شعرية القص واستراتيجية الكتابة
شعرية القص واستراتيجية الكتابة
قراءة في " الكلام بحضرة مولانا الإمام"
د.إبراهيم القهوايجي
" إن الجمال الحق يتجلى في الشيء الذي لا يعني إلا نفسه،و لا يحتوي إلا نفسه ".
موريتز
تفاجئنا أضمومة علي الوكيلي القصصية الأولى بقدرتها على رسم لوحات متكاملة تعبر عن قسوة فترة تاريخية مغربية
عربية ، وهذه اللوحات / القصص بالغة الوضوح، وكثيرة العمق والدلالات ، إذ تستحيل رؤى مكثفة تحفل بموضوعة السلطة ، بما هي تاريخ عربي، أبدع مجموعة من الانكسارات الممتدة ، التي تتولد عنها سلط أخرى أشد وقعا على الإنسان العربي، كل ذلك يقدم عبر محاكاة ساخرة لأشكال تراثية ، قائمة على جمالية التوتر والتنسيب والتعدد والتجريب.. ، وهذه قراءة من بين قراءات محتملة قد تسمح بها نصوص هذه المجموعة القصصية لما تكتنزه من عمق رؤيوي وإيحائية ثخينة ..
العتبـــات النصـية :
تسعفنا قراءة العتبات في استجلاء طبيعة النصوص وفك شفراتها ، ومن بين مجموع العتبات نتناول : العنوان وأيقونة صورة الغلاف.
1-عتبة العنوان :
بما أن العنوان يمثل دليلا لتمييز نص عن آخر، ويفتح أفق القارئ على كون أدبي معين ، محفزا إياه على مضي الاطلاع عليه قصد إشباع توقعاته الجمالية ، فإن عنوان :" الكلام بحضرة مولانا الإمام" قد يسعفنا في استجلاء بعض الاحتمالات التي تتداعى ترةيبيا لتشكل مركبا اسميا مضمر الخبر ، المتعلق بالجار والمجرور،) بحضرة (، ليغدو عنوانا غير تام إلا بتقدير احتمال الخبر: واقع أو كائن ، المتعلق بالجار والمجرور: " الكلام واقع أو كائن بحضرة مولانا الإمام" ، ومن تم يكون الإسناد في هذا المركب بين " الكلام" باعتباره تحققا وبين " مولانا" باعتباره مستقبلا أو باثا له، وهذه النسبة تفيد الحصر والقيد والتحديد عبر عنصر الإضافة بين " حضرة " و" مولانا"، وبين " نا" و" الإمام" ، مما يجعل المراد من "مولانا " محددا محصورا في مجال أضيق هو مجال السلطة السياسية ، وبالتالي لم يترك المجال- تركيبيا- لكثرة الاحتمالات الذهنية التي يمكن تواردها، خصوصا وأن لفظة " الإمام" وردت معرفة تحقيقا للتعريف والتخصيص ، وبخصوص الاحتمالات المحتملة لهذا العنوان يمكن النظر إليها من خلال وحداته المعجمية كالتالي:
-الكلام : هو ما " تركب من كلمتين أو أكثر ، و له معنى مفيد مستقل" / المعنى النحوي.
- ما يرادف الجملة أو النص أو الخطاب/ اللسانيات .
- قد يقصد به مجازا القص أو الإخبار، ولعل هذا المنحى هو المراد من العنوان نظرا لقوة تعريفه ب"أل" التي تخصصه عما سبق .
-بحضرة : الباء للجر ، تفيد الدلالة المكانية ، ولفظة حضرة تعني لغويا الدلالة المكانية المرتبطة بطقوس معينة عادة ما تتجاوز المألوف، وبمشهد شخص يحوز رتبة قيمية مميزة في سلم القيم الاجتماعي ، ولعلها الإحالة المتوقعة من هذه الوحدة المعجمية ، لأنها مرتبطة بشخص الزعيم /الإمام/السلطان.
-مولانا : هذه العلامة اللغوية لها دلالة مقدسة في الثقافة العربية الإسلامية ، حيث تحيل إما إحالة دينية متعلقة بالإله أ و الرسول أ و الولي الصالح، .. أ و إحالة سياسية مرتبطة بالخليفة أ و الأمير أو السلطان ... ولعل ما يعضد هذا ، علاقة هذه اللفظة بلفظة أخرى هي :
-الامام : فتعريف هذه العلامة نحويا يفيدها التخصيص ،الذي يقصي تداعياتها الدلالية السالفة لتعلن ، ربطا بباقي الوحدات المتعالقة معها في سياق العنوان، احتفاءها بالفاعل السلطوي: الزعيم = السلطان.
