دموع د.جابر قميحة
دموع د. جابر قميحة
الدكتورة عزة عبد اللطيف
كلية الآداب جامعة القاهرة
كثيرون هم الذين ينظمون الشعر, فيجعلونه كلمات منمقة, وأبياتًا من الشعر «المنظوم المقفى».. وقليلون هم الذين يعيشون شعرهم إحساسًا قبل أن يصوغوه كلمات, ويمسّون به نبضًا قبل أن يخرجوه للقراء قافية ووزنًا, وأقل من هؤلاء جميعًا من يجعل من شعره قضية, ومن أبياته مبدأ, ومن معانيه التزامًا متساوقًا مع أحداث الحياة الجادة, ومع تحركها المؤمن الصابر..
ومن هذا الصنف الأخير ومع هذه الكلمات التي نفتقدها في شعر كثير من الشعراء أقدم هذا الديوان الجديد « على هؤلاء بشعري بكيت» للدكتور جابر قميحة.
وصلة القراء بالشاعر ومعرفتهم به ليست جديدة, فهو الأديب الناقد الداعية, الذي تعرف له الصحافة الإسلامية إسهاماته في النقد والتحليل الأدبي والاجتماعي, ولا تقل معرفتنا به شاعرًا عن معرفتنا به أديبًا وناقدًا ومحللا.
فهذا الديوان الجديد هو ديوانه الخامس في آفاق الشعر الجاد الملتزم, وهاتان الصفتان (الجدية والالتزام) نفتقدهما في كثير مما نقرؤه من الشعر, وإن كان جيدًا بالمقاييس الفنية للشعر, وهذا الالتزام الفني والاجتماعي يعبر عنه الشاعر في مقدمة ديوانه بقوله:
«جاءت كل قصيدة من قصائد هذا الديوان لا مجرد إشادة بالمرثي, ولكن معايشة «لجوّانيته» النفسية والعقلية والروحية, وقيمه الدعوية, وبصماته في مجتمعه, ومشاعر الأحياء بفقده, مع اتخاذ شخصية المرثي منطلقًا للنقد الاجتماعي والسياسي..»
فلسنا إذن -مع هذا الديوان- أمام شعر تقليدي للرثاء ولكن مع دموع تضيء شموعًا, وعبرات تتحول إلي زفرات وكلمات إن كانت بكاء فإنها بكاء إيجابي خلاق يبعث فكرة حية ويشيد بمبدأ لا يموت.
ومن خلال هذا «البكاء الإيجابي» ومع هذه «الأحزان الثائرة» نتعرف علي شخصيات مجاهدة صنعت أمجادًا في صمت, وعبّدت طريقًا إلي الخلود في إباء, وسلّطت الضوء علي مبادئ رفيعة في صبر وأناة..
ومن هذا المنطلق كان اختيار الشاعر «جابر قميحة» للشخصيات التي بكي عليها بشعره أو بكي عليهم ديوانه الملتزم.
فقد كان أفق هذه الشخصيات واسعًا غير محدود ببلد من البلاد أو قطر من الأقطار, ولكنهم -علي اختلاف بلادهم- كانت تظلهم مظلة واحدة هي الجهاد وتنتظمهم جنسية واحدة هي الإسلام, فاختار من مصر مرشدي الإخوان الثلاثة: حسن البنا, ومصطفى مشهور, ومأمون الهضيبي.. ومن المفكرين: نجيب الكيلاني, وعباس العقاد, وعلية الجعار.. ومن المجاهدين: أكرم زهيري, واختار من فلسطين المجاهدين: أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وعبد الله عزام وعز الدين القسام.
ثم اختار بعض الشخصيات من ليبيا وسوريا والهند والشيشان وتركيا والسعودية.. فمثلت شخصياته جامعة عربية إسلامية.
يطالعنا عنوان الديوان بسطر موزون «على هؤلاء بشعري بكيت» «فعولن فعولن فعولن فَعًلُ» ويحتوي الديوان علي تسع عشرة قصيدة أو شخصية, وقد لا يعرف القارئ كل شخصيات الديوان, ولكن نشعر من خلال القصائد أننا أمام قضايا معاصرة تمس واقعنا, وذلك مثلما نجد في مرثية الشهيد أكرم زهيري وكذلك قصيدة يرثي فيها شابًا سعوديًا مجاهدًا.
