طه الهباهبة في مجموعته " الحوت وقصص أخرى"
طه الهباهبة في مجموعته " الحوت وقصص أخرى"
يحتفي بتعلق الأردني بالقدس وقضية فلسطين
نعيم الغول
قليلة هي الأعمال القصصية التي خرجت إلى النور خلال الأربع سنوات الأخيرة وتحديدا خلال العام 2002 حين كانت عمان عاصمة للثقافة العربية وما بعده . فقد خرج عدد من المجموعات قصصية تعبر في معظمها عن هموم ذاتية فردية وبعضها كان اجترارا لعلاقة الرجل بالمرأة وتحديدا من خلال العلاقة الجنسية مع إغفال قضايا وهموم إنسانية أخرى لا تقف عند الحب والغرام. إن نظرة إلى بعض تلك العناوين يعطي انطباعا أوليا حول الساقية التي دارت حولها القصة الأردنية . فمثلا هناك " تحت رخام الجسد" وهناك " سروال الفتنة" وهناك " أشجار دائمة العري" و " شمس تموز" و" حقول الظلال" . وعناوين شبيهة في داخلها الكثير من القصص التي تطرح طوفانا من الحديث عن هموم الجسد عند الرجل والمرأة وفيها حشر بعض الكتاب أنفسهم في زاوية مديرين ظهورهم كما قلنا لقضايا لا تقل أهمية عما يعتبرونه هما أساسيا.
وكانت هناك أعمال جادة حقا صدرت من كتاب ظلوا على التزامهم بالخط الأدبي الذي انتهجوه منذ بداياتهم مثل خليل السواحري في "مطر آخر الليل" الذي يجعل من علاقة الإنسان بالمكان وبالناس موضوعة إنسانية جديرة بالالتفات بل ويرتقي إلى خطوط التماس مع قضايا مصيرية كما في" الساحة" ووجودية كما في "الوليمة" ولكاتب هذه السطور في " حالة موت" التي لامست نظرية المعرفة في "التشتت" وسخرت من مفهوم الحرية في"حالة موت" وعرضت مفهوم المقاومة في "بانتظار جودو".وأظن أن هناك حاجة لأن تكون الكتابة نتاجا لتعب ذهني بحثا عن جوهر همومنا وافتراشا لأوسع مدى من المعاناة الإنسانية بكل أبعادها دون اختصار قضايانا في قضية باتت ممجوجة.
والمجموعة التي بين أيدينا تدخل في هذا الإطار في بعض القصص. صدرت هذه المجموعة هذا العام وتحتوي على اثنتي عشر قصة قصيرة. ومؤلفها هو طه الهباهبة والذي صدر له كتاب عن الحكاية الشعبية في محافظة معان.
يفاجئنا الكاتب حقا بقدرته على التقاط تفاصيل الحياة القروية الأردنية، ويعرض منظومة القيم في هذا المجتمع القروي الذي يشف بالنبل والكرم والنخوة والانتماء القومي الصادق.
ولكن المجموعة تتباين في أمور كثيرة ؛ منها ما يتعلق بالموضوع ومنها بالبنية الفنية للقصص. فمن حيث المواضيع نجد قصصا مثل قصة "الحوت"( الرجل والمال والنساء) و "الحقيبة ( الرجل والفقر والأرض) و"المأزوم (الرجل و أزمة الوجود في مجتمع الغاب) وقصصا أخرى تحكي عن علاقة الناس بالبيئة وما تنتجه من إيمان بالخرافات والوحوش الاسطورية وحتى إسباغ صفة أسطورية على حيوانات عادية كما في القصتين "غولة عياد" و"الذئاب" مع تأكيد الكاتب أن الإنسان هو الغول وهو الذئب الحقيقيين كما نجد قصصا شبه بوليسية مثل "الرماد".
ولكن الموضوع الثري حقا والذي يميز هذه المجموعة هو تلك القصص التي تتحدث عن آهل القرية في علاقتهم مع الغريب والذي كان في قصة "المصنع " اسطفان الأرمني وفي قصة "الجاندرما" مجاهد التركي وفي قصة "الترحال" سمير الفلسطيني . وتظل القرية وأهلها مثلا في كرم الأخلاق وفي الرعاية وإعطاء الأمن والأمان وهو موقف جبل عليه الأردني وصار جزءا من تكوينه الثقافي، ويصوره الكاتب بسلاسة ودون تكلف أو مواربة.
يقدم الكاتب ثلاث قصص ليدلل على عمق ارتباط الأردني بفلسطين وأهلها وقضيتها ومدينتها المقدسة : قصة " عريس ثالث"و " الفارس والسموع" و" الترحال". ففي "عريس ثالث" يعم الفرح أرجاء القرية سبعة أيام متتالية لزواج ابني (سليمان) أحد أفراد القرية، ولكن سليمانا بدلا من أن يفرح ويغني لولديه ويطلق الرصاص فرحا بزواجهما كان يفعل كل ذلك لأخيه( خليل) الجندي الذي يقف عند أسوار القدس للدفاع عنها. وتظل القصة تدور حول خليل ومناقبه، وحب الناس للقدس، واستعدادهم للتضحية بكل شيء في سبيلها. وفي قمة الفرح والسعادة يأتي خبر استشهاد خليل. لكن سليمان يأبى أن يعكر الخبر صفو فرحهم فيكتمه حتى يتم كل شيء ثم يذيعه فيأتي المعزون مهنئين لا ليلوموا ولا ليقولوا ما شأننا أن يموت منا واحد هناك بل ليفخروا أن ابن قريتهم الأردنية ظل صامدا، ومات واقفا دفاعا عن أسوار القدس وعشرات الرصاصات تسكن جسده ونال الشهادة كما تمنى على أسوار المدينة المقدسة.