وعليه، فان وحدات العنوان تحيل على فكرة السلطة السياسية ، وأهم عنصر في مقوماتها السميائية هو إحالتها على رجل السلطة، الذي ينجز بمحضره كلام، لن يخرج بأي شكل من الأشكال عن تدبير علاقة الحاكم بالمحكوم، وإذا ما ربطنا هذه الإمكانات التأويلية التي يقترحها علينا العنوان بالتحققات النصية والمتخيل القصصي العام في المجموعة، سيتأكد بالملموس ما ذهبنا إليه، لكون موضوعة السلطة تؤثث نسيجها النصي . ويمكن الإشارة إلى أن عنوان هذه المجموعة ، هو نفسه ،عنوان القصة الرابعة بها، ولعل الكاتب لجأ إلى هذا الإجراء احتفاء بمكانة، ونضج هذا النص، أو تقديرا لشهرته ودرجة مقروئيته ، خصوصا وأنه نشر سابقا بمجلة "الناقد" .
2 -عتبة أيقونة صورة الغلاف :
تعد الأيقونة – حسب بيرس – علامة تمتلك الخصائص التي تجعلها دالة ، لذلك قصد القاص علي الوكيلي إلى إ نجاز أيقونة صورة الغلاف بنفسه ، وهي صورة لجملة من الشموع ، عددها ستة، تكبر تدريجيا لتضيء نفسها ، فيزداد توهجها ، وتنمو أحجامها ، وبربط هذه الإشارات بمتن المجموعة نلفيها تعادل قصصها الممتدة في تجربة صاحبها القصصية من الكمون إلى التحقق ، ومن البداية إلى النضج ، على مستوى البناء والتركيب واللغة والتفاعل النصي.. ، ولاشك أن كل ذلك يوحي بنوع من التفاوت في تحقيق التراكم الكمي والنوعي لدى كاتبها ، وهو ما يعكس تفاوتا في وعي المجتمع المغربي – العربي بمتغيراته الإبداعية والفنية ، وكأن احتراق تلك الشموع ، إشارة إلى الاحتراق والأ لم والمجاهدة القاسية المرتبطة بذاتية المبدع في علاقته بين وجوده الخاص وبين ما هو تاريخي ، وقد توحي أيضا ببحثه عن هويته " القصصية " ، والتي لن تحقق إلا بالاحتراق والمعاناة الذاتيين ، من خلال الحفر في ذاكرة مفعمة بالاحتراقات و الانكسارات ، وتاريخ ماض ، مليء بالظلم ، أو كأن تلك الشموع إحالة على ذلك البعد المعرفي الثاوي في ثنايا النصوص المصوغة قصصيا من أجل إضاءة العوالم المعتمة عبر ومضات سريعة ومكثفة ، تعبر عن مواقف كاتبها بحثا عن تدرج في نور الحقيقة ،أو هي شهادة على واقع مافتىء ينيخ بتداعياته الممضة على إنسان هذه الفترة.
موضــوعة السلطــة :
تتعاضد قصص المجموعة ، وتتكامل لبلورة رؤيا تتسم بالتعدد والتموج والانسجام في نفس الآن ، لذلك يحتار القارئ في اختيار التيمة موضوع الدراسة ، ولقد أثارت انتباهي ، وأنا أقرؤها، موضوعة السلطة.
تضم المجموعة عشرة نصوص تهجس جميعها بما تشكله السلطة في تعدد مدلولاتها،
والسلطة ليس المقصود منها السياسية فقط ، بل هناك سلط متعددة وكثيرة في المجتمع ليس بمفهومها الدستوري ، فالأسرة سلطة ، والمدرسة سلطة ، والعادة سلطة، والرأي العام سلطة ، إضافة إلى سلط رمزية أخرى . [. وما يفتك بإنسانية الإنسان في الواقع ، وبالرغم من أن قصص المجموعة تقدم هجاء قاسيا وساخرا لما يهشم قيم الحق والخير والجمال ، فإنها لا تقول ذلك على نحو واحد ، بل تعيد صوغه بما يوفر لها من خصائص فنية من جهة ، وبما يدخلها في تفاعلات تناصية مع أشكال أدبية كالمقامة والسيرة ، ودينية كالقرآن الكريم ، وتاريخية ، وأسطورية من جهة أخرى.
