في المفارقة في مسرحية إمبراطورية في المزاد
في المفارقة في مسرحية:
إمبراطورية في المزاد
عبد الحكيم الزبيدي
مقدمة:
كتب علي أحمد باكثير هذه المسرحية عام 1951م. وهي ملهاة من أربعة فصول، تدور أحداثها حول سقوط إمبراطورية بريطانيا العظمى –كما كانت تعرف آنذاك- والتي لم تكن تغيب عنها الشمس. وذلك بعد تكون الكتلة الثالثة في مؤتمر دلهي للسلام، التي دعت إلى تصفية الإمبراطورية البريطانية وبيع مستعمراتها في المزاد لتشتري شعوبها حريتها. وقد حدث ما توقعه المؤلف حين عقد مؤتمر باندونج بعد تأليف المسرحية بثلاثة أعوام، كما أشار المؤلف في ملحوظة له في مقدمة المسرحية.
كما كشفت المسرحية أبعاد الهيمنة الصهيونية في بريطانيا، وسيطرة اليهود على السياسيين البريطانيين.
تعريف بالشخصيات:
المستر تويلمان: عضو في البرلمان من حزب العمال. يمتاز بالطيبة والسذاجة والبخل الشديد. فقد كان شديد الثقة بفوز حزبه في الانتخابات رغم محاولات ابنه (هنري) في إقناعه بالسيطرة اليهودية على صناع القرار البريطاني، وأن حزب المحافظين سيفوز لأن "اليد العلياء" تريد ذلك.
هنري: ابن المستر تويلمان، ويبدو خلال المسرحية شاباً ذكياً، وطنياً، غيوراً، يؤلمه تحكم اليهود، وسيطرتهم على الحكومة البريطانية. ينضم إلى الحزب الفاشي المناهض لليهود، ويتعرض للفصل من عمله بسبب ذلك. وحين تقوم الثورة يشترك فيها لتخليص بلاده من السيطرة اليهودية.
المستر ستيتلي: عضو من حزب المحافظين، صديق حميم
للمستر تويلمان وعائلته.
ويبدو في المسرحية بديناً قصيراً نهماً إلى النساء والشراب. كما يبدو أحمقَ وعدوانياً وصهيونياً أكثر من الصهاينة.
المستر كوهين: يهودي بريطاني. يتميز بالخبث والدهاء، وهو صديق لكل من المستر تويمان والمستر ستيتلي.
تلخيص أحداث المسرحية:
تقع المسرحية –كما أسلفنا- في أربعة فصول.
في الفصل الأول تطالعنا المسرحية بالمستر تويلمان –عضو البرلمان من حزب العمال- وهو واثق تمام الثقة بفوز حزبه في الانتخابات الجارية، بينما يؤكد له ابنه (هنري) أن حزب المحافظين هو الذي سيفوز لأن "اليد العلياء" –ويقصد بها اليهود-تريد ذلك. ويأتي المستر كوهين بصحبة بائع بدلات قديمة ليعرض ما لديه على المستر تويلمان الذي يشتري منه بدلة قديمة.
وفي أثناء ذلك يقيم المستر تويلمان وزوجته حفلة بمناسبة عيد زواجهما، يحضرها المستر ستيتلي وأسرته، وهو صديق للمستر تويلمان وينتمي إلى حزب المحافظين. ويدور جدل بين الرجلين حيث يؤكد كل منهما أن حزبه هو الذي سيفوز في الانتخابات، ويتحول الجدل إلى شجار عنيف حتى يمسك كل منهما بربطة عنق الآخر، لولا تدخل (هنري). وبينما هم كذلك يعلم المستر تويلمان عن طريق الهاتف بفوز حزب المحافظين، فيحزن لذلك، بينما يفرح المستر ستيتلي ويندفع للرقص.
