أسطورة الرجل الخارق فلسفة عدمية متعالية
أسطورة الرجل الخارق .. فلسفة عدمية متعالية
|
د. محمد سالم سعد الله أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري
|
تتجه أبجديات التدرج المعرفي إلى تمثل إمكانيات رمزية عالمية مُدرَكة من قبل المجموع ، ومرتبطة الدلالة- مع أيقونات يستخدمها الفرد في تنقية الأجواء النفسية أولاً ، وفي رسم هالة من الطمأنينة والسكينة التي يستمد منها نشاطه المعتاد ثانياً ، وقد تفننت الفلسفات الموغلة في رحم التاريخ ، ومنها فلسفة التصوف اليهودي ( القبلانية ) في اللجوء إلى تمثلات واقعية معروفة الدلالة ، ومتنوعة الحركة ، ودائمة الإيحاء للتوغل في أعماق اللاشعور الجمعي الذي يضم الثيمات الأولى الجامعة للصور الغرائزية والتوجهات الأخلاقية التي يتفق عليها المجموع المنضوي تحت لواء صور من الواقع النفسي لهذا الأخير ، أي المنتمية إلى الواقع الجمعي الذي يحافظ على الوظيفة الأساسية المتجسدة في شخصية الإنسان ، إذ تمنعه من الوقوع في الخطر الحقيقي الذي قد يكون غائباً عن الفرد المنعزل عن المجموع .
وقد لجأت الفلسفات العالمية في بداية الطرح الفكري المعرفي المستند على قيم تحفظ نوعية المجموع ، وتسهم في بلورة نتاجات فكره نحو التأثير في الآخر ، لجأت في مرحلة الخوف من اللاوعي إلى أفضل تمثيل للصور الغرائزية الداخلية للمجموع بصفاته وأفعاله وممارساته وقيمه وأخلاقه وتوجهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. الخ ، ألا وهو تمثل رمزية ( الحيوان ) بصورة مباشرة ، إذ أصبح لكل فلسفة تمثل رمزي مخصوص ، أي حيوان يرمز إلى التمظهرات العامة والصفات الخاصة للمجموع في إطار فكر واحد ، ويعكس هذا التصور إعطاء صورة من الواقع النفسي بوصفها رمزاً للغريزة المنعكسة على رمزية الحيوان ، فمثلاً أعطت الفلسفة رمزية الأسد للفرد الشجاع والوحشي الذي لا يعرف الرحمة ويفتك بالآخرين ، وأعطت رمزية الكلب للفرد الوسخ والنجس ـ ثم انتقلت هذه الدلالة إلى رمزية الوفاء ـ ، وأعطت رمزية الـ( دراكولا ) وهو حيوان خرافي للفرد المسخ الذي ينتمي إلى أكثر من بيئة ، وأعطت رمزية الأرنب للفرد المغفل ، وأعطت رمزية الحمار للفرد الغبي ، كما أعطت للفرد الجنسي صاحب الشبق والشهوة رمزية الخنزير ، وهذه التمثلات قائمة في أعمال كبار الرسامين والنحاتين في بقاع المعمورة من مثل : ماتيس وكلود مونييه الفرنسيان ، وأنجلو وشاتوبريان الإيطاليان ، وغيرهم .
وقد تحولت تلك التمثلات من مجرد أيقونات تحيل إلى مدلول ( أو مدلولات ) للمدح أو القدح ، تحولت إلى مشاريع دلالية تسهم في تعرية اللبس ، وتناسل القيم التي تدين بها هذه الفلسفة أو تلك، وتحددت هذه المشاريع بمسارات تراكمية : عقدية وثقافية وحضارية ، تحفظ ديمومة خطاب الفرد ، وتحوله إلى إغراءات ومقاصد تكتسب صفة المنهجية ، وتعمل على تطبيع علاقاتها مع الآخرين من خلال تواصل إنساني مزيف .
