المحاكاة في تجليات الشاعر شاكر مطلق
عبد الزهرة لازم شباري
من الطبيعي جداَ أن النقد في الماضي والحاضر يستمد مصطلحا ته
ومقومات الدفق الذي يختاره في الأساسيات التي يتمحور حولها الموضوع في حديث الناقد هذا أوذاك على مختلف الصعد في العلم والمعرفة للفنون أو الفلسفة مستعيناَ في تحليل هذا الموضوع أوتلك القصيدة وغيرها , فالنقد أعتمد الكل والجزء والوحدة والكمال والمحاكاة وهذه يعتمدها الشاعر في محاكاته للاشياء التي حوله 0
وعلى أية حال فما يهمنا من هذا ألان وفي هذا الموضوع هو المحاكاة في الشعر حيث أرى إنها نقطة البدء التى يراها الشاعر عندما تدق نواقيس الكتابة عليه أو ربما أقول عندما يعتلى شيطان الشعر منصة فكره , وهنا يبدء بمحاكاة الطبيعة الجملية بما فيها من مفردات وطقوس , أو الحبية أو الوطن أو الأشياء الاخرى التي تلهمه القوة الشاعرية والملكة القادرة على رسم الصور الإبداعية التي تتجلى أمامه في الطبيعة ليتسنى له إتمام الولادة القيصرية الناجحة لذاك الوليد الحي الذي يؤثر مباشرة بحواس وخلجات المتلقي أو السامع , والمحاكاة التي يعتمدها الشاعر نوعان ! محاكاة للطبيعة كما ذكرنا أنفاَ ,ومحاكاة للمؤلفين أو الأجيال التي تسبق جيل الشاعر في الوقت ذاته كما يقول الناقد ((لنج )) ومحاكاة الطبيعة 00 أو الأدباء اللذين يحاكون الطبيعة هم أصحاب الأصالة
والذوق السليم , لان محاكاتهم للطبيعة وما تحتوي من مفردات تلهم الشاعر هذه الأحاسيس الجياشة التي تجعل من مكنونات الصور الإبداعية التي يسطرها في مجموعته أو في القصيدة الواحدة !! وهذه النظرية أي المحاكاة ظلتْ قادرة على أن تقف بوجه كل من يعترضها حتى في قرننا الحالي رغم الحداثة التي طرأت على الشعر في هذا القرن !إلا أن الاختلاف الذي طرأ على مدلول اللفظة حسب ميول وأراء النقاد ونوازعهم الفكرية ((فتصور ((سدني)) إنها تعني الأفكار والنماذج الخلقية , ورآها الدكتور ((جونسون )) أمثولة أو خطابا عن الطبيعة ))
وهنا ضاع الحد أو الفرز بين القصائد التي تحاكي الطبيعة وغاياتها وبين ما هو يتجه نحو القضايا التعليمة , وهنا تتجلى ملياَ وبصورة واضحة بأن الشعر أو كل عمل فني يقوم على أربعة اعتبارات هم !العمل الفني نفسه والفنان والجمهور والطبيعة التي تمد الشاعر أو الفنان بالمفردات الأساسية أو المواد التي يستطع أن يشيدِ الصرح الذي يريد الإبداع فيه بالمفردات ولا بد من الإشارة هنا وبصورة لا تقبل الجدل إن القصد من المحاكاة للطبيعة وما فيها من وسائل تلهم الشاعر في ان يبدع في تجليات صوره ورسمها للملتقي أو الدارس محاكياَ بذلك ومداعبا احاسسيسه وأفكاره 00 لا أعني بها نفاذ البصيرة عند الشاعر مما يحدو به مقلداَ للطبيعة تقليداَ أعمى وناقلاً عنها وعن غيرها من صور وملاحظات اخرى ولا نعني تقليد النماذج القديمة السابقة والخضوع للقواعد الصارمة والمتبعة فيها 0 ولكني أعني بها تصوير الأفكار والعواطف التي تسيل على لسان الشاعر أو الفنان وهو يحاكي الطبيعة والمجتمع بتجلياته ونوازعه سابحاَ بخياله في ملكوت لا حدود له ومقتنصاَ أروع الصور والأمثلة من هذا الواقع الذي يعيشه الشاعر ومجتمعه وما يحيطه من هوام وأجناس أخرى 00
وهذا ما أكده الناقد ((باتو )) الذي كان من اشد أنصار هذه النظريه
حيث قال( إن المحاكاة ليست محاكاة للحقائق اليومية , وإنما هي محاكاة للطبيعة الجميلة بجميع خصائصها لتكون نموذج يحتوي على ما في الأجزاء من الكمال ))
ومن أنصارها أيضاَ الناقد الألماني ((لنج )) الذي أكد بقوله (0إنها لا تعني النقل الحرفي أو الفوتوغرافي للطبيعة ))
وهنا لا اريد الخوض في هذا المضمار الصعب والطويل لكني أردته أن يكون مدخلاَ واضحاَ لدخولي الى عالم الشاعر المبدع (الدكتور شاكر مطلق ) المترامي الإطراف في الفكر والثقافة والادب والترجمة .