وفي الفصل الثاني تدور الأحداث خلال حفلة في منزل المستر ستيتلي احتفالاً بفوز حزبه، يحضرها المستر تويلمان وأسرته، كما يحضره المستر ولنجتون سيركل –رئيس الوزراء- ويعطي المستر كوهين خطاباً لهنري وحين يفضه يجده إقالة له من عمله. وبينما كان الحاضرون يشربون ويرقصون، في نشوة وفرح، يحضر وزير الدفاع ليخبر رئيس الوزراء أن مؤتمر الشعوب المنعقد في دلهي، الذي يسعى إلى إقرار السلام قد قرر في إحدى جلساته السرية تصفية الإمبراطورية البريطانية. إلا أن رئيس الوزراء –وهو في غمرة سكره- يسخر منه ولا يلقي بالاً لكلامه.
في الفصل الثالث، تتطور الأحداث، ونرى الدول الكبرى تؤيد مؤتمر دلهي –في الدعوة إلى تصفية الإمبراطورية البريطانية- الواحدة تلو الأخرى. فبعد فرنسا، تعلن روسيا تأييدها، ثم الولايات المتحدة. وبينما كان كل من أسرة المستر تويلمان والمستر ستيتلي مجتمعتين في منزل الأخير، يدخل عليهم فجأة المستر سيركل –رئيس الوزراء- متنكراً في ملابس امرأة مخفياً وجهه بقناع، ويطلب منهم إخفاءه عن الثوار الذين يلاحقونه. وبعد قليل يحضر الثوار فيقتادون كلاً من المستر سيركل، والمستر ستيتلي، والمستر تويلمان، بعد أن يضعوا القيود في أيديهم.
في الفصل الرابع والأخير، تدور الأحداث في السجن، حيث يحبس الثلاثة (تويلمان، وستيتلي، وسيركل). ونعرف من خلال الحوار الدائر بين كل من المستر تويلمان والمستر ستيتلي، أن زوجة المستر تويلمان قد توفيت وأن ابنه (هنري) قد انضم للثوار. ويأتي هنري لزيارتهما ويطلب من والده مفتاح خزينته الحديدية ويخبره أن الثوار قد صادروا ممتلكاته وممتلكات الأغنياء بهدف شراء حرية جزيرة بريطانيا عندما تعرض للبيع في المزاد، حيث لم تكفِ أموال الدولة والأموال التي جمعت من بيع الأسطول وسلاح الطيران لذلك. وينصرف هنري بعد أن يأخذ المفتاح من أبيه.
ثم يدخل ثلاثة من الجنود ويقتادون المستر سيركل، وحين يسألهم عن الوجهة التي يسوقونه إليها، يخبرونه أنهم سيأخذونه ليباع في المزاد العلني، فيطلب بيعه لإسرائيل، لكنهم يخبرونه أن إسرائيل قد زالت من الوجود وأن العرب هم الذين يحكمون فلسطين الآن.
ثم يعود هنري مرة أخرى فرحاً ويبشر أباه والمستر ستيتلي أن سراحهما سيطلق، ويخبرهما أن الكتلة الثالثة قد عارضت بيع المستر سيركل وطالبت أن يحاكم مع مجرمي الحرب. كما يخبر والده أن المستر كوهين قد انتحر بعد أن صادرت الحكومة البريطانية ممتلكاته وممتلكات جماعته. وتنتهي أحداث المسرحية بخروجهما من السجن.
المفارقة في المسرحية:
حفلت المسرحية بالعديد من المفارقات بأنواعها المختلفة. وسنحاول تناول أمثلة من هذه المفارقات مع بيان نوعها.
المفارقة اللفظية:
يمكن تعريف المفارقة اللفظية بأنها: "نمط كلامي، أو طريقة من طرائق التعبير يكون المعنى المقصود فيها مناقضاً أو مخالفاً للمعنى الظاهر."(1) وتنقسم المفارقة اللفظية إلى قسمين: الإبراز، والنقش الغائر.(2)
وإذا تتبعنا هذه النماذج في المسرحية، فإننا سنجد أن كلا النوعين قد استخدم بطريقة أو بأخرى. وسنشير إلى أمثلة من هذه النماذج.