وحسبنا الوقوف على هنا على منهجية واحدة من تلك المنهجيات المتعددة ، إلا وهي منهجية الرجل الخارق ، التي تحولت إلى منهجية فلسفية عقدية ، وتنوعات تكتسب ثلاث صور :
1. أسطورة الرجل الخارق ( السوبرمـان ) . Superman
2. أسطورة الرجل الخارق ( الباتمــان ) . Batman
3. أسطورة الرجل الخارق ( السبايدرمان ) . Spiderman
إنّ الصور السابقة هي صور الرجل البطل (المخلص) الذي يقيم العدل وينشر السلام ، ويقوم بالقضاء على الأشرار والمعتدين ، ويعيد البسمة إلى الشفاه بعد أن اكتسبت حزناً وقهراً ، كما تتحد وظيفة هذا البطل بإقامة مشاريع الحب النقي بين الأفراد والتعاون اللامصلحي بينهم ... ، ونحو ذلك من المعاني السامية والراقية ـ كما يبدو عليها في الظاهر ـ وإذا كان هذا هو القصد الدلالي والثقافي ، فلماذا لم يكن رجلاً واحداً ، لماذا انقسم ( أو تعدد ) على ثلاثة صور : صورتان بهيئة حيوان ، وأخرى بصورة إنسان ؟ .
يمكن القول أنّ أسطورة الصفة الخارقة الكامنة في هذه الصور الثلاث ليست واحدة بالحقيقة ، وإنما اتسمت بتوحيد الوظيفة في الظاهر ، واختلافها في جوهر العمل ، لأنّ الظاهر يتسم بالتمثلات التي ينتفع منها المجموع المستقبِل للفكرة بعد ظهورها ، أما جوهر العمل فينتفع منه المجموع المتمثل للفكرة في أصلها ، بوصفها طوطماً ثقافياً يحمل معانٍ عدة .
إنّ الحديث عن أسطورة الرجل الخارق بصوره المتعددة ، هو حديث عن التموضع خلف الظاهرة ، وبيان حقيقة النتاج المعرفي ، وتعرية فلسفته ، وإن كنا في مراحل سابقة نستقبل الظواهر المتسمة بالبراءة بوصفنا متلقيين سلبيين ، فإننا اليوم نروم فحص تلك البراءة ، وتمزيق الأقنعة ، ودخول نادي الفضائح الذي تلعب فيه الأوراق بشكل مكشوف ، وسنستبق النتائج لنعلن أنّ التمثلات السابقة تحيل إلى النقاط الآتية :
1. الرجل الأعلى ( السوبرمان ) = أسطورة الرجل الأمريكي المخلص .
2. الرجل الوطواط ( الباتمان ) = أسطورة الرجل اليهودي المخلص .
3. الرجل العنكبوت ( السبايدرمان ) = أسطورة رجل الجنس المخلص .
نبدأ مع أسطورة السوبرمان التي نشأت من طرح نيتشه (-1900) العدمي (Nihilism) ، وتمثلت أهمية هذا الطرح بالتأثير الفاعل في الساحة المعرفية والنقدية بشكل عام ، والدخول في حيثيات ذلك الطرح أشبه بمغامرة معرفية قد تكشف عن مراحل متعاقبة لأنسنة (Humanisation) فعل التغير والتحول الحاصلين في مجمل نشاطات الواقع .
ولم تولد لحظة السوبرمان يتيمة في طرح نيتشه بل تظافرت مع معطيات أخرى كانت بمثابة السند الفلسفي لها ويمكن إجمالاً حصرها بالآتي : (موت الإلــه ، وإرادة القــوة ، والعَود الأبـدي ) ، وهذه المعطيات مترابطة مع بعضها البعض ، وتقود إحداها إلى الأخرى ، وقد نشأت تلك الفرضيات انطلاقاً من قاعدة نيتشه في كتابه (أصل الأخلاق) : " من أجل بناء معبد لابد من هدم معبد آخر " ، فمن أجل التسليم بسلطة الإنسان المطلقة لابد من إزاحة الإله أو الحكم عليه بالموت ، ومن أجل بناء شخصية ( السوبرمان ) لابد من الاحتجاج إلى الميتافيزيقيا وتفكيك أسسها ولأجل الوصول إلى مرحلة القوة اللامتناهية لابد من ممارسة الانفتاح على جميع الخطوط الحمراء التي وضعتها الممارسات اللاهوتية والمعرفية ، ومن أجل تطبيق فرضية العَود الأبدي لابد من إزاحة كل مظاهر الضعف والنفي والقيم اللاأخلاقية ، لأن هذه ( العَودة ) تتصف بالأبدية المهيمنة ، التي لا تقف في وجهها العوائق .