فرأينا الشاعر يتخذ مأساة الشهيد منطلقًا لينبه إلي أن مصر هي ملاذ الحياري وهي أرض السلام والحكمة, فكيف تتحول للجور والظلم, مذكّرًا بمأساة سجن أبو غريب علي أيدي الأمريكان محذرًا من أن يتحول أشقاء الوطن لسجانين:
كنت يا مصر درة, كم تغني
في بهاها ومجدها الشعراء
كنت يا مصر موئلا للحياري
وملاذًا يرومه الطرداء
وأمانًا لكل من فقد الأمـ
ن, وفيك السلام والنعماء
و«حقوق الإنسان» أصل أصيل
قد حمته الشريعة الغراء
وتولي نهوضك الحكماء
وتسامي بعلمك الفقهاء
ويتغير الحال وهنا يحذر الشاعر من هذه الصورة:
ويح قلبي -يا مصر- طمّ البلاء
والضحايا أبناؤك الأوفياء
صرت -ويحي- «أبو غريب» وفيه
ألقي الأتقياء والشرفاء
وتشيع في الديوان الروح الإسلامي, نلحظ ذلك في المفردات والصور المتفرقة أو جزء من آية أو قول مشهور, وقد ينشّط فينا ذكري قديمة مثلما ربط بين الثري السعودي الذي آثر أن يترك متاع الحياة ليجاهد في صفوف المجاهدين ومصعب بن عمير الشاب الذي هرع إلي الإسلام داعيًا متخليًا عن الجاه والنعيم, فكان أول داعية للرسول صلي اللله عليه وسلم في المدينة قبل الهجرة:
يا دنيا غرّي غيري
هل أنت إليّ تعرضت
أم أنت إليّ تشوقت
هيهات -أسلًّم- يا دنيا
فقد ربط بين سيرة مصعب بن عمير والشهيد, وأيضًا استدعي قول علي بن أبي طالب «يا دنيا غري غيري», أو قوله في نجيب الكيلاني معليا من صورته الناصعة حيث يراه أديبًا يختلف عن آخرين ينساقون للأضواء والشهرة والسلطة:
كالألي يرقصون في المهرجان
ويخرّون فيه للأذقان
يلثمون البساط في نشوات
والولاء الخسيس للطغيان
أبدًا ما استوت عقودى زجاجى
وعقود الياقوت.. والمرجان
أبدا ما استوت جبال عوال
شامخات الذرا مع القيعان
ونلحظ تأثر الأبيات بالروح العام لسورة «الرحمن» من حيث شيوع بعض المفردات والقافية المنتهية بالألف والنون, وقد يستلهم الشاعر صورة مثلما نري في رثائه للشهيد أكرم الزهيري:
ثم هبّت علي علاك ذئاب
ضاريات قلوبها عمياء
فاقت الصخرة قسوة وجمودًا
ومن الصخر قد يفور الماء
وهو ما يشير للآية الكريمة {وإنَّ منّ الًَحجّارّة لما يتفجر منه الأنهار} - أو هذه السطور التي تنقلنا لصفوف المجاهدين الأوائل:
رأيت حمزةً يمزّق الصفوف
وخالدًا بسيفه
يوزّع الحتوف
والفرس والرومان يفزعون
قلوبهم تحاول الفرار من صدورهم
ولات حينها فرار
وفي عيونهم مذلة يروعها انكسار
سمعته.. وعشته.. بلال
يزلزل الحصون والجدران
بعزة الإيمان في حلاوة الأذان
فنحن نعيش مع حمزة وخالد وبلال تاريخًا مشرقًا انتصر فيه الإسلام بأيدي أبنائه المخلصين, ومن شأن عملية استدعاء التراث أن تربط حلقات الزمن بعضها ببعض فكأننا قد رأينا هؤلاء الأبطال القدامي في المجاهدين الجدد وكأن حلقات التاريخ مترابطة وليست منفصلة.