الإبراز:
من أمثلة الإبراز، ويعرف أيضاً "بالذم بصورة المدح"(3)، ما ورد في الفصل الأول على لسان اليهودي كوهين، مخاطباً المستر غوردون، وهو بائع ملابس قديمة، كان كوهين قد أحضره إلى منزل المستر تويلمان ليبتاع منه بدلة قديمة. فحين برر المستر تويلمان رغبته في شراء بدلة قديمة واحدة فقط بدلاً من اثنتين بقوله:
تويلمان: كلا.. ينبغي علينا نحن معشر النواب أن نشارك الشعب في الشظف الذي هو فيه، حتى نكون قدوة حسنة(4).
رد المستر كوهين بقوله، مخاطباً البائع:
كوهين: أرأيت يا مستر غوردون؟ يحق لبريطانيا أن تفخر بأن يكون بين نوابها كهذا النائب العظيم، المستر تويلمان(5).
فها هنا يبدو واضحاً أن كوهين يتهكم على بخل المستر تويلمان، وأن قوله "العظيم"، على غير ما يقصده بالفعل.
كذلك حين يسأل المستر تويلمان البائع مع أي الحزبين هو،يرد المستر كوهين –ليلقنه الإجابة:
تويلمان: خبرني يا مستر غوردون مع أي الحزبين هواك؟.. مع حزبنا أم مع المحافظين؟
كوهين: مع العمال طبعاً.. معظم الشعب مع العمال.
غوردون: أجل يا سيدي.. معظم الشعب مع العمال(6).
فمن الواضح تماماً أن البائع مع حزب المحافظين، ولذلك سارع كوهين إلى الرد حتى لا يقع البائع في الورطة، ويخبر المستر تويلمان بأنه مع الحزب العدو له. وفي تكرار عبارة "معظم الشعب مع العمال" الكثير من التهكم والمفارقة لأنه خلاف المعنى الذي يريده كل من كوهين والبائع.
ومن أمثلة هذا النوع من المفارقة اللفظية "الإبراز" أيضاً، قول البائع (المستر غوردون) لكوهين، بعد انصراف المستر تويلمان لإحضار زوجته:
كوهين: ألا ترى كيف خدمتك فعرفتك بمثل هذا النائب المحترم.
غوردون: محترم حقاً يا مستر كوهين! لو كان الناس جميعاً مثله ما..
كوهين: صه!(7)
فقول غوردون: "لو كان الناس جميعاً مثله.."، يشي بالمعنى المناقض الذي يقصده من قوله: "محترم حقاً".
كما نجد "الذم بأسلوب المدح" أيضاً في قول هنري لأبيه:
هنري: ..إني واثق أنك لم تدفع في هذه البدلة عُشر ثمنها الأصلي.
تويلمان: ماذا تعني بقولك عُشر ثمنها الأصلي؟
هنري: أوه.. لا يسرعنَّ بك الغضب.. إنما أعني أنك ماهر في البيع والشراء ولا يقدر أحد أن يغلبك، فالبضاعة التي ثمنها عشرة جنيهات تستطيع أنت بمهارتك أن تشتريها بجنيه واحد(8).
فمن الواضح تماماً أن هنري يعرف بخل والده وشدته في المساومة، ولكنه جعله "ماهراً في البيع والشراء" على عكس المعنى الذي يضمره في نفسه.
ومن المفارقات اللفظية الطريفة، ذلك المشهد الذي يخاف فيه المستر تويلمان على الكرسي الذي يجلس عليه صديقه البدين ستيتلي، فطلب من ابنه هنري إحضار كرسي آخر له:
(ينط الكرسي الذي يجلس عليه ستيتلي أطيطاً شديداً)
تويلمان: (يمتقع وجهه فيدنو من ستيتلي) أوه هذا كرسي لا يصلح لك.. انطلق يا هنري فائت له بكرسي آخر.
.........
ستيتلي: إن كنت تخاف على الكرسي..
تويلمان: كلا بل أخاف عليك أنت أن يسوخ بك الكرسي إلى الأرض. انطلق يا هنري(9).
ذلك أن المستر تويلمان إنما كان في الحقيقة يخاف على الكرسي أن ينكسر، ويتضح السبب في إحضار الكرسي الآخر، عندما يقول المستر تويلمان –فيما بعد- للمستر ستيتلي:
تويلمان: لا عليك يا صديقي.. إذا كنت مصمماً على إتلافه فأتلفه كما تشاء.. إنه على كل حال كرسي وحيد.