وقد كانت معطيات لحظة السوبرمان النيتشوية حصيلة تناص مع لحظات فلسفية أخرى ، ألقت بظلالها على اتجاه الحركة التصاعدية في تفعيل تلك الفرضيات وممارستها على الصعيد العياني في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية وحتى النفسية منها ، ويمكن تحديد حصيلة هذا التناص بما يأتي : (ديكارت ـ الكوجيتــو، سبينـوزا ـ فكرة الإله والإلحاد، لايبنــز ـ فكرة المونـــادة، كانت ـ نقد العقل والأنا المتعالية، هيجل ـ الديالكتيــك وموت الإلـــه، شوبنهـاور ـ الإرادة والتدمير، داروين ـ الانتخاب والصراع من أجل البقاء، ماركس ـ صراع الطبقات والمادية الجدليـة) ، وقد أسهمت هذه اللحظات الفلسفية في نسج المعطى النيتشوي المتعالي وتبرير التسليم الفلسفي الشامل له ، بوصفه الحضور المُجسِد ، والصياغة الفلسفية للعقول التي رسمت المسيرة الفكرية لمشروع التطور الأوربي .
وانبثق توجه نيتشه في بناء فلسفة الرجل الأعلى من فكرة عزل الإله بل الحكم عليه بالموت ، وإعطاء سلطاته إلى الإنسان الذي سيمارس دور الإله المطلق في الحكم والتشريع وقد استثمر نيتشه فكرة الوحدة العليا المؤسِسة للموجودات وهي ( المونادة ) في بناء إرادة الإنسان الخارق الذي تُنسب إليه مشروعية التحكم بالموجودات بوصفها مونادات جزئية تخضع كلياً للمونادة العليا المتمثلة بالرجل الأعلى .
وقد قدّمت التصورات الفلسفية الثورية للسوبرمان عمليات واقعية لمحاكمة الحدود التي رسمها العقل ، إذ تلون الواقع العياني بألوان شتى من صنوف البغي والاعتداء والاستغلال وعدم احترام إنسانية الإنسان وقذف مجمل النشاطات الاجتماعية في مصب النوازع والأهواء والمصالح الفردية، ولهذا أسّست العدمية ـ متمثلة بنيتشه ـ عقلانية جديدة تتمثل في تجاوز كل المظاهر العرفية والتقليدية وحتى القانونية منها ، وعدّ الإنسان مشروعاً يمتلك أسباب قوته ونجاحه في السيطرة والهيمنة والقوة ، إنّ العالم المعيش الذي رآه السوبرمان هو عالم محكوم بالفوضى والاضطراب واللإانتظام واللاإنسجام ، وهو وحده القادر على تنظيم هذا العالم ـ كما يرى نيتشه ـ .
وتتضح أفكار نيتشه من خلال فعل الحياة القائم على الهدم والبناء ـ بمعنى موت مجموعة أفكار وولادة أفكار أخرى ـ ثم الجنوح نحو المطلق لاستمداد القوة والتغلب على الضعف الفطري ، بمعنى خلق عناصر القوة من داخل النفس الإنسانية بمعزل عن اللجوء إلى الميتافيزيقيا ، لقد أراد نيتشه رفع القيود عن العقل والخروج من عالم المعقول إلى عالم اللامعقول ، والبحث عن الأفكار في النصوص الثورية ، فضلاً عن احتواء اندفاع الإنسان وتطلعاته وتوظيفها نحو النزعة العدمية والوصول إلى محطة اللإانتماء ، والتركيز بشكل مستمر على سلطة الإنسان الخارق وصحوة انفلاته من الإله ، والحرص على إبقاء تلك الصحوة ، وضمان عدم رجوعها إلى ملكية الإله وإلى حقل الميتافيزيقا .
حاولت فلسفة السوبرمان تغيير مسار العقلانية الأوربية من خلال فتح المجال أمام اقتحام ( الخطوط الحمراء ) في كلّ شيء ، فلم يعد هناك شيء مقدس ، ولم يصمد الفكر الموروث والكلاسيكي أمام التظاهرة الفلسفية النيتشوية ، ولهذا لم يتجاوز الفكر الغربي الحديث أفكار نيتشه بل وضعها في ميدان التطبيق ، ولاقت تلك الأفكار استحسان الأوساط السياسية والسلطات التنفيذية والتشريعية .
وقد أثرت فكرة (موت الإله) التي جاءت بها فلسفة السوبرمان بشكل واسع وكبير في الأوساط الفكرية العالمية ، إذ " لم يعد يوجد في الغرب ـ حسب الناقد البازعي ـ تيار فكري أو نظرية مهمة ومؤثرة في أي من الحقول المعرفية تقول بوجود ( الله ) فتيارات الفكر الغربي الرئيسة أو فلسفاته ونظرياته في العلوم الإنسانية وغيرها ذات شخصية علمانية بالدرجة الأولى ، وهذه الشخصية العلمانية هي التي بدأت تسيطر على الحضارة الغربية ككل منذ عصر النهضة ، وقد أصبحت في عداد البدهيات التي لا تحتاج إلى ذكر …" .