ولنتأمل الصورة التالية, فقد استدعي صورة قابيل وهابيل والغراب الذي يبحث في الأرض ليواري سوءة أخيه فقد قُتل «عز الدين القسام», ويبحث الشاعر عن مكان يصلح لأن يواري فيه رفاته.. فالوطن العربي مسروق, وحينما أعياه البحث وضاقت الأرض يستنجد ولو بذلك الغراب الذي ضرب مثلا:
ما عاد هنالك في الوطن العربي مكان
يتسع لقبر شهيد
أرض الأوطان العربية
شُغلت يا عز الدين القسام
والخالي من أرض الأوطان
قد سُوّر بالأسلاك الشائكة
...
أعياني البحث
وكأني قابيل يحمل جثمان أخيه
لكن..
أنَّي لي بغراب يبحث في الأرض
يريني..
أين أواري يا عز الدين رفاتك
معذرة لا ألمح في الأفق غرابًا
معذرة
لا أملك إلا أن أزحف في هدأة ليلي المصلوب
لأعود إلي الحان المخمور
وأواري تحت جدار الحان رفاتك
وأهيل تراب الموت عليك
ولأخمد أنفاسي بين يديك
وأوسّد في القبر السافل
جثمان الشرف العربي
فإذا كان الغراب في الآية الكريمة يعلّم الإنسان كيف يواري الرفات فإنه هنا صديق للشاعر يستنجد به ليداوي ما صنعه بنو البشر بالبشر.. وحين أعيته السبل لم يجد إلا جدران الحان ولكنه لا يدفن الشهيد بل يدفن جثمان الشرف العربي.
فهو تناقض صارخ واستغاثة بضمير الأمة, ولكن الأمة مشغولة مغيبة.
وتشيع في الديوان نبرة حزينة تتناسب مع الروح العامة للرثاء ويشيع أيضًا شعور الغربة واليأس من الواقع:
يا شاعر عصر الغربة.. والكربة
أطفئ مصباحك
وفّر زيتك
وتوكل
لا تبحث عمن تطلب في الأحياء
من تبحث عنه استُشهد.. مات
من تبحث عنه محض رفات
اطلبه هناك
في أرض المسري في الأموات
فالصورة قاتمة تملي علي الشاعر مشاعر الغربية واليأس المرير, ولذا فكثيرًا ما نراه يتحدث عن عصر الغربة و«زمن الذلة والغثيان, زمن القيعان الغربان, والخصيان, عصر العرجان العميان, لا عصر الرجل الإنسان» وقد تكون رؤية الشاعر مبدأ من مبادئ الحرية ومع ذلك أجد في نفسي ميلا لأن أبث خاطرة وثبت لرأسي مع قراءة الديوان.. فأنا لا أميل للون القاتم ولا للمعني القاتم الذي يغلق عليّ باب الأمل في الغد.. ومع اعترافي بأن الواقع العربي اليوم مهزوم محاصر, تزيَّف الحقائق ويعلو صوت الباطل ونشعر بالغربة في أوطاننا» هناك حصار عسكري علي الأرض العربية وهنا حصار نفسي عن طريق الفنون والأطباق الفضائية..
ومع ذلك أري أن نداء الحياة أقوي, وأن الأمل في الغد معقود علي أيدي شباب يتمسكون بعمق هذه الأرض تنير في قلوبهم أهداف تصب كلها لصالح هذا الوطن الكبير والدين الحنيف.