ستيتلي: وحيد؟
تويلمان: نعم.. ليس له إخوة يبكونه إذا هلك، بخلاف الكرسي الأول الذي له خمسة إخوة(10)!
وهنا تظهر المفارقة جلية، في خوف المستر تويلمان على الكرسي الأول أن ينكسر.
وتستمر المفارقة في نفس المشهد، حين يتعجب المستر ستيتلي من "رقة" المستر تويلمان مع أنه سياسي، فيرد المستر تويلمان قائلاً:
تويلمان: بل ينبغي للسياسي أن يكون رقيق القلب أحياناً، وإلا فلن ينجح أبداً.. إذ كيف يتاح له أن يشعر بآلام شعبه، إذا كان فظاً غليظ القلب؟
ستيتلي: (ساخراً) لعل من هذه الرقة قد نبعت فكرة التأميم لصناعة الصلب(11).
فمن الواضح أن يقصد النقيض تماماً.
وفي الفصل الثاني، حين يُسلِّم المستر كوهين رسالة إلى هنري من المحامي الذي يعمل عنده تخطره بالاستغناء عن خدماته، يقول:
كوهين: يلذ لي أن أخدم أصدقائي بأية صورة.. حتى وإن لم أظفر منهم بكلمة شكر(12).
فالحقيقة التي يعلمها هنري أن كوهين لا يكن لهنري أي ود لأنه عضو في الحزب الفاشي المعادي لليهود. فقول كوهين: "أصدقائي" هي مفارقة لفظية، تحمل عكس المعنى الظاهر.
النقش الغائر:
يُعرَّف هذا النوع من المفارقة اللفظية بأنه "يقوم على تخفيف القول بدلاً من المبالغة فيه" وكثيراً ما يتداخل هذا النمط من المفارقة بالمفارقة السقراطية، أو مفارقة الاستخفاف بالذات"(13).
ومن أمثلة المفارقة السقراطية، أو ما يمكن أن نطلق عليه "تجاهل العارف" في المسرحية، قول المستر سيركل –رئيس الوزراء- لقائد قوات الشرق الأوسط (الجنرال روبرت) حين حضر مع وزير الدفاع لإخبار رئيس الوزراء بتطورات مؤتمر دلهي:
سيركل: ألم تجعل إحدى الصحف المصرية جائزة كبيرة لمن يأتي برأسك، أو رأس أحد قوادك؟
روبرت: بلى يا سيدي، ولكنا لم نمكنهم من ذلك.
سيركل: الجائزة مئة جنيه فيما أذكر.
روبرت: كلا يا سيدي بل ألف جنيه.
سيركل: ألف جنيه؟ هذا ثمن كبير، إن رأسك ورؤوس قوادك جميعاً لا تساوي عندنا هذا المبلغ، ونحن على استعداد لتقديمها إلى تلك الصحيفة المصرية إذا دفعت لنا هذا الثمن(14).
فمن الواضح أن سيركل يعلم قيمة الجائزة، ولكنه أراد السخرية من القائد، فتجاهل قيمتها قائلاً: "الجائزة مئة جنيه فيما أذكر..، فقوله: "مئة جنيه"، بعد قوله: "جائزة كبيرة"، هو إمعان في التهكم والسخرية.
كذلك عندما يقبض الثوار على المستر سيركل –رئيس الوزراء- متنكراً في ثياب امرأة، يسخر منه رئيس الثوار قائلاً:
(يدخل الرجال الثلاثة وهم يسوقون سيركل)
الرئيس: (يتجاهل ساخراً) ويلكم.. إني لم آمركم بالقبض على النساء.. أطلقوا سراح هذه السيدة..(15)
فرئيس الثوار يعلم أن هذه السيدة إنما هي المستر سيركل متنكراً بملابس امرأة، ولكنه أراد السخرية منه والتهكم عليه فتجاهله "تجاهل العارف".
مفارقة الموقف:
تنقسم مفارقة الموقف إلى خمسة أنماط(16)، سنتناول منها نمطين هما: المفارقة الدرامية، ومفارقة الحدث.
