الرد على "الشهب الثاقبة لابن سعيد"

تقديم كتاب ابن فضل العمري

الرد على "الشهب الثاقبة لابن سعيد"

د. جاسم العبودي

أصدر المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد يوم الجمعة 29/5/2009 كتاباً بعنوان (ابن فضل الله العمري، الردّ على "الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة لابن سعيد")، دراسة وتحقيق د. جاسم العبودي، في 214 صفحة. والحقيقة أن جوانب كثيرة عن الأندلس ما زالت غامضة، وأن أكثر مما نشر سقط من يد الزمان، ومن أجل ذلك يُعـدُّ نشر أي نص جديد لا يخلو من أهمية ملموسة.

و(الشهب الثاقبة) لمؤلفه علي بن سعيد (610-685/1213-1286)؛ آخر حلقة في السلسلة الذهبية من أسرة بني سعيد، هو وفاء لمنزلة وجهود مؤلفه، بعد ترميم وجمع بعض أشلاء هذا الكتاب، تحت عنوان (الرد على الشهب الثاقبة لابن سعيد في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)، إنصافا لشريكه العمري (700-749/1301-1349)، يقدمه المحقق بين يديك- أيها القارئ - تقرؤه في حروف جلية، بعد أن قرأه في حروف غامضة لا تبين، اختلط حابل نقاطها بنابلها، معززاً بهوامش وتصحيحات مما أطلع عليه المحقق من مخطوط أو مطبوع، موزونة أشعاره، مستقيمة آياته وأمثاله، مصحوبا بفهارس عدة تعينك على غايتك. ولا يخفى على عين القارئ الحصيف، ولا عن فكر الباحث ما بُذل فيه من جهد شاق.

وقد حفظ لنا العمري القسم الأكبر من كتاب (الشهب الثاقبة)، عن طريق رده عليه في السفر الخامس، على الصفحات 2-73، من (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)؛ الذي شرع في تأليفه سنة 738/1338، وانتهى من تأليفه لها عام 744/1344، ثم نشره فؤاد سزكين مع آخرين في 27 سفرا في 24 مجلدا،، في طبعة تصويرية لمخطوطة آيا صوفيا، رقم 3418، في مكتبة السليمانية – إستانبول.

نقل ابن سعيد في هذا الكتاب بمهارة وذكاء "النفرة الطبيعية بين الأندلسيين والمغاربة"، في الوقت والمكان المناسبين، من خندق ما بين "البرين" أو العدوتين"، في جلباب واحد باسم المغاربة، إلى عقر دار المشارقة، على قدم مساواة المفاضلة معهم، وبالذات إلى دمشق، "حيث أصبحت مركزا علميا للشرق كله"، بعد أن كانت بغداد تحتضر آنذاك، والقاهرة كما رآها ابن سعيد "اسمها أعظم منها"، "وكنتُ إذا مشيت فيها يضيق صدري"، "والمعايش فيها متعذرة نزرة، لاسيما أصناف الفضلاء، وجوامك المدارس قليلة كدرة، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الطب والخراج".

إذن الكتاب هو شراكة رأي على اختلاف، لابن سعيد فيه الباع الطولى، حجما وفكرة. دقق النظر تجد له فيه نصيبا أكبر في الصفحات والأفكار من شريكه ابن فضل الله. فهو صاحب الفكرة الأصلية، حيث جمع مسوداته؛ أي مسودات (الشهب الثاقبة) في الأندلس، عندما ثارت حفيظتَه مقولةُ ابن حوقل، وما رده عليها إلا جزء من هذا الكتاب، ثم أذاعه في الشام على الأرجح ما بين سنتي 647-8/1249-1251، وليس كما يقول ابن سعيد "صنفته بالشام". ويمكنك أن تدرج (الشهب الثاقبة في الأنصاف بين المشارقة والمغاربة) في أدب المنافرات الذي تعود أوائله في الأندلس إلى القرن الرابع الهجري على أثر مقولة ابن حوقل الشهيرة.

لقد جند ابن سعيد قلمه في (الشهب الثاقبة) ليصور بلده في أعظم صورة. وما يزال قسم لا بأس به من كتابه منقولا عن أصول ضاعت، كما في "الكمائم" للبيهقي، أو تفرده بأخبار أصيلة كبيان فضائل جند المشارقة وتفوقهم على جند المغاربة، والتي ساقته موضوعيته فيه إلى التشهير بفرسان الأندلس. ويمكننا أن نعده مدخلا حسنا في أدب المناظرة، حيث سخر فيه مادته لتصوير الحياة الاجتماعية والأدبية، والتي لا تخلو من جديد معتبر، كما في ملاحظاته الدقيقة بعين عالم اجتماع لأحوال البلاد المشرقية ومقارنتها بالبلاد المغربية، كما استنقذ من يد النسيان والضياع بعضا من الأخبار، كحديثهما عن العملات وأثمانها، مثل الدراهم السود والنقرة والدرهم الصغير والكبير والدرهم الناصري والكاملي والدنانير الجيشية وغيرها.

وقد لعبت المعاصرة في كتب ابن سعيد دورا بارزا، سواء من جيله، أو من أجيال سبقوه وفقدت مؤلفاتهم، ولهذا اكتسبت مؤلفاته قيمتها الحقيقية، لا من ناحية كمية النصوص التي احتوتها، ولكن من حيث نوعيتها، وتعدد بيئتها، وأهمية توثيقها، وثبوت الأخبار التي ارتبطت بها.

إن المادة الغزيرة التي يحتويها كتابنا هذا، بما فيها تلك المعلومات التي لا نجد بعضها في سواه، وطريقة عرضها ومناقشتها، وضعها الكتاب بين يديك لتنهل منها مرادك وتحكم وتكون ما تشاء من آراء وأفكار.

لقد حاول المحقق هنا إعادة بناء كتاب غني بمعلوماته، ونشره محققا، وإنقاذه من الضياع، وإن لم يكن كاملا، ساهم في صرحه عالمان جليلان، اعتمدا فيه على مصادر جمة؛ هي: المصنفات، والمشاهدة كما في رؤية ابن سعيد غلمان صقالبة جواسيس في القاهرة، والغلمان الأتراك ذوي الأثمان الغالية الذين يجلبون إلى ملوك الأندلس وسلاطين بر العدوة، أو ملاحظاته عن دمشق ومقارنتها بغرناطة، والرواية الشفوية والمقابلة والمسائلة، والسماع كما في معلوماته عن عظمة أمراء حلب ورفاهية جندها، وكل هذا يضيف على النص حيوية وجدة وقيمة توثيقية.

ويمتاز وصفه في (الشهب الثاقب) عموما بالدقة ووضوح العبارة، بأسلوب سهل ممتنع، وهو ما يوازي به عظماء الجغرافيين الأندلسيين وغيرهم. ولعل أقوى تأثيرات هؤلاء هي ما تركه فيه الإدريسي، والبيهقي خاصة في كتابه "الكمائم".

إن سعيه الدؤوب إلى تصوير بلده في أجمل حلية، وجرأته في دقة وصفه لأحوال المشرق والتي بقيت متوارثة إلى اليوم، وآرائه الجغرافية، ثلاثة عناصر جلبت عليه الويلات. وقد امتاز ابن سعيد بملكة علمية أصيلة، ساعدته على بيان الحقائق، وربط الأمور، وسياق المعلومات الكثيرة في كلمات موجزة دون إخلال.