ومن بين القصص التي تشتغل
على تيمة السلطة السياسية ، بامتياز، باعتبارها بنية مهيمنة : "الكلام بحضرة مولانا الإمام " ص 25 ،" مباشر " ص 35 ، "القائد الباسل" ص 55 ،" قصة معاوية " ص 36 .. ، فهذه القصص تكشف ".. عن ترهل الزمن المغربي وضمنه الزمن العربي العام في إحباطاته السياسية المميضة، حيث الصراع التراجيدي بين الحاكم والمحكوم " ، وهو ما تجسده بوضوح قصة " الكلام بحضرة مولانا الإمام " ، التي سميت المجموعة باسمها، حيث تحكي عن" خبر وباء خطير يهدد قبيلة " بني مغضوب " الصحراوية ، التي تشد الرحال الى عاصمة" الفاتك بالله" طلبا " لرد الضر على أعقابه". يقضون أياما في أبواب الحجابة يتعلمون شكليات البروتوكول . وتنتهي رحلتهم بسقوط الحاكم ميتا بصدمة انغلاق فهمهم وعقم بلاغتهم . فيوصي بإحراقهم ورمي رمادهم في البحر" )3( ، أما نص " مباشر" ، ونص" القائد الباسل" ، ونص" قصة معاوية" ، فتقدم لنا تلك الصورة الكاريزمية لشخص الحاكم العربي)**( ، الذي يقول عنه السارد في " مباشر" : " شعب يحب قائده إلى حد الإغماء والدوار ، قائد يعيد الحياة إلى فاقدها ، ويعلم الصبي في حجر أمه ، هذا شعبك يفنى فيك ، هذه هي الصوفية القحطانية، هذه هي الديمقراطية القحطانية ، تلامذة المدارس أضربوا اليوم عن الدراسة ، وجاؤوا ليتعلموا من القائد دروسا لن يتعلموها في الصفوف ،... الشعب يعبر عن حبه لقائده بحرية بدون قمع" ص37 . إنها تراجيديا العلاقة بين الحاكم العربي وشعبه التي تصل حد القداسة للطرف الأول ، وتجعل الطرف الثاني لا ينشغل ".. بزيادة في الأجور ولا بحرب ضد البطالة ولا بشيء من هذه الهموم التافهة " ص 38، إنها مفارقة الديمقراطية القحطانية التي تترجح بين " تأليه" و" تقديس" الحاكم ، وما يستلزمه ذلك من تقوية وتأمين الأمن الداخلي ، وبين إنتاجها القهر والكبت والإرهاب الممنهج على الشعب، ولننصت الى ما ورد على لسان السارد في " قصة معاوية" : " أيها الأعراب ، لو يقول بعضكم إن هذا فعل المجوس لأملأن جوفه صديدا وأطوفن به البلاد حتى يكون عبرة للجاهلين " ص63 ، لذلك تتأزم تلك العلاقة ، يقول السارد في قصة" مباشر" : " .. ترددت في البداية ، لأنني أكره آ ل السلطة ، أتجنبهم جهد المستطاع ، حتى لو تعلق الأمر بحق من الحقوق ، ليس لأنني أخاف منهم ولكن لأنني لا أحتمل نظرة الاحتقار التي ترافق سلوكهم ، أنا أتجنب المقدم المتلصص ، فكيف بي ألتقي بالقائد الممتاز؟" ص65 “ .
هكذا تمارس الكتابة القصصية الوكيلية صرختها في وجه التاريخ القمعي لمجتمعنا، وتدمن على عشق الحرية ، ومن تم قدمت نصوصها قراءة حقيقية للوا قع ، معيدة بناءه من منظور المتخيل القصصي ، فكانت " أداة معرفة ونقد تساهم في زعزعة التمركز الإيديولوجي للطبقات السائدة التي حرصت على الإيهام بالوحدة العقائدية والطبقية والأيديولوجية ")4( ، وكشفت حقيقة السلطة نفسها التي لا تعدو أن تكون سوى مخلوق "التيتن"/" ميدوزا"/ الأسطورة،) تلك المرأة ذات الوجه البشع، والأنياب الخضراء، والشعر الذي كله أفاعي ، عندما تنظر إلى أي كان تحوله الى حجر، وفي ظهرها كنانة سهام تصيب بها من يحاول الفرار(، لذلك تقصد المجموعة التأكيد على أن السلطة هي السلطة في كل زمكان ، وليس على المرء إلا أن يحذر الوقوع في حبالها ، وأن عليه أن يتحلى بالمعرفة المقترنة بالحكمة ، التي هي وحدها القادرة على كشف الحقيقة من الوهم ، وكشف التعسف والظلم ، وهذا ما يتمظهر في الملفوظ التالي : " وحين أدخلوني عليه ، وجدت نفسي في ساحة فسيحة ، مثل ملعب مغطى ، مكتب دائري، أماكن للاستراحة، ديكورات خضراء ومكتبة مثقلة بالكتب والمجلدات ، قلت في نفسي ما عساه يقرأ؟ ثم تراجعت وقلت الحمد لله ،إنه يقرأ، هناك طريقة للتفاهم مع من يقرأ.." ص56 / قصة " القائد الباسل" (3).