المفارقة الدرامية:
تُسمى المفارقة مفارقة درامية، "عندما نرى شخصية ما تتصرف بطريقة تتصف بالجهل بحقيقة ما يدور حولها من أمور"(17).
وإذا أمعنا النظر في المسرحية، فسنجد أن المستر تويلمان، ظل طوال الفصل الأول واثقاً من انتصار حزب العمال في الانتخابات، ولم يُلقِ بالاً إلى حديث ابنه (هنري) الذي كان يردد أن حزب المحافظين سيفوز ولو بأغلبية ضئيلة لأن "اليد العلياء قد أرادت ذلك وإرادتها نافذة"(18).
فالمفارقة الدرامية هنا تكمن في تصرف المستر تويلمان الذي ظل يصرح بأن حزبه سيفوز بالانتخابات، بينما يعلم القارئ –من خلال الأحداث- أن حزب المحافظين سيفوز لأن اليهود أرادوا ذلك.
كذلك نرى المستر سيركل –رئيس الوزراء- لا يلقي بالاً لمؤتمر دلهي، مقللاً من شأنه، ويسخر من وزير الدفاع الذي جاءه في لحظة احتفاله بالفوز في الانتخابات لينقل إليه تطورات المؤتمر، فيسخر سيركل منه ومن روبرت –قائد قوات الشرق الأوسط- قائلاً:
سيركل: (ساخراً) صحيح يا مستر روبرت؟
روبرت: نعم يا سيدي الرئيس.
سيركل: ومن أجل هذا طرت إلينا من مصر؟
روبرت: نعم.
سيركل: أردت أن تستر فشلك فيها باختراع هذه الأنباء التافهة؟
روبرت: يا سيدي أنا لم أخترع هذه الأنباء.
سيركل: فقد هولت بها علينا لتصرفنا بها عن عجزك في مصر وخيبتك(19)؟
فالمفارقة الدرامية هنا تكمن في جهل المستر سيركل بما يدور حوله من خطر، بينما القارئ يدرك –من خلال الإشارات في المسرحية- أن الإمبراطورية البريطانية قي سبيلها إلى الزوال. من هذه الإشارات قول هنري:
هنري: هذا الأحمق المغرور يزعم أنه منقذ الإمبراطورية، الذي جاءت به العناية الإلهية لينفخ فيها الحياة، وما يدري أن القدر الساخر إنما جاء به ليجهز عليها فيريحنا(20) من آلام الاحتضار(21).
مفارقة الحدث:
تتداخل المفارقة الدرامية، بشكل أو بآخر، مع مفارقة الحدث(22)، ويمكن التفريق بين المفارقة الدرامية ومفارقة الحدث، بالقول: إن "مفارقة الحدث تكتمل بظهور خيبة أمل الضحية، بينما المفارقة الدرامية موجودة قبل ظهور النتيجة"(23).
وبناء على التفريق السابق، فإن المفارقة الدرامية تكمن في يقين المستر تويلمان وتصريحه بفوز حزبه، بينما تكمن مفارقة الحدث في فوز حزب المحافظين، وخيبة أمل المستر تويلمان.
كما أن المفارقة الدرامية في تصور المستر سيركل بأنه "منقذ الإمبراطورية"، يكتمل بمفارقة الحدث الذي يصور فيه المستر سيركل وهو متنكر في ثياب امرأة(24)، وكذلك تصويره وهو يقاد ليباع في البورصة(25).
ومن مفارقات الحدث، أيضاً، موقف أخذ هنري مفتاح الخزينة الحديد من والده ليسلمه للثوار الذين يصادرون أموال الأغنياء لشراء الجزيرة وتحريرها:
تويلمان: سلب المفتاح أشد علي من كل كابوس.. إنه كابوس الكوابيس.. ومن الذي سلبه مني؟ ابني(26)!
فلو كان الذي أخذ المفتاح من المستر تويلمان أي جندي آخر، لما كانت هناك مفارقة، أما أن يجعل المؤلف ابن المستر تويلمان نفسه يتولى ذلك فهذه، ولا شك، مفارقة.