لقد ورثت الثقافة الغربية خطيئة نيتشه بحكمه على (الإله) بالموت ، وانطلق لتشكيل المشهد الفكري العالمي بافترض أسطورية الأديان ، ثم وهمية المفاهيم والقيم التقليديـة ، التي كانت تسهـم في رسـم انحـدار الإنسان نحو التخلف والجهل ـ حسب نيتشه ـ .
أراد نيتشه الحطّ من قيمة الميتافيزيقيا للوصول إلى مصارعتها ، لكنه انشأ في الوقت نفسه ميتافيزيقا خاصة به اتسمت ببعد الخيال ، والبناء على أسس وهمية ، والتحرر من كل القيم والأخلاق ، وعدّ الإله مجرد ابتكار ، اخترعه الإنسان ليقيّد نفسه به ، فعلى الإنسان ـ حسب نيتشه ـ أن يخلع عنه براءته ويعلن إلحاده ، لانّ الإلحاد يحرر من البـراءة ، وينتصر للغرائز ، ويفجّر إرادة القوة ، وعندما نجحد الإله ـ يقول نيتشه في كتابه أفول الأصنام ـ ننقذ العالم ونصوغ مملكتنا الجديدة . وبهذا وضع نيتشه العالم الغربي أمام خيارين بقوله : " إما أن تلغوا مقدساتكم وإما أن تلغوا أنفسكم … " ، ثم يختار طريقه هو بالقول في كتابه أصل الأخلاق : " إنّ العدمية هي الكلمة الأخيرة " .
لقد بلغ نيتشه مرحلة ( التشريع ) عندما أباح لنفسه صياغة إلهٍ جديد يحل محل الإله المقتول ، الذي قتلته عدمية الديانات ، والإله المقتول يصوره نيتشه على أنّه إلهٌ مزيفٌ صنعته الرسل والكهنة والقديسون ، والإله البديل الحقيقي يتجلى في الإنسان الخارق ( السوبرمان ) ، بمعنى أنّ نيتشه عَمد إلى تأليه الإنسان وإعطائه دوراً لا يستحقه من انتزاع ملكية السلطة الإلهية ، وأنسنتها للوصول إلى المُبتغى النيتشوي في سيادة الواقع والتحكم فيه .
أما على الصعيد الأخلاقي ، فما طرحه نيتشه في السوبرمان قد لاقى آذاناً صاغية في الفكر الأوربي ، فالخُلق النيتشوي المطروح هو خُلق الانحطاط وتبني الشرّ ، والإنعتاق من التقاليد والأعراف والدفاع عن نموذج البشر ، الذي لا يحتاج إلى غفران السماء بعد الآن ـ حسب تعبير نيتشــه ـ ، بل إنّ النموذج الجديد يجب عليه أن يُؤسِس أخلاقه انطلاقا من الانفصال عن المعطيات اللاهوتية والقيام بعملية عزل الإله واستلاب قدراته وصفاته ، ومنحها للإنسان الجديد ، ورفع شعار إنّ كلّ شي مباح ، ولا توجد عوائق بين رغبات الإنسان وبين القيام بها أيّاً كانت، وقد ربط نيتشه هذه المسألة بزوال الإله ، لان هذا الزوال سيقتضي انبعاث فلسفة خلقية جديدة ذاتية الطرح ، وإلحادية المنشأ ، ومثالية التوجه ، وعدمية المسيرة ، وانحلالية الهدف .