والذي أبدع حقاَ بما حققه من إثراء للمكتبة العربية بوجه خاص وما أغناه حقاَ بنقل الآداب العربية الى اللغات الاخرى كاليابانية والصينية والألمانية التي كانت محط دراسته للطب البشري , وتخصصه بطب العيون وجراحتها , من خلال ترجماته الى النصوص العربية الى تلك اللغات , ونقل وترجمة من تلك اللغات
الى لغتنا العربية حتى يطلع القارئ العربي على آداب وثقافة الدول الاخرى دون معاناة السفر اليها وتعلم لغاتها !!
وأنت تقرأ له يشدك عجب شديد وهو عدم مفارقته للقافية في مجمل تفعيلاته التي لا تنفك القافية المحببة إلية تتعلق بردائه الفضفاض الجميل والتي تبدو كجوهرة معلقة على جيد الحسناء فما يزيد هذه القصائد وهذه الومضات الا جمالاَ وعنفوانا وعطراَ رغم الحداثة التي طرأت على الشعر في وقتننا الحاضر وألبسته رداء غير ردائها لا بتعادها عن الأوزان الشعرية الأصلية
فمن خلال تجلياته للعالم السفلي وهي أحدى مجموعاته الشعرية الكثيرة والتي يبدء
إهدائها ( الى طفل العالم القادم , وإنسان المستقبل الذي سيخلف الإنسان العاقل على عرش المعرفة 00)
الذي أقحم ومضاته الشعرية وصوره المبدعة الى عالمه السفلي هذا يبدأ الدكتور الشاعر شاكر مطلق من ياسمين الخطايا ومضته الأولى في هذه المجموعة الى أخر ومضة فيها وهي كلي الحضور مقسماَ هذه الومضات الى ثلاث أقسام يتغنى في كل قسم الى قراءه ومحبيه ومداعباَ أحاسيسهم بهذه الصور المبدعة !
ففي ومضته الأولى الذي يعانق فيها الياسمين معلناً له مهما كان الظلام دامساً وأن عهر المجرة بادياً في كل الأوقات إلا أن رداء الشاعر طاهراً وأنه يعطيك من هذه النغمات المسرة وقلادة النور المصفى فيقول :
((أنا سيد الظلمات أمشي..
في رداء الطهر في عهر المجرة،
أعطيك من روحي المسرة ..
وقلادة النور المصفى ))
وهو يتألق عالياً مداعباً النجوم السابحة في أعالي الكون اللامرئي
ويكتب هذه الخلجات وهذه المكنونات التي تسبح في فكره الصافي كصفاء الربيع ممازجاً ومضاته هذه (( جبل النساء ، للشهوات ، للبغي المقدسة، للريح، للغائبة ، لأنثى القمر ، لنبيذ الخريف ، للمائدة ، للراحلة )) وغيرها كثير من هذه المجموعة الجميلة الذي يقول في هامش كتب على صفحة غلافها (( كما يجسد الفكر المادة في أبهى تجلياتها ، وكما يجسد الماس الفحم في أنقى وأصلب أشكاله ، هكذا ربما يجسد الظلام النور المصفى في أقصى إستطالاته على أمواج العدمية ... هو عالم لنا يغدر بنا ونظل له أوفياء ))
وهكذا هو رأي الشاعر شاكر يبقى وفياً مخلصاً لأمته وشعبه حتى ولو كان هذا العالم مصدر الغدر والتفرقة والبؤس والعذاب !!