ولعل المفارقة الكبرى هي بيع الإمبراطورية البريطانية في المزاد، بعد أن كانت إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس. والمفارقة الأكبر هو أن كتلة الدول الآسيوية والإفريقية هي التي عارضت بشدة بيع الجزيرة البريطانية لغير شعوبها:
تويلمان: يا للمذلة والهوان. هذه الدول التي كانت من مستعمراتنا صارت اليوم تقضي في أمرنا وتفصل.
هنري: من حسن حظنا وحظ العالم وجود هذه الكتلة الثالثة. ولولاها لصار الشعب البريطاني وشعوب الإمبراطورية كلها عبيداً للروس وللأمريكان.
ستيتلي: ماذا فعلت هذه الكتلة؟
هنري: عارضت في بيعنا بشدة، واحتجت بأن ذلك يخالف ميثاق مؤتمر دلهي، الذي حرم الاستعمار تحريماً باتاً بكل صوره وألوانه(27).
المفارقة الرومانسية:
يقوم الكاتب في المفارقة الرومانسية "بخلق وهم (illusion)على شكل ما وفجأة يقوم بتدمير هذا الوهم وتحطيمه من خلال انقلاب في النبرة أو الأسلوب، أو من خلال ملاحظة ذاتية سريعة وعابرة، أو من خلال فكرة عاطفية عنيفة ومناقضة"(28).
ومن المواقف التي يمكن أن تشكل مفارقة رومانسية في المسرحية، المشهد الذي يطلب فيه المستر تويلمان من ابنه هنري أن يحضر كرسياً آخر للمستر ستيتلي، مبرراً ذلك بأن الكرسي الأول لا يليق بالمستر ستيتلي(29). ولكن "الوهم" الأخلاقي النبيل، ينهار عندما يتضح قصد المستر تويلمان الحقيقي من إحضار الكرسي الآخر، بقوله:
تويلمان: لا عليك يا صديقي.. إذا كنت مصمماً على إتلافه فأتلف كما تشاء.. إنه على كل حال كرسي وحيد.
ستيتلي: وحيد؟
تويلمان: نعم.. ليس له إخوة يبكونه إذا هلك، بخلاف الكرسي الأول الذي له خمسة إخوة(30).
وقد سبقت الإشارة إلى ما في هذا الوقف من مفارقة لفظية أيضاً(31).
ومن أمثلة المفارقة الرومانسية أيضاً، رغبة المستر سيركل في أن يباع لإسرائيل، فقد علل ذلك بقوله:
سيركل: إن كان لابد من بيعي فبيعوني لإسرائيل، فإني أشتهي..
الثاني: ويلك يا صهيوني.. أما زلت..
الأول: (يقاطعه) مهلاً.. دعه يكمل حديثه.
سيركل: شكراً يا سيدي،.. إني أشتهي أن أقضي آخر أيامي في الأرض المقدسة، بجوار قبر السيد المسيح(32).
ولكن حين يخبره الجندي الأول بأن دولة إسرائيل لم يعد لها وجود، وأن أمنيته قد تتحقق إذا بيع لعرب فلسطين، يصيح قائلاً:
سيركل: كلا لا تبيعوني لهؤلاء.
الثاني: ألست تشتهي أن تقضي آخر أيامك في الأرض المقدسة؟
الثالث: وبجوار قبر السيد المسيح؟
سيركل: كلا لا أشتهي ذلك الآن (يتوجع) آه.. آ.. واحسرتاه عليك يا إسرائيل.. كل خطب بعدك يهون (ينهض) خذوني الآن حيث شئتم وافعلوا بي ما تريدون(33).
فرغبة المستر سيركل أن يقضي آخر أيامه بجوار قبر السيد المسيح، ما هي إلا "وهم" يتحطم حين يعلم أن دولة إسرائيل لم يعد لها وجود، ويتضح أنه لم يكن يرغب في العيش في الأرض المقدسة وإنما كان يرغب في العيش في كنف إسرائيل.