إذن يمكن القول أنّ أسطورة الرجل الخارق السوبرمان وجدت بوصفها أسطورة الرجل الأوربي الأبيض ( المخلص ) الذي يستطيع أن يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً ، ولا يمكن تحقيق ذلك ـ حسب مقتضيات الأسطورة ـ إلاّ بشرطين ، الأول : قتل الإله أو عزله عن منصبه ، وثانياً تمثل سلطات الإله المطلقة ، واكتساب صفة الحاكمية ، أي إحلال السلطة المطلقة محل السلطة المحدودة للإنسان ، وبناء جدار للعزل بين السماء والأرض ، وبين الجانب المادي والجانب الروحي ، وتعميق الهوة بين الميتافيزيقا والفيزيقا ، والعمل على تهميش الغيب غير المرئي ، في مقابل إعلاء شأن الواقع المرئي ، ولذلك حُدِدَ السوبرمان في الموسوعات العالمية ـ موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، عبد الوهاب المسيري ـ بوصفه الإمبريالي الذي يُجسِّد الطبيعة ( المادة ) ويولِّد معياريته من ذاته ، ولا يؤمن بأية قيم خارجة عنها ، ولا يؤمن إلا بفلسفة القوة بوصفها قيمة وحيدة مطلقة ، وهو إنسان يرى أنّ من حقه أن يُوظِّف الآخرين لحسابه ولتحقيق مصالحه بوصفه الأقوى والأكثر نصراً ، في مقابل الإنسان (السبمان Subman) ومعناه : ( دون الإنسان ) الذي يذعن للطبيعة ( المادة ) ، ويتكيف مع المعيارية التي تُولَد من داخلها ، وقد عبَّر هذا الإنسان المُتكيِّف عن نفسه في عدة أشكال : البرجماتي ، والمهجن ، والمدجَّن ، والمتشيء ، ولكن سمة السبمان الأساسية أنه إنسان وظيفي يُعرَّف في ضوء وظائفه الاقتصادية والبيولوجية ، فهو إما إنسان اقتصادي أو إنسان جسماني أو جنسي أو خليط منهما .
وبعد فقدان تعدد الأقطاب في النظام العالمي الجديد ، فقدت الدول الغربية ( الأوروبية ) مركزيتها وتحولت بقوة السلاح ، وبتناغم المصالح الاقتصادية ، وتناسق التطورات السياسية التي آلت لصالح الولايات المتحدة ، تحول الرجل الخارق من مخلص أبيض أوربي ، إلى بطل أمريكي خارق يمتك زمام الأمور ، ويحتكر الحل الأنجع لخدمة العالم ، وهو المخلص الذي لا يقهر خلقاً وعدلاً وسماحة وغضباً وانتقاماً واستخداماً للسلاح ، وسفراً إلى الفضاء ، وتعاملاً مع الكائنات الغريبة ، وترويضاً للفيروسات الكونية ، ورحمة بالتعامل مع الكائنات الأخرى : النبات والحيوان والظواهر الطبيعية مثل : الأعاصير والبراكين والفيضانات ونحو ذلك ، وهذا ما تحاول السينما الأمريكية العالمية ( هوليوود ) تقديمه للعالم أجمع من خلال الأفلام التي تمطر رؤى وتصورات ، تتضمن البطل الأمريكي المخلص الذي يستطيع قيادة المركبات كافة ، ويستطيع التعامل مع أحدث التقنيات ، فضلاً عن خبرة إحترافية في فنون الرقص والجنس وما يتبع ذلك .
وإذا كان للإنسان الغربي ( الأبيض ) أسطورة خارقة ، فهناك من نسج له أسطورته أيضاً ، أسطورة يمتزج فيها الحاضر بالماضي ، والشاهد بالغائب ، والمخاطب بالمتكلم ، أسطورة تعكس التمظهر الذي ذاق صنوف المسخ والإذلال ، واكتوى بالتيه والحرمان ، وتجرع مرارة الضعف والهوان طوال سنين خلت من فجر التاريخ وحتى يومنا هذا ، إنها أسطورة الرجل الوطواط (الباتمان) ، وسيأتي بيانها .
اتخذت المدونات الأولى لفلسفة التصوف اليهودي ( القبلانية ) رمزاً طوطمياً حمل سمات المجموع وخصائصهم ، فضلاً عن سلوكياتهم وتصرفاتهم ، وتمثل هذا الطوطم بصورة الخفاش (Bat) الذي أصبح حضوراً مجسداً لكلّ الممارسات والطقوس التي يقوم بها الأفراد المنتمين إلى الدائرة العقدية نفسها ، ولهذا التمثل أسس فلسفية يمكن الحديث عنها من خلال بيان السلوكيات المسجلة على صفات هذا الحيوان ، ثم توضيح الأفعال الجسدية له ودورها في صياغة ثيمات مشتركة بين الطرفين : اليهود من جهة ، والخفاش من جهة أخرى .