إلا أن الوفاء والصدق الذي يعيش بين جنبات ضلوعه يلهمه أن يبقى وفياً مخلصاً الى الأبد .
فومضاته الجميلة التي على ما يبدو لي إنه يبني بها تجليات لعالمه السفلي حتى يبقى خالداً خلود النقش على الأحجار الكريمة !!
ولم يكتف الشاعر لهذا الحد بل نجده يطور هذه الومضات حتى يجعلها قادرة على أللإلمام بالحدث المرئي و اللامرئي في خياله محاكياً بذلك الطبيعة الكونية والإنسان !
لتعبر بالتالي عما يجيش في عالمه ورؤاه ، ويجعل من هذه الخلجات معبراً للقص الشعري حتى يأخذ دوره لدى المتلقي .
فالشاعر الدكتور المطلق بومضاته هذه وصوره التي يرسمها ممازحاً عقول القراء والمتلقين إنما يروم بها التعبير عما يدور حوله من أحداث في مجتمعه الذي هو حقل هذه المفردات والمنبع الذي يستقي منه الصور البلاغية التي تتسطر في سفط الشاعر ليضعها على جيد الزمن ! بأقل ما يمكن من الكلمات والجهد الذي يبذله القاريء للقصائد المنبرية الطويلة والتي قد لا تؤدي الغرض الذي تؤديه هذه الومضات الجميلة !
وبالتالي لعلي هنا لا أريد المجاملة مع الدكتور الشاعر كونه صديق وأخ ولا اريد أن أغالي فيما كتبته في موضوعي عن ومضاته التي يحاكي بها الطبيعة والإنسان ، وما تظم من مباهج للحياة من جهة والحب والجمال ومعاناة شعبه ومجتمعه من جهة أخرى إذا ما قلت أن الشاعر يحث السير في مجاهل الصحراء الواسعة متخذاً من رمالها وإبلها وصبار واحاتها وعطشها مادة تغذي فكره الهائم غذاءً سرمدياً يغذي هذه الموهبة الفواحة التي يعرضها لنا كشريط السينما ليدلنا على مواقع الجروح التي يأن منها المجتمع !!
وهو في اشتغاله هذا يهدف لإضاءة الطريق أمام الثقافات العربية وربطها من خلال ترجماته الى اللغات العالمية الأخرى ،
وهو هنا يمارس بالتأكيد في هذا الوجع الذي يؤلمه ليؤدي بالتالي صلاة الشعر المقدسة ويؤسس لرؤيته الشعرية آفاقاً ومناخاً طيباً من الواقع الذي يعيشه وشعبه ممازجاً هذه الإرهاصات وهذا الوجع مع ما يمليه عليه طقسه الشعري اعتمادا على المناخات الأخرى في الكون !!
لذلك تجدني غارقاً في بحر هذه التجليات وضبابيتها والتي ينسج منها على ما أعتقد رداءً يلبسه الشعر العربي ليزدهي به أمام الثقافات العالمية !
فمن تجليات عشتار الى تجليات العالم السفلي الى كتاباته الأخرى (( ذاكرة القصب ، تجليات الثور البري ، مكاشفات العارف ، تجليات الظلال )) وغيرها من مجموعاته الكثيرة وترجماته التي أمضى فيها الشاعر حياته سراجاً وهاجاً ليضيء لنا الطريق بمحاكاته للأوضاع السياسية والاجتماعية وهذا بالطبع هو شأن الشاعر المبدع أو بالأحرى كل شاعر على الإطلاق ، لأن مهمة أي كاتب للشعر أن يكون ملم بالنقاط المرسومة أمام مخيلته والمؤثرة به حد الألم والمحيط الذي يعيش به شعبه .