في قصة" الترحال" تصوير لمأساة اغتصاب الأرض الفلسطينية وتهجير الأهل. وحين يستقر الحال بسمير اللاجئ على ارض الأردن يتلقفه قروي ويحله في بيته ويصاهره ويمتزج الدم بالحب والإخاء.
في " الفارس والسموع" تجد امتزاج القرية الفلسطينية في وجدان الأردني (الرائد محمد) بقريته في الأردن . وتجد عمق الصلة من خلال التربية الأصيلة على الدفاع حتى الموت عن الأرض والمقدسات, وتنتهي القصة بلفتة كبيرة حين امسك شيخ من شيوخ قرية السموع ابن الشهيد وضمه إلى صدره وقال:" الرائد محمد ما يزال حيا". وهذا يعني أن الفلسطيني ا ينظر إلى الأردني على أنه العضد والسند والشقيق والقريب والشريك في الهم حتى ينجلي الهم بإذن الله.
في تقديري أن هذه القصص تؤطر لاتجاه نحن دائما بحاجة إليه وهو الإعلاء من تلاحم الشعبين الشقيقين وتعميقه وتجذيره؛ ففي ذلك مصلحة للشعبين إذ يقطع الطريق على سياسة فرق تسد التي كوانا بها الاستعمار، وبعض الوجوه المشبوهة المندسة من هنا وهناك والتي تسعى ليلا نهارا لتشعل فتيل البغضاء بين الاخوة والأحبة، وتضعف الوحدة الوطنية بالترويج لأكاذيب من زاوية، وبإظهار استفادة طرف على حساب طرف من زاوية أخرى والجاهلون والسفهاء ينقادون لهذه التخرصات ويعينون من حيث لا يشعرون من يزرع بذور الفتنة والشقاق.
والجميل في هذه القصص تلك الأهازيج الشعبية وهي الدليل الأقوى على عمق التلاحم وهي التعبير العفوي الشعبي شعرا عن حقيقة مشاعر الشعب الأردني:
هبت النار والبرود غنى
اطلب شباب يا وطن واتمنى
هبت النار وبراس الخروبة
القدس بتنادي شباب العروبة
وفي موضع آخر من القصة:
بالقدس ترِز حس المدافع بالقدس ترِز
زاد قليبي عز ذكر النشامى زاد قليبي عز
وأيضا:
جيناك يا القدس الشريف نفديك بدم رقابنا
فمن ذا يشكك بعد بحب الأردني للقدس وأكناف القدس؟
على أن ما ذكرناه لا يجب أن يثنينا عن قول بعض الملاحظات الفنية حول المجموعة. في بعض القصص فقد الحدث معناه للحشو الزائد من وقائع لا علاقة لها به. وفي بعض القصص ضعفت الحبكة إلى درجة ضياع عنصر المفاجأة الذي عول عليه الكاتب لإنجاح قصته.
وعبر بعض الكلمات حاول الكاتب أن يضفي جوا من الواقعية على قصصه مع انه لم يكن بحاجة لهذا.
ولكن اكثر ما يلفت النظر هو أن الكاتب وللأسف لم يقف موقف الذي يدين سلوكا ما أو قيمة ما من خلال التحكم في النهاية او الوقائع او الحوار. ففي قصة الحوت مثلا نجد أن أبا اشرف لا يتورع عن شيء للوصول إلى المرأة وهو أمر درج عليه منذ شبابه حتى دخوله إلى بيت كصديق وإقامة علاقة مع الزوجة. ونجد أن كل امرأة في القصة تستجيب وترحب وكأن هذا هو الأصل. ويأتي ذلك كله في سياق لا يجعل المتلقي يقف ضد أي سلوك. فمثلا ينهي الكاتب قصته نهاية سعيدة بحصول الفتاة التي دخلت وقد فتحت أزرار قميصها على وظيفة اكبر بعد معرفة أب أشرف أنها ابنة عشيقته القديمة، وتقول جملة محيرة بأنها عرفت من أين ورثت خفة الدم. وهنا يخرج المتلقي دون أن ينشحن بموقف مضاد. فالغزل والتحرش والملامسة تصور وكأنها أمور معتادة وليست منكرة ينبغي التنفير منها بتصوير نتيجتها الوخيمة مثلا ليشكل ذلك نوعا من إدانة المؤلف لهذا السلوك.
وفي قصة الحقيبة يتخلى أبو لطفي عن بيته وأرضه لأول قادم يدفع له ثمنها. وتنتهي القصة أيضا نهاية سعيدة تؤكد صحة ما فعل أبو لطفي. ومع فشل القصة فنيا من حيث أنها لم تنجح في خلق أزمة تبرر لجوء أبي لطفي للبيع إلا أننا لسنا مع قيمة تشجع بيع الأرض (وهي كالعرض ) أمام أزمة مالية سببها عدم القدرة على شراء أثاث وسيارة. والمشكلة أننا لا نلمح إدانة الكاتب لهذه الظاهرة.
القصص التي كانت تحمل تكاملا فنيا كانت قليلة في المجموعة فقد شاب العديد من القصص المباشرة وحشو وقائع لا علاقة لها بالحدث وإغراق بعض القصص بأسماء كثيرة لشخصيات دون تعريف القارئ بها من خلال لغة قصصية فنية.