يحضرني في هذا المعني رباعية عامية لصلاح جاهين, حيث رأي الحياة موتًا كما لو كانت ورقة شجر تحزن لانسحاب الربيع.. ولكنه يراجع نفسه فيري أن كل وقت وله أزهاره حتي الشتاء.. فحب الحياة يبث في الأحياء دائمًا الأمل في الغد:
الدنيا من غير الربيع ميته
ورقة شجر ضعفانه ومفتته
لا يا جدع غلطان, تأمل وشوف
زهر الشتا طالع في عز الشتا
ونلحظ تجاوب الشاعر مع غيره من الشعراء مثل صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وفاروق جويدة, فقد رأينا أمل دنقل مثلاً ينعي علي كافور الأخشيدي سيفه الذي يأكله الصدأ وذلك في مذكرات المتنبي:
يومئ يستنشدني أنشده عن سيفه الشجاع
وسيفه في غمده يأكله الصدأ
فقد صار السيف رمزًا يشير إلي القوة المكبوحة التي لا تُستخدم في موضعها, ويشير إلي قوة هذه الأمة المهدرة فيقول شاعرنا:
وتمزق قلبي المصدوع
إذ أسمع سيف المنصور
ينشج في صوت مصدور
يتحدث بالهمس المخنوق لغمده:
أطلقني
لله.. ولو لحظة
فك إساري -يا غمد- ولو لحظة
إني أختنق وأحتضر
من سنوات
وأنا في لحدك أحترق
وعدًا مني
أطلقني أتنفس لحظة
ثم أعود إليك
فالسيف يتوسل لغمده أن يتركه ولو لحظة ينطلق فيؤدي واجبه ويشعر بتحقيق الذات, وبسخرية مضحكة يعد بأن يعود مرة أخري لهدوئه.. وقد استمد السيف سخريته من الشاعر الذي يتمتع بروح شديدة الإحساس بمواطن السخرية المثيرة للضحك المبكي.
وهناك أيضًا صورة الحصان, ونحن نعرف أن الخيل في الثقافة العربية تعد رمزًا للإباء والكرامة والقوة وقد اتخذه أمل دنقل رمزًا علي تحول حال العرب وانحدار زمنهم وقوتهم:
اركضي أو قفي الآن أيتها الخيل
لست المغيرات صبحًا
ولا العاديات -كما قيل- ضبحًا
ولا خضرة في طريقك تمحي
....
هذا ما كانت الخيل عليه أقسم بها الله تعالي فهي رمز النصر في المعارك تُدخل الهيبة في النفوس, وتزيل الخضرة من الأرض من شدة إقدامها علي القتال ولكن كيف صارت?
صيري تماثيل من حجر في الميادين
صيري أراجيح من خشب للصغار الرياحين
صيري فوارس حلوي بموسمك النبوي
وللصبية الفقراء: حصانًا من الطين..
ويتجاوب شاعرنا مع هذا المعني فيصف الخيل وكأنه يصف حال الأمة:
تتثاءب..
تتمطط
تتمرغ في أعشاب الذل
تثقلها أسراب ذباب ترقد في أعينها
....
ما عادت -يا عز الدين- تشاهد صبحا
أوتضبح ضبحًا
أو توري قدحًا
أو تبعث نقعًا
أو تتوسط جمعًا
فأتيت إليك
فقد تكاتف شعراؤنا استنهاضًا للهمم لعل الشمس تشرق من جديد.
وقد تحدث د. علي عشري زايد -يرحمه الله- عن الصورة في الشعر الحديث فرأي أنها لم تعد تتوقف عند بيت أو بيتين باستعارة أو تشبيه أو كناية, ولكنها قد تمتد لتشمل القصيدة كلها لتصنع ما يشه المفارقة بين صورتين, وقد رأينا في الأبيات السابقة المفارقة بين حال الأمة في عزها وحالها في الانكسار, ونري في الأبيات التالية مفارقة أخري بين روح الشهيد والجسد البشري المصنوع من الطين ويخلد بطبيعته للأرض:
فهل تسمعني?
هل تسمع صوتي?
هل تسمع?
في عالمك العلوي الأرفع?
وأنا في غربة روحي
في وطني
أتحسس طيني
قيدي العاتي
دنيا الناس الصماء الجوفاء
هل تسمع?
يمتلئ الديوان بكثير من المعاني التي تستحق الوقوف, وقد ميزه أنه رؤية متعمقة صيغت بأسلوب رشيق متمكن.. فتحية لشاعرنا, ولعل السطور القادمة أجمل ما يمكن أن نختم بها:
أمضي سنوات العمر رفيع الرأس نظيفا
ملكًا يحتقر التاج
مملكتي قلب نبوى
وسلاحي قلم نووى
لم ينبض إلا بالحق
ينشق الصخر ولا ينشق