والفاء إلى نيل جائزة إسرائيلية ؟
لكن الدكتور الأمراني يرجح – ودائما من موقع حسن الظن- أن الشاعر يعكس حالة الاضطراب في الموقف العربي بين "اخرجوا من صباحاتنا" وبين الدعوة إلى المصالحة.
درويش يصادر الزغرودة لصالح الدمعة
وكان لا بد للدكتور الأمراني من ان ينعطف إلى نقطة هامة ينبه إليها القارئ المسلم والفلسطيني المسلم [صاحب القضية الذي لا يجد غير جسد أبنائه يقاتل به] تلكم القضية موقف محمود درويش من الإيمان بالغيب بصفته الدافع المحرك الأكبر للفعل الإستشهادي. وللتذكير فقد سعت معظم وسائل الإعلام الموجهة إلى تصوير هذا الفعل بأنه عملية انتحار ومظهر من مظاهر اليأس لمعرفة سدنة التضليل الإعلامي بان الانتحار مرفوض في وجدان المسلمين فجاء اختيار كلمة انتحاري لتهز الإيمان بشرعية هذا الأسلوب في مقاومة المحتل. فهل موقف درويش من هذه القضية مناقض لهذا السعار الإعلامي أم انه يصب في قناته؟ يقول الأمراني بان الاستشهاديين والاستشهاديات يهبون أرواحهم رخيصة لاعتقادهم بالجنة وسعيهم لها. ويقول إن القصيدة تنفي هذا الإيمان بل وتسخر منه بصورة علنية فليس – حسب الشاعر- غير بهجة الحياة على هذه الأرض وما عدا ذلك أوهام. بل يمعن الشاغر في تنكره لمشاعر الشعب الفلسطيني الذي يقيم الأفراح للاستشهاديين ولزغاريد الأمهات ويعتبر ذلك نوعا من التضليل لأنه ينافي الشعور الإنساني وهو الحزن أمام الموت والقتل. ويعرض الشاعر على لسان الشهيد تصورات مادية يسخر فيها من نعيم الآخرة فهو نعيم زائف. تقول القصيدة:
"الشهيد يوضح لي :لم أفتش وراء المدى .. عن عذارى الخلود.. فإني احب الحياة على الأرض بين الصنوبر والتين.. لكنني ما استطعت إليها سبيلا.. ففتشت عنها بآخر ما املك .. الدم في جسد اللازورد."
و زغاريد الأمهات [مظهر التحدي واستمرار المقاومة] كاذبة ،وفقط دموع الآباء[مظهر الضعف والهوان] هي الصادقة. يقول شاعر القضية الفلسطينية الأول والأشهر :
"الشهيد يحذرني : لا تصدق زغاريدهن
وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا"
ويتساءل الدكتور الأمراني إن كان هذا عزاء أم دعوة إلى التخاذل . ولكن الأمراني يكتشف بان درويش ملحد لا يؤمن أصلا بوجود الله ولا بما يرتبط به من غيبيات ولهذا فهو منسجم مع فكره الخاص وان تناقض مع إيمان الشعب الفلسطيني. فها هو يصرح بعدم إيمانه بالآخرة والقيامة:
" نحب الحياة غدا .. عندما يصل الغد سوف نحب الحياة .. كما هي ، عادية ماكرة.. رمادية أو ملونة .. لا قيامة فيها ولا آخرة".
ويعلق الدكتور الأمراني باستنكار:" ما الذي يبقى إذن حين نكفر بالقيامة واليوم الآخر؟"
الأساطير طرقت باب درويش حين احتاج إليها :
الأسطورة الأساسية التي بنت عليها القصيدة من أجل كسب ود الجندي الصهيوني (القاتل كما يشير درويش) ودغدغة عواطفه تجاه السلام لعله يتذكر ما نزل به من ألوان العذاب على يد النازيين فيرتدع عن إنزاله بالفلسطينيين هذه الأسطورة أو الكذبة الكبرى هي " الهولوكوست". وقد أثبت الباحثون المنصفون عدم ثبوت وجود غرف الغاز التي يتحدث عنها اليهود، واثبتوا وجود مبالغة شديدة في عدد الضحايا من اليهود حتى فاق هذا العدد عدد اليهود في جميع أنحاء العالم قبل المحرقة المزعومة. ومن المعلوم أن كل باحث يحاول التشكيك في صدق الرواية الصهيونية يصفى إما جسديا او معنويا ويرمى بتهمة معاداة السامية التي أصبحت الآن لا تلاحق مواطني الدولة نفسها بل مواطني دول غيرهم كما أمر الرئيس الأمريكي وزارة خارجيته بذلك.
باسم هذه الأسطورة يقتل الشعب الفلسطيني ويذبح ويهجر [وبالشعر يضلل]. وتتسلل الأسطورة إلى وعينا في ثوب شعري جميل لتكتسب بهاء الحقيقة :
"[إلى قاتل] لو تأملت وجه الضحية
وفكرت ، كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز
كنت تحررت من حكمة البندقية
وغيرت رأيك، ما هكذا تستعاد الهوية"
ولا يجد الدكتور الأمراني في ذلك غير تسليم الشاعر بأسطورة الهولوكوست .
هنا يمد الشاعر يديه متضرعا [إلى القاتل] ويستجديه أن يتذكر غرف الغاز لعل ذلك يوقظ في نفسه الشعور بالرحمة فيتخلى عن البندقية. لكن العكس هو الذي يحدث تماما فالجيل الذي يذبح الفلسطينيين دون رحمة هو الذي يتذكر غرف الغاز اكثر ويزرعها في وعي ولا وعي أطفاله. شارون البولندي مثال رائع ينفع في مثل هكذا موقف. هل استعاد شارون وموفاز وبيغن ورابين وبيريز وعشرات الآلاف من القتلة الآخرين هويتهم من خلال تذكرهم للمحرقة؟ ربما كان درويش واهما؛ فمن خلال خلق هولوكوست فلسطيني يجد القتلة هويتهم.
يؤكد الأمراني أن الوهم يستحوذ على الشاعر (ثانية ) فينسج أسطورة جديدة من خياله تجعل الذئب والشاة أخوين ويحلمان مثل الملاك [درويش] بان الحياة هنا [ على الأرض المغتصبة] لا هناك [ في ألمانيا التي تدفع المليارات من الماركات كلما تذكرت].
شاعر القضية ينسج حلما آخر بان القاتل لو ترك الجنين حيا وزال الاحتلال فسيولد الجنين ويكبر ويدرس في الجامعة العبرية ويحب فتاة يهودية ويتزوجها وينجب فتاة يهودية (بالولادة)، أما إذا قتل الجنين فقد قتل ابنته وحفيدته وزوجها العربي (ثلاث حمائم بطلقة واحدة).
ويلتقط الدكتور الأمراني خيط الحلم من درويش ويفرغه على الواقع : ويضع محمد الدرة مكان الجنين.
ولا نعرف إن كان أحد من أبناء المثلث والجليل قد عايش التجربة ذاتها التي يحلم بها الدرويش وصار حمامة من الحمائم اليهودية أم انه ظل حمامة عربية تسقط برصاص يهودي في أم الفحم؟
شاعر القضية الحالم يحل مشكلة الاحتلال بهذه الطريقة فيتحقق السلام ويصعد بوقار إلى المنصة و يتسلم جائزته التي لم تكن فلسطينية بل إسرائيلية ولم يفاجئ ذلك محبيه أبدا فقد كانوا مشغولين بحفظ ما يقول على جلد الجفر .