وتدخل قصص المجموعة في قارة شاسعة من النصوص الغائبة، مقيمة معها تعلقا نصيا وتناصيا عبر المحاكاة الساخرة والتحويل الفني البارع ، وهكذا تحاور قصص" المقامة السطاتية"،"الكلام بحضرة مولانا الكلام" شكل المقامة والسيرة ، بينما تتفاعل " قصة معاوية " ، " قصة الوعد" مع القرآن الكريم ، في حين تتعالق قصة" الحاجة ميدوزا"،" ساعة القيامة" ،" مقتل الحسين " مع الأسطورة والتاريخ ، وتتناص قصة"مباشر " مع الخبر/التعليق الصحفي . وفي توازي أشكال هذه النصوص مع السلطة في علاقاتها الجدلية مع الواقع الخارجي ، تشكل وسيلة لتعرية عناصر الفساد والإفساد ، وفضح تآكل وتدني الواقع السياسي الطحلبى على كل المستويات ، حيث ينجح القاص في أن ينقل لنا قبح المحتوى إلى جمال الشكل ، ومما يزيد جمالية وشعرية القص رونقا حوار القصص الضمني بين القصصي الخيالي ، التسجيلي المحيل على الواقعي ، بين الواقعي والتاريخي ، بين التاريخي والأسطوري ، بين الأسطوري و الرمزي ، بين المشاهد والمتذكر، وبين الخيالي والمعيش ، ليتحول هذا التوليف المتعدد تحويلا سيميوطيقيا يحدث انزياحا دلاليا في دلالات الأشياء والأمكنة وعلاقة الزمن بالحدث أو اللقطة باللحظة، خاصة وأن هذا الكون القصصي مبني على التنوع اللغوي ، بما فيه من تباين وتناقض وصراع . وتبقى المسارات التأويلية لتيمة السلطة المتعددة التي كانت تجتذب شخوص المجموعة ، رهينة بتحديد جملة السلط الأخرى التي تنكتب في النسيج النصي ، مثل سلطة العادة في " الموعد المغشوش"، وسلطة الدين في " الحاجة ميدوزا".. وسلط أخرى .. لتظل السلطة تلك الجرثومة المتناسلة عبر كل الحقول .
السخريـــة والتنــاص :
1 - السخريــــة :
تشتغل المجموعة على حركية التشخيص والمزج ، باعتبارها صممت على أساس تنضيد خطابات متجاورة ، تعكس البعد الفكري الذي يؤثث فضاءاتها، ورغم طابع التعدد اللغوي ، وتعدد الأصوات المشتغلة في إطار تلك الخطابات ، يمكن الإنصات فيها الى الصوت الإيديولوجي العميق عن طريق وسيلتين متكاملتين : الأولى ، هي تقنية تعرية التناقض، والثانية تقنية السخرية : فمن خلال الأولى ، ندرك التباين العميق بين الوجه والقناع ، الوهم والواقع : قصص "الحاجة ميدوزا"،" ساعة القيامة"،"الكلام بحضرة مولانا الامام"،"مباشر" ، " الموعد المغشوش" ،" القائد الباسل"..، وهذا ما يحدد المسافة بين السارد والأحداث ، ويقدح ، بالتالي ، شرارة السخرية القائمة على الهدم والبناء : هدم القيم السائدة التي أدت الى فواجع تجاوزت حدود الإنساني ، ودخلت عالم الأسطورة : " الحاجة ميدوزا" و"مباشر"، لتصير نتيجة لذلك موضوعا للتقديس ، وفي ذلك إشارة ونقد لذهنية ألفت دفء الخضوع لسلطة المقدس السياسي والديني ..