وأخيراً المتتبع لقراءة مجموعات الشاعر الدكتور يجدها تشع بالومضات الشعرية ذات الأبعاد البلاغية الواسعة والرؤية العميقة التي تتحدث عن الوجع الإنساني ومعاناة المجتمع الذي يعيش فيه .. إلا بعض القصائد الطويلة والتي يهدف بها على ما أعتقد مشاركاته في المهرجانات التي تعقد في بلده أو في الخارج !!
وهذه هي مهمة المبدع الحقيقي رصد وإضاءة الصور البلاغية التي يجسدها في ومضاته القصيرة أو في القصيدة الطويلة ، لأن مهمته هي الإخلاص لمعانيه وجعلها ما هو منضور ومتفاعل ويحرك في شعور المتلقي وإحساسه.
ففي ومضته التي أهداها الى أنثى القمر يسطر الشاعر صوره محاكياً فيها الجمال الذي لا يزال يأخذ من الشاعر الفسحة الكبرى من حياته ، وهو يصور لأميرته مؤكداً بأن قلبه مثل العشب الذي يقاوم الجفاف ولن تثنيه الرياح ولا العواصف ، دائماً يأتي الى حسناءه التي تهز فيه جماح الحروف لتحرك أغصان جسده
فيقول :
(( ما زال عشب فوق قلبي
يهفو لأقدام الأميرة ،
تأتيه سراً في المساء
لايدانيه الجفاف ،
تهز أوتار الحروف
تهز أغصان الجسد حتى ازدهار الطين،
آن يأتي الأنخطاف !))
((أيها القادم نحوي لابساً
في الثلج أثواب الظلام ،
هل تجيء العالم السفلي طوعاً
للتجلي في زوايا الصمت
أم جئت تصلي ،
تقرع الأجراس كي توقظ
أرباب الكلام !!)) ((تجليات العالم السفلي))
وهو يتلو لنا تواشيحه الروحانية ملبياً دعوته التي كررها حتى انقطاع النفس وهو يعبئ النخب الذي شربه الإنسان وكان وبالاً عليه باحثاً عن رغيف الخبز من أفواه الصائمين..فيقول:
((يا أبانا
يا أبانا
نخب وقت قد شربنا
حل فينا ما رآنا
عندما كنا قياماً نطرق الأبواب
بحثاً عن رغيف للصيام
ربما للصحو كنا
ربما كنا نيام !)) ((مكاشفات العارف))
وفي ضبابية الفجر الجميل عند من يعطي الحياة للكائنات ، مع الصمت الأزلي لأوتاد الأرض الواسعة ، يعبئ المطلق هذه الصور البلاغية محاكياً الأشجار أن تمسح من القلوب التي ألفت الحزن والأسى وتستكين الى نشوة السحر والسلام في ربوع الأرض فيقول:
((في ضباب الفجر عند النهر
في صمت الجبال ،
شجر السرو العتيق
يمسح الدهشة عن عين
لغزاله ،
وهي للحلم استكانت ،
عليها من نشوة الحلم تفيق
أترى تأتي الأشارة،
وسلام للعبور !!)) ((تجليات الثور البري))
وهو في هذا العمر الذي أدنف فيه الشاعر وقطعه بانتظار فرجاً ما أو غيثاً يغطي مقلتيه المسهدتين عاباً نداءه بصوته القريح هامساً لقطار العمر أن يتوقف قليلاً كي ينتظر من يحب لكنه لم يعبأ به فيقول:
((عرجوا نحوي قليلاً
أوقفوا عدو القطار
غابت الروح طويلاً
في رصيف الأنتظار
ثم ما جاء حبيب
لا..
ولا جاء النهار )) ((ذاكرة القصـــب))
ويظل المطلق ينشر صوره المبدعة في فضاءات من الحرمان والحزن منادياً الى من يسمعه كي يأتي النهار لمساءات القصب.
عبثاً هنا أتفحص هذه الصور البلاغية التي يسطرها الشاعر المبدع في مجموعاته وأحللها في هذا الموضوع البسيط والوقت الضيق ولكني أحاول أن أستدرج القاريء الكريم بأن يتطلع بنفسه من فوق البرج الشامخ الذي يتربع عليه المطلق وهو يحرك هواجس قراءه ومحبيه.