يتسم الخفاش ـ حسب دراسات علوم الحياة الحديثة ـ بسمات ميزته عن الحيوانات كلّها، إذ يتغذى على الدماء ، ويحتوي لعابه على مادة كيميائية تمنع تخثر الدم ، ويُعرف بنشاطه في الظلام وفي الليل ، ويحافظ على درجة حرارته حتى في أشد حالات البرد ، فضلاً عن هجرته المستمرة فهو لا وطن محدد له ، ويتبع الإشارات الكهرومغناطيسية التي تزوده بمسارات الحركة ، وتعمل على تحديد فريسته ، ويعرف بنشاطه الجنسي غير المعتاد ، وهو الحيوان الوحيد الذي يمتلك عباءة يلتف بها ليحصن نفسه من المحيط ، وليخفي تضاريس جسده المجعدة ، فضلاً عن ميزتها في إظهار نوع من الغموض والهيبة والرهبة ، ويتسم أيضاً بوضعية الوقوف التي تختلف عن كلّ الكائنات على الإطلاق وهي التدلي من الأعلى إلى الأسفل بشكل مقلوب ، ويمتاز بالدهاء والمكر وتقمص عنصر الخوف بشكل مستمر ، والعيش في الظلام والأماكن الرطبة ، والتدلي من الجهات العليا ، والنظر إلى بقية الحيوانات بشكل متعالٍ ، واقتناص اللحظات المناسبة في سبيل استخدام عنصر الخـوف الذي يحسنه ويتفنن به ويتقنه ، ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الرمزية أُخـذت بوصفهـا فكرة راسخـة في المشـروع القبلاني ، ويتضح ذلك من خلال تمثلات : (أوراق تاروت : Tarot Cards) الاثنتين والعشرين ، إذ تُعد تمثلات مصوِّرة للطرق القبلانية ، وتُعد وثيقةً من وثائقها الفلسفية ، لأنها تُستخدم في التكهن والشعوذة والسحر وقراءة الغيب ، وقد أسندت الموسوعة الأمريكية الحديثة الأصل الفلسفي لأوراق تاورت إلى أفكار ثلاث هي : (المتعة ، وسيطرة الشيطان ، ورغبة الملوك في اكتساب القوة والنفوذ) ، وقد دخل هذا الأصل ميادين الفكر والمعرفة الغربية من خلال الحديث عن فلسفة الإله ، ودور الإنسان في صياغة قيم العالم ، وعلاقة الخالق بالمخلوق ، وقد تمثلت صورة المهرج ( الجوكر ) في أوراق تاروت بشكلٍ متدلٍ إلى الأسفل بوضعية الخفاش نفسها ، ومن المهم ذكره أنّ تمثل عباءة الخفاش أُخذت رمزاً في كليات اللاهوت وأصبح الطلبة الخريجون يلبسون عباءات سوداء وفي ذلك تحويل للرمز إلى ممارسة واقعية .
وإذا أردنا معرفة سبب تمثل الفلسفة القبلانية لرمزية الخفاش لأمكننا عقد مقارنة بين جانبين ، الأول : صفات اليهود ، والثاني : صفات الخفاش ، ثم لأدركنا تطابق صفات الجانبين واستوائها في التمظهرات التي تنتمي لهما ، وبعد معرفة ذلك يمكننا القول أنّ ( الخفاش ) بوصفه طوطماً قد تحول إلى رمزية عقدية وفلسفية يدين اليهود لها بالولاء ، ويمارسونها رمزاً وسلوكاً . وإذا كان السوبرمان مخلصاً أوربياً ثم أمريكياً ـ فيما بعد ـ ورجلاً خارقاً منح نفسه سلطات الإله المطلقة واكتسب حاكمية الكون ، وحمل لواء الدفاع عن الإنسانية المعذبة ، فإنّ الرجل الوطواط (الباتمان) هو الرجل اليهودي المخلص !! .
إنّ الممارسات الفكرية ، والنظم اللاهوتية تتيح امتداداً نقدياً ، ومنهجياً ، يُسوغ ولادة البدائل المناسبة للركود العقلي ، ويمنح إمكانية صناعة الوجه الشرعي للطروحات الحديثـة ، انطلاقاً من نسبية الحقائق ، وسببية الظواهر ، وشمولية المعرفة ، وعلينا نحن المسلمون أن نتحرى الظواهر قبل تبنيها ، وأن نمحّص السلوكيات الوافدة قبل ممارستها ، لأنّ جميع التوجهات المعاصرة تستند إلى فلسفة وعقيدة ولاهوت وإن بدت بوصفها نتاج سينمائي ، أو عمل إبداعي ، أو نحو ذلك ، أما أسطورة الرجل العنكبوت ( السبايدرمان ) فسنتحدث عنها في مقالة مقبلة إن شاء الله .