وخطاب السخرية في المجموعة يمتح من مميزات الكتابة الجاحظية ، باعتبارها توظف بويطيقا التناقض أو الازدواج -بتعبير عبد الفتاح كيليطو - لأنها تروم الإضحاك غير البريء ، وتنسيب القيم ، ولنلاحظ هذه العبارات كيف يتحدث الكاتب فيها عن الشيء ونقيضه : سعد بن مكذوب ، جلال الدين اللحاس، السلطان القاتل بالله ، ما أ قدس رجسك،القرد الفلاحي ، هذا التوليف بين الوحدات المعجمية الدالة على التعارض بين جملة من الثنائيات ينطلق فيها الكاتب من استراتيجية الكتابة القصصية المراهنة على أن تكون أفقا للتعدد ، وفضاء للجدل بين المألوف والغريب ، بين الجدي والهزلي ، يقول الجاحظ :" اللفظ الهجين الرديء ، والمستكره الغبي ، أعلق باللسان ، وآلف للسمع ، وأشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف ، والمعنى الرفيع )5(، ولعل هذا هو ما يؤسس لرؤية فكرية مفادها جعل السخرية أداة لمقاومة هموم الحياة اليومية بما هي سلط تجثم على رقابنا أينما حللنا وارتحلنا، إذ تقوم السخرية معجميا في نصوص المجموعة على مستويين : الأول يرتبط بألفاظ مقرونة بألقاب محيلة على قيم منحطة : سعد بن مكذوب ، الحاجة ميدوزا ، صريح بن مخزي ، القرد الفلاحي ، قرية "عنق الجمل"..، والثاني يتخذ من تسمية الحاكم موضوعا للتشخيص البار ودي ، حيث التوليف بين المقدس والمدنس ، الجدي والهزلي : السلطان القاتل بالله ، الحاجب جلال الدين اللحاس ، الديمقراطية القحطانية ،... ولعل السخرية تعبر عن ذلك الانقسام الذي يحسه أبطال القصص، وهم يواجهون تحديات الواقع ، فلا يجدون مندوحة من مقاومته غير السخرية التي تغدو ، في جل الاحوا ل ، سلاحا يحصنهم ضد عنف العالم وغرابته .
وتلعب السخرية داخل النصوص وظيفة سردية تخدم من خلالها السرد ، وتنميه بإحداث التوتر المؤثر في تنظيم الحبكة وتطويرها ، ولعل أبرز نموذج لذلك نص"الكلام بحضرة مولانا الامام" ، أضف الى ذلك الوظيفة التكرارية الفنية التي تتمظهر من خلال تصوير عالم غريب ، وواقع مرعب وتافه، لا وجود حقيقي له خارج اللغة، والشواهد كثيرة منها قصتي :"الحاجة ميدوزا " و"القائد الباسل" ، هذا ، علاوة على الوظيفة الواقعية ، التي تضفي على النصوص المسحة الواقعية بالرغم من توسل الكاتب بأدوات فنية تبدو غير واقعية كما في قصة"الموعد المغشوش".
وتتاخم بلاغة السخرية، في المجموعة ، بعض مظاهر الفونطاستيك ، حيث كثرة تداول مفردات وعبارات تفيد معنى الغرابة ، إما تصريحا أو تلميحا : القائد الباسل، القرد الفلاحي ..، ويتخذ البعد العجائبي وسائط التشخيص مثل إحياء الجماد واستنطاقه:" تجمد حول شفتيه حتى اللعاب الخارج من فمه" ص13- 14 ، وتقنية التشويه الذي قوامه عدم الملاءمة بين العمل ومحله :" ساكون قربك يا رائحة الثعالب والجيف .." ص29 ، وغالبا ما يتمفصل المسخ مع التحول والتشويه ، بفعل القهر: القرد الفلاحي .. ، فتفقد الأشياء والشخصيات طبيعتها الأولى : القرض الفلاحي ، لتصاب بمسخ يحولها إلى أشياء وكائنات غريبة أو تافهة . هكذا تمتطي الكتابة القصصية صهوة الإضحاك ، الذي" يمكن أن يكون عنصر توازن لا عنصر اختلال وحسب ، ومادة فرح لا مادة ألم وحسب" ، ومن هنا تبدو الفكاهة فوضى ، لكنها غير عدمية ولا تؤدي الى العدمية ، وهي لا تؤكد العبث ، بل السخرية ، ولا الهدم ، بل الطهارة . إنها تخبئ حنينا عميقا إلى الشفاء من مرض العالم ، وتخبئ حلما بنظام آخر للأ شياء والكائنات.
2 - التناص :
"التناص هو اعتماد نص ما على نص أو أكثر, وحسب دراسة التناص ، فإنه ليس هناك نص لا يعتمد على نص آخر أو مجموعة من النصوص، بل يصل بهم القول، أي ببعض الدارسين ،
إلى حد أن النص ليس إلا مركزا لتجميع النصوص السابقة ، ومن بينها الواقع الذي يعتبر نصا من النصوص ")6 (.