أثر المفارقة في المسرحية:
تؤدي المفارقة وظيفة هامة في نجاح العمل الأدبي. فالمفارقة "ليست مجرد وسيلة تزيين للقول أو للعمل الأدبي الذي تلد فيه، كما أنها ليست مجرد شكل جميل ذي نكهة معينة"(34). إن المفارقة تؤدي "وظيفة إصلاحية في الأساس، فهي تشبه أداة التوازن التي تبقي الحياة متوازنة أو سائرة في خط مستقيم، تعيد إلى الحياة توازنها عندما تحمل الحياة على محمل الجدّ المفرط في جديته أو عندما لا تحمل ما يكفي من الجد"(35).
في ضوء المقولة السابقة نجد أن المؤلف قد استطاع توظيف المفارقة في الوصول إلى هدفه من هذا العمل الأدبي، وهو "السخرية من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس(36)"، وتعرية الشخصيات الكبيرة في حزبي المحافظين والعمال، ومنها شخصية (ولنجتون سيركل) وهو الاسم الذي اختاره باكثير لونستون تشرشل، الذي يبدو في المسرحية صهيونياً أكثر صهيونية من أبناء صهيون(37).
لقد أقام المؤلف بناءه المسرحي على عصر المفارقة. فمنذ العنوان تطالعك المفارقة بوجهها. "إمبراطورية في المزاد". لو أن المعروض في المزاد متاع أو أساس أو أدوات، أو غيرها مما يباع ويشترى، بل حتى لو كان المعروض إنساناً عادياً، لما كانت هناك مفارقة. أما أن يكون المعروض في المزاد "إمبراطورية"، بل ما تحمله هذه اللفظة من مدلول يوحي بالعظمة، والاتساع، والهيمنة، والقوة، والسطوة، والتحكم في مصائر الشعوب.. إلخ ما تستدعيه لفظة "إمبراطورية" من إيحاءات متعددة تدور حول المنعة، أقول: أن تكون هذه الإمبراطورية معروضة في المزاد، فهنا تكمن المفارقة الكبرى.
نجد، إذاً، أن بناء المسرحية قائم على المفارقة. تبدأ المفارقة من العنوان، وتستمر حتى نهاية المسرحية، فإذا بدأنا بالفصل الأول، فسنجد عنصر المفارقة هو المهيمن على الأحداث وعلى الحوار الذي يكشف المؤلف من خلاله سيطرة اليهود على حزبي المحافظين والعمال، وتسييرهم لدفة الأمور السياسية في البلد، ودفع الحزب الموالي لهم أكثر إلى الحكم.
وتستمر المفارقة في سبر غور النواب البريطانيين، ويمثلهم في المسرحية كل من المستر تويلمان والمستر ستيتلي، والمستر سيركل. فهم إما غافلون عن هذه الهيمنة الصهيونية غير واعين لها، كما هو الحال بالنسبة للمستر تويلمان، وإما واعون لذلك ولكنهم راضون ومغتبطون به، ضاربون بمصلحة شعوبهم عرض الحائط، كما هو الحال بالنسبة للمستر سيركل.
كما يتخذ المؤلف من المفارقة –في الفصل الأول، والفصول التالية- وسيلة للسخرية من هؤلاء السياسيين البريطانيين. وقد مرت بنا نماذج من سخريته ببخل المستر تويلمان، وبدانة المستر ستيتلي. كما سخر من شكل المستر سيركل، وجعله يتنكر في زي امرأة، وأخيراً قاده ليباع في البورصة، لولا تدخل الكتلة الثالثة.
كما رأينا كيف أن عنصر المفارقة كان مهيمناً على الأحداث والحوار، أيضاً، في الفصل الثاني. وفيه تعقد الكتلة الثالثة مؤتمرها الذي يدعو إلى تصفية الإمبراطورية البريطانية. كما كانت المفارقة هي المهيمنة على الأحداث في الفصل الثالث، الذي تنتصر فيه الكتلة الثالثة وتؤيدها دول العالم، وتنتهي أحداثه بتنكر المستر سيركل "منقذ الإمبراطورية" في زي امرأة.
