"رواية الحرب اللبنانية" لعبده وازن
"رواية الحرب اللبنانية" لعبده وازن
سطوة المخيلة ومزج الواقع بالتاريخ
محمد العشري
في بادرة أولى ترصد أجواء السرد اللبناني، وتشابكه مع الحروب التي مرّ بها لبنان على فترات تاريخية مختلفة، وبمدخل موسع يفتتح الشاعر والناقد الصحافي عبده وازن كتابه الجديد "رواية الحرب اللبنانية" "مدخل ونماذج"، الصادر حديثاً في كتاب "دبي الثقافية"، ويوزع مجاناً مع عدد أيار من مجلة "دبي الثقافية" الشهرية، التي تصدر في الإمارات. يتوقف وازن أمام نماذج روائية لروائيين لبنانيين من أجيال مختلفة، ليس فقط بالمفهوم الزمني الصرف، وإنما بالمفهوم الزمني المتعاقب، واختار ست روايات، هي: "رحلة غاندي الصغير" لإلياس خوري، الصادرة عام 1989، "عزيزي السيد كواباتا" لرشيد الضعيف، الصادرة عام 1995، "مريم الحكايا" لعلوية صبح، الصادرة عام 2002، "امرأتان على شاطئ البحر" لحنان الشيخ، الصادرة عام 2002، "مدرسة الحرب" لإسكندر نجار، الصادرة بالعربية مترجمة عن الفرنسية عام 2002، و"تقرير ميليس" لربيع جابر، الصادرة عام 2005.
في "رحلة غاندي الصغير" لإلياس خوري يجد القارىء نفسه أمام تشكيل سردي مبتكر، وحركة الحدث في زمن دائري يحاصر الشخصيات، ويحيي الذاكرة، مع اندماج شخصية الراوي في شخصية الكاتب بشكل كلي. وتأتي أهمية لعبة الأسماء، التي يلعبها خوري ليولّد أسئلة معقولة ولا معقولة، تحيل على تداخل اللاوعي الفردي في اللاوعي الجماعي، وتوازي الشفاهي مع الكتابي، وتدخلهما في مسارات متباينة في البناء السردي، وهو ما يميز رواية إلياس خوري، لأن تجربته - كما يرصدها وازن- تبدأ من الأسرار الصغيرة المتوارية، التي تبني عالماً خاصاً متفرداً. في حين أن "عزيزي السيد كواباتا" لرشيد الضعيف تعتمد صيغة الرسائل الموجهة، في حيلة روائية ذكية، تتيح للكاتب أن يكتب بحرية، وخصوصاً أن الرسالة موجهة إلى شخص "روائي ياباني" قضى نحبه في السبعينات، ويرسم الراوي مشهد بيروت آنذاك، بكل صخبها وحركات التحرر والنضال، وهو ما يدفع الراوي إلى الإنخراط في صفوف المقاتلين، إيماناً منه بأهمية التغيير. ويجد وازن أن كتابة الضعيف تنم عن وعي حاد وذكي، ومكتوبة برهافة لغوية، ومراس في رسم الشخصيات وعلاقاتها بعضها بالبعض.
في رواية "مريم الحكايا" لعلوية صبح اختارت الكاتبة لعبة "الرواية داخل الرواية"، في بناء متن السرد، وهو ما خلق جواً من الفانتازيا، والطرافة، والسخرية، والشك، مما أدى إلى بناء حكايات متعددة داخل الرواية، ترويها البطلة من خلال بحثها عن الكاتبة، التي يجب عليها أن تكتب وتقدم الى القارئ حبكة روائية مثيرة، بعلاقات حميمية، كاشفة للأسرار بجرأة، وخصوصاً ما يتعلق بالجنس، وهذا ما يدفع وازن الى أن يعتبرها روائية طليعية، تدرك خير إدراك أسرار السرد وتقنيات القص عبر لعبة التجريب الروائي. على العكس من رواية "امرأتان على شاطئ البحر" لحنان الشيخ، يعتبرها رواية تنتهي وكأنها لم تبدأ، أو تنتهي حيث بدأت، كأنها فصل من رواية، أو رواية غير مكتملة. البطلتان على شاطئ "الريفييرا" الإيطالية، تائهتان مثلما ألفهما القارئ في البداية، بين الزمن اللبناني الماضي، والزمن الحاضر المشتت بين لندن حيث تقيم إحدى البطلتين، وكندا حيث تقيم الأخرى. يصنف وازن رواية الشيخ على أنها سياحية، تهدف إلى تسلية القارئ الغربي، بأمور أصبحت منفّرة للقارئ العربي، وهو ما دفعه إلى التساؤل: "لماذا لا تعمد حنان الشيخ إلى الكتابة مباشرة بأي لغة أجنبية ما دام القارئ الأجنبي يستأثر بذاكرتها ومخيلتها ووجدانها؟".
في رواية "مدرسة الحرب" لإسكندر نجار يجعل الكاتب من الحرب مجموعة مشاهد، أو لوحات عمادها معجم الحرب، الذي حفظه اللبنانيون، ويسترجع بعض المشاهد الإنسانية التي صنعتها الحرب، ومعاناة الناس في حياتهم، وبؤسهم المأسوي. ويشير وازن إلى أن النص الأصلي للرواية كتب بالفرنسية، وصدر في باريس، وترجمه إلى العربية الشاعر بسام حجار، معتمداً لغة تختلف بعض الإختلاف عن لغة الكاتب الفرنسية، وهي ترجمة لافتة، تجعل النص الأصلي في سياق الأعمال المكتوبة باللغة العربية. ومنها يخرج إلى فضاء رواية "تقرير ميليس" لربيع جابر حيث جعل الكاتب من ذلك التقرير، الباحث في مقتل رفيق الحريري، ذريعة لسرد الأيام الأخيرة في حياة بطل الرواية، ذلك الرجل الأريستوقراطي البيروتي، الضجر والعاشق، الذي توقف عن العمل، ووجد في المشي تسليته اليومية. يصنف وازن رواية جابر على أنها فريدة لأنها تجمع ما بين عالمين، غاية في الطرافة، والواقعية، والغرائبية، ويكمن سرّها في قدرتها على أن تكون أكثر من رواية، بسطوة المخيلة، وجمعها بين الواقع والتاريخ.
يقدّم عبده وازن في كتابه "رواية الحرب اللبنانية تحليلاً وافياً لنماذج روائية، اتخذت من الحرب في لبنان أرضاً تُربي فيه أشخاصها، وتطلقهم في فضاء السرد، يلمس ما نفذ في أرواحهم من شظايا، أدمتهم، وتركت أثراً نافذاً في الجسد، وتغلغلت في الروح. تلك الآثار الموجعة تتبّعها عبده وازن ليشرحها بمهارة، وعين مدربة، ويقدمها الى قارئ شغوف بالمعرفة في كتاب "دبي الثقافية" التي يرأس تحريره الشاعر سيف محمد المري، ويديره الكاتب ناصر عراق.