وقد وظف التناص في المجموعة عن طريق استثمار نصوص ومرجعيات سابقة لتأطيرتجربة حديثة يتخذ منها الكاتب موقفا معينا ، إذ صاغ نصوصه في أعرق الأشكال التراثية : القرآن الكريم ، الذي اختص بنقل كلام الله المعجز على جميع المستويات ، والمقامة المتميزة بالإ نشاء البلاغي ، وبهذا يرفض الكاتب ضمنيا الشكل القصصي المقتبس من الغرب ، ولعله بموقفه الرافض ،هذا، يشير إلى تشبته بشخصيته الحضارية في وقت اشتد فيه زحف العولمة والارتماء في أ حضان آخر التقليعات الغربية ، ليجعل نصوصه من حيث الشكل ، بألفاظها وتركيبها، قرآنية منبثقة من صميم التراث، لأن سرديتها القرآنية في نصوص :" قصة معاوية " ،" قصة الوعد" .. تؤثر في كيفية تلقيها لنا ، مما يوهمنا بأنها" سور" من كتاب منزل، لتنسب الى المحاكاة الساخرة ، ومن تم يتبنى الكاتب ثنائية الوهم والحقيقة ، الظاهر والباطن ، وهي نصوص تحاكي في بنيها العامة النص القرآني في غياب علامات الوقف أ و الترقيم الدال على الآيات، المستعاض عنها بالنجيمات الفاصلة بين المتواليات السردية الصغرى ، لينقل لنا هذه البنيات المتعلقة بالقرآن ، فنستنبط العلاقات التناصية كصورة واضحة ، ندرك من خلالها تعالق هذه العلاقات بجزئياتها، وبوضوح يؤثر في فهمنا لهذه العلاقات وتحويلها وإعادة بنائها وصياغتها." وخلال هذا اللعب المستمر بين الواقع والوهم تتم عملية كشف، انطلق بنا الكاتب من مألوف دنيانا ليقذف بنا فجأة في عالم غير معهود هوعالمنا، غربنا عنه حتى ندرك غرابته وجرده من مظاهر الزيف حتى نعي حقيقته الباطنة")7(
وبالرجوع الى نصوص المجموعة ، نلفيها تتناص مع جنس المقامة التراثي، ليغني الكاتب قصصه بأسلوبها الساخر، وصيغها في قلب المعاني، وبحثها الدؤوب عن قاموس تراثي معتق ينتج دلالات معاصرة ، فيتم انتقاء الغريب من الملفوظات ، واستعمال السجع بهدف تقديم رؤية فنية ، قوامها النزعة الانتقادية الواضحة ، والمؤسسة على التوليف بين الشيء ونقيضه، والمجموعة من هذا المنطلق تسخر ، ولكن بعمق فني ، لتغدو اللغة من خلال قلب معانيها)القاتل بالله،..(، خادمة لوظيفة لغوية في غاية الخطورة ، وهي الخروج باللغة لأن تشحن بأكثر المعاني المافوق- معجمية : القائد الباسل، بهدف التعبير عن مواقف محددة من قضايا معينة في ظل فترة تاريخية قاسية ، وكأني بالمجموعة تقدم شهادة بعدية على مجتمع مغربي/عربي في تاريخ محدد. والكاتب بتعامله مع التراث الأدبي في أوجهه المقدسة" القرآن والمقامة، لا يكون عبدا للماضي التراثي ، وإنما يشكل امتدادا نقديا ، وتجاوزا خلاقا في سياق ملابسات تاريخية واجتماعية جديدة.
وتتفاعل المجموعة أيضا مع أسلوب الجاحظ ومميزات الكتابة عنده، خصوصا وأنها تتقاطع معها في كونها كتابة محيرة ، لأنها متناقضة ، إضافة الى انشغالها ببويطيقا التناقض أو بويطيقا الازدواج ، وكأن الغاية من ذلك ليست إلا الإضحاك غير البريء ، وتنسيب القيم، ولنتأمل هذا المقطع السردي : ".. وأنت أرقى أسمى من البشر؟ أيها العظيم الكريم العليم الرحيم، ما أقدس رجسك !" ص39، هكذا تتغيا الكتابة تشخيص صورة واقع مبتذل ، واقع يفتقد فيه كل شيء هويته الأصلية : الإنسان ، الفضاء، الزمن...، بل الحقيقة ذاتها ، إذ تعمد نصوص المجموعة الى التقاط ما يبدو تافها وعاديا في الواقع، وما يندرج ضمن الأمور الجزئية الهامشية "العابرة" والمبتذلة بالأساس في فضاء الواقع، ولعل الكاتب باستحضارها يوظف ذلك لاستثمار واستنطاق مدلولاتها من مرجعيات متنوعة : جمالية وثقافية ، لذلك ليس غريبا أن نلمس في نصوصه تراكما لافتا للأسماء والفضاءات والمتخيل الاجتماعي المرتبط بالهامش والجادات الأطرافية، وتتضمن إحالات غير متجانسة، تزيد اللغة الموظفة المتأرجحة بين الكتابة الإبلاغية الإخبارية" قصة مباشر"، والكتابة البلاغية الإشارية ، التي تنوس بين أسلوب التصريح وأسلوب التمليح،"أي تجعل ]اللغة[ النص، بعبارة، هجينا وفاتنا في هجنته والتباسه. "(8).