وهكذا، أيضاً، تستمر المفارقة حتى الفصل الرابع، والأخير، الذي تتحقق فيه المفارقة الكبرى التي قامت المسرحية، منذ العنوان، عليها، وهي بيع الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس في المزاد.
وتبلغ المفارقة ذروتها في نهاية المسرحية عندما تعترض دول الكتلة الثالثة، التي كانت مستعمرة للبريطانيين، على بيع الإمبراطورية البريطانية لغير شعوبها، وتنقذ بذلك ما تبقى من هذه الإمبراطورية من الضياع والزوال.
وهكذا نرى أن المفارقة قد شكّلت العمود الذي قام عليه البناء المسرحي لهذه المسرحية. كما رأينا أن عنصر المفارقة قد هيمن على أحداث وحوار المسرحية، ووظف باقتدار في الوصول إلى الهدف الذي أراده المؤلف من هذه المسرحية، وهو السخرية من الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، والسخرية من سياسييها الذين يغفلون، أو يتغافلون، عن خطر الهيمنة الصهيونية على دولتهم. فجاءت المسرحية متماسكة البناء، متلاحمة الشكل والمضمون.
لقد نجح المؤلف في توظيف المفارقة في الكشف عن التناقض الذي تعيشه الإمبراطورية، ويعيشه زعماؤها، وأحزابها. وبذلك تكون المفارقة، في هذه المسرحية، قد أدت وظيفتها تماماً، وهي "التركيز على تناقضات العالم، وجعل المفارقة وسيلة لكشفها وتعريتها"(38).
المراجع
1-خالد سليمان: نظرية المفارقة، مجلة أبحاث اليرموك، سلسلة الآداب واللغويات، المجلد 9، العدد 2، 1991، ص ص55-84.
2-د. عبد العزيز المقالح، علي أحمد باكثير.. رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر، دار الكلمة، صنعاء، د.ت.
3-علي أحمد باكثير: إمبراطورية في المزاد، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت.
4-مديحة عواد سلامة: مسرح علي أحمد باكثير، دراسة علي أحمد باكثير، دراسة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي، جامعة القاهرة، 1980.
الهوامش
1-خالد سليمان: نظرية المفارقة، مجلة أبحاث اليرموك "سلسلة الآداب واللغويات"، المجلد 9، العدد2، 1991، ص 68-69.
2- المرجع السابق، ص 69.
3- المرجع السابق، ص 69.
4- المسرحية: ص8.
5- المسرحية: ص8.
6- المسرحية: ص9.
7- المسرحية: ص11.
8- المسرحية: ص 21.
9- المسرحية: ص 26.
10- المسرحية: ص29.
11- المسرحية: ص 29.
12- المسرحية: ص 40.
13- خالد سليمان: المفارقة، مرجع سابق، ص 71.
14- المسرحية: ص 54-55.
15- المسرحية: ص 79.
16- خالد سليمان: المفارقة، مرجع سابق، ص 67.
17- خالد سليمان: المفارقة، مرجع سابق، ص 72.
18- المسرحية: ص 5.
19- المسرحية: ص 57.
20- هكذا في الأصل، ولعل الصواب: فيريحها.
21- المسرحية: ص44.
22- خالد سليمان: المفارقة، مرجع سابق، ص 73.
23- المرجع السابق: ص 74.
24- المسرحية: ص72.
25- المسرحية: ص 97.
26- المسرحية: ص 96.
27- المسرحية: ص 93.
28- خالد سليمان: المفارقة، مرجع سابق، ص 75.
29- المسرحية: ص 26.
30- المسرحية: ص 29.
31- انظر ص 7، من هذا البحث.
32- المسرحية: ص 97-98.
33- المسرحية: ص 98.
34- خالد سليمان: المفارقة، مرجع سابق، ص77.
35- المرجع السابق، ص 77.
36- مديحة عواد سلامة: مسرح علي أحمد باكثير، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي، جامعة القاهرة، 1980، ص 330.
37- د. عبد العزيز المقالح: علي أحمد باكثير، رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر، دار الكلمة، صنعاء، د.ت.ص 176.
38- خالد سليمان: المفارقة، مرجع سابق، ص77.