اللغــــة والســـرد :
إذا كان الأدب " يتحرك في اللغة بوصفها وسيلة")9( ، فإن لغة القص في المجموعة تتميز بما تقوله ظلال الكلمات وليس الكلمات نفسها، أي أن لغتها تنتج لغة فوق لغة ، لغة " ميتا نصية" تعين على نحو واضح ودقيق تميز وفردا نية الكاتب وصوته الخاص ، حيث اللغة تحوز إيقاعها الخاص، البعيد عن المعنى المبتذل.إنه يوظف شعرية التكثيف، التي يتم التركيز فيها على حالة يحيطها الكاتب بأحداث خاطفة موحية وفاضحة، تكشف عن جوهر خفي في الإنسان ،إنها، بكل بساطة، تعد كتابة حالة قصصية، يمكن التمثيل لها بالتراكيب الأسلوبية الجامعة بين الفصيح والعامي ، كالقائد الباسل ..، وكأني بالقاص يراهن على المنفلت والمنسي والممنوع أو المغيب خارج منظومة اللغة الوصفية .
وتمتاز لغة المجموعة بالبساطة، لأن قصديتها تروم بلاغيتها، لكون البسيط أحيانا يكون أبلغ من المجازي والشعري، لذلك تسمي لغة السرد الأشياء بأسمائها مباشرة أحيانا، وهي ساخرة ، ذات ظلال وإيحاءات رمزية أحيانا أخرى، وهي محكية في بعض الحوارات ، لتضيء بيئة الشخصيات وخلفياتها الثقافية والنفسية، وتشير إلى هوية الفضاءات المحيلة عليها أحداث النصوص ، غير أن ما يميز هذا السرد أسلبة وعتاقة لغوية ومعينات صيغية مقامية وقرآنية وصحفية و أسطورية و وتاريخية، كخصوصيات تسم خطاب النصوص وأشكال اشتغالها.
ويكثر استعمال الألفاظ والتعابير الدارجة بوفرة ، وفي مواقف جد حساسة، لتحقيق وظيفة تتمثل في الخروج بها من عالمها الواقعي الى العالم العجائبي الذي يستخدم لغة مفارقة لطبيعتها السردية، وذلك بإسنادها وظيفة أخرى غير الوظيفة الأساسية،التي تكون فيها الكلمات لغة فوق اللغة ، وهكذا يحدث العجائبي قطيعة وتصدعا مع المألوف، واقتحاما من اللامقبول لصميم الشرعية اليومية التي لا تتبدل، خصوصا باستعمال "اللفظ الهجين الرديء والمستكره الغبي ..".
إن نصوص المجموعة مكتوبة بلغة بسيطة وسهلة ، لكنها مشحونة بكثير من الوعي الفني الساحر، الذي انطلاقا منه ومن التقنيات الكتابية السالفة الذكر، يمكن الوقوف على ثلاث مستويات للراوي في النصوص :
- الراوي المحايد، وهو السائد في النصوص ،لأ نه عين الكاميرا الناقلة لكل ما تصادفه دون تعليق ا و تدخل، مثاله نص:"مباشر"..
- الراوي المشارك، وهو الراوي الذي يشارك بوعي خارجي ، فيكون تدخله في النص بالاستطراد والإضاءة عبر مستويات متعددة من اللغة القصصية الفصيحة،الدارجة، لغة ما بين الفصيحة والدارجة، ومثاله نص"الكلام بحضرة مولانا الامام:..
- الكاتب : وهو الراوي المشارك في بناء القصص، والرابط بين الذات المتكلمة ومقاصد النص، ومثاله نص"القايد الباسل"...
وعبر تقنية الحوار تنهض العوالم التخييلية للنصوص لتتحرر نسبيا من هيمنة الراوي العالم بكل شيء، لجعل فضاء النصوص متحركا في الزمن والذاكرة من خلال شخصيات قصصية لا تحضر من خلال فعلها المباشر في سيرورة الحكي، لكن إوالية الاسترجاع تبوؤها المكانة الوظيفية الأساسية داخل الفضاء القصصي .إضافة الى تفرد النصوص بكون حبكتها قائمة على الإثارة والإدهاش لشد انتباه القارئ بطريقة فنية مبطنة بالحق والسخرية ، سعيا لنقد مؤسسات المجتمع القمعية، إنها شذرات سخرية سوداء من الذات والعالم)10( .
علــى سبيــل الختـــم :
إن علي الوكيلي في قصص هذه المجموعة يتألق مع ذاته، مقدما صوته الخاص بحس رفيع ، وهي أي قصصه وإن تفاوتت نصوصها بعضها عن البعض ، وإن ولهه بهذا الجنس الأدبي ، والوفاء على تطويره ، والجهد المبذول لتحقيق ذلك، كانت بادية لأي قارئ لمتن المجموعة ، بما تحققه من تجديد وتجاوز وكشف وتجريب، يتيح المزيد من إفساح الرؤية وتعميقها، وبما تتيحه من مزيد الوعي والسيطرة والتطوير الذاتي والجمالي والموضوعي للواقع.
وتأسيسا على ما سبق ، يمكن القول بأن نصوص هذه المجموعة ، وبتعبير تودوروف ، تكتسب حق المثول في تاريخ الأدب ، لما تتمتع به من خصائص فنية وبنائية، تدفعنا الى القول بأن صاحبها يقدم تجريبا قصصيا يمنحه خصوصية متميزة ، مما يجعل نصوص "الكلام بحضرة مولانا الامام" ، باعتبارها باكورة الكاتب القصصية، يمكن عدها علامة فارقة ، وذات دلالة على تجربة الكاتب من جهة ، وعلى التجربة القصصية المغربية من جهة أخرى ، لا نبنائها على حفريات نصوصية مختلفة الأنواع واللغات، تدخل في حوار معها إن على مستوى المضمون أو الشكل ، وهي لا تتعامل مع هذه الأجناس المتخللة واللغات المتباينة بحياد تام، وإنما تستدرجها لتخلق منها بنيتها الخاصة ، القائمة على التعدد اللغوي ، الموجه قصديا نحو تعدد الأصوات.
الهوامــش والإحــالات :
* علي الوكيلي :" الكلام بحضرة مولانا الإمام"، مطبعة أنفو – برينت ،فاس ، المغرب ،2000.
1- يغدو الكلام مرادفا للنص ومعادلا له ،" فهو يرتبط بإرا دة وذكاء ، يدل عليهما تركيب ذاتي للجمل...إنه حالة ذاتية عارضة تحقق فيها الذات المتكلمة أبعادها في عفوية أو تمحل وتصنع، وتعدل بها عن القواعد أو لا تعدل" :عبد الناصر لقاح:" اللسانيات واللغة العربية بين النظرية والتطبيق" ، س الندوات 4 ، كلية الآداب ، مكناس ،المغرب ،1992 ، ص :18. ولنستحضر أيضا تمييز فيردنا ند دو سوسير بين اللسان المرتبط بقواعد الكتابة وأخلاقها من حيث ما يمكن أن يتعلم ، والكلام الذي يقصد به استغلال تلك القواعد والأخلاق وإنجازها فرديا.
2- إبراهيم القهوايجي : " بلاغة السخرية ": جريدة " بيان اليوم" المغربية ،ع3176 ، بتاريخ29 شتنبر2000 ، ص:12.
3- الشرقي الحمداني : " بلاغة معاقة " : مجلة " الناقد "،ع 74 ، أغسطس1994 ، ص : 80.
** ينتسب مصطلح " الكاريزمية " الى ماكس فيبر ، وقد عنى به الشخص الذي يتمتع بمجموعة من السمات التي تجعل منه شخصا خارقا يتمتع في نظر الجماهير بقدرات غير مألوفة ، وينظر إليه من قبل الجماهير بشيء من القداسة.
4- د محمد برادة : " الرواية العربية المعاصرة : استشراف لآفاق التطور المستقبلي" ، ضمن " الأدب العربي تعبيره عن الوحدة والتعدد "، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، لبنان ، ط1 ،1987 ، ص : 200
5- الجاحظ أبو بحر عمرو : " البيان والتبيين " ، تح : فوزي عطوي ، الشركة اللبنانية للكتاب، ط 1967.
6- د سيد البحراوي : " في البحث عن لؤلؤة المستحيل – دراسة لقصيدة أمل دنقل : مقبلة خاصة مع ابن نوح " ، ط1،1988 ، دار الفكر الجديد : بيروت ، لبنان ، ص :40 .
7- توفيق بكار : " من أعماق التراث إلى أقصى المعاصرة ، نموذجان تونسيان " ضمن كتاب : " دراسات في القصة العربية"وقائع ندوة مكناس" ، ط1 ،1986 ، مؤسسة الأبحاث العربية ش.م.م ،بيروت ، لبنان ، ص : 176.
8- نجيب العوفي :"القص الشعري في مجموعة " ظلال وخلجان" ، الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي ،ع451 ، بتاريخ 9 فبراير 1996 ، ص:4.
9- مجموعة من المؤلفين : " اللغة والخطاب الأدبي " ، تر : سعيد الغانمي ، ط1 ، المركز الثقافي العربي بيروت – البيضاء ، ص :44.
10- نبيل منصر : " تشييد متخيل الصحراء ..." ، مجلة " البحرين الثقافية ": ع26 ، أكتوبر2000 ، ص :76